إِحْكَامُ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِ النَّظَرِ بِحَاسَّةِ البَصَرِ
تَأليف
الإِمَام الْمُجْتَهد ابنِ القطّانِ الفاسِيّ (الْمُتَوفَّى ٦٢٨ هـ)
تَحْقِيقْ
الْأُسْتَاذ إِدْرِيس الصّمَديّ
خريج دَار الحَدِيث الحَسنية بالرّباط
رَاجَعَهُ وَضَبَطَهُ
الْأُسْتَاذ الدكتور فاروق حمادة
أستاذ السنّة وعلومها بكلية الْآدَاب - جَامِعَة مُحَمَّد الْخَامِس - الرّباط
دَار الْقَلَم
ناپیژندل شوی مخ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 3
دَار الْقَلَم - دمشق
أسَّسَها
مُحَمَّد عَليّ دولة سنة ١٩٦٧ م
طبعة دَار الْقَلَم الأولى
١٤٣٣ هـ - ٢٠١٢ م
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة
تطلب جَمِيع كتبنَا من:
دَار الْقَلَم - دمشق
هَاتِف: ٢٢٢٩١٧٧ - فاكس: ٢٢٥٥٧٣٨ ص. ب: ٤٥٢٣
الدَّار الشامية - بيروت
هَاتِف: ٨٥٧٢٢٢ (٠١) - فاكس: ٨٥٧٤٤٤ (٠١)
ص. ب: ٦٥٠١/ ١١٣
توزّع جَمِيع كتبنَا فِي السعودية عَن طَرِيق:
دَار البشير - جدّة
٢١٤٦١ ص. ب: ٢٨٩٥ - هَاتِف: ٦٦٥٧٦٢١ - فاكس: ٦٦٠٨٩٠٤
1 / 4
تَقديم الطبعة الثالثة
الأستاذ الدكتور فاروق حمادة
الحمدُ لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وبعد:
فإن كتاب (إحكام النطر في أحكام النظر بحاسة البصر) للإمام الحافظ أبي الحسن علي بن محمد، المعروف بابن القطان الفاسي، كتاب عزّ نظيره، ونَدَر مثيله مضمونًا ومنهجًا، فقد تناول الأحكام الشرعية لحاسة البصر، وتتبَّعها في مظانها الفقهية وغير الفقهية، وصدَّرها بالآيات والأحاديث النبوية، واستخرج مدلولاتها من هذه وتلك بروح التمكُّن العلميِّ، والنظر الإجتهادي الذي يستند إلى الأصول والقواعد، فجاء أنموذجًا يحتذيه الدارسون الذين يستنبطون الأحكام، وينسبونها إلى الشريعة المحمدية، مع ورع ظاهر حتى في استعمال الألفاظ والكلمات، إنّه خزانة محشوَّة بالنصوص الشرعية، وآراء الفقهاء المذهبية، بترتيب محكم ورؤية تامة شمولية.
وقد كشف وجه الحق في هذه الأحكام، ولم يخلط الرأي الذي يدعمه الدليل والحجة بالرأي الذي يستند إلى العاطفة والهوى، ويسقط ذلك على الشريعة الغراء، وأُذكَّر أنه المرجع الحجة في هذا الباب، وسيبقى كذلك إن شاء الله، ولقد لقي القبول والإستحسان عبر العصور إلا أنه بقي منزويًا في صقع ذلك
1 / 5
الإمام -المغرب- فنقل عنه علماء ذلك الصقع الذي كان نئيًّا بعيدًا، ولهجوا بذكره واستحسانه، واختصره بعض الفقهاء منهم، ولكن مخطوطاته غدت نادرة لم يعثر المحقق إلا على واحدةٍ وفيها سقم واضح، ومختصرٍ فقهي له لا يتلو من شيء من ذلك، نسأل الله تعالى أن يُهيِّئ لنا نسخًا مخطوطة جيدة منه، ومن المؤلفات البديعة المفقودة لهذا الحافظ الإمام.
وقد طبع للمرة الأولى فنفدت طبعتُه، ثم صوّر مرة ثانية عنها فنفدت كذلك، وكنت أحثُّ المحقق على إعادة النظر فيه، ولكن ظروفه لم تكن تسمح له بذلك، فعُدت إليه وقوّمت ما أمكن تقويمه من نصوصه، وأضفتُ ما يمكن إضافته ممَّا يسهِّل قراءة النص، أو يلقي ضوءًا عليه، وأزلتُ أخطاءً مطبعية وقعت فيه، فجاءت هذه الطبعة أنقى من سابقتيها، وأصفى وأهنأ للواردين إن شاء الله.
