خدمة السنة النبوية
سلسلة مؤلفات الأستاذ الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب (١)
اختصار صحيح البخاري وبيان غريبه
تأليف
الإمام أبي العباس القرطبي ضياء الدين أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي
المولود بالأندلس سنة ٥٧٨ هـ والمتوفى بالإسكندرية سنة ٦٥٦ هـ - رحمه الله تعالى -
تحقيق
الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب
[المجلد الأول]
مقدمة / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة / 2
خدمَة السّنة النَّبَوِيَّة
سلسلة مؤلفات الْأُسْتَاذ الدكتور رفعت فوزي عبد الْمطلب (١)
اخْتِصَار صَحِيح البُخَارِيّ وَبَيَان غَرِيبه
[١]
مقدمة / 3
دار النوادر
المؤسس والمالك
نور الدين طالب
مؤسسة ثقافية علمية تُعنى بالتراث العربي والإسلامي والدارسات الأكاديمية والجامعية المتخصصة بالعلوم الشرعية واللغوية والإنسانية تأسست في دمشق سنة ١٤٢٢ هـ - ٢٠٠٢ م، وأشهرت سنة ١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٦ م.
سوريا - دمشق - الحلبوني
ص. ب: ٣٤٣٠٦
الطبعة الأولى
١٤٣٥ هـ - ٢٠١٤ م
E-mail: [email protected]
Website: www.daralnawader.com
مقدمة / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة التحقيق
الحمد للَّه رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، تباركت وتعاليت ذا الجلال والإكرام.
وصلى اللَّه تعالى، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان أجمعين، وإلى يوم الدين.
وبعد
فهذا "مختصر صحيح البخاري"؛ لأبي العباس أحمد بن عمر القرطبي وقبل أن نُعَرِّف بهذا الكتاب ومنهج أبي العباس فيه نقدم ترجمتين موجزتين للإمام البخاري، صاحب "الصحيح"، وأبي العباس صاحب "المختصر":
* ترجمة الإمام البخاري:
إذا كانت هناك صفات ينبغي أن تتوافر في أئمة الحديث ونقاده، وأهمها:
١ - حفظهم للحديث، صحيحه وسقيمه، وتمييز هذا من ذاك.
٢ - أنهم من العلماء والفقهاء بالسنن والآثار.
٣ - أن لهم معرفة واسعة برواة الآثار، معرفة تمكنهم من الحكم عليهم
مقدمة / 5
ومعرفة العدول منهم من المجرحين.
٤ - توافر التقوى فيهم والورع والزهد وطهارة الخلق وصفاء النفس.
٥ - أنهم من الذين يجهرون بالحق، لا يخافون في اللَّه لومة لائم عند السلطان أو المنحرفين عن الدين من ذوي البدع.
٦ - أنهم أصحاب عقل سديد، ومنطق حسن، وبراعة في الفهم (١).
إذا كان الأمر كذلك فقد توافر بحمد اللَّه في الإمام محمد بن إسماعيل أبي عبد اللَّه البخاري (١٩٤ - ٢٥٦ هـ) كل هذا، كما تترجم عنه السطور التالية من حياته:
١ - حفظ الإمام البخاري القرآن الكريم كله، وشيئًا من الحديث النبوي الشريف ولم يتجاوز العاشرة من عمره، وبعدها خرج إلى شيوخ الحديث، يكتب عنهم، ويسمع منهم.
ولم يبلغ الحادية عشرة من عمره، حتى كانت له معرفة بالحديث تمكنه من مراجعة الشيوخ الكبار وبيان أخطائهم.
يقول الإمام البخاري مؤرخًا لهذه الفترة من حياته، فيما يرويه عنه وراقه محمد بن أبي حاتم الوراق، قال: سمعت البخاري يقول: ألهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب. قلت: وكم أتى عليك إذ ذاك، فقال: عشر سنين أو أقل، ثم خرجت من الكُتَّاب فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن
_________
(١) راجع صفات أئمة الجرح والتعديل في كتابنا المدخل إلى منهاج المحدثين. ص: ٩٨ - ٩٩.
