فسألتني: أرديئة هي؟ - لا. - أمتعب أنت؟ - لا. - أتشكو صداعا. - لا.
ما بك إذن إلا هموم غرام.
وظهرت على وجهها علائم الجد، وكنت أعلم أنها وليدة نابولي؛ لذلك نبضت إيطاليا في قلبها عندما تفوهت باسم الغرام.
وفي هذه الأثناء كانت الدماء تتصاعد إلى الرءوس، والأقداح تتصادم بين الأنامل، وبدأت الخدود تصطبغ بلون الخمر، فكأنها كانت تبرقع أشد الوجوه اصفرارا كيلا تعلوها من الخجل حمرته، وكانت الضجة تتعالى وتنخفض كأنها هدير أمواج، والأحداق ترسل لمعانها إلى كل صوب ثم تذهب تائهة ... فكأن في القاعة نسمات خفية كانت تخفق فيها كل هذه الأرواح الهائمة في نشوتها، وكل روح تتلمس طريقها إلى سواها.
وهبت إحدى النساء من مكانها بين الحشد كما تتعالى على صفحة البحر الساكن أول موجة تتنسم العاصفة فتعلو منذرة باقترابها. وقفت وأشارت بيدها لينصت الحضور إليها، وكرعت كأسها ثم حولت أناملها إلى شعرها تنثر غدائرها الذهبية على كتفيها وعلى صدرها المتهدج بأنفاسه، فما أسمعتنا سوى نبرتين مختنقتين وامتقع لونها فجأة فتراخت على مقعدها.
وقامت قيامة الحاضرين، فسادهم الهرج والمرج حتى نهاية السمر، فما كان لأحد أن يتميز شيئا وقد اختلط الضحك بالغناء والصراخ.
وسألني ديجنه عما أقول في هذا، فأجبته بأنني لا أجد ما أقوله، فما لي إلا أن أسد أذني وأسرح أبصاري ...
وبقيت ماركو ساكنة وسط هذه المعمعة، فلم تتكلم ولم تشرب، بل أسندت رأسها بيدها وتاهت في أحلامها، وما كان يلوح على وجهها ما يدل على تأثر أو استغراب، فقلت لها: أما تريدين أن تفعلي ما يفعلون؟ لقد سقيتني خمرة الشرق، فهل لك بتذوقها؟
قلت هذا وملأت كأسها دهاقا، فرفعتها ببطء إلى فمها وارتشفتها حتى الثمالة، وبعد أن أعادت الكأس إلى المائدة عادت إلى استغراقها.
وكنت كلما أدمت النظر إلى هذه الغادة أزداد استغرابا لحالها، فهي لا تسر لشيء ولا يضايقها شيء ، بل تفعل ما يطلب منها، ولا تقوم بأية حركة من تلقاء نفسها، فذكرتني بتمثال الراحة الأبدية، فقلت في نفسي: لو نفخت روح في هذا التمثال لما كان يبدو لنا إلا كماركو ثانية.
ناپیژندل شوی مخ