وحقيقٌ بكلِّ طالب علم مخلص، أو باحث جادٍّ، أو عالم طُلَعة أن يكون هذا الكتاب بين يديه، ومرجعه فيما تناوله مؤلفه وذهب إليه.
كما جاءت طباعتُه أعلى وأرقى، طباعةً تليق بهذا الكتاب الفذِّ في المكتبة الإسلامية.
فأسأل الله ﵎ أن ينفع به، وأن يغدق على مؤلِّفه شآبيب الرحمة، ويجازي بالخير والإحسان في الحال والمآل محققه ومراجعه، ويثيب ناشره ثواب العاملين. . إنه خير مسؤول وأكرم مأمول.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
في أبو ظبي
بتاريخ ٣ جمادى الآخرة ١٤٣١ هـ
موافق ٦ / ماي / ٢٠١٠ م
وكتبه
المستشار الدكتور
فاروق محمود حمادة
1 / 6
تَقديم
بقلم الأستاذ الدكتور فاروق حمادة
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِ الله فهو المهتد، ومَن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠، ٧١].
- ١ -
أما بعد: فإن كثيرًا من الأفكار تتألَّق بمرور الزمن، وتعاقُب الأيام، فتتلألأ في جنبات التاريخ وموجات الفكر الإِنساني المتلاحق، نيِّرةً متميزة، يُشار إليها بالبنان ويُستشهد بها، وتُزين بها الآراء، ويُحتج بها في المحافل، ويرجع إليها
1 / 7
الناس في كل حين وآن، لا يُقلل من شأنها عند العقلاء أنها ليست من رعونات العصر، أو خارجة عن إبداع الجيل الحاضر ونزقه ونزغاته، وما ذلك إلا لأنها قامت من منطلق صحيح، وبُنيت بمنهج دقيق، وعالجت جانبًا من جوانب الإِنسانية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها من خصائص الإِنسان ومميزات وجوده.
وإن أبقى الكتب مع الأيام هي التي تضمُّ قدرًا كبيرًا من هذه الأفكار، فلها القبول وعليها المدار.
وإن هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم: (إحكام النظر في أحكام النظر بحاسّة البصر) من الأسفار التي ضمّت نيّر الأفكار، وقويَّ الآراء، وسديد الإستنباطات في جانب خطير من جوانبا الإنسانية الثابتة، ألا وهو النظر بالعين، وما تعكسه على النفس والمشاعر من آثار، قد تكون هذه الآثار في غاية النبل والسمو فترفع صاحبها إلى مقام الصدّيقين والشهداء، فيستحق النعيم المقيم في أعلى عليين، قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩٠، ١٩١].
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: ٦ - ٨].
أو تهبط بصاحبها إلى دركات الحيوانية، بل دون ذلك، فيكون من الغاوين الذين اتبعوا هواهم، وعاثوا يطلبون مناهم، وأنّى لهم ذلك؟! بل شأنهم في تعب دائم، وشقاء متجدِّد متعاظم، وسُعَار لاهب متفاقم، وفي هؤلاء جاء قول الحق سبحانه: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ
1 / 8
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ١٧٥، ١٧٧].
ولخطورة حاسة البصر، وأهميتها في حياة الإِنسان جاءت الشريعة المطهَّرة بتحديد مساربها، وبيان الوجهِ الحقِّ لاستعمالها، وضبط العلاقة السليمة بين الناظر وما حوله من الوجود إنسانًا وجمادًا، كلُّ ذلك بما يتفق وتكوينه وغرائزه، وجِبِلَّته وفطرته حتى تكون حاسة البصر أداة خير وبناء، لا معول هدمٍ وإفسادٍ وشقاء.
وإنَّ أخطر نظرة تكون بهذه الحالة هي النَّظرة التي تتوجَّه من الرجل نحو المرأة، ومن المرأة نحو الرجل، بحكم الفطرة التي ينجذب إليها أحدهما نحو الآخر، وهي التي في الحديث: "النظرة سهم من سهام إبليس".
ولهذا جاءت النصوص الشرعية كثيرة ضافية تضبط النظر من أحدهما نحو الآخر حتى لا يزلَّ وينحرف، أو يسقط وينجرف، وليبقى كلاهما في إنسانية كريمة وعلاقة خيِّرة سليمة.