مقدمة / 6
أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت له: ارجع إلى الأصل إن كان عندك، فدخل فنظر فيه، ثم رجع فقال: كيف هو يا غلام، فقلت: هو الزبير وهو ابن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم، وأصلح كتابه، وقال لي: صدقت.
قال: فقال له إنسان: ابن كم حين رددت عليه؟ فقال: ابن إحدى عشرة سنة (١).
٢ - وازدادت معرفة الإمام البخاري بالحديث رواية ودراية؛ يساعده على ذلك ملكته الحافظة، ورحلاته العديدة إلى مدن العالم الإسلامي؛ كي يسمع من شيوخها ويكتب عنهم بعد أن سمع من الشيوخ في موطنه وحفظ ما عندهم من الحديث.
وبدأ رحلاته بمكة المكرمة ليلتقي هناك بكثير من العلماء في موسم الحج، ثم رحل بعد ذلك إلى بغداد، والبصرة، والكوفة، والمدينة، والشام، وحمص، وعسقلان، ومصر، وبعض هذه البلاد رحل إليه أكثر من مرة، حتى يستقصي ما عند شيوخه من الحديث كتابة وسماعًا.
يقول: دخلت إلى الشام، ومصر، والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين (٢).
وكانت له همة عالية وإخلاص وافر في تحصيل العلم وتدوينه، يؤثره على نومه وراحته، فقد روي أنه كان يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه ويكتب
_________
(١) هدي الساري؛ مقدمة فتح الباري، دار الكتاب الجديد، لبنان (ص ٤٧٨، ٤٧٩).
(٢) هدي الساري (ص: ٤٧٩).
مقدمة / 7
الفائدة تمر بخاطره، ثم يطفئ سراجه، وقد يفعل ذلك قريبًا من عشرين مرة في الليلة الواحدة (١).
٣ - وكانت نتيجة هذا كله الإلمام الواسع بالأحاديث صحيحها وسقيمها، وبجميع الرواة العدول منهم والمجرحين، فحفظ في سن مبكرة كتب إمامين كبيرين من أئمة الحديث، وهما عبد اللَّه بن المبارك، ووكيع بن الجراح (٢)، وكان ذلك في السادسة عشرة من عمره، وفي الثامنة عشرة كان قد بلغ درجة من العلم في فقه الصحابة تمكنه من التصنيف فيه.
يقول: "لما طعنت في ست عشرة سنة حفظت كتب ابن المبارك ووكيع، وعرفت كلام هؤلاء -يعني أصحاب الرأي- فلما طعنت في ثماني عشرة سنة صنفت كتاب قضايا الصحابة والتابعين" (٣).
ويقول مبينًا مدى معرفته بأحاديث الصحابة والتابعين: لا أجيء بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفت مولد أكرهم ووفياتهم وأماكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين -يعني من الموقوفات- إلا وله أصل حفظ عن كتاب اللَّه تعالى، وسنة رسوله ﷺ (٤).
٤ - ولم يكن البخاري جمَّاعًا للعلم الكثير دون نظر وتمحيص، وإنما كان ينتقي رجاله، ويستوثق من أحاديثهم؛ يقول: لم تكن كتابتي للحديث كما كتب هؤلاء، كنت إذا كتبت عن رجل سألته عن اسمه، وكنيته، ونسبته،
_________
(١) المصدر السابق (ص: ٤٨٣)، وطبقات الشافعية (٢/ ٢٢٠).
(٢) تذكرة الحفاظ (٢/ ٥٥٥).
(٣) هدي الساري (ص: ٤٧٩).
(٤) المصدر السابق (ص: ٤٨٨).
مقدمة / 8
وحمل الحديث إن كان الرجل فَهِمًا، فإن لم يكن سألته أن يخرج إلَيَّ أصله، ونسخته، أما الآخرون فلا يبالون بما يكتبون (١).
