وأما سائر قراء العربية والمتكلمين بها بعد حين من ملل الأعاجم ممن دان بالدين الإسلامي أو انتشرت بينهم قبائل العرب، فما عرفوا إلا لغة القرآن والحديث، وما تبعهما من كتب الفقه وعلم الكلام مما استمد جميعا منهما، ومعظم ذلك من لغة قريش، وإذا رجعنا إلى علم النحو الذي يقوم عليه عماد التركيب والتعبير في اللغة رأينا أنه إنما نشأ بفضل القرآن؛ لأنه وضع قبل كل شيء لضبط القراءات القرآنية، ثم لما كتبت أسفار اللغة وسائر العلوم العربية وغير العربية كان القرآن والحديث مرجعا للاستدلال على صحة التعبير، وإحكام التركيب، وضبط المفردات، فكانت لغة قريش في كل ذلك هي اللغة السائدة؛ فحفظها الشعراء وأصبحت في شعر المخضرمين والمولدين أنقى منها في شعر أبناء الجاهلية إذ قل الخليط فيها من سائر لغات العرب، وهكذا صارت لغة جميع كتاب العربية من عرب وأعاجم، ولا عبرة بما طرأ عليها من الخلل والانحطاط وزوال الإعراب بين عامة المتكلمين بها، فإن الفساد يتطرق بمرور الزمان إلى كل لسان، وحسب العربية مزية على سائر اللغات الحية أنه ليس بينهن لغة غيرها حفظت أصول شعرها وكتابتها منذ أربعة عشر قرنا، وبقيت واحدة في جميع أطراف الأرض بين العرب وغير العرب، والمسلمين وغير المسلمين.
مقابلة بين لغة قريش المضرية ولغة الإلياذة اليونية وكيف عاشت الأولى وتلاشت الثانية
قد يفهم من عنوان هذا الفصل أننا لا نقصد فيه المقابلة بين لساني العرب واليونان بالنظر إلى ما بينهما من الصلة أو الشبه والاختلاف في المنشأ والوضع والاشتقاق والتركيب، فتلك أمور ليس هذا موضع البحث فيها، ولكنه لا بد لنا من النظر إلى سبب تلاشي لغة الإلياذة لزمن يسير من استحكامها، وبقاء لغة قريش حية طوال هذا الدهر.
إن سنة النمو والتحول وتفرع الأصل الواحد إلى أصول شتى تشمل اللغات كسائر المخلوقات، فقد قلنا: إن لسان العرب في الجاهلية تفرق إلى فروع كاد كل منها يقوم لغة بنفسه، ويمتنع التفاهم بين أصحابه، فجاء القرآن وأزال الخلاف، وأوثق عرى الارتباط، فسادت اللغة القرشية، وهكذا كانت لغة قدماء اليونان فروعا كثيرة مرجعها إلى فرعين كبيرين الدوري واليوني يتكلمهما سكان قلب بلاد اليونان ومستعمراتهم في صقلية وبعض بلاد إيطاليا وغيرها، فهما بمثابة لغة نجد عند العرب مع ما يتبعها من أطراف الحجاز. ويلحق بهما فرع ثالث هو الأيولي، وكان لغة فريق من سكان آسيا الصغرى وتساليا وتوابعهما، فمنشآت فنداروس وثيوكريتس كانت باللغة الدورية، ومنظومات هوميروس وهسيودس كانت باللغة اليونية، وإن بين اللغتين على تقاربهما فرقا يضاهي نظيره بين لغات جنوبي الحجاز ونجد واليمن، وكلما كانت تمتد فتوحات اليونان ويكثر الاختلاط كان يطرأ على تينك اللغتين تغير يبعدهما عن وضعهما، وكان كل من الشعراء والكتاب ينطق بلغة زمانه ومكانه حتى باتت لغة كل من بني الفرع الواحد تتميز عن الأخرى بالتعبير والتركيب، فاللغة اليونية مثلا هي التي نطق بها هوميروس في أخريات القرن التاسع للميلاد، وهي التي كتب بها ثوكيذيذس وهيرودوتس في القرن الخامس وديموسنتينس في القرن الرابع، ومع هذا فالفرق بين لغتهم ولغته غير يسير بل قد تجد فرقا بين لغة أبناء كل قرن وآخر، حتى لقد ذهب كرتيوس في تاريخ اليونان إلى أنه في زمن الإسكندر لم يكن يحصل التفاهم بين المكدونيين واليونان، وقال فلوطرخوس : «إن فيلبس وابنه الإسكندر جنحا إلى إيثار لغة جيرتهما على لغة قومهما فعدلا إليها في بلاطهما وبطانتهما».
وعلى الجملة فقد ظل هذا التغير يتعاظم حتى باتت اللغة اليونانية الحديثة لغة قائمة بنفسها، ولها أصول بعضها أقرب إلى اللغات الحديثة منها إلى لغة الإلياذة؛ ولهذا ترى نوابغ كتاب اليونان العصريين مع شدة ما بهم من الغيرة على إحياء اللغة اليونانية القديمة والتشبه بها في بعض ما ينشئون لم يغنهم كل ذلك عن نقل إلياذة هوميروس وأشباهها بالترجمة إلى اللغة اليونانية الحديثة، فكأنهما لغتان منفصلتان.
وأما العربية فليس هذا شأنها، فإن أصول اللغة ما زالت على ما نطق به شعراء الجاهلية، وغاية ما يشكل فهمه على قرائها مفردات لم تألفها العامة، ومترادفات متشابهات وتعابير غير مأنوسة في عصرنا.
ولكن التباعد بين لغات العامة محصور في الكلام العامي، فالحجازي واليمني والنجدي، والعراقي، والمصري، والسوري، والمغربي، وإن اختلفت مصطلحاتهم في كل قطر من أقطارهم فهم جميعا يكتبون بلغة واحدة على أصول لا تختلف شيئا بين إقليم وإقليم، وجميع هذه الأصول مبنية على أصول لغة القرآن.
وإن اختلاف منطوق العامة غير خاص بالعربية، بل هو يتناول جميع اللغات الحية حتى إذا نظرت إلى أرقاهن كالفرنسية والإنجليزية رأيت فرقا بينا في كلام العامة بين منطوق أبناء قطر وقطر، وإن اتحدت أصول اللغة الفصيحة بين جميع الناطقين بها من أبناء تلك اللغة وغير أبنائها، وإذا رجعنا بالتخصيص إلى اليونانية الحديثة رأيناها على توحد لغتها الكتابية متشعبة فروعا بمنطوق عامة أبنائها، فلغة أثينا غير لغة إكريت، وكلتاهما تختلفان عن لغات ساقس، وقبرس، وجزر الأرخبيل، وآسيا الصغرى.
وخلاصة ما تقدم أن اللغة العربية أطول اللغات الحية عمرا، وأقدمهن عهدا والفضل في كل ذلك للقرآن، فالإلياذة وبلاغتها وسائر منظومات هوميروس وهسيودس على علو منزلتهما لم تقم للغة اليونية دعامة ثابتة حتى في بلادها، ولم تقو على مقاومة التيار الطبيعي، ولكن القرآن وطد أركان لغة قريش في بلادهم وأذاعها في جميع البلاد العربية، وسائر البلاد التي طال فيها عهد الاحتلال الإسلامي أو كثرت مخالطة العرب الضاربين في أقطار الأرض للجهاد والتجارة.
أطوار الشعر العربي
ناپیژندل شوی مخ