أجابت: «صدقت. أما الغرض من هذا الرسم فهاكه: قرأت وصفه فعلمت أن اسم راسمه مجهول كما جهل اسم الأصل الذي نقل عنه، لعله من فلاسفة القرون الوسطى، فرغبت فيه ليتم به معرض الصور في غرفتي. ولما كان مؤلف «اللاهوت الألماني» مجهولا وليس لدينا منه صورة رأيت أن صورة وضعت لشخص مجهول بريشة مصور مجهول يصح أن تنوب عن مؤلف مجهول، فإن وافقت علقتها بين ألواحي ودعوتها «اللاهوت الألماني».»
قلت: «فكرة غاية في الحسن. ولكن ربما مثلت الصورة شخصا أقوى من دكتور فرنكفورت وأعبس وجها.»
قالت: «ربما كان ذلك. ولكني أنا الفتاة المتألمة السائرة إلى الموت استقيت من هذا الكتاب قوة وتعزية، ولمؤلفه علي فضل كبير لأنه أعلن لي جوهر المسيحية في بساطته العجيبة. شمتني إزاءه حرة في أن أومن أو أن أجحد لأنه لم يرغمني على أحد هذين، وقبض علي بشدة فخيل إلي أني أدركت معنى الوحي للمرة الأولى. وأنت تعلم أنه مما يحول دون ولوج باب المسيحية الحقة أن التعاليم تبسط أمامنا كوحي علينا أن نؤمن به قبل أن يهبط الوحي على نفوسنا. وطالما قلقت لذلك: لست أعني أني شككت في حقيقة الألوهية وفي الألوهية عقيدتنا. غير أني لم أكن لأكتفي بإيمان خلعه علي الآخرون، وحسبت أن ما تعلمته وتقبلته طفلة على غير فهم واختيار لا يستطيع أن يكون خاصتي ولي. الإيمان لا يعار واليقين لا يستعار ولا يجدي التمويه نفعا. ولا بد من اقتناع شخصي نستند إليه ونتعزى به إذ لا أحد يحيا ويموت عن أخيه.»
قلت: «لا ريب أن كثيرا من المنازعات العنيفة والمناقشات الحادة ترجع إلى أن تعاليم المسيح عوضا عن أن تكتسب قلوبنا شيئا فشيئا بلا إرغام كما تملكت قلوب الرسل والمسيحيين الأولين، فإننا نجابهها منذ حداثتنا كنصوص كنيسية قوية لا تقبل ترددا ولا ترضى جدالا، وتضطرنا إلى الامتثال لأوامرها امتثالا مطلقا تسميه إيمانا، فلا بد من تولد الارتياب عاجلا أو آجلا في كل نفس تميل إلى التأمل وتجل الحقيقة. وعندما نصل إلى تلك الخطوة من السبيل فيتيسر لنا تحرير إيماننا المستعار المزعوم، تنتصب في وجهنا أشباح الشك والإلحاد والكفر وتوقف فينا نمو الحياة الجديدة.»
فقاطعتني قائلة: «قرأت حديثا في كتاب إنجليزي أن الحقيقة تتجلى بالوحي وليس الوحي يتجلى بالحقيقة. وإني لأشعر بذلك تمام الشعور لدى قراءة «اللاهوت الألماني». قرأته فشعرت بقوة حقيقته القاهرة وأرغمت على الاستسلام. أوحيت إلي الحقيقة. بل أوحيت أنا إلى نفسي، وفهمت للمرة الأولى معنى كلمة إيمان. أصبحت الحقيقة ملكي بعد أن أطالت التملص مني لأن أقوال المعلم المجهول اخترقت كياني كتشعع الضياء وأنارت خفاياي جاعلة حيرتي اقتناعا، وظنوني المبهمة إيضاحات جلية، فصممت على قراءة الأناجيل كما لو كانت هي الأخرى مكتوبة بقلم المعلم المجهول، وأبعدت عني ما استطعت كونها أوحيت من الروح القدس بأعجوبة إلى الرسل، وأنها صودق عليها من مجامع الأساقفة والأحبار فاحتضنتها الكنيسة باعتبار أنها الآية الفريدة العليا للدين المنقذ الوحيد. عندئذ بدأت أكتنه مع معنى الإيمان المسيحي معنى الوحي المسيحي.»