٥ - كما أودع ثمرة هذا كله في كتبه المختلفة التي ألفها في علوم الحديث والفقه، ومن أهم هذه المؤلفات: الجامع الصحيح، والمسند الكبير، والأدب المفرد، والتاريخ الصغير، والأوسط والكبير، والتفسير الكبير.
والجامع الصحيح، والتاريخ الكبير يدلان دلالة كبيرة على علمه الواسع بالرواية والدراية في علوم الحديث، والأول يدل على علمه بالفقه.
و"الجامع الصحيح" وإن لم يحص فيه جميع الأحاديث الصحيحة -كما سنعرف بعد قليل - وإنما انتقى فيه بعضها- أودع فيه مادة تدل على سعة علمه وحفظه.
وطبعي أنه لا يمكنه الاختيار والانتقاء، كما فعل في هذا الكتاب إلا إذا كانت عنده مادة حديثية كبيرة تمكنه من الاختيار والموازنة والمقارنة.
كما أثبت في هذا الكتاب اتجاهًا فقهيًّا قد يختلف كثيرًا عن الاتجاهات التي سبقته أو عاصرته، كما سنعرف إن شاء اللَّه تعالى.
وكتابه "التاريخ" فيه أكثر من اثنتي عشرة ألف ترجمة للرواة (٢) من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى عصره.
٦ - وشهادات أئمة المحدثين له -وما أكثرها- تحمل في طياتها مقدار علم الرجل وسبقه في ميادين علوم الحديث، سماه الإمام مسلم سيد
_________
(١) تاريخ بغداد (٢/ ٢٥).
(٢) ابن أبي حاتم (ص: ١٨٧).
مقدمة / 9
المحدثين، وطبيب الحديث في علله، ويقول الإمام الترمذي: لم أر أحدًا بالعراق، ولا بخراسان في فهم العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من محمد بن إسماعيل.
وقال ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم بالحديث من البخاري (١).
٧ - وقصته مع أهل بغداد تدل سعة علمه، كما تدل على ذكائه وقوة حافظته.
لما قدم بغداد اجتمع عليه علماؤها وأرادوا امتحانه، فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها -يعني جعلوا متن هذا لإسناد ذاك، وإسناد ذاك لمتن هذا- ثم أعطوا كل واحد منهم عشرة أحاديث منها، فألقى عليه الأول العشرة التي عنده، فكان كما ذكر حديثًا قال له البخاري: لا أعرفه، وهكذا حتى انتهى العشرة من سرد ما عندهم، فصار الجهلاء من الحاضرين يحكمون على البخاري في أنفسهم بالعجز والتقصير، وأما العلماء منهم فيقولون: فَهِمَ الرجل.
ثم التفت البخاري إلى الأول، فقال له: أما حديثك الأول فصحته كذا، وأما حديثك الثاني فصحته كذا، حتى انتهى من الأحاديث العشرة.
ثم التفت إلى الثاني والثالث، وهكذا إلى العاشر، يذكر الحديث المقلوب، ثم يذكر صحته، فلم يجد علماء بغداد بُدًّا من الاعتراف له بالحفظ والتبريز والإحاطة.
والعجيب -كما قال ابن حجر- هو سرده للأحاديث على الترتيب الذي
_________
(١) هدي الساري (ص: ٤٨٦).
مقدمة / 10
سمعه من المحدثين مرة واحدة.
إن هذا ولا شك -كما قدمنا- يدل على حافظة قوية، وبديهة حاضرة، وحفظ متمكن (١).
٨ - ويزين علم الرجل هذا ورع وتقوى وزهد؛ فتنأى به كلها عن الغرور الذي يفسد بعض العلماء، وعن الانشغال بالدنيا وتسخير العلم لمغرياتها والتكالب عليها، فيتخلق بأخلاق لا تليق بما يحمله من العلم النبوي الشريف.