وقد أولى علماء الإسلام عبر العصور ولا يزالون هذه النصوص الشريفة كامل العناية والرعاية من تفسير وشرح، واستنباط وبيان، وذلك خلال درسهم للقرآن الكريم، والحديث النبوي الشريف، أو في كتب الفقه الإسلامي وأبوابه، وكلُّ باب من أبواب كتب الفقه هو باب للإنسانية على حياتها، إن دخلت منه كان دخولها صحيحًا سليمًا، وسيرها مأمونًا قويمًا، فالفقه الإِسلامي هو كتاب الحياة الإِنسانية الواسعة في كلياتها وجزئياتها، في دقائقها ومخفياتها، وقد وقف الفقهاء مع حاسة البصر والنظر وقفات غير قليلة في كتب التفسير، وشروح الحديث، ومصنفات الفقه.
ومع هذا فإنَّ هذا الكتاب فريد في بابه، إذ استقلَّ بجمعه دون غيره،
1 / 9
وعمل على الإحاطة بمسائله الكبرى وجزئياته، بل تعمق حتى بحث في خلجات النفس ودقائق الورع، وترك الإِنسان المسلم يواجه أفكاره وحركات نفسه، ويراقب الله وحده. . ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: ١٦].
ولا نعلم كتابًا قبل هذا الكتاب أفرد مسائل هذا الباب بهذه الكيفية وهذه الشمولية.
وإن مؤلفه أبا الحسن بن القطان إمام كبير، وناقد خطير، وحافظ جهبذ. .
إنه شيخ شيوخ الدولة الموحِّدية التي أطلقت الفكر من عقاله، وألحَّت على
ضرورة طوافه وتجواله للتجديد والإجتهاد، وإن أقوال هذا الإِمام وآراءه في علم الحديث والرجال انتهبَتهَا الدواوين، وتزينت بها الأسفار التي جاءت بعده وغدت متكأً للحفّاظ والنقّاد الكبار، ولئن كان كتابه الكبير (بيان الوهم والإِيهام، الواقعين في كتاب الأحكام) (١) هو الذي جعل صيته يطير شرقًا وغربًا، وسلَّم له بالإِمامة في علم الحديث كلُّ من اطَّلع عليه، فإن كتبه الأخرى -وخاصة هذا الكتاب- قد حظيت بكل قبول وتقدير، واهتبالٍ واحتفال، لما أبدى فيه من قوة عارضة، وسعة أُفق، وحسن تقدير.
لقد كسر المصنف كتابه هذا على ثمانية أبواب، متيمِّنًا بأبواب الجنة الثمانية التي هي محطُّ نظر المؤمنين على الدوام، جعلنا الله وإياه من أهلها، متدرِّجًا في أحكام البصر تدرُّجًا سليمًا وقويمًا، بدءًا من غضِّ البصر عما لا يحلُّ، ومشروعية ذلك، إلى ما لا يجوز إبداؤه للناظرين وما يجوز، ثم في نظر الرجال إلى الرجال في شتى الأحوال، ثم في نظر النساء إلى النساء، ثم في نظر الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، وهذان البابان قد بلغ فيهما الذروة، وسامى المجتهدين الكبار، ثم عالج مسألة الضرورات المبيحة، وختمه في تقلبات
_________
(١) حقق بإشرافنا وطبع بمقدمة لنا.
1 / 10
الطرف في هذا الوجود، ومشروعية أقوال خاصة وأفعال محددة عند نظر بعض المرئيات، وفي خضمِّ هذه الأبواب الثمانية، جمع فأوعى، واستقصى فأوفى.
وأما عن منهجه في هذا الكتاب، فهو نموذج رائع، وقدوة لكلِّ باحث ودارس، ويمكن إجمال ذلك من خلال النقاط التالية:
١ - لقد جمع ابن القطان كل الآيات القرآنية المتعلِّقة بالنظر، ووضعها في سياقها الصحيح مع ما قبلها وما بعدها، ونقل أقوال أئمة التفسير فيها بدءًا من الصحابة الكرام ومن تلاهم من التابعين، كاشفًا عن أقوال أئمة اللغة العربية، مع بيان موضع الدليل، ومناط الأحكام فيها.
وأما نصوص السُّنَّة الشريفة، فحدِّث عن البحر ولا حرج، فلقد جمعها من مظانِّها، ولم يفته منها نصٌّ ذو شأن، وخطَّ لجمعها خطَّةً جليلةً، فقد التزم بأن يورد الحديث الشريف إذا كان صحيحًا دون إسناد مع بيان مصدره، وإن كان فيه نظر عند المحدِّثين أو تكلّم أحد فيه ساقه بإسناده، وتكلَّم عليه جرحًا
وتعديلًا وتصحيحًا وتضعيفًا، وأما الحديث المعروف بالضعف فيورده ويشير إلى موضع العلة فيه. ومن خطته: تقديها الصحيح للإحتجاج، والتعريج على ما فيه كلام ويصلح للاستشهاد، ثم يورد الضعيف لبيان ضعفه حتَّى لا يأتي آتٍ بعده فيظنَّ به أنه لم يطَّلع عليه أو قصر في جمعه والنظر فيه.
