رابعها: أن هذه الآية الكريمة -أي قوله تعالى: {فعال لما يريد}- فنتضمت في سلك آيات تدل على أنها -أي هذه الآية- بمعزل عن أفعال العباد، ألا ترى إلى ما في سورة البروج من قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق} وما قال تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} فما فتنوهم بتأثير منهم ونحن الفاعلون لتلك الفتنة والمؤثرون فيها ولا يقدرون أيضا أن يوجدوا التوبة حتى نخلقلها نحن ونوجدها فيهم، ولو كان الكلام هكذا على ما هو الموافق لمذهب المعترض وأصحابه لخرج مخرج السخرية والعبث واللاغية بل يكون حجة لكل ذي فتنة للمؤمنين، ولكل كافر وجاحد، فقوله تعالى: {فعال لما يريد} متعقب لهذه الآية، ولقول تعالى: {إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد...} إلى قوله تعالى: {فعال لما يريد}، فالمعنى والله أعلم: مفيد لتحقيق ما وقع لهم من الوعيد وأنه تعالى فعال لما يريده من الابتداء والإعادة وإقامة القيامة ونيران الجحيم ونار الحريق، والمغفرة لمن تاب، فأين هذا المعنى من المعنى الذي يريده المعترض، فإنه هدم للكلام وإقامة الحجة القوية لأهل فتنة المؤمنين وسائر المعاندين، وانظر قوله تعالى: {إن بطش ربك لشديد، إنه هو يبدئ ويعيد} فإن بطش العباد لو كان بخلقه تعالى فيهم لكان من جملة بطشه الشديد، فلا يبقى إلا مأخذ البطش إليه تعالى معنى، والأشاعرة لا ينكرون أن للعباد بطشا وإلا لزمهم جحود مثل قوله تعالى: {وإذا بطشتم بطشتم جبارين} ومن أنصف من نفسه اعترف بأن هذا من الأدلة على أن الله تعالى بريء عن التأثير في إيجاد أفعال العباد، وإذا كان ذلك ثابتا عند المنصف فقد ثبت عنده أنه تعالى لا يريدها بمعنى أنه عزوجل لا يريد أن يوجدها ويخلقها فيهم.
فإن قيل: أن عند المعترض وأصحابه ما يدل على أنه تعالى يريدها -أي أفعال العباد- وهو أنها واقعة في ملكه عزوجل، وكائنة من جملة الكائنات في الوجود، وقد ثبت في الحديث: ((أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن))، فلو كان يغير مشيئته تعالى لم تكن في جملة الكائنات.
مخ ۳۶