فقلت: «من المدهشات أن اللاهوتيين لم يفلحوا بعد في حمل البشر على جحود كل عقيدة كائنة ما كانت. ولكنهم فالحون يوما إن لم يحتج المؤمنون بعزم قائلين «لكم أن تبلغوا في شروحكم وأحكامكم هذا الحد ولا تتجاوزوه.» كل دين يحتاج إلى الدعاة، ولكن لم يقم إلى الآن دين واحد في العالم لم يزيفه الكهنة، سواء أكانوا براهمة أو لاما
2
أو كتبة وفريسيين. أولئك يتخاصمون موردين شواهدهم وحججهم بلغة لا يفهمها من أبناء ملتهم عشر واحد من عشرة أعشار. وعوضا عن أن يستوحوا الإنجيل مرشدين الآخرين إلى استيحائه ترينهم يجادلون لإثبات صحة الإنجيل وعصمته لا من حيث هو إنجيل إنما لأنه دونه قوم ملهمون. وهل يكون ذلك سوى حيلة من حيل التردد والقصور؟ بأي حجة يثبتون إلهام أولئك الأفراد إلى تلك الدرجة العجيبة إن لم ينسبوا إلى أنفسهم إلهاما أعجب وأدهش؟ لا شك أنهم فرضوا هذا الاعتراض، لذلك قصروا موهبة الإلهام على أكثرية من آباء الكنيسة المتألفة منهم هيئة المجامع. غير أن هذا التحديد لا يأتي بالجواب المطلوب. إذ كيف نتأكد أنه بين خمسين حبرا وأسقفا 26 كانوا ملهمين و24 لم يصلهم من الإلهام شيء؟ يجزم المتطرفون اليائسون أنه يكفي أن يلمس الملهم يد شخص ما لينتقل إليه الوحي والعصمة من الغلط، ويوقنون أن العصمة والوحي إنما حفظا في رأس الكنيسة (أو في رءوسها) إلى أيامنا بهذه الوسيلة. ويعتقدون أن عصمة أولئك الغرباء الذين لا نعرف منهم شيئا تقضي على كل اقتناع صميم فينا بالبطلان، وعلى كل استسلام مخلص بالفساد، وتنكر كل بحث من أبحاثنا إن لم يتفق مع بياناتها وأحكامها. ورغم كل ذلك يبقى السؤال القديم في انتظار الجواب: كيف يدري فلان أن فلانا ملهم لو لم يكن له مثل ذلك الإلهام على الأقل، هذا إن لم يحو إلهاما أوفى وأشمل؟ ألا يتحتم علينا حياز الوحي في أرواحنا لنكتشف آثاره عند الآخرين؟»
أطرقت لمحة ثم قالت: «يصعب الجواب. وطالما فكرت في كيفية استجلاء معاني الحب والتثبت من حقيقتها. كيف ندري أن شخصا يحب أو لا يحب؟ ما وجدت إشارة واحدة من إشارات الحب إلا كانت عرضة للتزوير والتقليد، فاهتديت أخيرا إلى أن المحب وحده يميز بين الصادق والكاذب من تلك العلامات وأنه إنما يثق من حب القلب الآخر لأنه واثق من حب قلبه. ولما كانت موهبة الحب شبيهة بموهبة الروح القدس (الوحي) كان الملهمون وحدهم إن هم سمعوا الرياح العاصفات حسبوها أصواتا من السماء، وإن أبصروا زهرات القرنفل زعموها ألسنة نارية. والآخرون يخافون، أو يغضبون، أو يسخرون قائلين: «كلام عتيق! أما نحن فنفوسنا ملأى بخمرة جديدة.» بيد أني أعود إلى ما أسلفت وهو أن كتاب «اللاهوت الألماني» هداني إلى إيمان استخرجته من حاجات نفسي فوجدت قوتي العظمى في ما يراه غيري خطأ وعيبا، وهو أن الأستاذ لا يبسط رأيه كقانون منظم بل ينثر أقواله كالزارع أملا أن تقع بعض البذور على أرض صالحة فتتضاعف الغلة ألوفا. كذلك أستاذنا الإلهي (المسيح) لم يحاول إثبات تعاليمه بالبرهان، لأن من حوى الحقيقة الكلية استخف بالمظاهر وأعرض عن جميع صنوف المباهاة والتعنت.»
هنا ذكرت شواهد أسبينوزا وأدلته في «أخلاقياته» وطالما فكرت في أن ذلك اللوذعي ما أكثر من شد خيوط شبكته الفلسفية إلا لشعوره بضعف مذهبه ووهنه، فأجبت محدثتي: «نعم ، غير أني على ما أوحاه إلي «اللاهوت الألماني» من الخواطر المفيدة لا يسعني إلا الإقرار بأني لا أشاطرك كل إعجابك بهذا الكتاب. ينقصه في نظري العاطفة الإنسانية والطلاوة الشعرية، لا سيما وأنه خلا من حرارة القلب وجحد الواقع ولم يحترمه. روحانية القرن الرابع عشر لا تصلح عندي لأن تكون أكثر من درس نظري يتحتم أن تعقبه العودة إلى الحياة العملية بعزم وجرأة، إلى تلك الحياة الواقعية التي عرفها لوثر وعالج منها المصاعب. لا غنى للإنسان عن إدراك معنى العدم، ولو مرة في عمره، ليعلم أنه ليس بشيء وأن أصوله بداية ونهاية ثابتة عريقة في أصل يتعالى عن المحسوس ويجل عن الحصر. وهذا الاتجاه نحو الله إن لم يقدنا في الحياة إلى كعبة آمالنا فهو يبقي في نفوسنا وجدا مقيما إلى مرجعنا ومستقرنا الأبدي. ولكن البون شاسع بين هذا النوع من العبادة وبين إنكار الخليقة كما يفعل الروحانيون، ولئن نشأ الإنسان من اللاشيء أي من الله وبه وحده، فهو يعجز عن العودة إلى اللاشيء بقوته الذاتية. والتلاشي الروحي الذي يكثر «تاولر» الألماني من ذكره لا يفضل «النرفانا» أو الفناء النوراني الذي يقول به البوذيون. تاولر يصرح بأنه لو استطاع حبا بالله وإظهارا لخضوعه له أن يفنى فناء لما تردد في أن يسجد أمامه تعالى ويتلاشى في عمق أعماق الهاوية، إلا أن الخالق لم يشأ فناء هذه الخليقة التي أوجدها. وقد قال القديس أغسطينوس: «إنه في اقتدار الإله أن يتجسد إنسانا وليس في مقدور الإنسان أن يستحيل إلى إله.» فلا بأس بالروحانية درسا يفيد ونظرية تنير، بها ترهف النفس وتلطف وتزداد تألقا. إنما ينبغي أن لا تبخر القوى والملكات على نحو ما تفعل النار بالماء الغالية في القدر. ومن أدرك العدم في نفسه عليه رغم ذلك أن يؤمن بأن ذاته الصغيرة إن هي إلا انعكاس الذات الإلهية الكبرى. جاء في «اللاهوت الألماني»:
ناپیژندل شوی مخ