ليس في وقائع عرب الجاهلية وأيامهم ما يضاهي خطورة وقائع الحرب الطروادية، ولكن تلك الوقائع لا تخلو بنفسها من شأن نسبي مذكور، فلا بد إذن من اتخاذ إحداها مثالا للمقابلة، وإن أول ما يستلفت الأنظار حرب البسوس.
تلك حرب تناقل العرب أخبارها، وتناشدوا شعرها على مر القرون حتى أيامنا هذه، وصاغوها بقوالب شتى لا يصلح قالب منها لصوغ الملاحم التامة كالإلياذة، ومع هذا فإن جميع ما قيل فيها من الكلام المنظوم أقرب نسبة إلى الشعر القصصي منه إلى الموسيقي، فكل قصيدة منها قطعة من ملحمة، ولكن تلك القطع غير ملتئمة؛ لفقدان اللحمة بينها فهي كالحجارة المنحوتة قد أحكمت صنعتها، وبقيت ملقاة في أرضها غير مرصوصة بالبناء، ثم إذا نظرت إلى أشهر الرجال والنساء فيها رأيتهم جميعهم شعراء، فكليب يقول الشعر، ومثله زوجته جليلة وأخوه مهلهل، وكذلك مرة شاعر، وابنه جساس شاعر، وكل ذي شأن في القصة من غريب وقريب شاعر كالحارث بن عباد، وجحدر بن ضبيعة، فمجموع شعرهم أشبه من هذه الوجه بالشعر التمثيلي؛ لأن لكل حادثة شاعرا ينطق بها بخلاف نهج شعر الملاحم كالإلياذة إذ ترى هوميروس فيها ينطق بلسان الجميع.
وقد يخال الباحث في هذا التقارب، ثم ذلك التباعد بين منظوم الجاهليتين أنه ربما كانت قصة حرب البسوس ملحمة في أصلها، ففقدت منها أجزاء أدت إلى تفرق ما بقي، ولكنه يتضح لدى الإمعان أن ذلك لم يكن، وإن العرب في الجاهلية لم ينظموا الملاحم الطويلة المحكمة العرى مع توقد القرائح، وتوفر معدات الفصاحة في اللغة ؛ لأن ذلك النسق في النظم لم يكن في طبعهم فلم يتخطوا إلى ما وراء الطبيعة، وكانوا مع عبادة الأصنام يميلون إلى التوحيد، وكان التسليم للأحكام العلوية من سننهم قبل الإسلام، فلم يوغلوا في التخيلات الشعرية إلى النظر في أحوال الآلهة وما يترتب على ذلك من تفرع البحث الواحد إلى أبحاث متعددة على ما هو شأن الأمم الآرية، وكل ما يرى من الشبه بين أحوالهم وأحوال قدماء اليونان إنما هو من المظاهر التي ألفت بينها طرق المعيشة الجاهلية، وإذا نظرت إلى حالة اليونان بما كانت عليه مع تلك الخشونة من الانتظام والدربة رأيت أنهم كانوا أيام حرب طروادة أقرب شبها بالعرب في أيام الخلفاء الراشدين، ثم كانوا في أيام هوميروس أي في زمن نظم الإلياذة قد بلغوا من الحضارة مبلغا لم يكن للعرب في جاهليتهم منه إلا النزر اليسير، فلم يسع أبناء الجاهلية أن يتجاوزوا بنظمهم أحوال فطرتهم وطرق معاشهم، فكانوا ينتقلون بالشعر من باب إلى آخر انتقالهم من حي إلى حي يجيدون في كل ما يقولون، ولكنهم لا يطيلون المقام، فلا يشيدون المنازل الفسيحة المشيدة الأركان.
وليس من اللازم أن يكون شعر جميع الأمم على نسق واحد بل ربما كان هذا التباين من الأسباب المؤدية إلى إبراز أنواع الجمال كافة على اختلاف صوره وأشكاله، فالشاعر القصصي من اليونان وخلفائهم كان إذا قص حادثة رواها كلها شعرا، وأما الشاعر العربي فينشد الشعر حيث يحسن وقعه، وأكثر ما يكون ذلك في الوصف والخطاب والجواب، ويقول الباقي نثرا، وفي هذه الطريقة نوع من التفكيه المأنوس، وهي طريقة شعراء البادية حتى يومنا، جلست مرة إلى حلقة شاعر منهم ينشد على نغم ربابته، فشرع في مقدمة نثرية قصيرة حتى بلغ إلى وصف حسناء، فجعل يتغنى بالشعر على نغم آلة الطرب، فلما استتم قصيدته رجع إلى الكلام النثري بضع دقائق حتى بلغ وصف وقعة بين قبيلتين، فرجع إلى الإنشاد وهكذا ظل يتراوح قوله بين نثر وشعر نحو ثلاث ساعات، وذلك أيضا شأن القصاصين في كثير من الحواضر العربية.
فلا سبيل إذن للزعم بوجود ملاحم لعرب الجاهلية على نحو ما يراد منها بعرف الإفرنج، ولكن للجاهليين نوعا آخر من الشعر القصصي مما يعز وجوده في سائر اللغات، وذلك في الملاحم القصيرة المقولة في حوادث مخصوصة، فجميع شعراء الجاهلية وبعض المخضرمين قد سلكوا هذا المسلك وأجادوا فيه، ولو تصفحت كتاب الأغاني، ومفضليات الضبي، وأمثالهما من كتب الأدب والشعر رأيتها ملأى بهذه المنظومات الغراء، وحسبنا بيانا لذلك أن نلقي في سبيلنا نظرة على جمهرة أشعار العرب.
جمهرة أشعار العرب
هو كتاب ألفه أبو زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي المتوفى سنة 170 للهجرة، وشرح فيه المنظومات التي اختارها العرب من نفائس شعر الجاهليين والمخضرمين، وجعلوها سبع رتب في كل منها سبع منظومات، وقد أوردها المؤلف ببعض خلاف في الترتيب عن المتواتر المشهور، فجعل النابغة والأعشى بين أصحاب المعلقات، وحذف معلقة الحارث اليشكري فكانت المعلقات ثماني والمجمهرات ستا، وهي في ما يلي مرتبة على ما هو شائع بين كتاب الأدب والتاريخ.
المعلقات ودعيت كذلك أخذا من قولهم أنها كانت معلقة بأركان البيت، وأصحابها: امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والحارث بن حلزة، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، وطرفة بن العبد، وعنترة العبسي.
والمجمهرات ولعلها دعيت كذلك تشبيها لها بالناقة المجمهرة، وهي في اللغة المتداخلة الخلق كأنها جمهور الرمل أي: إنها عالية الطبقة محكمة السبك، وأصحابها: النابغة الذبياني، وعبيد بن الأبرص، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب.
والمنتقيات أي: المختارات، وأصحابها: المسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، ومهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر الهذلي.
ناپیژندل شوی مخ