ويبيّن في كلِّ نصٍّ موضع الدليل، وما يمكن أن يثور في الإعتراض عليه، وما قاله فقهاء السُّنة إن تنازعت دلالتَه الآراء.
لقد ذكر في كتابه هذا نحوًا من مئتين وسبعين حديثًا في موضوع النظر، وتكلَّم عليها بما يكفي ويشفي، واقتبس علماء الحديث من بعده طرفًا غير يسير من كلامه فيها.
٢ - لقد أحاط المصنِّفُ في كتابه هذا في موضوع النظر وما يتعلق
1 / 11
به بمذاهب الفقهاء المعتبرين؛ بدءًا من الصحابة الكرام، ومَن تلاهم من التابعين، حتى الأئمة الأربعة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأحمد بن حنبل، ومَن سار خلفهم من كبار علماء الإِسلام الذين يعتدُّ بقولهم، ويُرجع إلى رأيهم ونظرهم. . وكان يسوق أقوالَهم، ويستقصي مذاهبهم من كتبهم المعتمدة، بكلِّ أمانة وإنصاف وإتقان واستيفاء، ثم يبيِّن قويَّ هذه الآراء وقويمها بالحجة والبرهان، دون تعصُّب لمذهب أو انسياق مع فكرة لمكابقة، فهو متحرٍّ للدليل، مجتهدٍ في الرأي، غير منتقٍ من الآراء بدافع هوًى معين، أو ملفقٍ بين بعضها تحت ضغط رغبة جامحة أو نزوة طارئة!. . وقد بلغ في هذا شأوًا بعيدًا، فهذا الكتاب من هذه الناحية كتاب فقه مقارن، وبه يظهر لنماذج من عصرنا وقد نتفوا من القرآن أو السنّة نتفًا، ولم يلامسوا من العربية إلا القليق، وأرادوا الإجتهاد، يظهر لهم كيف يكون الإجتهاد، إنهم بنتفهم قد ضلوا وأضلوا، وزلوا أيما زلل وأزلوا، فالإجتهاد كلمة محبّبة، ولكن الوصول إليها ليس بالآمر الهين، إنه ليس بجمع نصوص لا يدري جامعها ما يصنع بها، أو النظر فيها دون معرفة تفسير الذين نقلوها ورووها. .
إنَّ من المهمَّات في باب الإجتهاد الإِحاطة بمذاهب المتقدمين، ومعرفة دليل كل واحد منهم، وحجته فيما ذهب إليه، وإنَّ من ينظر إلى صنيع ابن القطان في هذا الكتاب يتيقَّن أنه من النخبة المتميزة في تاريخ الفقه الإِسلامي.
وإن المكتبة الفقهية التي رجع إليها ابن القطان لاستعراض المذاهب والآراء واسعة جدًّا، عرفناها من خلال هذا الكتاب، ومن خلال كتابه البديع المسمى (الإِقناع في مسائل الإِجماع) (١)، الذي نخل فيه كتب فقه المذاهب المعتمدة وأصولها المتداولة المرضية في كل مذهب، وعرفنا من خلاله دقته وحسن تصرفه في كتب الفقه على اختلافها.
_________
(١) طبع بتحقيقنا مع شرحه ودراسته في دار القلم بدمشق.
1 / 12
٣ - لقد أجاد ابن القطان وأفاد في بحثه لمسألة النظر، وما يجوز إبداؤه، وما لا يجوز وغير ذلك من المباحث الكثيرة التي عرض لها، أجاد وأفاد في ربط النصوص الشرعية بمقاصدها، والحكمة من تشريعها، وبيان الغاية منها في تكوين الإِنسان الربَّاني الصالح، وإبعاده عن مواطن الشبه والريبة، والسمو به عن دركات الفاحشة، فكان تعليل النصوص هاجسًا له يسير معه، ويستعين به، وهو ينظر في القرآن الكريم والسنّة المطهرة، فلم يكن نصيًّا جامدًا يقف مع الظواهر أو يحشر المتناقضات، بل كان يوجه النصوص تبعًا لمقاصدها ويوفق بين ما ظاهره التعارض بوضع كلِّ نصٍّ في محله الذي سيق من أجله.
