وإن كلامنا في كل ذلك إجمالي لا يؤخذ منه خلو شعر المولدين جميعا من بدائع الوصف التام، وإجادة التصوير فقد تجد في شعر المولدين ما يضاهي منحى الجاهليين، وإن رمت مثالا لذلك فاقرأ قصيدة المتنبي التي مطلعها:
في الخد إن عزم الخليط رحيلا
مطر تزيد به الخدود نحولا
الخلة الثانية:
تبذ لهم في المديح حتى جعلوا الشعر صناعة للتكسب، ومهنة للاسترزاق فكاد يمتهن الشعر، وتنحط طبقة الشعراء في عيون عظماء الأمة، ولو تتبعت أقوال فحولهم؛ كالبحتري، وأبي تمام، والمتنبي ما رأيته يتعدى المدح للمحسن إليهم، والهجاء للممسك عنهم، بل ربما هجوا ممدوحهم، ومدحوا مهجوهم؛ طمعا وتشفيا كما كان شأن المتنبي مع كافور.
ولا يستثنى منهم سوى أفراد خرجوا ترفعا من موقف الذلة والمسكنة، إما لسعة في حالهم، ورفعة في درجتهم الموروثة كابن المعتز، وأبي فراس، فذلك من أبناء الخلفاء، وهذا من نسل الأمراء، وإما لحكمة فطروا عليها، وأنفة في طباعهم وزهد في نفوسهم كالمعري، وما أقل أمثاله بين المتقدمين والمتأخرين؛ ولهذا كان المعري يرجح كثيرا في ميزان الرجال على المتنبي وأمثاله مع أن الرجحان بين للمتنبي في ميزان الشعراء.
الخلة الثالثة:
ابتذال الغزل ووصف الغرام حيث لا محرك إليه إلا التوطئة للمديح، فجاء أكثر ما نظم من هذا القبيل غير مثير للعاطفة، ولا مؤثر في النفس، وإن كثر فيه الحنين والأنين بخلاف ما يقصد به شخص معين كما رأيت في قصيدة ابن زريق.
وهو ثابت أن التوطئة بالغزل ليست من بدع المولدين بل هي خطة درج عليها الشعراء من أيام الجاهلية، على أن الجاهليين لم يبتذلوها ولم يتعمدوها إلا في أحوال مخصوصة كان يزدان بها شعرهم، ولم يصف شاعرهم في أكثر المواقف إلا غراما برح به كما ترى في غزليات امرئ القيس وعنترة، وإذا تعدى تلك الخطة فلم يتعداها إلا قليلا، بخلاف المولدين إذ كانوا يتكلفون الغزل تكلفا كأنه من لوازم الاستهلال.
والظاهر أن كثيرين من ذوي الرؤية والنقد كانوا ينكرون تلك الطريقة حتى في إبان الزمن العباسي.
ناپیژندل شوی مخ