ومن مظاهر هذه في حياة الرجل:
(أ) أنه كان لا يشتري لنفسه شيئًا ولا يبيعه، وإنما يوكل في هذا غيره؛ لخوفه من أن ينزلق فيما يغضب اللَّه تعالى، ولو من غير قصد منه، وللنأي بسمعه ولسانه عن السوق، وما يحدث فيه من لغو وباطل، يقول: ما توليت شراء شيء قط ولا بيعه، كنت آمر إنسانًا فيشتري لي، قيل له: ولِمَ؟ قال: لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط (٢).
(ب) وكان له مال كثير ينفق منه سرًّا وجهرًا على طلاب العلم ما يلزمه في ذلك من شراء الورق والرحلة يقول: كنت أستغل في كل شهر خمسمائة درهم فأنفقها في الطلب، وما عند اللَّه خير وأبقى (٣).
وخرج يومًا إلى أحد شيوخه فتأخرت نفقته، فجعل يتناول من خضروات الأرض، ولا يسأل أحدًا شيئًا حتى وصل إليه المال (٤).
_________
(١) المصدر السابق (ص: ٤٨٧).
(٢) هدي الساري (ص: ٤٨٠).
(٣) المصدر السابق (ص: ٤٨٠).
(٤) المصدر السابق (ص: ٤٤٠).
مقدمة / 11
(ج) كان يخشى اللَّه أن يَقْدِمَ إليه وقد أساء إلى أحد من عباده، فأحسن معاملة الخلق وسار فيهم سيرة حسنة. يقول: لا يكون لي خصم يوم القيامة، فقيل له: إن بعض الناس ينقمون عليك التاريخ، يقولون: فيه اغتياب الناس، فقال: إنما روينا ذلك رواية، ولم نقله من عند أنفسنا، وقد قال رسول اللَّه ﷺ: "بئس أخو العشيرة"، وقال: ما اغتبت أحدًا قط منذ علمت أن الغِيبَةَ حرام (١).
(د) وأحسن صلته باللَّه تعالى فكان يدعوه فيستجيب له دعاءه. يقول: دعوت ربي مرتين فاستجاب لي، فلن أحب أن أدعو بعد، فلعله ينقص من حسناتي.
(هـ) وكان يرى أن نفس المرء عبء عليه ينبغي أن يزكيها بالصلاة والركوع للَّه رب العالمين، فعسى الموت أن يفاجئها فلا تجد ما تقدمه يوم الحساب، فكان يقول:
اغتنم في الفراغ فضل ركوع ... فعسى أن يكون موتك بَغْتَة
كم صحيح رأيت من غير سُقْمٍ ... ذهبت نفسه الصحيحة فَلْتَة
ونعى إليه أحد أحبائه فأنشد:
إن عشتَ تُفْجَعُ بالأحبة كلِّهم ... وبقاء نفسك لا أَبَالَك أفجع (٢)
(و) ولحرصه على نظافة لسانه من أن تدنسه كلمة قد لا تكون حقًّا كان في نقده للرجال لا يطلق على الكذابين ألفاظًا صريحة تدل على كذبهم، وإنما
_________
(١) المصدر السابق (ص: ٤٨١).
(٢) هدي الساري (ص: ٤٨٢).
مقدمة / 12
يطلق عليهم -في غالب الأحيان- ما يبين حالهم بشيء من الأدب، وبالعبارات المهذبة؛ فكثيرًا ما يقول في الرجل الذي يعرف كذبه: فيه نظر -تركوه- سكتوا عنه، وأصرح ما قاله في رجل: منكر الحديث (١).
قال ابن حجر:
وللبخاري في كلامه على الرجال تَوَقٍّ زائد، وتحرٍّ بليغ، يظهر لمن تأمل كلامه في الجرح والتعديل.
٩ - وكان يعتز بعلمه، ويرى أنه يجب على كل مستفيد أن يسعى إليه، ويَرِدُ إليه كل طالب يحتاج إليه، حتى لو كان هذا سلطانًا أو أميرًا، فهو لا يخشى في اللَّه ودينه لومة لائم.
بعث إليه أمير بُخَارَى يطلب منه أن يحمل إليه كتابي "الجامع الصحيح" و"التاريخ" ليسمعهما منه.
