Cavalleria Rusticana )، فإن وقتها هو الوقت الحاضر، ورواية (فاوست
Faust ) التي تمثل بوقائعها القرن الثامن عشر وإن كانت أرقى مثال للتأليف الفلسفي البديع، وقد أخرجت للمرة الأولى في منتصف القرن التاسع عشر (سنة 1859م)، فكانت إذن عصرية في وقتها وإن كانت غريبة بموضوعها، وقس على ذلك رواية (فيدليو
Fidelio )، فقد أخرجت للمرة الأولى في سنة 1805م. ومثلت في وقائعها القرن الثامن عشر، وكذلك رواية (الطيار الهولاندي
The Flying Dutehman )، فقد أخرجت للمرة الأولى سنة 1843م. ومثلت وقائعها القرن الثامن عشر أيضا، وقس على ذلك أيضا (قصص هوفمان
The Tales of Hofmann ) التي مثلت القرن التاسع عشر وأخرجت سنة 1881م. وكل هذا لا ينفي جمال التنويع في التأليف واستيحاء التاريخ القديم، ولكني آثرت الابتداء بالنوع العصري وبالنوع الدرامي أيضا، كما آثرت تعزيز نزعة الإصلاح المسرحي المتمشية في أوروبا درءا لطوفان البهرجة والزخارف الذي كاد يغرق المسرح المصري ... وسيرى الأستاذ حماد في أوپراتي الأخرى أني شديد الغيرة على تمثيل تاريخ مصر القديم وقصص البردي، ولن تفوتني خدمة الفلسفة الكونية بجانب غيرتي على خدمة الأدب العصري في التآليف المسرحية، وإني لن أنقطع لنوع معين، فلن أكون متطرفا في المحافظة أو التجديد إلا لمناسبات تهذيبية محسوسة تستأهل ذلك التطرف.
وليس من الشاق علي الرجوع إلى حكاياتنا المتداولة في (ألف ليلة وليلة) وفي (ألف يوم ويوم) ونحوها لاقتباس مادة الأوپرا، ولكني أوثر الابتكار وأوثر الغرض الأدبي الإصلاحي، ولا أود أن يحكم علينا بجدب القرائح والكذب على التاريخ بعد أن أصبحت قدرة مؤلفينا محصورة في مسخ ما كتبه الإفرنج عنا مقتبسا من نثر سلفنا أو اعتبار تآليفهم مشقا لهم، بدل كد قرائحهم في التأليف الصادق ... وقد أخطأ الأستاذ حماد في تصوره أن الموضوع لا يهمني، إذ لا فائدة لنا من تكرار مشاهد (عايدة)، وإنما يهمني حقا أن تؤدي القصة الخدمة الوطنية التهذيبية المرجوة فضلا عن التأثير الخلقي المنتظر منها، فإرجاع زمنها إلى عهد الفراعنة يذهب بصبغتها التي أنشدها للتأثير على هذا الجيل أو بمعظمها على الأقل، وما أظن الأستاذ حمادا ينكر أن معاصرينا أكثر تأثرا بتاريخ العرب وبالتاريخ الحديث منهم بتاريخ الفراعنة.
وأما عن مشاهد القصة فقد تحدثت عنها في البحث التحليلي السابق، وفي يقيني أن الفصل الأول من الرواية يمكن إظهاره في مشهد رائع على النسق الشرقي العربي الأندلسي مثلا، حيث تتوسط الغرفة الجميلة الرحيبة أو بهو القصر فسقية صغيرة بديعة ذات فوارة شائقة، وحولها أصاصيص الأزهار، وتتدلى المصابيح الشرقية وسط الغرفة ومن جوانبها، وتتمثل فخامة الفن العربي في نقوشها وتنسيقها وتفصيلها وأثاثها، وقد تخيلت هذا المنظر غير شاك في قدرة المدير الفني؛ لأية فرقة راقية على إظهاره بأي تنويع تسمح به ظروف الفرقة. وقس على ذلك مشهد الفصل الثاني، فإنه منظر جبلي طبيعي حربي كثير الروعة. وأما منظرا الفصل الثالث فلا بد لهما من الصبغة الحزينة حتى يتم بذلك تأثير القصة، ومن العبث الفني تحويل الأذهان إلى فخامة المناظر بهما. وكم جنت المشاهد الفخمة والملابس الثمينة على روح الأوپرا، كما نشاهد ذلك على الأخص في رواية (الديك الذهبي
LE Coq D’OR ) وأمثالها، وإن كان كثيرون في مصر لا يقدرون هذه الحقيقة؛ ولهذا أعتقد أني لم أقصر في معاونة أية فرقة ممثلة على الإخراج دون نفقة باهظة، وكم من الأوپرات الأوروبية الراقية لا تتعدى مشاهدها ما قدمت بل قد لا تصل إليه؛ ذلك لأن الروح النقدية الغربية قد اتجهت حديثا اتجاها قويا نحو العناية بالدرامة قبل كل شيء آخر.
وأما عن الفرقة المنشدة أو المرتلة (Chorus) ، فالمعتاد وجودها في الأوپرات الكبرى، ولكن ظروف هذه الأوپرا لا تسمح بها، وليست من الشروط الأساسية التي تنهدم الأوپرا بغيابها. وقد استعضت عنها بنشيد الضباط والرقص في الفصل الثاني. ولا يمكن مجاراة حضرة الناقد في ملاحظته إلا إذا أبدلت القصة إبدالا (وكل ذلك من أجل فرقة المرتلين ...!) إذ لن يجتمع المشهد الريفي والفخامة التي ينشدها في مصر على الأقل ... وما أظن أني أسيء إلى الجمهور المصري بتصريحي بأنه في حاجة إلى أن يقاد، وأنه من الإساءة الكبرى إليه تغذيته بالمناظر والأصباغ الخلابة ، وصرفه عن لباب الدرامة والشعر والموسيقى الفنية الحقة. (2) الجهد الغنائي
وأما عن الخوف من إرهاق المغنين والمغنيات، فلا موجب له بشهادة رئيس إحدى الفرق الغنائية التمثيلية الكبرى في مصر (فرقة الأزبكية)؛ لأن مادة القصة متناسبة مع الأدوار، والذي لا يستطيع احتمال هذا الجهد الغنائي المتوسط ليس بصاحب حنجرة جديرة بغناء الأوپرا ... وكان نقد رئيس الفرقة المشار إليه محصورا في قصر الأدوار والروح الحزينة المتسلطة على القصة بينما الجمهور المصري أكثر ميلا إلى الطرب ... فكان جوابي أن (إحسان) على إيجازها أطول من أوپرات أخرى كثيرة، وإن تمثيلها بعناية وإتقان - إذا أعطي الغناء والموسيقى حقهما - لن يقل عن ساعتين؛ لأن مطالعة القصة تستغرق أكثر من نصف ساعة. وأما عن وضع الكلام المرسل في الأوپرا فلا أوافق عليه إلا نظما وشعرا، ولا بأس من إسقاط القافية أحيانا، ورسالة حسن بك لصديقه أمين بك هي في نسقها أقرب للنثر منها إلى النظم، فقد اخترت لنظمها بحر الخفيف ومن عادتي نظم شعري غنائيا، فما وجدت صعوبة عند النظم في إنشاء هذه القطعة مقسمة لتناسب قراءة «الآسف الحزين المتردد في تلاوتها»؛ لعلمه بأنها تحزن (إحسان) وهي تتشبث بأن يقرأها عليها.
ناپیژندل شوی مخ