علم غزير صحيح بأصول اللغة وفروعها، ومذاهب النحويين والأدباء في فهم هذه الأصول والفروع وتخريجها، وتحدث عن ذلك بلغة الرجل الذي ألفه وتعوده، فليس متكلفا له ولا محدثا فيه، وتواضع لا يفرضه صاحبه على نفسه ولا يحتال في الازديان به، وإنما هو صورة للطبع ومكون من مكونات المزاج.
تواضع تحسه، فيفيض في نفسك حب صاحبه، والميل إليه، والإعجاب به، والثقة بما يلقي إليك من الحديث، وأمانة في الرأي والنقل جيمعا، لا تكاد تمضي في الكتاب حتى تحسها قوية جلية، كأقوى ما تكون الأمانة وأجلاها، وإذا أنت ترى المؤلف يحاسب نفسه أشد الحساب كلما خطر له رأي، وكلما جرى قلمه بكلمة، أبغض الناس للتزيد، وأشد الناس انصرافا عن هذا التهاون مع النفس، الذي يبيح لكثير من الناس ما لا يباح للعالم الخليق بهذا الوصف.
ثم فقه بعد هذا كله بدقائق النحو ودخائله، ويجعله يضطرب في هذا العلم العويص الملتوي، كما يضطرب الرجل في بيت ألفه منذ نشأته، وعرف زواياه وخفاياه، فهو لا يخطو إلا عن علم، ولا يتقدم إلا عن بصيرة.
وهذا الفقه لدقائق النحو ودخائله، وهو الذي ملأ قلب إبراهيم حبا للنحو، وكلفا به، وحنينا إليه، وعطفا عليه؛ فهو يدرس النحو رفيقا به متلطفا في الدرس، كأنه يخاف أن يؤذيه أو يشق عليه، وكأنه يكره أن يناله بما لا يحب.
يقف عند مسألة من مسائل النحو، فيطيل النظر فيها مشغوفا بها، ثم إذا أرضى فيها حاجته عاد إليها فأطال الوقوف عندها والنظر فيها، متهما فهمه الأول، ملتمسا أشياء يشفق أن تكون قد غابت عنه، أو خفيت عليه. ثم هو يقلب المسألة على وجوهها المختلفة وأشكالها المتباينة، ثم هو لا يرضى بكتاب أو كتابين أو كتب، ولا يقنع فيها برأي إمام أو إمامين أو أئمة، ولكنه يستقصي ويمعن في الاستقصاء، وإذا المسألة التي يدرسها من مسائل النحو قد أصبحت عنده كائنا حيا له تاريخه، فهو يتتبع هذا التاريخ من أصوله، يرجع إلى أصل هذه المسألة كيف نشأت وكيف تصورها النحويون الأولون، وكيف تحدرت منهم إلى كتب الأجيال المختلفة من النحاة، وبأي طور مرت عند ذلك الجيل، وإلى أي طور انتقلت عند هذا الجيل، حتى إذا أرضى نفسه من هذا الاستقصاء - وما أصعب رضا نفسه! - عاد إلى المسألة يدرسها من جديد كأنه لم يدرسها من قبل، ولكنه في هذه المرة لا يلتمسها في كتب النحويين، وإنما في كلام العرب على اختلاف أجيالهم. يوازن بين ألوان هذا الكلام ويستخلص منه ما يرى أنه الحق، وإذا هو يتفق مع النحويين حينا ويخالفهم أحيانا، وليس هذا الكتاب إلا تصويرا لبعض النتائج التي وصل إليها من هذا الدرس المزدوج.
وإني لمعجب أشد الإعجاب بهذا الصبر الطويل، وهذا الجلد الذي لا أعرف له نظيرا في هذا الجيل الذي نعيش فيه، فليس يسيرا أن تعاشر النحويين فتطيل عشرتهم، فضلا عن أن تنفق حياتك كلها في مصاحبتهم، والتحدث إليهم، والتحدث عنهم.
والناس بعد يضيقون بالنحو ويتبرمون بحديثه، فما بالك برجل قد أصبح يضيق بكل شيء لا يتصل بالنحو، ويتبرم بكل حديث لا يمس النحو من قريب أو بعيد، حتى سميناه فيما بيننا بالفراء؟!
أنا معجب بهذا الصبر، ولكن إعجابي بنتائجه عظيم أيضا، وما رأيك في رجل يستطيع أن يؤرخ نشأة النثر العربي؛ يستخلص تاريخه لهذا الفن الأدبي العظيم من درس النحو وإطالة النظر فيه ، ويصل إلى نتائج باهرة حقا؟! وما رأيك في رجل يطيل النظر في النحو، فإذا هو يرد تفكير النحويين إلى تفكير الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين، وإذا هو يرد قصور النحو وتقصيره إلى علته الطبيعية، وهي أن النحويين قد فلسفوا النحو، فقصروا به عن أن يذوق جمال العربية، ويصور ذوقها كما كان ينبغي أن يصور.
وهو لا يتحدث إليك بهذا كله حديث المدعي بغير دليل، أو المتكثر من غير طائل، ولكنه أمين دقيق، لا يقول إلا عن علم، ولا يرى إلا عن بصيرة، دليله معه دائما ودليله ملزم دائما؛ لأنه لا يحاول أن يقنعك إلا بعد أن يفرغ من إقناع نفسه، وليس إقناعه نفسه بالشيء اليسير.
أليس هذا كله خليقا أن يحبب إلي الحديث عن هذا الكتاب وتقديمه إليك؟!
ناپیژندل شوی مخ