236

عقد الله آية النصر

لأمير العلا أبي بكر

حتى شق الممدوح ثوبه من شدة الطرب، وحلف لا يمشي ابن باجة إلا على الذهب، فخاف الشاعر عاقبة الأمر، فجعل في نعله ذهبا ومشى عليه.

تلك كانت منزلة الشعراء عند العرب في سالف الزمن، وتلك هي أيضا منزلتهم في سائر الملل، فإن في أخبار شعراء الفرس ما يضاهي أخبار شعراء العرب، وقد علمت أن اليونان ما زالوا يصعدون بهوميروس حتى أخرجوه من مصاف البشر، وأحلوه بين الآلهة، وبنوا له المعابد. وكانوا يتعاكظون ويتنافرون، ويتنافسون، ويتحمسون على نحو ما كان يفعل العرب في سوق عكاظ، وشعراؤهم في كل ذلك كخيل الرهان «فالسابق السابق منها الجواد». ذكروا أن فنذاروس الشاعر الموسيقي الذي نبغ بعد هوميروس بأربعة قرون كان إذا جلس للإنشاد في الحفلات الأولمبية وغيرها تحمس له الشعب، وشقت نعرتهم كبد السماء، وكللوه بأكاليل الظفر، فلما مات أخذوا الكرسي الذي كان يجلس عليه في موقف الإنشاد ووضعوه بين أنصاب الآلهة وشاد له أهل ثيبس هيكلا، وأقاموا له فيه نصبا، وهو بعد حي، ولما اكتسح الإسكندر بلدة ثيبس، ودمر بيوتها أمر أن لا يمس بيت فنذاروس بسوء.

وكم من شاعر أثار خواطر أمة بأسره،ا فاستنفر وأجيب واستصرخ فتألبت له جيوش الكلام، فغلبت كتائب الحسام، وفي الأثر أن صاحب الشريعة الإسلامية كان ينصب لحسان بن ثابت منبرا في المسجد يقوم عليه ينافح عنه، فكان ذلك على قريش أشد من وقع النبل، وإن حسانا قال له: «لأسلك منهم (أي: من قريش) سل الشعرة من العجين، ولأفرينهم فري الأديم» فصب على قريش من هجائه شآبيب شر، فقال له: «شفيت يا حسان وأشفيت» ثم قال: «حسان حاجز بيننا وبين المنافقين».

وليس العهد ببعيد بما كان من نفوذ سهام الشعر البليغ في بلاد المغرب من عهد بيرن إلى هذه الأيام.

ولسنا بآملين في هذا العصر أن يثب شعراؤنا إلى تلك المنصة الشامخة، وإنما نطمع أن يظلوا سائرين بنهضتهم سيرا حثيثا، ويجاروا تيار الترقي فلا يطمو عليهم، ولهم في ذلك الفوز والفلاح، وللأمة الخير والصلاح.

اتساع العربية للشعر

قال أبو بكر الخوارزمي: «من روى حوليات زهير، واعتذارات النابغة، وحماسيات عنترة، وأهاجي الحطيئة، وهاشميات الكميت، ونقائض جرير، وخمريات أبي نواس، وتشبيهات ابن المعتز، وزهريات أبي العتاهية، ومراثي أبي تمام، ومدائح البحتري، وروضيات الصنوبري، ولطائف كشاجم، ولم يخرج إلى الشعر فلا أشب الله قرنه» وهو كما ترى قول متحمس مولع بالشعر، وقد أنالته الفطرة منه حظا وافرا، وإلا فالخروج إلى الشعر متعذر على من لم يكن ذلك في طبعه، على أن هذا القول صادق على من كان الشعر في سجيته، فإن مطالعة نفيس الشعر تشحذ الذهن، وتهذب اللفظ وتجلو المعنى، فتستقيم بذلك وجهة الشاعرة المطبوع.

واللغة العربية شعرية بطبعها ؛ لتفرع مفرداتها، وتنوع اشتقاقاتها القياسية على أسلوب لا يرى له مثيل في اللغات الآرية، والقوافي مزدحمة فيها ازدحاما يسهل النظم، وهي بخلاف ما يزعم بعض الأعاجم جزلة التركيب محكمة الانسجام، وفيها من طرق الحذف والتقدير، والتقديم والتأخير ما ينفسح معه المجال للشاعر لصوغ عبارته على قوالب شتى، وتلك مزية تمدح عليها اللغة في الشعر، وإن عيبت في النثر حيث يقصد الجري على نمط واحد جلي، وهي على الجملة متسعة للشعر أكثر منها للنثر، فشعرها منذ القديم أرفع طبقة من معظم نثرها، وجيده أسهل مثالا من جيد النثر حتى لقد تجد النثر شعرا في كثير من الأحوال.

ناپیژندل شوی مخ