فقال الإمام البخاري للرسول: قل له: إني لا أُذِلُّ العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت له حاجة إلى شيء منه فليحضرني في مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان، فامنعني من المجلس؛ ليكون في عذر عند اللَّه يوم القيامة: أني لا أكتم العلم (٢).
* ترجمة أبي العباس القرطبي:
١ - هو ضياء الدين أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري الأندلسي القرطبي، وعُرِفَ بابن المزيِّن.
_________
(١) المصدر السابق (ص: ٨١).
(٢) هدي الساري (ص: ٤٩٤).
مقدمة / 13
مولده: سنة ثمان وسبعين وخمسمائة على الصحيح.
٢ - نشا بالأندلس، ويبدو أن أباه كان من المرتحلين في طلب العلم، فرحل بابنه من الأندلس وهو في سن الصِّغَر، وأسمعه الكثير من الحديث بمكة، والمدينة، والقدس، والإسكندرية، وغيرها من البلدان (١).
كما يبدو أنه رحل بعد ذلك، فقد قال صاحب شجرة النور الزكية أنه رحل كذلك إلى فاس، وتِلْمِسَان، وسَبْتَة (٢).
٣ - وسمع الشيوخ في هذه البلاد، فلقي بفاس أبا القاسم عبد الرحمن ابن عيسى بن الملجوم الأزدي، وسمع بتلمسان من أبي عبد اللَّه محمد بن عبد الرحمن التُّجِيبي، ومن قاضيها أبي محمد عبد اللَّه بن سليمان بن حوط اللَّه، وبسبتة من عبد الحق بن محمد بن عبد الحق الخزرجي، كما سمع من عبد الحق الأشبيلي صاحب الأحكام المشهورة؛ الكبرى والوسطى، والصغرى. وغيرهم (٣).
٤ - وجمع من كل هؤلاء علومًا كثيرة، وبَرَّزَ فيها.
قال ابن فرحون: من أعيان فقهاء المالكية، وكان من الأئمة المشهورين، والعلماء المعروفين، جامعًا لمعرفة علوم؛ منها علم الحديث، والفقه، والعربية، وغير ذلك (٤).
_________
(١) الديباج المذهب، لابن فرحون (١/ ٢٤١).
(٢) شجرة النور الزكية، لمحمد بن محمد مخلوف (١/ ١٩٤).
(٣) الديباج المذهب (١/ ٢٤١).
(٤) المصدر السابق (١/ ٢٤٠ - ٢٤١).
مقدمة / 14
وقال أيضًا: وكان يشار إليه بالبلاغة والعلم والتقدم في علم الحديث، والفضل التام (١).
وقال محمد بن محمد مخلوف: الإمام العمدة، العلامة الفقيه، المحدث المتفنن الفهامة (٢).
٥ - وكتبُ الرجل تدل على علمه وذكائه ويقظته:
وتجلى لنا ذلك في كتابين عشنا معهما:
هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم: "مختصر صحيح البخاري".
فهو في اختصاره كأنه لم يترك منه شيئًا، بالإضافة إلى خصائص أخرى تزيد على صحيح البخاري -كما سيتبين لنا بعد قليل.
وكذلك فعل في "تلخيص صحيح مسلم" الذي حققناه منذ سنوات.
وقد نهج فيه منهجًا أتاح له استيعاب ما فيه من متون كما هنا في "مختصر صحيح البخاري" (٣).
كما شرحه في كتابه المشهور "المفهم" الذي أحسن فيه وأجاد، ويدل على علم كثير عنده (٤).
كما له الكثير من المؤلفات غير هذه.
_________
(١) المصدر السابق (١/ ٢٤١).
(٢) شجرة النور الزكية (١/ ١٩٤).
(٣) نشر في مكتبة دار السلام في طبعته الأولى عام (١٤٠٩ هـ = ١٩٨٨ م)، ثم صدرت له طبعة ثانية منذ سنوات.
(٤) طبع عدة طبعات منها طبعة دار ابن كثير ودار الكلم الطيب في دمشق وبيروت، عام (١٤١٧ هـ = ١٩٩٦ م).
