237

ولا شك أن الزمان قد طوى كثيرا من ألفاظها الوضعية، ولكن ما بقي منها فوق حاجة الشعراء لتأدية المعاني الفطرية والأفكار البديهية، والأوصاف الخلقية والحقائق الحكمية، وسائر ما توحى تدوينه قدماء الشعراء كهوميروس، وفنذاروس، وفرجيليوس وهوراس، فهي بهذا المعنى لا تقصر بشيء عن لغة الإلياذة اليونانية المشهورة بجزالة تركيبها، ورقتها وانسجامها، وإحكام وضع المفردات فيها.

مقابلتها باليونانية

ولا ترجح اليونانية على العربية إلا باتساعها لمشاكلة الألفاظ للمعاني، وتوفر أسباب النحت فيها لصوغ الألفاظ المركبة، وفي ما سوى ذلك لا أخال لها رجحانا بل ترجح العربية في اتساع المفردات، وتشعب طرق التركيب، والخروج بقياس الاشتقاقات إلى ما لا نهاية له من المعاني.

ثروتها وألفاظها الوضعية

ولقد بدا لي أثناء التعريب من ثروة العربية في الألفاظ الوضعية القديمة ما أغناني عن الانحراف بالمعنى على نحو ما اضطر إليه بعض نقلة الإفرنج على ما تقدم في الفصل السابق، ورأيت من المماثلة بين اللغتين في دقة الوضع ما يدهش له الناظم والناثر، وينبئك ذلك أن العرب لم يغفلوا وضع شيء من الألفاظ الدالة على جميع مطالعاتهم ومحسوساتهم حتى أصبحت مفردات اللغة في زمنهم رابية على حاجة التعبير، ولا سيما في الحسيات، وما هذا النقص البادي الآن في إحكام التعبير، وخصوصا في المعنويات إلا نتيجة إهمال الخلف اقتفاء آثار السلف.

وهو معلوم أن الإلياذة نظمت في زمن كانت أحوال المعاش فيه قريبة لأحواله بين قدماء العرب؛ ولهذا كان على المعرب أن يقابل معانيها بما رادفها من لغة العرب بلا انحراف ولا تأويل، واللغة متسعة لذلك، فإذا وصف الناظم السلاح، وهو سلاح العرب ففي اللغة لفظة بل ألفاظ للدلالة على كل ما قال من الشكة أي: السلاح الكامل إلى الحجر فلا يعدم الناقل وسيلة للتعبير عن كل ما ذكر من السيوف، والمدى ومناصلها وأغمادها، والرماح والزجاج، وكعوبها وأسنتها وصعادها، والدلاص والأبدان والدروع وحلقها، وزردها وقترها، والخوذ، والترائك والمغافر وبيضها وقوانسها وعذباتها، والتروس والجواشن وحرابيها وحمائلها وهدابها، والقسي وما لازمها من النبل المقذذ، والسهم المريش والوتر والفوق والفرض والسرية والنيزك، وسائر ما أهمل أو كاد يهمل من معدات الهجوم والدفاع كالفأس والمخذفة والفطيس، وإذا أتى على ذكر الخيل فما من لغة أوسع من العربية بأوصافها، وتمثيل عدوها وجريها وتطبيقها، وتقريبها وحضرها وارتفاعها، وإذا ذكر الحروب وعليها مدار الإلياذة، فلم تتفنن أمة فوق العرب بوصف القتال والنزال، والمجاولة والمصاولة، والمشق والرشق والحذف والقذف، والمماصعة والنفح بالمناصل والضرب بالمغاول، والوخز بالعوامل، وقس على ذلك جميع ما تناول وصف الأحوال المعاشية والروابط القومية، والأحكام العرفية، والمناظر الطبيعية من وهاد وهضاب ومطر وسحاب، وبحر وبر، وزرع وضرع، وماء وهواء، وأرض وسماء بل قد تجد خزانة العربية أجمع، وثروتها أوسع بما حوت من الألفاظ المفردة التي لا يعبر عنها في لغات الأعاجم إلا بعبارات، وإني مورد لك الآن أمثلة ما عبر عنه في اليونانية بكلمتين فأكثر، ويتيسر رده في النقل العربي إلى كلمة واحدة في الأفعال والأوصاف والموصوفات، ذلك كالسلهب للجواد الطويل، والأجيد للجواد الطويل العنق، والأجرد للفرس القصير الشعر، والقب للخيل الضامرة، والقياديد للخيل الطويلة، والتبيع والتبيعة لولد البقرة لحول واحد، والحولي لابن سنة من ذوات الحوافر وغيرها، والسديس للذي أتم خمس سنين، والجبهاء للعريضة الجبهة. والأكبس لمن أقبلت جبهته، وأدبرت هامته من الناس، والطحور للقوس البعيدة المرمى، والزجاج والمطارد للرماح القصيرة، والثلة لجماعة الغنم والمعز، والرعيل للقطعة من الخيل، والصوار لقطيع البقر، والدسيع لمفرز العنق من الكاهل، والوتيرة لما بين المنخرين، والبأديل للحم بين الأبط والثندوة أو لحم الثدي، وصرح بمعنى رمى ولم يصب، وأمثال ذلك مما سترى منه في الإلياذة شيئا كثيرا.

الحقيقة والمجاز في بعض ألفاظ اللغتين

ومن جميل المشاكلة بين اليونانية والعربية في الأصل والتعريب على نمط واحد جري بعض الألفاظ مجرى واحدا باللغتين في الحقيقة والمجاز، فمن ذلك ما تشترك فيه معها لغات كثيرة كإطلاق لفظة الشيوخ (γεροντες)

بطريق المجاز على الزعماء وكبار القوم، ومنه ما لا يكاد يتعداهما إلى غيرهما كاستعمال لفظة (خيتي) (Χαιτη)

للشعر وورق الشجر، ويقابلها الفرع بالعربية.

ناپیژندل شوی مخ