ابراهيم ثانی
إبراهيم الثاني
ژانرونه
فلما ماتت عاودته الوساوس ولكن فى صورة أخرى، فصار يخشى الموت بالسكتة أو الذبحة، وبتوهم أن قلبه ضعيف. أليست أمه قد أصيبت بالذبحة؟ ألم يكن قلبها ضعيفا؟ أليس هو ابنها، فهو لعله قد ورث بعض ضعفها؟ وصار يزعجه ويؤرقه ويثير مخاوفه على نفسه أنه يسمع - حين يضع رأسه على الوسادة - دقات قلبه، فكان يؤثر النوم قاعدا فيرص المخدات وراء ظهره لتسنده، حتى إذا خفت صوت هذه الدقات وكاد النوم يغلبه انحدر عن المخدات برفق وحذر ونام كالعادة. وكثر تردده على الأطباء ليقولوا له كيف حال قلبه، ويبينوا له ما خطبه، فقال له صديق له منهم: «يا سيدى إن قلبك سليم، وأنت رجل جسمه ليس بالضخم الهائل الأنحاء فهو لا يكلف طلمبة قلبك - فما القلب إلا طلمبة - جهدا ولا يتعبه ولا يرهقه. ولا أدعى أن لك قلب مصارع أو ملاكم أو رجل مغرى بالرياضة البدنية، ولكنه كاف جدا لجسمك وخليق أن يظل كافيا زمنا طويلا. فلا تقلق عليه، واعلم أن الذى بك هو تلف الأعصاب ليس إلا. إن جسمك - وصدقنى فقد درسته وأنا أعرف به منك - أقول إن جسمك عبارة عن شبكة معقدة من الأعصاب، وهى أعصاب حساسة مرهفة جدا، وهذه الأعصاب فى إطار من الجلد، تحمله عظام وقد وضع هنا قلب وهنا معدة وهنا كلية إلى اخر ذلك، وكل هذا سليم لا عيب فيه ولا مرض، وإنما البلاء أعصابك هذه، فاعرف ذلك ورد كل ما تحس به وتقلق من جرائه إلى هذا واحمد الله واشكر نعمته، فإن إخوانا لك أصغر منك سنا، وكانوا أصح منك أبدانا، قد أصيبوا بأمراض وبيلة، وأنت تجيئنى متغير اللون مربد الوجه من الفزع وتقول لى: قلبى مريض.. أسمع دقاته وأنا نائم.. يا أخى كل إنسان يستطيع أن يسمع دقات قلبه وهو راقد إذا جعل باله إليها، فاصنع معروفا وأرح نفسك من هذه الوساوس وابتسم واضحك والعب وأدخل السرور على نفسك، ولا تجالس من يقول لك إن الدنيا دار شقاء وإن الحياة ذميمة، فما أعطينا الحياة لنشقى بها بل لنحياها على خير ما نستطيع وفى أسعد حالة تتيسر لنا.. ثم ما هذه الضجة بالله؟ ماذا تخاف؟ أو هو الموت؟ فإنا جميعا أبناء الموت ولا مهرب لنا منه، ولو أعطيت أقوى قلب فى الدنيا لما منع ذلك أن تموت فى يوم ما. فلماذا نعنى أنفسنا بالموت طول حياتنا ؟ وإنه لحال مقلوب، فى شبابك - لا تضحك فإنك مازلت فى شبابك - أقول فى شبابك يسود الخوف من الموت عيشك، وتعلو سنك شيئا فشيئا وتدلف إلى الكهولة والشيخوخة فيكون من أثر هذا أن يوطن نفسك ويروضك على المصير المحتوم، وفى الشيخوخة يشعر المرء بالبلادة كلما طاف برأسه خاطر الموت - لأن الشيخوخة عبارة عن تبليد هو بمثابة الإعداد للموت - ففى صباك، فى نضارة عمرك، فى عهد القوة والفتوة واستطاعة الانتفاع بالحياة والاستمتاع بها، تنغص على نفسك هذه الحياة وتفسدها بالموت والفزع منه، ثم ينقضى الشباب الذى لم تصنع به شيئا ولم تركب به ما يركب، وتجىء الشيخوخة - إذا مد الله فى عمرك - فيفتر وقع الموت فى نفسك ولا يعود له ذلك التنغيص القديم، ولكن ما الفائدة حينئذ؟ أليس هذا حالا مقلوبا؟ اذهب.. اذهب يا رجل واختش.. وانتفع بما لا يزال لك من شباب».
