ابراهيم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرونه
فلم يسعه إلا أن يخرجه ويناولها إياه، وهم أن يقول إنه فارغ. ولكنها فتحت النافذة وقذفت به على الرمل، وقالت لصادق وهى تغلق الزجاج: «ابحث عنه حين تعود لتأخذ السيارة».
فقرض صادق أسنانه ولم يقل شيئا.
4
لم يحمد إبراهيم من ميمى أنها قصت عليه ما كان من صادق معها فى رحلتهما المضطربة. فما فيها ما يخف على اللسان جريه أو على الأذن سماعه وإن كانت قد انتهت بخير على ما روت، ولم يشك فى صدقها، ولكنه كان وهو يصغى إليها يحس كأنها تصكه بالحجارة، وكان أمرأ يكره المشاكل والتعقيد والضجات ولا يحب وجع الرأس والقلب. وزاد امتعاضه أنه شعر أن ميمى تحمله تبعة بغير حق. وكان قد عاد من رحلته مع تحية إلى بلدة أبيها مسرورا راضيا، شرحت صدره مناظر الريف وبساطة أهله وحفاوة صهره، وإقباله عليه ومساناته له، فأضمر أن يسر تحية ويبرها، وكان يتكلف ذلك فى أول الأمر، ثم ألفى نفسه محمولا على متن التيار كالممثل الذى وافقه دوره فاستغرقه حتى نسى أنه يمثل. وكانت تحية ترى إقباله عليها ورغبته فيها وتحريه ما يسرها فتحمله على محمل الحرص على إخفاء الفتور الذى عراهما، عن أبيها وقومها. وكان هذا مبتغاها هى أيضا فسايرته متكلفة مثله ثم شامت منه الإخلاص، وانست صدق السريرة، فهتف قلبها، وازدهاها الفرح وأولته من نفسها ما كان بعد العهد به قد فترها عنه، فصارا كاللذين خرجا للتنزه وجاء كل منهما بطعامه فتاكلا فى موضع واحد، وعادا إلى القاهرة وما يذكران أنهما فازا بمثل هذه السعادة.
ولو أن إبراهيم سئل عن إحساسه لما التقى بميمى بعد هذه الأوبة المرضية لما استطاع أن يبين، فقد كان مغتبطا بهذا الصفو بعد الكدر، وكان لا يفكر إلا فى طيبه ولا يعنى إلا باستدامته. وكانت حلاوة ما سقته تحية من حبها المتين قد بغضت إليه المخادعة والغش. ولم يخطر له أن ينقض عهد ميمى، ولكنه أحس أنه لا يستطيع أن يعطيها باللسان ما ليس فى القلب. وانتوى أن يرتد بها رويدا رويدا إلى حد من الصداقة يرضيانه ولا ينكره عليهما منكر. وكان يدرك أن هذا ليس مما يهون، ولكنه توكل على الله وآلى أن يمضى فى هذا النهج الذى بدا له أنه أحكم ما يستطيع أن يأخذ فيه.
وكان يقول لنفسه وهو فى طريقه إلى ميمى إنه لم يملها وإنها لا تمل ولكنه فاز بطيبات زهدته فى الطلب. وكان كالشبعان الذى أكل حتى هنئ، فهو لا يستطيع أن ينظر بعينيه إلى طعام، وإنه من يدرى؟ لعل الصداقة التى يرجو أن يقيم على حدودها علاقته بميمى تكون أمتع لهما جميعا. ولميمى مستقبلها وستتزوج يوما ما وليس هو بالذى يستطيع أن يغنيها عن الزواج، وأنه لا سنه ولا حاله تسمحان باستقامة الأمور على الأيام مع ميمى مع سنها وحالها. ولكن هل تقتنع المرأة بالصداقة؟ أو هل تسمح لها طبيعتها أن لا تخلطها بالحب والجنس؟ وخشى أن لا تستطيع المرأة ذلك مع الرجل كما يستطيعه الرجلان.. فإن قطب الرحى فى حياة المرأة هو الغريزة النوعية، ولا حيلة لها فى هذا ولا لوم عليها فيه، فإنه الذى تقضى به طبيعة خلقها والوظيفة التى كلفتها ووكلت إليها، ولكنه مع ذلك رجا أن يجد من عقل ميمى وحكمة طبعها عونا له. ولماذا لا يحضها على الزواج ويزينه لها؟ ولكن أين أو من أين يجيئها بهذا الزوج الصالح؟ وتالله ما أثقل أن يكلف نفسه عناء هذا السعى أوحتى أن يفكر فيه.
ولقيته ميمى بهذه القصة فاستهجن موضوعها واستنكر ما انطوى عليه تحديثه بها من إشعاره أن هناك تبعة ولو ضمنية خفيفة يحملها. ولم يعبأ شيئا بتهديد هذا الفتى، وإن كان لا يخفى عليه ما عسى أن يجر إليه طيش الشباب وحنق الحب الفائر المحلأ عما يطفئ الغلة وينقع الظمأ. ولكنه لم يجعل باله إلى هذا، وبدا له أن العقدة كلها تحل إذا هو حل عقدته. وكان همه كله فى هذه الاونة أن يشعر أن كل ما يفعل أو يترك لا يمكن أن يكون فيه ما يكتم عن تحية أو ما يعد خيانة لثقتها به وائتمانها له. وإن لميمى عليه لحقا أيضا. ولكن حقها يجىء بعد حق تحية ما فى هذا شك. أو هكذا يجب أن يكون الأمر.
وقال لميمى بعد أن أصغى إلى القصة: «إن صادقا هذا قريبك، وهو شاب، ثم إنه يحبك، وليس فى هذا ما يعاب أو يستنكر، وإنه ليثنى عليك حين يقول إنه يحبك، والحب مجهوده فهو الحقيق أن يتيه به عليك. نعم أنت الباعث، ولكن الطبيعة هى الباعث الحقيقى، وما أنت إلا أداة وإنها لأداة قوية ثمينة ولكنها أداة ليس إلا، وأنت كالزهرة على عودها، ولا تستوى زهرة فى صحراء لا يراها فيها أو يحسها مخلوق، وأخرى حيث يراها الناس ويحمدون منظرها وطيب مشمها، فأنت حقيقة بأن تفرحى بحب هذا الفتى، والذى بدا لك من جنونه هو من فورة هذا الحب، وعنف عصفه بنفسه، فأنت أولى بأن تزيدى سرورا لا أن تسخطى وتنفرى. وما أراك أحسنت إلى نفسك بجحود فضله، نعم فإن حبه من فضله عليك. ولو ثقل على نفسك هذا المعنى فإنه الحقيقة، وما أراك أنصفته أو أنصفت عقلك، فأين كان عقلك حين استثرته وهيجته وأغريته بهذه الحماقة؟
قالت متعجبة: «وماذا كنت تريد منى أن أصنع؟ أترانى كتابا على رف من شاء أن يمد يده ويتناوله فله ذاك؟»
قال: «ليس الأمر كما تتصورين، لا أنت كتاب ولا هو يريد أن يغتصبك، واسمحى لى أن أقول لك إنك عمياء».
ناپیژندل شوی مخ