مقدمة / 15
٦ - ولهذا العلم الوفير أخذ عنه الأئمة، منهم أبو عبد اللَّه القرطبي، صاحب التفسير المشهور "أحكام القرآن"، كما أخذ عنه شرف الدين الدمياطي وغيرهما.
٧ - وقد انتهى به المطاف إلى الإسكندرية، فنزلها واستوطنها وَدرَّسَ بها (١).
وتوفي بها سنة ٦٥٦ هـ (٢) رحمه اللَّه تعالى رحمة واسعة.
* منهج القرطبي في التلخيص:
صحيح البخاري له مختصرات عدة، ولكن هذا المختصر يمتاز عنها بأمور عدة:
١ - الاختصار:
فهو -في الاختصار- لم يترك شيئًا من متونه إلا ذكره، وذلك بالمنهج الذي سار عليه في اختصار هذا الكتاب.
فقد حذف الأسانيد، وحذف المكرر ما أمكنه ذلك.
ومعروف أن البخاري يكرر الأحاديث، ويذكر الحديث الواحد في أكثر من موضع لأسباب ليس مجال ذكرها الآن.
وأبو العباس القرطبي يختار من هذه الروايات أشملها، ويذكرها فيما هو لائق بها من الأبواب.
_________
(١) الديباج المذهب (١/ ٢٤٠).
(٢) شجرة النور الزكية (١/ ١٩٤).
مقدمة / 16
ويشير إلى زيادات في بعضها حتى لا يكررها، ويعطي كل ما فيها من معان.
ولكنه لا يغفل أن يشير إلى الروايات الأخرى من الصحيح، في الأبواب التي ذكرت فيها.
٢ - ومن وجوه الاختصار عنده أنه يجمع بين الحديث وشاهده، ويحيل أحدهما على الآخر.
ولا يمنعه الاختصار من التكرار في أبواب أخرى إذا كان الحديث أدخل أيضًا في كتاب آخر وباب آخر.
ولكنه لا ينسى أنه مُخْتَصِر، فيذكر من الحديث ما يناسب الباب فقط.
٣ - وهو في اختصاره يضع في اعتباره الأحكام التي تضمنتها أحاديث صحيح البخاري. أما ما لا يفيد في ذلك فإنه يتركه.
فقد عقد البخاري ترجمة بقوله: "باب المساجد التي على طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ".
وأتى رواية مجملة فيها إشارة إلى مواضع كان يصلي فيها رسول اللَّه ﷺ، ولم تذكر تلك الأماكن.
ثم أتى بعدها برواية مطولة جدًّا ذكرت تلك الأماكن بالتفصيل (١).
أتى القرطبي بالرواية الأولى التي أشارت إلى الأماكن ولم يأت بالرواية التي ذكرت هذه الأماكن (٢).
_________
(١) صحيح البخاري (١/ ١٧٢ - ١٧٤ أرقام ٤٨٣ - ٤٩٢).
(٢) رقم (٢٧٥) في هذا الكتاب.
مقدمة / 17
وقال: "تركت الحديث الطويل في تعيين تلك الأمكنة، إذ يعسر حفظه، مع أنه ليس فيه حكم مهم".
* تحقيق القرطبي:
١ - والقرطبي رحمه اللَّه تعالى ليس مختصرًا فقط في هذا الكتاب، وإنما هو محقق ومدقق، فيقابل بين النسخ ليرجح ما هو أقرب إلى الصواب، أو هو الصواب.
ففي حديث: من استلج في أهله بيمين -فهو أعظم إثمًا، ليس- يعني الكفارة.
علق على جملة: "يعني الكفارة، فقال: وجدنا هذا اللفظ في بعض الأمهات: "تُغْنِي بالتاء المضمومة وبالغين المعجمة، وهذا ليس بشيء، ووجدناه في الأصل المعتمد عليه بالتاء المفتوحة وبالعين المهملة، وعليه علامة أبي محمد الأصيلي، وفيه بُعْد. ووجدناه بالياء باثنتين من تحتها، وهو أقرب.
