واعلم أن الكلام إنما هو في الأجسام نفسها وأما تراكيبها فلا خلاف في حدوث كثير منها كالحوادث اليومية. والدليل على ذلك المذهب الصحيح وهو أن هذا العالم لابد له من فاعل مختار من وجوه كثيرة اعتمد كثير من الموحدين منها دليل الدعاوى وهو الذي ذكره في الكتاب لما أورد على غيره من الأسئلة التي يصعب الجواب عنها إلا بالرجوع إليه،وأول من حرر هذا الدليل هو الشيخ أبو الهذيل،وذكر الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص أنه إبراهيم الخليل صلوات الله عليه كما حكاه الله عنه في آية الأفول. وقال السيد المؤيد بالله: إن الصحابة والتابعين كانوا يستدلون بالتأليف فيقولون العالم مؤلف وكل مؤلف لابد له من مؤلف إلى أن جاء أبو الهذيل فحرر هذا الدليل. وبيان هذا الدليل أن هذه الأجسام على تنوعها من حيوان وجماد ونام وغير نام محدثة، والأجسام جمع جسم وحقيقته الطويل العريض العميق ومعنى ذلك أنه مؤتلف من أجزاء طولا وعرضا وعمقا. وكثير من المتكلمين يعبر عن تلك الأجزاء بأنها جواهر، وأن حقيقة الطول ائتلاف الجوهرين أو الجواهر في سمت واحد، وحقيقة العرض ائتلاف ماذكر عن يمين الخط ويساره ، والعمق على ضربين عمق مطلق وهو ائتلاف الجوهر أو الجوهران أو الجواهر من أعلى إلى أسفل مع الصفيحة وهي معنى العرض ويعبر عنها بالسطح أيضا، وعمق الأجسام وهو الجواهر المؤتلفة أربعة فصاعدا من أعلى إلى أسفل (على ما صححه الدواري مع الصفيحة) . ونقول: إن كان المراد (بالجوهر ما اصطلح) عليه بعض المعتزلة من أنه الذي يشغل الحيز من جهة واحدة دون الثلاث فذلك مما لا يعقل لأن ما منع الحيز من جهة لا يعقل إلا يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت، وإن كان المراد به المتحيز غير المنقسم مما ليس له طول وعرض وعمق فذلك صحيح. وبيان ذلك أن أهل الإسلام وكثيرا من الفرق الكفرية ذهبوا إلى أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وذلك هو الجوهر. وقال النظام والمطرفية: لا يزال الجسم يمكن في المقدور أن ينقسم أبدا مؤبدا إلى ما لا نهاية له. وذهبت الفلاسفة إلى أنه لا يزال يمكن في المقدور أن ينقسم حتى يبلغ حدا لا يمكن انقسامه بالفعل ثم يتكثر بعد ذلك حتى يصير ممكنا انقسامه وعندهم أن الجوهر لا ينقسم بالفعل وإنما يمكن انقسامه بالقوة والأصح الأول وقد ألزم النظام القول بالطفر حيث لا يمكن قطع المسافة اليسيرة إلا بقطع الأخرى وهي لا تتناهى عنده وقطع ما لا يتناهى محال فقال إن القاطع بطفر ما لا يتناهى والطفر في نفسه غير معقول لأنه كون الجسم في جهة بعد أن كان في جهة أخرى من غير قطع مسافة بينهما وذلك محال. هذا وما ذكرناه من أن أهل الإسلام وغيرهم أجمعوا على أن الجسم لا يزال ينقسم إلى حد لا يمكن انقسامه وهو الجوهر حكاه الدواري وهو مصرح بأن لا قائل بإنكار الجوهر وهو خلاف ما عثرت عليه في حقائق المعرفة للمتوكل على الله أحمد بن سليمان (عليه السلام) فإنه أنكر فيه الجوهر بالكلية وقال ليس إلا جسم أو عرض وهكذا ذكر السيد حميدان رحمه الله تعالى ورواه عن الحسين بن القاسم العياني عليه السلام قالوا لأنه تفكر فيما لم نكلف بالتفكر فيه من إثبات جزء لا ينقسم.
مخ ۳۰