وارتقى المنابر بعد ذلك خطباء آخرون، فتكلموا عن مساوئ الحروب وأخطار الانتقاض، وأفاضوا بذكر المطامع وتكاليفها قائلين إن الحروب مذابح، والمعارك مجازر، وتكلموا تكرارا وتكلموا طويلا حتى تعرت النفوس من أمانيها كما تتعرى أشجار الخريف من أوراقها، فكان السامعون يمدون أيديهم إلى جباههم يتلمسونها كما يتلمس المحموم موضع شعوره وهو يفيق من غيبوبته.
وقال البعض: لقد سقط الإمبراطور لأنه أرهق الشعب، وقال آخرون: إن الشعب أراد الملكية بل الحرية، بل سيادة العقل، بل سيادة الدين، بل الدستور الإنكليزي، بل الحكم المطلق. فارتفع بين هؤلاء المفترضين صوت قائلا: لا، لم يرد الشعب شيئا، إن ما أراده الشعب هو أن يرتاح.
وكانت عوامل ثلاثة تتنازع عواطف الشبيبة حينذاك: ماض منقض لم يزل يرتجف ظله على الأطلال حيث ثوت قوات الأثرة وعصور العنف، ومستقبل منفرج الأفق بعيد المجال لا يلوح منه غير أوائل ذرات النور، ومدى بين هذين الحدين أشبه بالمحيط الفاصل بين العالم القديم والعالم الجديد: مدى مضطرب كالبحر الزاخر تتلاعب به العواصف، فيهدد بالغرق كل ما يحمل، ولا يلوح عليه إلا بعض البواخر الجريئة تجتازه صاخبة من حين إلى حين.
ذلك هو العصر العتيد الفاصل بين ما كان وما سيكون، وقد تمازج فيه الماضي والمستقبل، فبات أهله لا يدرون أيمشون فيه على زرع أم على هشيم!
في مثل هذه المفاوز كان على أبناء العصر أن يهتدوا، وتلك هي المشاهد التي انتصبت أمام فتيان ملء إهابهم العزم والقوة، وهم أبناء الإمبراطورية وأحفاد الثورة. أما الماضي فما كانوا ليرتضوا به، وما يتحكم الإنسان في عقيدته، ولكنهم عشقوا المستقبل عشقا شبيها بشغف بيكماليون، عاهل صور القديمة بشبح فاتنة من عالم الجن، فكان المستقبل في بصيرتهم كدمية من رخام هاموا بها، فباتوا يتوقعون تورد عروقها بدم الحياة. وهكذا لم يكن لهؤلاء الفتيان إلا زمانهم تسوده روح العصر، ملاك غسق لا ينفصل عن النهار ولا يتصل بالليل، وقد شهدوا هذا الملاك مقتعدا كومة من العظام، متلفعا برداء أنانيته، وأعضاؤه ترتجف من لفحات الصقيع.
فشعروا بغصة الموت عندما لاح لهم هذا الشبح نصفه مومياء ونصفه جنين، فاقتربوا منه والروع يملأ قلوبهم كما يقترب السائح من مومياء ابنة أحد أشراف سارفاندان في ستراسبورغ حيث تعرض محنطة بحلي خطبتها، وما يتمالك من يشاهد هيكل هذه الطفلة من الارتعاش وقد تحلت يدها الممتقعة بخاتم العرس، وانتثر رماد رأسها على أزاهر الليمون البيضاء.
وكان نابليون بمروره على العالم قد زعزع كل ما فيه، كالعاصفة تجتاح الغابات فتهز باسقات أدواحها، وتغادرها واجمة في صمت رهيب، وكان الملوك قد شعروا بتيجانهم تميد، فمدوا إليها أيديهم، فلم تعثر إلا على شعورهم، وقد وقفها الذعر على رءوسهم.
وكان بابا رومة قد قطع ثلاثمائة فرسخ ليبارك الإمبراطور ويضع التاج على مفرقه، فلم يتورع هذا الإمبراطور من اختطاف التاج من يده.
وهكذا كان كل شيء قد ارتعش في غابة أوروبا القديمة المروعة، وعقب السكون هذه العاصفة الهوجاء.
يقال: إذا ما صادف السائر كلبا هائجا فتابع السير برباطة جأش، وبخطوات متزنة دون تردد، لا يلبث الكلب أن ينبح بهدير مختنق ثم ينصرف، ولكن إذا بدرت من عابر الطريق بادرة تدل على خوفه، فأخل بانتظام خطواته مسرعا بخطوة واحدة؛ فإن الكلب يتأثره مستأسدا، وإذا ما نشب فيه أنيابه؛ فإنه لا يقف حتى يفترسه.
ناپیژندل شوی مخ