وسألته عن سبب استغرابه، فوقف وألقى ساعديه على كتفي وعيناه جاحظتان وهو يرتعش، فقبضت على يديه مستفسرا عن ألمه، فكفكف دمعه براحته وانسحب بتعب نحو سريره.
وحدقت فيه مندهشا؛ إذ رأيت الحمى تهزه هزا، فترددت في تركه على هذه الحالة، وإذ تقدمت إليه ردني عنه بعنف، وما عتم أن عاد إليه صوابه فقال لي: أعتذر إليك، وما كانت حالتي لتسمح لي باستقبالك، فأرجو أن ترفق بي وتتركني وشأني، ولن يفوتني عندما أستعيد قواي أن أذهب إليك لأسديك شكري.
الفصل الثالث
وتحسنت صحة بريجيت، وكانت أعلنت لي أنها مستعدة للرحيل في حال شفائها، فلم أطاوعها، بل رأيت أن ننتظر خمسة عشر يوما أيضا ريثما تستعيد قواها لتحمل مشاق السفر.
وبقيت ممنعة بصمتها الحزين، فلم أستطع اقتيادها إلى مصارحتي بما تضمر، وقالت: إن سبب انقباضها هو الرسالة التي وردت إليها، ملحة علي بألا أطلب منها إيضاحا في هذا الصدد فاضطررت إلى مجاراتها، فثقل علينا الانفراد حتى لم يعد يستقر بنا مقام كل مساء إلا في المسارح والملاهي، فنكتفي بالقعود جنبا إلى جنب، فإذا أشجانا نغم أو شاقنا بيان شددنا يدا بيد، أو تبادلنا نظرات التفاهم والولاء، غير أننا كنا نحتفظ بالصمت أيان توجهنا.
وكنت أتحفز عشرين مرة في النهار لأرتمي عند أقدامها متوسلا إليها أن تعيد إلي سعادتي، أو تقضي علي، فيردني ما يبدو على وجهها من شحوب عندما تحس بما أنوي؛ إذ كانت تقف وتولي، أو ترسل إلي بكلمة باردة تتجمد منها كلمات قلبي على شفتي.
وكان سميث يأتي إلى مسكننا كل يوم، فلا أشعر بنفور منه لما كان يبدو عليه من حسن النية والسذاجة، ولاشتراكه في بحث مسألة رحيلنا بكل إخلاص، في حين أن زياراته المتكررة كانت سببا لما حل من اضطراب على بيتنا، وبالرغم من أن زيارتي له كانت قد أبقت في شكوكا مستغربة. وكنت حدثته عن الرسائل التي حملها إلى بريجيت، فما لاحت عليه دلائل الاستنكار، بل رأيته يبدي من الحزن بقدر ما أشعر به، فأعلن لي أنه كان يجهل ما في هذه الرسائل، وأنه لا يقر لهجتها، ولو أنه عرف بما فيها لما كان حملها.
وما كان لي أن أذهب إلى الاعتقاد بوجود سر ما بين سميث وبريجيت، في حين أنها كانت تعامله معاملة لا تتجاوز حدود المجاملة؛ ولهذا كنت أقابله بسرور بالرغم من وقوف كل منا تجاه الآخر موقف المحاذر المتكلف. وكان قد رضي بأن نعهد إليه بمقابلة أنسباء بريجيت بعد سفرنا، والعمل على تفادي مقاطعتهم لها. وكانت لسميث حرمته في البلد؛ لذلك توقعت أن يكون لتوسطه خير نتيجة، واعترفت له بهذا الجميل.
وكان كل شيء في خلق هذا الشاب يدل على نبله؛ إذ لم يكن يدخر وسعا لإعادة السرور إلينا عند اجتماعنا به، فنتأكد أن ما يطمح إليه هو أن تسود السعادة بين بريجيت وبيني، وما سمعناه مرة يورد ذكر علاقتي بها إلا وهو يبدي عقيدة الرجل الذي يرى في الحب أقدس رابطة تضم شخصين أمام الله، وهكذا كان سميث في تقديري صديقا مخلصا أوليه ملء ثقتي، غير أن الأحزان التي كان يغالبها فتبدو عليه بالرغم منه كانت تثير بي أفكارا غريبة، فأستعيد ذكرى الدموع التي رأيت هذا الشاب يذرفها، وأتمثل وقوعه مريضا في الزمن نفسه الذي مرضت بريجيت فيه، فأحس من كل هذا بوجود تفاهم حزين يسود بينها وبينه، فلا أملك نفسي من التألم والاضطراب.
لقد كانت أقل ريبة تهيب بي من قبل شهر إلى الاندفاع مع غيرتي اندفاعا جنونيا، فأصبحت لا أجد أمرا يحفزني إلى الارتياب ببريجيت، فأقول: ما لي وللسر الذي تخفيه - إذا كان هنالك سر - ما دامت مصممة على الرحيل معي؟ وهب أن بينها وبين سميث أمرا تخفيه عني، فهل في ذلك ما يستوجب اللوم، وليس بينهما سوى مودة واشتراك في أحزان. لقد عرفته طفلا، وهي تراه الآن بعد مرور السنين في زمن تستعد فيه لمبارحة فرنسا يتقدم إليها كآلة في يد القدر ليبلغها ما يكدرها في موقفها الحرج، فلا غرابة إذن أن يسود عليهما مثل هذا الحزن من تذكر الماضي، وهل من موجب للوم إذا هو واجهها بنظرات الآسف الحزين؛ إذ يراها مقدمة على سفر طويل، معرضة لحياة مضطربة، وقد أصبحت مضطهدة يكاد ينكرها أهلها وأصحابها؟
ناپیژندل شوی مخ