ولم تخل هذه «المحاضرة» من أثر، وصار تفكيره أن صدق الطبيب والله! ولقد أضعت شبابى بين الخوف والحذر! أنفقته فى غير ما ينفق فيه، بددته تبديد سفيه أخرق.. لا فى لذات ومتع، بل فى بلابل ووساوس وهواجس ما أنزل الله بها من سلطان.. ليت أن من الممكن الحجر على الشباب كالحجر على المال.. إذن لأمكن أن يحجر أحدهم - أمى مثلا أو تحية زوجتى - على شبابى فيظل محفوظا لى مصونا حتى أرشد كما أكاد أرشد الآن، حتى أفيق وأصحو من غاشية الأوهام وأستطيع أن أحسن الانتفاع بهذا الشباب الذى يولى ولا يتمهل ... أو ليت العمر يرفى كما يرفى الثوب كلما بلى منه شىء.. ولكنه لا يرفى ولا سبيل إلى الحجر على الشباب وصونه من البعثرة والتبديد والإنفاق بخرق وحماقة.. فهل ضاعت الفرصة؟
وكر إلى رأس أمره من توهم الدلوف إلى الكهولة المنذرة بالعجز.. العجز عن ماذا؟ إنه يستطيع التفكير، وتفكيره أنضج وأسد وأحكم، ورأيه أقوم. فالعجز عن أى شىء إذن؟ ما هى هذه الحياة؟ أهى الفكر؟ العقل؟ إن كانت هذا فلا قيمة للشيخوخة المخوفة، ولعل بلوغها يجعل الحياة أتم وأكمل . أهى الإحساس؟ فإنى أراه قد صار أعمق على الأيام. إن كل يوم يمضى يزيد ذخيرتى من الشعور والإحساس، ويتركنى أقدر مما كنت على التلقى والاستجابة، لأنى أزداد فهما ورحابة أفق، وحياتى تتسع وتعمق، كالماء المتحدر، تحدره يوسع مجراه ويعمقه. أهى القوة البدنية؟ إن القوة ليست مطلبا بل وسيلة، وليست غاية بل أداة إلى غيرها. فما غيرها هذا؟ أهى القدرة على كسب الرزق؟ ما أسخف أن تكون الغاية من الحياة لقمة! أهى السعادة؟ وتذكر قول شاعر أن السعادة أشبه بعود من البرسيم معلق أمام عينى حمار، فهو لا يزال يعدو ليبلغه ولا يزداد دنوا منه ولا بعدا. أهى القدرة على إسداء الخير إلى الجماعة؟ قد تكون هذه من غايات الإنسان المحس المدرك، بل هى ينبغى أن تكون من غاياته. ولكن ما الغاية التى ينشدها لنفسه، فإن لنفسه عليه حقا وما يستطيع أن ينسى هذه النفس أو حقها. وكاذب مغالط من يقول غير هذا.. فماذا يطلب بالقوة لنفسه؟ شيئا من النعيم فى الدنيا؟ نعيم العقل والإحساس والجسم؟ وخطر له أنه يوشك أن يغالط نفسه، فما هذا العقل الذى يتميز من الجسم؟ وما هو هذا الإحساس الذى لا يتصل بالجسم؟ إن هذا وذاك بعض الجسم أو بعض ما يؤدى إليه تركيب الجسم وتكوينه على هذا النحو. فالمسألة أولا وقبل كل شىء مسألة جسم. وكل ما نباهى به ونعتز، ثمرة هذا التكوين الجسمانى الخاص فلا داعى للمغالطة وتقسيم الإنسان إلى جسم وعقل أو غير ذلك، فإنه لايتجزأ، أليس كل شىء يذهب ويتعطل حين يتعطل ما يجعل الجسم كائنا حيا؟ لا يبقى عقل، ولا يبقى شعور، ولا يبقى أى شىء اخر حين تعدو المنية على هذا الجسم الذى نغالط أنفسنا باحتقاره. هل نقول إن العقل يبقى بآثاره؟ هذه مغالطة أخرى فما أمكن أن توجد هذه الآثار إلا لما كان الجسم موجودا وحيا. انتهينا إذن، والمسألة مسألة جسم.. وهذا الجسم له حقوق فى السعادة الميسورة والنعيم المتاح. والعقل والشعور يشقيان إذا شقى الجسم المزدرى. وقال لنفسه لما انتهى إلى هذه النتيجة: «إن كل حالات الإنسان، كل ما يقوى عليه، وكل ما يكون منه ويصدر عنه، ونوعه، وصفته، وقيمته - كل ذلك رهن بحالة جسمه».
وحدث نفسه أن مغالطات الشباب لا محل لها فى مثل سنه، فإنه يوشك أن يخرج عن حد الشباب. وحينئذ تكون صحة الفهم بعد الأوان غصة ونقمة. ولحرى به أن يعجل.. يعجل؟ يعجل بماذا؟ هذا هو السؤال.
وتردد فى الإجابة الصريحة. فما بالسهل أن يخالف ما جرى عليه طول عمره، وأحس، وخاف. إنه صار حزمة من العادات حتى فى تفكيره.. وأسخطه هذا وأثار نقمته، وحنقه، وآلى ليفكن هذه الحزمة وليبعثرنها. فما يريد أن يكون كهذا الترام الذى لا يستطيع أن يخرج عن قضبانه، ولا يصلح لشىء إذا هو خرج عنها، والأولى به أن يكون كالسيارة التى لا تتقيد بقضبان ولا تعجز عن الانثناء إلى أية ناحية والسير فى أى اتجاه. وهبط قلبه إذ خطر له مفاجأة أن تحية إحدى عاداته، فهل يتحرر من هذه العادة أيضا؟ ورأى نفسه يستعيذ بالله، وينثنى فيقول، إن التفكير على هذا النحو يقود إلى الشطط. وسأل نفسه - وخيل إليه وهو يفعل ذلك أنه انتزع من نفسه شخصا آخر يضعه أمامه ويلقى عليه السؤال - هل يستطيع أن يحتمل خلو حياته من تحية؟ وقال: «الأن نريد الجواب الصريح».. وكان الجواب الذى دار فى نفسه أنه لا يستطيع.. ثم قال إنه استطاع أن يحتمل حياته من غير أمه.. شق عليه ذلك أول الأمر، ولكن الإنسان رزق الكفاية من المرونة، أى القدرة على التكيف. فهو يألف كل حال، وإن بدا فى أول الأمر عسيرا.. فهل معنى هذا أنه يقدر أن يألف خلو حياته من تحية؟ نعم. وساءه هذا اللون من التفكير. فغضب وصاح بنفسه «ولكن ما الحاجة إلى إخراج تحية من دنياى؟» ثم إنه لا يشعر أن حبه لتحية قد ضعف، وإنما يشعر أن به فتورا عنها كامرأة ليس إلا.. وليس هذا بذى قيمة، وهى عسى أن تكون مدركة لهذا، ولعل بها مثل فتوره. فإنها تتوخى أن تكون له صديقا، وهو يحمد منها هذا، ويراه أطيب وأوفق. غير أن تحولهما إلى صفة الصديقين أوجد بينهما نوعا من الحياء، وأقام فواصل خفية يتطلب الأمر فى بعض الأحيان تنحيتها. فهما يتكلفان جهدا واضحا حين يحاولان أن يتجاوزا حد الصديقين ويعودا زوجين أى رجلا وامرأة. وهذا عناء يزيده فتور الألفة ويبدو أحيانا ممتعا ولكنه على كل حال عناء. وإذا طال الأمر على هذا النحو فأخلق بأن تكثر الحوائل بينهما، لأن كل حال تتقرر بالعادة.. أفلا يمكن أن تزال هذه الحوائل دفعة واحدة ليعودا كما كانا؟ ممكن ولا شك. ولكن ما القول فى الفتور؟ ما خير أن تزال الحوائل مع بقاء هذا الفتور اللعين؟
وصار الأمر فيما يرى معضلا، وأعياه التماس الوسيلة لحل هذا الإشكال. وألفى نفسه يتساءل: أليس على تحية - كما على - أن تعالج حل العقدة؟ لماذا تتركنى أنفرد وحدى دونها بمعاناة هذه المشقة والأمر مشترك بينى وبينها؟ وقال فى جواب ذلك إنه هو الرجل، وإن المرأة ما زالت تنتظر أن يكون السعى من جانب الرجل ابتداء، لأنها مازالت أضعف منه وهو أقوى منها، وله السيادة والسلطان على الرغم من كل هذا التحرير الذى لم يحررها، لأنه لم يكسبها إلى الآن ما ينقصها من أسباب القوة التى للرجل. وقد يجىء زمن يتساويان فيه. وقد يجىء زمن تصبح فيه أقوى منه، وحينئذ لا تنتظر سعيه بل تسعى هى جهرة. وإنها الان لتسعى سعيها إلى ما تريد من الرجل، ولكن خفية وبخبث، وإنها لتبلغ من غاياتها أكثر مما يبلغ الرجل من غاياته، بالحيلة التى تتقنها ولا يتقن الرجل مثلها، لأنه لشعوره بقوته وإربائها على قوة المرأة اعتاد أن يسير إلى غايته جهرة، ويمضى إلى ما يطلب غير متكلف هذا الضرب من المكر الذى تحسنه المرأة. وإنها لتغلبه وتسيطر عليه من حيث لا يشعر - وأحيانا من حيث يشعر - ضعفا منه إذا كان ضعيفا أو التذاذا لرؤيتها تسيطر عليه، وتتوهم أن لها هذه السيطرة فعلا.
وعاد يقول لنفسه: «لا يا شيخ. والله إن المرأة لمسكينة». وأطرق قليلا ونفسه فياضة بالعطف على المرأة المظلومة، ثم وجد نفسه يثور على هذا الخاطر ويقول: «إن المرأة هى التى أوحت إلينا أنها ضعيفة مسكينة لتغرينا بإلقاء السلاح والكف عن الكفاح فتبلغ ما تريد، والله ما المسكين إلا الرجل المخدوع».
وضاق صدرا بهذا كله فصاح: «ولكن ما دخل كل هذا فى أمرى وأمر تحية؟ لماذا أرانى أذهب أتفلسف هذه الفلسفة العقيمة كلما فكرت فيما ينبغى أن تكون عليه حياتى وكيف أنتفع بها؟ هذه أيضا عادة، وهى أولى من سواها بالترك. فإن الذى يطول تفكيره على هذا النحو قلما يصنع شيئا. وأنا أريد سيرة أسيرها، لا فلسفة أتفلسفها، فلنضع حدا لهذا العبث».
ولم يضع هو الحد بإرادته - ولو ترك لها لما صنع شيئا - وإنما تكفلت بهذا الأقدار.
الفصل الثالث
ناپیژندل شوی مخ