وعند ابن السكن: "يعني ليس بالكفارة" وهذا عندي أشبهها إذا كانت "ليس" استثناء بمعنى إلا، أي: إذا ألجَّ بيمينه كان أعظم، إلا أن يكفّر. واللَّه أعلم (١).
٢ - وهو يصحح ما يراه خطأ في الرواية، فعند البخاري عن أنس أن ابنة النضر لطمت جارية، فكسرت ثَنِيَّتَها، فأتوا النبي ﷺ، فأمر بالقصاص (٢).
_________
(١) رقم (٢٩١٥) من هذا الكتاب.
(٢) صحيح البخاري. رقم (٦٨٩٤).
مقدمة / 18
هكذا جاء الحديث في البخاري، ونقله القرطبي بأمانة كما هو (١)، ثم نبه على الخطأ في هذه الرواية، فقال عقب الحديث: "كذا وقعت الرواية هنا: "ابنة النضر" والصواب: "أخت النضر بن أنس، وهي الرُّبَيِّع ابنة أنس" واللَّه أعلم.
وهو في هذا قد تبع مذهب نقل الخطأ في الكتاب كما هو، والتنبيه عليه.
وجدير بالذكر أنه قد جاءت روايات في البخاري على الصواب في مواضع أخرى، تارة تصريحًا بأن ابنة النضر هي أخت أنس، أو فهمًا من السياق. وقد نبهنا على ذلك في موضعه.
٣ - وهو يقارن بين روايات نسخ البخاري، ويُصَوِّب ويرجح ما يحتاج إلى ذلك.
ففي حديث رجم اليهودي واليهودية اللذين زنيا (٢) جاء فيه: "فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة. قال عقبه:
قلت: "يحني" بالحاء رواية الحموي، ويالجيم للسرخسي والكشميهني. وصوابه: "يَجْنأ" بالجيم والهمزة.
كما نبه على سقوط كلمة من الرواية:
ففي حديث عبد اللَّه بن عباس أن رسول اللَّه ﷺ بعث بكتابه إلى كسرى، فأمر أن يدفعه إلى عظيم البحرين. . . الحديث (٣).
_________
(١) رقم (٢٩٩٥) من هذا الكتاب.
(٢) رقم (٢٩٧٨) من هذا الكتاب.
(٣) رقم (٣١٣٥ م) من هذا الكتاب.
مقدمة / 19
عقب على ذلك بقوله: "كذا وقع هذا الحديث في الأمهات، ولم يذكر فيه "دحية" بعد قوله: "بعث" والصواب إثباته، وقد ذكره البخاري فيما ذكره الكشميهني معلقًا".
ولاشك أن السياق يؤيد ما قاله القرطبي؛ لأن الضمير في "أَمَرَهُ"، يعود إلى من بعث معه الكتاب -وهو دحية.
٤ - ويرجع إلى النسخ العتيقة، ويقارن بينها وبين غيرها ليخرج بفائدة.
ففي حديث عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي ﷺ عند أنس بن مالك. . . الحديث (١).
عقب القرطبي بقوله: "وجدت في بعض نسخ كتاب البخاري، وهي نسخة جيدة عتيقة: "قال أبو عبد اللَّه -أي البخاري- قد رأيت هذا القدح بالبصرة، وشربت فيه، وقد اشتُرِيَ من ميراث النضر بن أنس".
٥ - ومن فوائده تعقيبه على حديث رواه البخاري، عن عمران بن ميسرة، عن فضيل قال: حدثنا حصين.
ثم حول السند فقال: وحدثني أُسيد بن زيد، عن هشيم، عن حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وذكر حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب (٢).
بين أن في هذا الحديث راويًا ضعيفًا، وهو أسيد بن زيد الذي يكنى
_________
(١) رقم (٢٥٠٧) من هذا الكتاب.
(٢) صحيح البخاري (رقم: ٦٥٤١).
مقدمة / 20