ومَن يقرأ هذا البحث يشعر شعورًا غامرًا بأن فقهاء الإِسلام، كانوا على الدوام أطباء المجتمع، وحرّاس الفضيلة فيه، ومصلحي خلل الأمة، بل كانوا نبضها المتحرك، وروحها الوثَّابة، خبرة ومعرفة بما يجري ويدور في خلد الناس، وجنبات المجتمع، وأعماق الأُسر. . فيدلُّون الناس على الخير، ويجهدون
لهم بالنُّصح، ويضعون نصوص الشريعة طبقًا للغاية التي جاءت من أجلها دون
تعسُّفا أو التواء؛ لأن الحياة بغير ذلك تفسد ولا تستقيم. . ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٩].
٤ - ومن خلال الثمانية الأبواب التي أدار المؤلف كتابه عليها فرَّع كلَّ باب إلى مباحث ومسائل دقيقة جدًّا، استوعب بها ما هو واقع، وما يمكن أن يخطر بالبال في حياة الإِنسان وله تعلق بالنظر والبصر والعورات، والضرورات، وبهذا يمكن الجزم بأن هذا الكتاب موسوعة شاملة فيه ما ليس في غيره من كتب الفقه والتفسير وفقه الحديث، ويغني عن غيره ولا يغني غيره عنه، ويسوق المسائل بمنهجية صارمة وتسلسل دقيق دون تكرار أو إعادة، وقد بلغت مسائله نحوًا من مئة وإحدى وسبعين مسألة.
1 / 13
٥ - لقد وصل ابن القطان في كتابه هذا إلى نتائج حاسمة في تحديد العورات للرجل والمرأة، وما يجوز للمرأة إبداؤه، وهو الوجه والكفّان فقط، وتردّد في القدمين، ومال إلى عدم الجواز، فجاء هذا الكتاب ردًّا على مَن أراد تجريد المرأة والرجل من الإِنسانية، وإِطلاقهما في غابة الهبوط الحيواني دون خلق، أو وازع، أو حياء، وهذه حالة مَرَضية في تاريخ الإِنسانية تتكرر آنًا بعد آن، فقد كانت قديمًا في الجاهلية: ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾ [الأحزاب: ٣٣] وتكون اليوم، وغدًا. . فلا بدَّ لعلماء الشريعة استهداءً بنور الوحي من بيان حكمها والعمل لسدّ خرقها.
وجاء كذلك ليردَّ على تشدُّد طائفةٍ غَلَت في الأمر، وأرادت إحاطة المرأة بضباب كثيف، وفرضت عليها تغطية كلِّ شيء فيها، وزعمت أن هذا هو الدين الحق!. . واني أقول لهؤلاء على الدوام: لو قلتم: إنها الغيرة على الحُرَم، أو الورع والاحتياط، لسلمنا ذلك لكم، ولن يلومكم أحد بل يُحمد لكم ذلك، أما أن تعتقدوا وتروِّجوا للغلوِّ، وتفسِّقوا المخالف، فهذا أمر لا يصفو لكم، ولا حجة لديكم.
وقد ردّ عليهم ابن القطان بالحجج الدامغة والأدلة البيّنة التي لا تدع قولًا لقائل، بعيدًا عن تطويح العواطف، ونزق الأحداث العارضة، فالشريعة دائمة بدوام الإِنسان، محيطة بكلِّ حياته وأفراده.
إنَّ المسلمين جميعًا إن شاء الله سينتفعون بهذا الكتاب، وستكون فائدته أعظم عند الباحثين عن الحق المنقبين بطمأنينة عن الدليل، ولا سيما في هذا الوقت الذي نرى فيه أفكارًا شاذَّة عن الزمان والمكان. . تصبّ الجهود لفرض هيئة معينة، والإِسلام يحاول المحاولون اقتلاعه من جذوره، ويعطيهم السُّذَّج من هؤلاء البرهان والمتمسَّك بخروج المرأة المسلمة في هيئاتها التي يروِّجون لها: ﴿رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الممتحنة: ٥].
1 / 14
- ٢ -
• لقد تشوَّف الباحثون والدارسون، وعلماء الإِسلام وطلاَّب العلم إلى هذا الكتاب عبر العصور لجلالته وأهميته، وتوارى عن الأنظار دهرًا طويلًا، وقد ادَّخر الله تعالى الفضل في إخراجه وتعميم نفعه في المشارق والمغارب للأخ الأستاذ إدريس الصَّمَدي، فأخرجه من ظلمات الرفوف في خزانة الأسكوريال بإسبانيا ليضعه تحت نور الأبصار، والله يختصُّ مَن يشاء بما يشاء.
