ابراهيم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرونه
وبفضل الإيحاء صارت ميمى مطواعا له، حريصة على مرضاته، بما استقر فى نفسها أنه مزيتها التى تحببها إليه. ولم تكن تعرف رجلا غيره معرفة تستحق الذكر، أو يمكن أن يكون لها أثر فى نفسها أو سيرتها إلا صادقا قريبها.
ولكن صادقا شاب يفزعها بما يحمل عليها به من فورة الشباب، فيغريها بالتوقى والتحرز، ويدفعها إلى النفور. ولم يكن الحب هو الذى يبعثها على الاحتماء منه، فليس الحب بمزهود فيه، وإنه لمنية قلبها وهوى نفسها. ولقد كانت فى سريرتها مزهوة بحبه، ولكنها كانت ترى صادقا كالعباب الطاغى المربد المزبد، فتشعر بالخوف على نفسها من الغرق فيه، وتحس أنه خليق أن يحملها على متنه الصاخب، ويرميها على صخرة تتحطم عليها. على حين كان إبراهيم يبدو لها كالغدير الصافى المترقرق فى روضة انف حالية بالزهر - لا يخيف، ولا يروع، ولا يقلق أو يزعج، بل يبعث فيها الأنس، ويشيع فيها السكينة، ويحلو التمشى على حفافه، والتنعم بمنظره وبنضرة ما حواليه. وإنه لسهل أن تغرق فى مائه الرقراق، كما يمكن أن تغرق فى العباب الخضم الراغى الطاغى، ولكنها إذا غرقت فيه، تغرق وهى حالمة ناعمة مطمئنة، واثقة من السلامة، بل منساقة إليه وراضية بالغرق فيه. فهنا اطمئنان، قد يكون كاذبا ولكنه يغرى بالمطاوعة والمسايرة والانسياق، مع الاستحلاء والاستمتاع. وهناك خوف من الضيعة، وإشفاق من مصير جارف، لا تملك لنفسها حياله مقاومة أو مدافعة. ومن أجل هذا كانت تنفر من صادق، وتقبل على إبراهيم. وزاد إقبالها أنها كانت ترى وجوها شتى، ومعانى عدة، وتنعم بصور من المتع هى ثمرة التجربة والخبرة والفهم وصحة الإدراك وسعة الأفق. على حين لم يكن عند صادق إلا حبه المضطرم، واللون واحد والصورة لا تتغير، والمعانى لا تتعدد، والحلاوات المرتقبة أو المتخيلة لا تتفاوت طعومها، فهى خليقة أن تمل وتسأم.
وكان إبراهيم يحرص على تنويع أحوالها معه، بل لقد كان يتقى أن يكون كلامه على وتيرة واحدة، أو نسق لا يتغير، وكان يخشى أن تقول لنفسها: «إنى أعرف ماذا سيقول لى حين يلقانى، وبأى كلام سيبدأ حديثه». وكان لهذا يتحرى أن يخلف ظنها، فيلقاها كل مرة بجديد من القول والاستقبال والاقتراح والمتعة، وكان هذا لا يخلو من مشقة وعسر، ولكنه كان يهون الأمر على نفسه بقوله: «إن من الجمود الذى ينبغى أن يتقيه الإنسان أن يجرى فى حياته مجرى واحدا. والحروف فى كل لغة - إلا الصينية على ما يقال وأمثالها، إذا كان لها أمثال - محدودة العدد - سبعة وعشرون تنقص أو تزيد واحدا أو اثنين. وانظر ماذا يتألف منها من الكلمات؟ عشرات الالاف فى كل لغة.. وانظر ماذا تؤدى من المعانى؟ شىء لا يأخذه حصر. وكل هذا مستطاع ببضعة حروف قليلة لا تزيد على الثلاثين. فإذا كان هذا مستطاعا فى اللغة التى نتخذها للتفاهم والبيان، فلماذا لا يكون مستطاعا فى غيرها؟ فى كل شىء؟ إن قلة الاستطاعة كسل، أو نقص فى الخيال، أو القدرة على الابتكار، نقص على كل حال. ولن تكون الحياة كاملة بذلك. ولن يكون الإنسان قد أحسن الانتفاع بحياته إذا لم يستطع أن يجد لها كل يوم جديدا».
