وإن لم يكن المبدأ كالجزء، فإما أن يكون مباينا أو ملاقيا لذات المعلول، فإن كان ملاقيا لذات المعلول، فإما أن ينعت المعلول به، وهذا كالصورة للهيولي، وإما أن ينعت بالمعلول، وهذا هو كالموضوع للعرض، وإن كان مباينا لذات المعلول، فإما أن يكون الذي منه الوجود، وهذا هو الفاعل، وإما أن يكون الذي لأجله الوجود، وهذا هو الغاية.
وحاصل القول أنه يوجد للعلل ستة أنواع، وهي: الهيولي للمركب، وصورة للمركب، وموضوع للعرض، وصورة للهيولي، وفاعل، وغاية، وتشترك الهيولي للمركب والموضوع للعرض بأنها للشيء الذي فيه قوة وجود الشيء، وتشترك الصورة للمركب والصورة للهيولي بأنه ما به يكون المعلول موجودا بالفعل.
وهكذا؛ فإنه يوصل إلى مذهب العلل الأربع المشهور، الذي كان قد ألم به في المنطق، وهذه العلل الأربعة هي: الهيولانية، والصورية، والفاعلية، والغائية.
وأكثر أجزاء هذا المذهب اصطباغا بما بعد الطبيعة هو الجزء الذي يبحث المؤلف فيه عن المكان النسبي في وجود العلة الفاعلة والعلة الغائية، فالغاية تتأخر في حصول الوجود عن المعلول، وتتقدم سائر العلل في الشيئية، ومن البين أن الشيئية غير الوجود في الأعيان، فإن المعنى له وجود في الأعيان، ووجود في النفس وأمر مشترك، وذلك المشترك هو الشيئية، والغاية بما هي شيء فإنها تتقدم سائر العلل، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر، والعلل لا تصير عللا بالفعل إلا بالغاية؛ ولذا فإن الفاعل الأول والمحرك الأول في جميع الأشياء غايته؛ ولهذا المذهب - البسيط الجميل معا - تطبيقه المباشر في النظرية التي عرضناها آنفا حول تحريك الأفلاك، حيث رأينا أن المسبب الأول هو المحرك الأول وغاية حركة الأفلاك معا.
وبجانب العلل يوجد شيء آخر؛ أي توجد العوامل الثلاثة التي كنا قد ألمعنا إليها آنفا، وهي: الطبيعة، والإرادة، والقسر، ويلاحظ ابن سينا - في معرض الكلام عن الحركة الطبيعية - أن الطبيعة ليست سبب هذه الحركة القريب ما دام الجسم يبتعد عن طبيعته عند تحركه، فهو يتحرك ليعود إليها؛ ولذا فإن الأحرى أن يقال: إن هذا هو عدم التوافق بين كل من أحواله المتعاقبة وحاله الطبيعية التي هي علة حركة الجسم القريبة الفاعلة، على حين لا تبدو الطبيعة في ذلك غير علة بعيدة نهائية.
وعدم التوافق هذا يسير متناقصا بالتدريج في أثناء الحركة، وهذا يعين معناه، وكذلك، في الحركة الإرادية، ليست الإرادة الكلية التي تسيطر عليها غير عامل عام، ثابت، قائم على اعتبار العلة الغائية، بيد أن كل جزء من الحركة يحدث بشيئية تتغير وتتجدد بتقدم المتحرك، ويقوم هذا الشيء على ما يلازم النفس في كل ثانية من الحركة من تخيلات غائية خاصة ومن إرادات مختلفة. والحق أن النفس هي المبدأ الذي يتم فيه هذا التجدد في الإرادات القريبة مع كون العقل المحض ليس سوى محرك بعيد؛ ولذا فإن ابن سينا يقول: «قال أرسطو: إن لذلك - أي العقل النظري - الحكم الكلي، وأما لهذا فالأفعال الجزئية والتعقلات الجزئية، أي العقل العملي.» ولا يمكن سوى الابتهاج بمثل هذه النظريات الدقيقة.
وقد حرص ابن سينا أن يجعل من مذهب السببية تطبيقات معينة على مذهب انبثاق الأفلاك فيقيم هذا المذهب على أساس متين، وذلك من المحاولات، التي لا نرى من المفيد أن يصر عليها، وهي تلخص في قضايا كالآتية:
16
إن كلا من مادة الجسم وصورته ليس علة للأخرى، لا يمكن أن تكون الأجرام السماوية عللا للنفوس السماوية، ولا النفوس السماوية عللا للأجرام السماوية؛ لا يمكن أن تكون هذه الأجرام وهذه النفوس غير معلولات روحانية، كل عقل محض علة، والخلاصة أن ابن سينا كان - كما يظهر من هذه القضايا - يعد الموجود العاقل علة بطبيعته ذاتها، وهذا ما يوافق المناحي الحركية التي صادفناها في كثير من أقسام منهاجه.
وكل عقل محض علة، والموجود الأول هو علة الكل، وبما أن العقول والموجود الأول ذوو شعور بأنفسهم، فإنهم يتعارفون مثل علة حالا، وهنا تتشعب نظرية السببية في نظرية العرفان بالموجود الأعلى المهمة، وإليك كيف يتكلم عنها ابن سينا:
ناپیژندل شوی مخ