والنسخة الوحيدة التي نعلمها لهذا الكتاب هي نسخة الأسكوريال، وهي نسخة سقيمة وفيها أخطاء كثيرة، وقد عكف الأستاذ الصَّمدي عليها بصبر وتؤدة دون كَلَل أو مَلَل، ولقد كان يعمل بها، ومرَّت به عاصفة من الأسقام والأمراض فما وَنَته عنها، وما أقعدته عن متابعتها، وكنتُ أشفق عليه وهو يجد في ذلك لذّة وحلاوة، واستطاع أن يخرجها ويقوّم كثيرًا من كلماتها وعباراتها، ويردَّها إلى الصواب بما رجع إليه من مصادر ومظان استخدمها المصنف، وبقيت كلمات صعبت عليّ وعليه فنرجو الله ﷿ أن ييسِّر لنا نسخة أخرى لإِصلاحها واستكمالها.
ثم قام بتخريج أحاديثها وتتبعها بشكل جيد، وترجم لعديد من الرواة الذين ذكروا في الأسانيد، أو حام حولهم تعليل ابن القطان وتضعيفه.
كما ذكر مظانَّ كثيرٍ من المسائل الفقهية التي أوردها ابن القطان في كتابه، وتكلَّم فيها بما يسهل الرجوع إلى عديد من المصادر لمن أراد المزيد.
كما عرَّف بالكتاب وبصاحبه قبل الدخول إليه تعريفًا مطولًا نافعًا إن شاء الله.
لقد أسدى الأستاذ إدريس الصَّمَدي للمكتبة الإِسلامية: الحديثية والفقهية بهذا العمل كتابًا نفيسًا، تُشدُّ عليه يد الضّنانة، ويقتنى بكلِّ غالٍ ونفيس، أسدى
1 / 15
مرجعًا أساسيًّا لا يُستغنى عنه، تقبَّل الله منا ومنه هذا الجهد، وقد كان هذا الكتاب مع دراسة له رسالة نال بها درجة دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب والعلوم الإِنسانية بالرباط بتقدير "حسن جدًّا".
• وقد تناولتُ الكتاب أثناء عمله فيه، وبعد انتهائه منه، فدققتُ كلِمَه، وأصلحتُ عددًا منها ومن عباراته من الأصل ومن غيره، وتتبعتُ مسائله وأحاديثه وعلَّقتُ على عدد منها بما يقنع ويفيد إن شاء الله.
وقد ميزُتها عن عمل الأستاذ إدريس بوضعها بين قوسين، وتصديرها بـ (قال أبو محمود:. . .) واقتصدت في ذلك ما أمكن، وضبطت عددًا من النصوص بالشكل.
وبذلك نرجو أن يكون هذا السِّفر النفيس قد غدا معينًا سائغًا للواردين ينهلون منه كلَّ آنٍ وحين، سائلين المولى تعالى أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، ويفيد الأمة في عاجل أمرها وآجله، ويتولانا بكريم رحمته وعنايته، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه
الدكتور فاروق محمود حمادة
أبو محمود
في القنيطرة بالمغرب الأقصى
1 / 16
التعريف بابن قطان
لقد اشتهر ابن القطان عند رجال الحديث والفقه من خلال مؤلفاته القيِّمة، التي برهن فيها على قدرته العلمية الواسعة، واطِّلاعه الكبير، فكان في كثير ممَّا انتهى إليه من الآراء والأحكام حجةً.
ولم يظفر بهذا المستوى العلميِّ الذي انتهى إليه ابن القطان من حيث سعة اطلاعه على الحديث: رواية ودراية، إلا نزر قليل في كلِّ طبقة من طبقات الحفاظ المحدِّثين، كشعبة بن الحجاج (ت ١٦٠ هـ)، وسفيان الثوري (ت ١٦١ هـ)، ووكيع بن الجراح (ت ١٩٧ هـ)، ويحيى بن معين (ت ٢٣٣ هـ)،
وعلي بن المديني (ت ٢٣٤ هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت ٢٥٦ هـ)، ومسلم بن الحجاج (ت ٢٦١ هـ)، وأبو زرعة الرازي (ت ٢٦٤ هـ). . . وغيرهم.
وابن القطان كهؤلاء برز بجهوده المباركة في جميع علوم الحديث، فكان على خبرة شاملة بعلل الحديث، ودراية واسعة بفقهه، فحاز الرتبة المرموقة بين جهابدة الحفّاظ، وكَثُرت النقول عنه في كتب الحديث والرجال من كتاب "بيان الوهم والإِيهام"، وكتاب "إحكام النطر في أحكام النظر بحاسة البصر".
