ومن له أن يصف ما كانت عليه المدارس في ذلك الزمان؟ لقد كان الشك يسود الرجال، أما الشبيبة فقد كانت اجتازت مرحلة الشك، واستقرت على الجحود، وكان الشعراء يتغنون بالخيبة وعثرات الآمال، والشبان يتركون مقاعد المدارس، ويواجهون الحياة بسيماء تطفح بالبشر، وعلى لسانهم لعنة الكفر. وكان الطبع الفرنسي المائل إلى المرح ينيل الأدمغة مناعة تحتمل الأفكار الإنكليزية والألمانية، غير أن القلوب لم تكن منيعة لتقتحم النضال في الأوجاع فذبلت وانحنت على ذاتها كأنها أزاهر مقصوفة.
وهكذا اتجه مبدأ الموت إلى الأحشاء منسربا إليها بهدوء من الأدمغة، فأنكرنا الخير بعد أن كنا نؤمن بالشر، وبلغ اليأس مرحلته الأخيرة فاستقر على الشعور الميت، وجلس أبناء الخامسة عشرة تحت ظلال الأشجار المزهرة يتجاذبون من الأحاديث ما يهز أشجار فرسايل الهرمة.
طوبى لمن لم تدركهم هذه الأزمنة فنزلوا إلى الهاوية وهم يتطلعون إلى السماء! إن من حالات الحياة ما يصدع القلوب بالشقاء فلا تجد هذه القلوب ما يفرج كربها إلا بإرسال اللعنات والتجديف.
وقف ملحد أمام السماء وقبض على ساعته متحديا صاعقة الموت، وقد منح ربه مهلة ربع ساعة، وبات ينتظر. إنها لفترة ملؤها أشد غضب، وأفظع لذة. إنها لقحة بدايتها تناهي اليأس تحتك بقوات السماء، وهل كان ذلك الرجل إلا مخلوقا شقيا يتململ تحت الأرجل التي تركله؟ وهل كان صوته إلا نداء هائلا تدفع به المحن والآلام؟ من يدري لعل هذا التحدي الموجه إلى السماء كان في عين من ينفذ إلى خفايا القلوب نوعا من الصلاة ...؟
وما كانت الشبيبة إلا كهذا الجاحد تفتح لقواها المكبوتة منافذ الفرج باليأس. إن من لا يجد أمامه ما يشغل به قواه يتخذ تسلية له من التجديف، فيتهكم على الدين والمجد والحب وعلى كل ما في العالم، تلك الوسيلة هي السبيل الذي يتبعه الإنسان ليخادع نفسه، فيتهكم عليها وهو يجدف على كل شيء.
يلذ للمرء أن يضع نفسه في مصاف الأشقياء حين يحكمه الضجر فيندفع إلى الفحشاء؛ لأنها أول ما تخطر على بال العاطلين، وهي الآلة التي تتلمسها الأعصاب الهائجة لتشد بها على نفسها تسكينا لاختلاجها.
وكان الأغنياء يقولون: لا حقيقة إلا بالثروة، وأما ما سواها فأحلام؛ فلنتمتع بالثروة ولنمت.
وكان متوسطو الحال يقولون: لا حقيقة إلا بالسلوان، وأما ما بقي فأحلام؛ فلنسل ولنمت.
أما الفقراء فكانوا يقولون: لا حقيقة إلا في العذاب، وأما ما سواه فأحلام، فلنجدف ولنمت.
إنه لوصف مريع قد يحسبه البعض مبالغة، وما أنا إذ أورده مندفع بالعداء للإنسانية، فهو وصف للواقع. وهذا هو البرهان.
ناپیژندل شوی مخ