وقد يكون واجب الوجود واجبا بذاته، وقد لا يكون واجبا بذاته؛ فأما الذي هو واجب الوجود بذاته فهو الذي لذاته لا لشيء آخر؛ أي شيء كان لزم محال من فرض عدمه، وأما واجب الوجود لا بذاته فهو الذي لو وضع شيء مما ليس هو صار واجب الوجود؛ مثلا إن الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها، ولكن عند فرض اثنين واثنين، والاحتراق واجب الوجود لا بذاته، ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع؛ أعني المحرقة والمحترقة.
ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معا، وكل واجب الوجود بغيره ممكن الوجود بذاته، وهذا ينعكس، فيكون كل ما هو ممكن الوجود بذاته - إن حصل وجوده - واجب الوجود بغيره.
ولا يجوز أن يحدث من اثنين واجب وجود واحد ، حتى يكون «أ» واجب الوجود ب «ب»، و«ب» واجب الوجود ب «أ» معا. والواقع أن كلا من الاثنين إذ كان واجبا بالآخر يكون ممكنا بذاته، وأن لكل ممكن الوجود بذاته علة في وجوده أقدم منه، ولكن ليس ذات أحدهما أقدم من ذات الآخر؛ فلهما - إذن - علل خارجة عنهما وأقدم منهما، فلا وجوب - إذن - لوجود كل واحد منهما من الآخر.
ولا يجوز أن يكون لذات واجب الوجود مبادئ تجتمع، فيقوم منها واجب الوجود حتى تمكن قسمته مادة وصورة أو على وجه آخر، وذلك من حيث الكمية أو الحد؛ وذلك لأن كل ما كانت هذه صفته فذات كل جزء منه ليس هو ذات الآخر ولا ذات المجتمع؛ فإما أن يصح لكل واحد من جزأيه مثلا وجود منفرد، لكنه لا يصح للمجتمع وجود دونها، فلا يكون المجتمع واجب الوجود، أو يصح ذلك لبعضها، ولكنه لا يصح للمجتمع وجود دونه، فما لم يصح له من المجتمع والأجزاء الأخرى وجود منفرد فليس واجب الوجود. وأعم من هذا أن يقال: «إن الأجزاء بالذات أقدم من الكل»، فتكون العلة الموجبة للوجد أول ما توجب الأجزاء ثم الكل، ومن ثم ترى أن كل موجود قابل للقسمة لا يمكن أن يكون واجبا. «فقد اتضح من هذا أن واجب الوجود ليس بجسم، ولا مادة جسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة لا في الكم، ولا في المبادئ، ولا في القول؛ فهو واحد من هذه الجهات.»
وواجب الوجود بذاته واجب الوجود بجميع جهاته، فلو وجدت جهة لا يكون بها واجبا لاحتاج إلى علة من هذه الجهة، ولكان غير واجب على الإطلاق، بل مع هذه العلة، فبين من هذا أن الواجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود منتظر، بل كل ما هو ممكن له واجب له، فليس له إرادة منتظرة، ولا طبيعة منتظرة، ولا علم منتظر، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة.
وبعد هذا يسمو فكر ابن سينا نحو النواحي الخلقية، وذلك أنه إذ أثبت أن واجب الوجود واحد على الإطلاق، بين - وفق المذهب الأفلاطوني - أنه خير محض وحق محض؛ فنرجو من القارئ أن يلاحظ صيغ التفاؤل التي يلقاها في هذا المعرض، قال ابن سينا: «وكل واجب الوجود بذاته فإنه خير محض وكمال محض، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده، والشر لا ذات له، بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر، فالوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود، والوجود الذي لا يقارنه عدم ولا عدم جوهر ولا عدم شيء للجوهر، بل هو دائم بالفعل، فهو خير محض، والممكن الوجود بذاته ليس خيرا محضا؛ لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود، فذاته بذاته تحتمل العدم، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص؛ فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته، وقد يقال أيضا خير لما كان نافعا ومفيدا لكمالات الأشياء، وسنبين أن الواجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا لكل وجود، ولكل كمال وجود، فهو من هذه الجهة خير أيضا، لا يدخله نقص ولا شر.»
وقال ابن سينا أيضا: «وكل واجب الوجود بذاته فهو حق محض؛ لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له، فلا حق - إذن - أحق من الواجب الوجود، وقد يقال - أيضا - حق لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا، فلا حق أحق بهذه الحقيقة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا ومع صدقه دائما، ومع ذلك دوامه لذاته، لا لغيره.»
ثم عين تحليل مفهوم واجب الوجود، وأكمل بالقضايا القائلة: إن نوع واجب الوجود لا يقال على كثيرين، وإن واجب الوجود وحيد في نوعه، وإنه كامل في وجوده لهذا السبب، ثم ينتهي المؤلف إلى إثبات وجود واجب الوجود إثباتا مباشرا، وهنا تبدو نظرية العلية جلية.
قال ابن سينا: «لا شك أن هنا وجودا، وكل وجود فإما واجب وإما ممكن، فإن كان واجبا فقد صح وجود الواجب، وهو المطلوب، وإن كان ممكنا فإنا نوضح أن الممكن ينتهي وجوده إلى واجب الوجود.»
ويتم الإثبات بثلاث مقدمات:
ناپیژندل شوی مخ