وإذا رجعنا مثلًا إلى كتاب "نصب الراية لأحاديث الهداية" للحافظ جمال الدين الزيلعي (ت ٧٦٢ هـ) سنجده مملوءًا بالقول عن كتب ابن القطان، وكذلك كتاب "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت ٨٥٢ هـ)، و"ميزان
1 / 17
الإعتدال في نقد الرجال" للحافظ الذهبي (ت ٧٤٣ هـ)، وغيرها من كتب الحديث والفقه، كـ"نيل الأوطار" للشوكاني، و"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" للحطَّاب (ت ٩٥٤ هـ)، و"التاج الإِكليل لمختصر خليل" لمحمد بن يوسف المعروف بالمواق (ت ٨٩٧ هـ)، وغيرها.
فمَن هو ابن القطان هذا؟.
أولًا: اسمه ونسبه:
سجَّلت جميع الكتب التي ترجمت له أن اسمه: علي بن محمد بن
عبد الملك بن يحيى بن محمد بن إبراهيم بن خلصة بن سماحة الحميري
الكتامي الأصل، الفاسي المولد والمنشأ، نزيل مراكش (١)، المعروف بابن
القطان، يكنى: أبا الحسن.
وذكر ابن الزبير وابن القاضي وأحمد بابا -من الذين ترجموا له- أن أصل أجداده من قرطبة بالأندلس (٢)، وابن مسدي ذكر أنه "مصري الأصل، مراكشي الدار" (٣).
ثانيًا: مولده ووفاته:
ذكر مَن ترجم له أنه وُلد بفاس فجر عيد الأضحى سنة اثنتين وستين وخمسمئة هجرية، وتوفي "بين العشاءين من الليلة التي أهلّ فيها هلال ربيع الأول من سنة ثمان وعشرين وستمئة، ودُفن بالركن الواصل بين الصحنين
_________
(١) التكملة، لابن الأبار، رقم (١٩٢٠)، ط: مدريد، والذيل والتكملة، لابن عبد الملك: ٨/ ٩، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط.
(٢) انظر: صلة الصلة، لابن الزبير، رقم (٢٦٨)، وجذوة الإقتباس، لابن القاضي، ص: ٢٩٨، طبعة الحجر بفاس، ونيل الإبتهاج، بهامش الديباج المذهّب، ص: ٢٠٠، لأحمد بابا السوداني، والأعلام، للزركلي: ٤/ ٣٣١، ط: الثانية.
(٣) تذكرة الحفّاظ: ٤/ ١٤٠٧، نقلًا عن ابن مسدي.
1 / 18
الشمالي والغربي من الزنقة، لصق الجامع الأعظم بسجلماسة، وقبره معروف هناك إلى الآن" (١).
ثالثًا: نشأته وتحصيله العلمي:
نشأ ابن القطان بفاس، وبها تلقَّى علومه الأولى، ولازم العديد من شيوخها الذين كانوا يفدون عليها، أو استقروا بها، ونهل من معينهم جميع العلوم واستكثر من علم الحديث، فأجاده رواية ودراية، واشتهر أمره فيه حتى صار حجة فيما ينتهي إليه من الأحكام والآراء.
وكان لنضوج الحركة العلمية في المغرب على عهد الموحدين أثر كبير على ابن القطان في تحصيله العلمي، حيث صادف تحصيله العلمي في فاس أولًا، ثم في مراكش ثانيًا بعد أن رحل إليها، اهتمام الدولة الموحدية بعلم الحديث اهتمامًا كبيرًا، إذ جلبوا لتحقيق هذا الهدف كل من اشتهر أمره من العلماء، في الحديت والمناظرة من الأندلس والمغرب، "حتى اجتمع في فاس: علم القيروان، وعلم قرطبة" (٢) "وكان ملوك المغرب يكرمون الوافدين عليهم من العلماء ويجلُّونهم ويفتخرون بهم".
وقال صاحب "القرطاس" في عبد المؤمن بن علي: "وكان محبًّا في أهل العلم والأدب، مقربًا لهم، متشوقًا لوفادتهم، منفقًا لبضاعتهم" (٣).
ويقول الأستاذ محمد المنوني:
"هذا إلى جانب ما وجد في المغرب على عهدهم من أعلام كبار من الأندلس والقيروان وغيرهما حتى اجتمع في فاس على حد تعبير "المعجب"
_________
(١) الذيل والتكملة، لابن عبد الملك: ٩/ ٨، مخطوط بالخزانة العامة بالرباط.
