أجل، تعلم ابن سينا مبادئ المنطق منه، غير أن هذا الرجل كان غير عالم بجزئيات هذا العلم، فكانت كلما عرضت مسألة حلها التلميذ خيرا من أستاذه. هنالك أخذ ابن سينا يدرس بنفسه، فقرأ رسائل المنطق، وأنعم النظر في الشروح، وقد فعل مثل هذا حيال هندسة أقليدس، وتعلم من أولها خمسة أشكال أو ستة أشكال على الناتلي، ثم تولى بنفسه حل بقية الكتاب، ثم انتقل إلى دراسة المجسطي، الذي أخبرنا أنه فهمه بسهولة عجيبة، ثم فارقه الناتلي متوجها إلى كركانج، ثم اشتغل ابن سينا بتحصيل الكتب من الفصوص والشروح من الطبيعي والإلهي، «وصارت أبواب العلم تنفتح علي» على حد تعبيره.
هنالك رغب في علم الطب، وبما أن «علم الطب ليس من العلوم الصعبة» - كما قال موكدا - فقد برز فيه في أقل مدة، وبعد أن أخذ ابن سينا يقرأ الكتب المصنفة في الطب، صار يتعهد المرضى، فانفتح عليه من أبواب المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف، وبدأ الأطباء يفدون للدراسة تحت إدارته، مع أن سنه كانت لا تزيد على ست عشرة سنة في ذلك الحين.
ولما بلغ هذه المرحلة، توفر على القراءة سنة ونصفا، ولم يصنع في أثناء هذه المدة غير مطالعة كتب المنطق والفلسفة تكرارا؛ قال ابن سينا: «وكلما كنت أتحير في مسألة ولم أكن أظفر بالحد الأوسط في قياس ترددت إلى الجامع، وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل، حتى فتح لي المنغلق ويسر المتعسر، وكنت أرجع بالليل إلى داري، وأضع السراج بين يدي، وأشتغل بالقراءة والكتابة، فمهما غلبني النوم أو شعرت بضعف عدلت إلى شرب قدح من الشراب، ريثما تعود إلي قوتي، ثم أرجع إلى القراءة. ومتى أخذني أدنى نوم أحلم بتلك المسائل بأعيانها، حتى إن كثيرا من المسائل اتضح لي وجوهها في المنام.»
وهكذا، تبحر الفيلسوف الشاب في سلسلة من العلوم المنطقية والطبيعية والرياضية إلى الحد الذي يستطيع الرجل أن يبلغه. ويروي أنه عاد لا يأتي بتقدم بعد ذلك الحين، ثم توجه إلى ما بعد الطبيعة، ولكن ما بعد الطبيعة لأرسطو ظل صعب المنال عليه زمنا طويلا، على الرغم من تلك الأهلية المتناهية وتلك القدرة المدهشة على العمل، التي يباهي بها مع التوكيد.
قال ابن سينا: «وقرأت كتاب ما بعد الطبيعة فما كنت أفهم ما فيه، والتبس علي غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظا، وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه، وإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه علي، فرددته رد متبرم، معتقدا أن لا فائدة في هذا العلم، فقال لي: اشتر مني هذا؛ فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم وصاحبه محتاج إلى ثمنه، فاشتريته، فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب ما بعد الطبيعة،
6
فرجعت إلى بيتي، وأسرعت في قراءته فانفتح علي في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه كان لي محفوظا على ظهر القلب، وفرحت بذلك، وتصدقت في ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء، شكرا لله تعالى.»
وما انفك نوح بن منصور يكون سلطان بخارى في ذلك الحين، ويمرض هذا الأمير، ويدعى ابن سينا، ويشفيه، ويصير ابن سينا من المقربين إليه بعد ذلك. ويطلب ابن سينا من نوح أن يسمح له بدخول مكتبته، ويروي ابن سينا أن هذه المكتبة كانت منقطعة النظير، فهي دار ذات بيوت كثيرة، في كل بيت صناديق كتب منضد بعضها على بعض، في بيت منها كتب الفقه، وفي آخر كتب الشعر، وهكذا. فاكتشف ابن سينا فيها من الكتب ما هو نادر، لم يره من قبل ولا من بعد، وقد احترقت هذه المكتبة بعد حين، فزعم بعض الحساد أن الفيلسوف هو الذي أحرقها بنفسه؛ كيما يكون وحده حائزا للمعارف التي اكتسبها فيها.
وكان ابن سينا في الثامنة عشرة من سنيه عندما فرغ من هذه العلوم كلها. قال ابن سينا موكدا: «وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه اليوم معي أنضج، وإلا فالعلم واحد لم يتجدد لي بعده شيء.» فلما بلغ ابن سينا الحادي والعشرين من عمره صار يؤلف، وقد ألف عادة تلبية لطلب مختلف الوجوه المعروفين قليلا في الغالب، ومن ذلك أن أحد جيرانه، أبا الحسين العروضي سأله أن يصنف كتابا جامعا في العلم، ففعل ذلك، وسمى هذا الكتاب باسم هذا الرجل، وهو «الحكم العروضية». وكان في جواره رجل آخر يقال له أبو بكر البرقي، فسأله أن يضع شرحا فلسفيا؛ فصنف له كتاب «الحاصل والمحصول»، كما صنف له كتابا في الأخلاق.
ولما كان فيلسوفنا في الثانية والعشرين من سنيه فقد أباه، وتغير وضعه؛ وذلك أنه دخل باب الحياة السياسية، وقلده السلطان شيئا من أعماله. ثم يقول ابن سينا إن الضرورة دعته إلى الارتحال عن بخارى والانتقال إلى كركانج، وهناك كان أبو الحسين السهلي محبا للعلوم، ووزيرا للأمير علي بن مأمون، وأقام ابن سينا بهذا البلاط الصغير على زي الفقهاء، ثم دعت الضرورة إلى انتقاله - كما قال - إلى نسا ومنها إلى بادر، ومنها إلى طوس وإلى مدن أخرى، ومنها إلى جرجان، وكان قصده أن يضع نفسه تحت حماية الأمير قابوس، ولكن بينا كان في صحبة هذا السري اعتقل هذا الأخير، ومات في السجن.
ناپیژندل شوی مخ