وكان يجد لذة فى هذا العناء، بل لذات.. لذة السعى والاجتهاد، ولذة النجاح حين ينجح، ولذة الرضى الذى يحسه من ميمى. ولكن ضميره كان ربما نغص عليه عيشه وأفسد هذه اللذات جميعا. فقد كان بعد أن يودع ميمى، ويكر راجعا إلى البيت، يحاسب نفسه ويقول لها ولماذا لا أجتهد مثل هذا الاجتهاد مع تحية؟ أليست جديرة أن أتعب فى سبيلها كما أتعب فى سبيل ميمى أو سبيل نفسى معها؟ ولعلها، لو فعلت، تكون أسعد، وأكون أنا معها أسعد، ولا أحتاج حينئذ إلى ميمى أو سواها». ثم ينقلب مدافعا عن نفسه فيقول: «ولكنها سعدت باجتهادى معها سنوات حتى تعبت ومللت.. ثم لماذا لا تجتهد هى أيضا بعض الاجتهاد؟ لماذا أحمل أنا العبء وحدى كله حتى أنوء به؟ لقد كان كل الاجتهاد من جانبى، وكان كل عملها أن تنعم بما أسرها به، وكانت كل مجاوبتها إظهار الشكر والرضى».
ثم يعود فيقول لنفسه: «ألست أنت الرجل؟ أتعد صبرها عليك وأنت منصرف عنها فتورا منها، وزهادة فى تكلف مرضاتك؟ وهى إنما تبغى أن تفسح لك فى الوقت حتى تراجع نفسك فترجع إليها. إنها تنتظر متجلدة، فماذا يكون الحال، إذا ملت الانتظار والصبر، ودفعها اليأس منك إلى مثل ما دفعك الملل إليه؟ كن منصفا. إنها تصبر على مضض، ولا تنشد عزاء أو تسلية، ولا تفكر إلا فيك، ولا تتطلع إلا إليك، ولا تحلم إلا بعودك، ولا تسعد إلا بذلك، وأنت تروح تقطف الأزهار اليانعة، وتنعم بشمها ومنظرها، وتنساها إلى أن تؤوب إلى بيتك، فتدخله كأنك داخل سجنا أو فندقا، تقوم فيه هذه المرأة الصابرة التقية على خدمتك فيه، ولا تسألك أين كنت ولا ماذا فعلت.. ثم تجىء وتحملها وزر ما أنت صانع. لا يا صاحبي.. ليس هذا من العدل فى شىء».
وكان العجز عن إقناع نفسه بأنه على حق، وأنه لا يفعل ما يسوء، هو الذى ينغص عليه ما يفوز به من ميمى من الأنس والروح والريحان.
وكانت ميمى - وهذه إحدى مزاياها - تخفف عنه بعض هذا التنغيص بصحة إدراكها لواجبه لتحية، فكانت لا تطالبه بأكثر من منزلة الصديقة ولا تتطلع إلى ما فوقها ولا تكتم شكرها - بسلوكها إذا لم يكن بلسانها - لهذه المنزلة عنده. وكانت تأبى أن يتكرر لقاؤه لها فى الأسبوع الواحد أكثر من مرة، وتقولى له إن حق امرأته أولى بالرعاية. وكانت مخلصة فى هذا لا تحاول به أن تزيد اجتذابه إليها. فكان يقول لها: «إن حق تحية أمانة فى عنقى أنا لا فى عنقك. ولست مسئولة عنها ولا عنى فكفى عن هذا». فتقول له: «كلا.. بل أنا أخشى أن يعترى صداقتنا ما ينغصها أو يجعلها تكليفا شاقا إذا أنت لم تحسن حالك مع تحية. فعالج هذا فإنه خير لك ولي».
فيقول: «إذا حسن الحال على نحو ما تبغين فإن الأمر خليق أن يفسد بينى وبينك».
فتقول: «لا يفسد.. لأنها صداقة تظل منشودة لما تنطوى عليه من تحرر مما يربطنى ويربطك، وما عسى أن يثقل على أو عليك فى المستقبل، وثق أنى أعرف ما أقول».
فيقول معترفا: «المصيبة والبلاء أنى مقتنع أنك على صواب».
ناپیژندل شوی مخ