ضروب الشعر عند الإفرنج
قلنا: أن العرب قسموا الشعر من حيث المعنى إلى أبواب كالغزل والمدح، والهجاء والرثاء إلى آخر ما هنالك من أبواب الشعر، وهو معلوم أن في شعر جميع الأمم شيئا من هذه المعاني. ولكن الإفرنج ينهجون في تقسيم أبواب الشعر نهجا آخر يجارون فيه العرب بالبحث في أكثر هذه الأبواب وغيرها مما لم يذكره العرب، ويخالفونهم بالرجوع إلى حصرها جميعا في بابين: الشعر القصصي، وهو الذي عبرنا عن منظوماته بالملاحم والشعر الموسيقي، وهو ما نعبر عن منظوماته بالقصائد أو الأغاني، ويسمون الأول «إپبك» والثاني «ليريك». وكلا الفظين يوناني الأصل، فالأول من إيوس (επος)
بمعنى الغناء أو (επο)
أپو بمعنى الكلام، والثاني من ليرا (λυρα)
بمعنى القيثارة أو الكنارة أو آلة طرب أخرى تشبه العود المعروف عندنا، ومعناهما يحصر المعنى واحد كما ترى إذ يرجع بهما في الأصل إلى المقصود من الشعر في أقدم أزمانه، وهو التغني بألحانه والتطرب بمعانيه والتلهي بإنشاده، ولكنهم فصلوا في الاصطلاح بين البابين، وجعلوا لكل منهما مزايا خاصة به، وضمنوهما سائر أنواع الشعر، ذلك أنه لا بد في الشعر من أن يرمى به إلى أحد أمرين؛ إما بسط أحوال العالم بمظاهره البارزة، وإما التعبير عن شعائر النفس الخافية عن الأبصار، وإبراز التصورات الكامنة في الصدور، ومعظم ما يقال من الشعر لا يخرج عن إحدى هاتين الحالتين، فالشاعر القصصي بهذا الاعتبار يعبر عن شعائر غيره، والشاعر الموسيقي إنما يعبر عن شعائر نفسه.
فإذا نظرنا على هذا القياس إلى الأصل الشعري في بعض أسفار التوراة واتخذناها مثالا جاز لنا أن نلحق سفر أيوب بالشعر القصصي، ونعتبره ملحمة من صفوة الملاحم، ونلحق الزبور ونشيد الأنشاد بالشعر الموسيقي، وهما من أبدع الأغاني والقصائد التي نطق بها البشر.
وقد ألحقوا بهذين البابين بابا ثالثا دعوه «دراما» من لفظة ذراما اليونانية (δραμχ)
بمعنى العمل أو الصنعة، وهو ما نستحسن التعبير عنه بالتمثيلي؛ لأنهم يقصدون به غالبا منظوم الروايات التمثيلية، وهو متوسط بين القسمين السابقين، ولكل من هذه الأقسام الثلاثة فروع لا محل لإيرادها.
إلا أنه لا يترتب على ما تقدم أن منظومات الشعراء يجب أن ينتمي كل منها إلى قسم من هذه الأقسام، ويلصق به غير متجاوز إلى ما سواه، بل قد يكثر التداخل بينها، ولا سيما في منظوم البلغاء، فإلياذة هوميروس ملحمة من الشعر القصصي بالنظر إلى ما تضمنته من سرد الوقائع والأخبار، وما تجاوزت به إلى ما وراء الطبيعة من شئون الآلهة وملابستهم للبشر في أعمالهم، وإيضاح حقائق الفضائل والرذائل بطريق الإخبار، ولكن فيها قطعا من أبدع ما قيل في الشعر الموسيقي، وحسبك منها رثاء آخيل لفطرقل، وتفجعه عليه في مواضع مختلفة منها، وأن وداع هكطور لزوجته في النشيد السادس ما زال على قدمه المثال الذي ينسج على منواله أرباب الشعر التمثيلي، وليس بين المتقدمين ولا المتأخرين من أدرك شأوه، وأجاد إجادته فيه مع كل ما أحسن راسين الفرنسي في روايته «انذروماخ».
ويقارب هوميروس في الضرب على جميع الأوتار شكسبير الإنكليزي، فالمشهور عنه أنه من أنصار الشعر التمثيلي، ومع هذا فإذا أخذت مثلا رواية «هملت» رأيت فيها من معاني القصائد والملاحم ما يوقفك دهشة وإعجابا، وقل مثل ذلك في رواية «السيد» لكرني الفرنسي «وأنذروماخ» السالفة الذكر، وفوست لغوته الألماني، وأشباه ذلك من منظوم نوابغ الإيطاليين وغيرهم.
ناپیژندل شوی مخ