وذهبت أذرع الشارع بخطوات واسعة قائلا: وأنا ... وأنا ... وأنا المحروم لذة النوم، وفي جيبي من المال ما يكفي لتنويم هذا الرجل سنة كاملة، يسودني الغرور بل الجنون؛ فأترفع عن دخول الحانات، وأتجاهل أن التعساء يدخلونها ليخرجوا بالسعادة من بين جدرانها.
يا الله! إن عناقيد من الكرمة تعصرها الأقدام كافية لتبديد أحلك الهموم، ولتقطيع الأشراك التي تمدها روح الشر على مسالكنا. إننا نعول كالنساء، ونتألم كالشهداء، فيخيل إلينا حين تساورنا المصائب أن العالم قد تهدم على رءوسنا، فننطرح منتحبين كما انطرح آدم أمام الباب الموصد يبكي النعيم المفقود، في حين أنه ليس علينا إلا أن نمد يدنا إلى الكأس لأطفال لهب أحشائنا، وشفاء أوسع جرح فتحته فيها الحياة. ما أحقر هذه الهموم التي تداوى برشفة من مثل هذا الدواء!
إننا لنعجب من أن العناية الإلهية لا ترسل جميع ملائكتها لتتنصت لابتهالاتنا، وما العناية بحاجة إلى إرسال طغمة أملاكها إلينا، فهي قد رأت أوجاعنا، وما خفيت عنها شهواتنا، وغرور روحنا الساقطة، وما يحيق بنا من غمرات الآلام، فاكتفت بأن تنبت ثمرة صغيرة سوداء تتدلى على جوانب طريقنا.
إذا كان هذا الرجل ينام ملء جفونه، فلماذا لا أنام أنا مثله ملء جفوني؟
لقد يكون مزاحمي متوسدا فراش خليلتي الآن، فيخرج منه عند الفجر، وتشيعه هي حتى الباب فينظران إلي وأنا أغط في نومي على هذا المقعد، فلا أنتبه لصوت قبلاتهما، وإذا ما ضرباني على كتفي؛ فإنني أنقلب على جنبي الآخر واستمر في الرقاد.
وتحكم المرح في فذهبت مفتشا عن حانة أستقر فيها، وكان نصف الليل مر وأقفلت أكثر الحانات، فثار ثائري وقلت في نفسي: لعلني لن أفوز حتى بهذه التعزية، فكنت أتراكض من باب دكان إلى باب دكان آخر هاتفا: أريد خمرا ... أريد خمرا ...
واهتديت أخيرا إلى حانة مفتوحة، فطلبت زجاجة خمر، وجلست أكرعها دفعة واحدة دون التفات إلى نوعها، وأتبعت الأولى بثانية وبثالثة، فكنت أقلب الكأس تلو الكأس مكرها، كمريض يتجرع دواء فرض عليه فرضا لإنقاذ حياته.
وما مضت برهة حتى شعرت بأبخرة هذا الشراب - الذي كان ولا شك مغشوشا - تتصاعد إلى رأسي، وتورثني السكر فجأة، فيتوالى على ذهني الصفاء والاضطراب، حتى فقدت قوة التفكير، فشخصت بأبصاري إلى ما فوق كأنني أودع شعوري بنفسي، وتراخى ساعدي على الخوان، فلم أستطع تحريكهما، وعندئذ لاحظت أنني لم أكن منفردا في الحانة؛ إذ رأيت في طرفها كتلة رجال تجلى القبح في وجوههم الشاحبة، وتعالت النبرات الشاذة في أصواتهم. وكنت أرى من أثوابهم أنهم ليسوا من العامة، ولا من متوسطي الحال، وكل ما فيهم يدل على أنهم من أحقر الطبقات، من الطبقة التي لا مكانة لها ولا ثروة، حتى ولا مهنة سوى مهنة البطالة الدنيئة، من الطبقة التي لا تنتمي إلى الفقراء ولا إلى الأغنياء، وقد انتمى إليها بؤس الفقر ورزيلة الغنى.
وكان بين أيدي هذه الجماعة ورق قذر للمسير، وكان الخلاف قائما بينهم، فيخنقون أصواتهم في مجادلاتهم، وبينهم فتاة غضة الصبا، بهية الطلعة ترتدي أثوابا نظيفة، وليس في مظهرها ما يشبه من حولها من الناس سوى صوت أبح يتعالى كأنه صوت مناد امتهن المناداة في الأسواق ستين سنة، وحدقت هذه الفتاة في وقد أدهشها ولا ريب وجودي في هذه الحانة وأنا مرتد ما أرتديه من أنيق الأثواب، وما لبثت أن تقدمت نحو مجلسي، وعندما رفعت الزجاجات الثلاث عن الخوان ورأتها فارغة افتر ثغرها عن در نضيد، فقبضت على يدها ورجوتها أن تجلس قربي، فجلست مسرورة، وطلبت أن يحضر الخادم لها العشاء.
وحدقت في الفتاة صامتا وعيناي مغرورقتان بالدموع، فسألتني عما يحزنني، وما كنت قادرا على إيراد الجواب، فهززت رأسي كأنني أريد أن أطلق القطرات الحائرات من مدامعي، فتساقطت على خدي، وأدركت الفتاة أنني أكتم أمرا مؤلما فما حاولت اكتشافه، بل أخرجت منديلها - وهي تتناول طعامها - لتمره على وجهي آنا فآنا.
ناپیژندل شوی مخ