(٢) العلوم والفنون على عهد الموحدين، للأستاذ محمد المنوني، ص: ١٦، ط: الثانية.
(٣) القرطاس، ص: ٢٠٤.
1 / 19
علم القيروان وعلم قرطبة، وصارت مراكش هي الأخرى عاصمة علم ثانية، الأمر الذي له دخل كبير في تسمية غير واحد لها ببغداد المغرب، وكذا سبتة وطنجة وغير مدينة من مدن المغرب" (١).
ويقول أيضًا:
"وكذا ازدهر الحديث في هذا العهد ازدهارًا لها يكن له من قبل، وقد استمد نهضته من اهتمام الموحدين به اهتيامًا كبيرًا، ظهر في استدعائهم للمحدثين من الأندلس وأمرهم بتدريسه إلى جانب المحدثين المغاربة" (٢).
وهكذا نلاحظ أن المغرب عرف على عهد الموحدين نهضةً علميةً عظيمةً، صادفها ابن القطَّان في تحصيله العلمي، فاستفاد منها كثيرًا. . قضى مرحلته الأولى في التحصيل العلمي بفاس، ثم انتقل بعدها إلى مراكش، مهد العلم الثانى بعد فاس، ولربما أصبحت على عهد الموحدين تحتل الرتبة الأولى في العلم، لكثرة وفادة العلماء عليها، بسبب إجلال الموحدين لهم واحترامهم
وإكرامهم.
وكان انتقال ابن القطان إلى مراكش بعد تجاوزه العشرين من العمر، ولم أقف على تاريخ انتقاله إليها بالضبط، وإنما كل ما هنالك أن ابن الأبار يروي: "أن ابن القطان روى عن أبي عبد الله بن البقار الفاسي بفاس، وتفقه بفقهه، وأجاز له جميع روايته سنة (٥٨٢ هـ) " (٣).
وبالرجوع إلى الشيوخ الذين أخذ عنهم بمراكش، نجد ابن الأبار، وكذلك ابن عبد الملك يرويان أنه أخذ عن الحافظ أبي عبد الله بن الفخار الأندلسي
_________
(١) العلوم والفنون على عهد الموحدين، للأستاذ محمد المنوني، ص: ١٦.
(٢) المرجع السابق، ص: ٤٧.
(٣) التكملة: ٢/ ٦٧٩.
1 / 20
الذي وفد إلى مراكش بطلب من المنصور سنة ثمانين وخمسمئة، وتوفي بها سنة تسعين وخمسمئة، ولازمه ملازمة طويلة. . فيفهم من هذا أن انتقاله إلى مراكش كان بعد سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة.
وقد ذكر شيخنا الدكتور إبراهيم بن الصديق في أطروحته: أن انتقاله إلى مراكش كان بين سنة (٥٨٣ هـ) و(٥٨٥ هـ)، وعزز هذا: بأن بعض شيوخه الذين أخذ عنهم بمراكش مات في هذا التاريخ أو بعده بقليل (١).
وعلى كُلٍّ فإن سنة إنتقاله من فاس إلى مراكش بالضبط لم يذكرها الرواة المترجمون له؛ لأنهم لم يتحدثوا عنه، في مرحلته الأولى بفاس، كما تحدثوا عنه في مرحلته الثانية بمراكش؛ لأن في هذه المرحلة ظهر نبوغه العلمي، واشتهر أمره بين العامة والخاصة، وتم اتصاله بملوك الموحدين، وخاصة منهم يعقوب المنصكور الموحدي الذي كان ابن القطان "من أخص جلسائه، وقد صدر به ابن القطان شيوخه في معجم شيوخه" (٢).
والذي يمكن القطع به هنا هو أن انتقاله من فاس إلى مراكش، كان بعد أن جاوز العشرين من العمر؛ لأن شيخه أبا عبد الله بن البقار الفاسي أجازه جميع روايته بفاس سنة اثنتين وثمانين وخمسمئة -كما سبق أن ذكرنا- وابن القطان آنذاك كان قد بلغ العشرين من العمر؛ لأن مولده كان سنة اثنتين وستين وخمسمئة.
ولما انتقل إلى مراكش لازم علماءها، ونال من حياضهم الكثير، واتصل بملوك الموحدين فاشتهر أمره.
ومن العلماء الذين استفاد منهم ابن القطان -وكان يحظى بالتكريم والإِجلال من طرف المنصور بن عبد المؤمن- الحافظ أبو عبد الله بن
_________
(١) علم العلل في المغرب، ص: ١٨٧.
(٢) المرجع السابق، ص: ١٨٨.
1 / 21