تمهيد
1 - عصر ابن الرومي أو القرن الثالث للهجرة
2 - أخبار ابن الرومي
3 - حياة ابن الرومي
4 - عبقرية ابن الرومي
5 - فلسفة ابن الرومي
6 - صناعة ابن الرومي
تمهيد
1 - عصر ابن الرومي أو القرن الثالث للهجرة
2 - أخبار ابن الرومي
3 - حياة ابن الرومي
4 - عبقرية ابن الرومي
5 - فلسفة ابن الرومي
6 - صناعة ابن الرومي
ابن الرومي
ابن الرومي
حياته من شعره
تأليف
عباس محمود العقاد
تمهيد
هذه ترجمة وليست بترجمة
لأن الترجمة يغلب أن تكون قصة حياة، وأما هذه فأحرى بها أن تسمى صورة حياته، ولأن تكون ترجمة ابن الرومي صورة خير من أن تكون قصة؛ لأن ترجمته لا تخرج لنا قصة نادرة بين قصص الواقع أو الخيال، ولكننا إذا نظرنا في ديوانه وجدنا مرآة صادقة، ووجدنا في المرآة صورة ناطقة لا نظير لها فيما نعلم من دواوين الشعراء، وتلك مزية تستحق من أجلها أن يكتب فيها كتاب.
إن مزايا الشعر كثيرة تتفرق بين الشعراء، ويتفرق الإعجاب بها بين القراء، وقد يحرم الشاعر إحداها أو أكثرها وهو بعد شاعر لا غبار عليه؛ لأنه يحسن نمطا من الشعر تصح به الشاعرية، كالجمال في الحسان، يروقنا في كل وجه بلون وسمة وهو في جميع الوجوه رائق جميل، وكاللمحة الواحدة من ملامح الجمال تحلو في هذا الوجه، وتحلو في ذاك، ولا تشابه بينهما في غير الحلاوة؛ ففي العيون ألف عين جميلة لا تشبه الواحدة أختها، ولا تتفق اثنتان منها في معاني النظرات ومحاسن الصفات، وليس هناك إلا جمال واحد عند الكلام على جوهر الجمال.
وكذلك الشعر، يعجبنا في كل شاعر بطراز مختلف وهو شعر سائغ مستملح في كل طراز، فالذي يعجبنا من المتنبي غير الذي يعجبنا من البحتري، والذي يعجبنا من هذين غير الذي يعجبنا من الشريف الرضي أو من أبي العلاء، أو من أبي نواس، أو من ابن زيدون، والذي يستحق به كل واحد منهم صفة الشاعرية، غير الذي يستحقها به البقية! فقد تفرقت مزايا الشعر كما قلنا أيما تفرق، وامتنع الإعجاب بهن جميعا على الحصر والتعريف.
غير أن المزية التي لا غنى عنها، والتي لا يكون الشاعر شاعرا إلا بنصيب منها، هي مزية واحدة، أو هي مزية نستطيع أن نسميها باسم واحد، وتلك هي الطبيعة الفنية.
نتعمد أن نقول: إنها تسمى باسم واحد؛ لأنها في الحقيقة أشياء شتى تدخل في عموم هذه التسمية.
فالطبيعة الفنية هي الطبيعة التي بها يقظة بينة للإحساس بجوانب الحياة المختلفة، وهنا ينتهي بنا الإجمال إلى كلمة كأنها كلمات، أو كأنها معجم كامل من المصطلحات، أليست جوانب الحياة علميا لا حد لها في العدد ولا في الصفة؟ ثم أليست أنواع التيقظ لتلك الجوانب أشتاتا وأخلاطا لا تجتمع في حصر حاصر؟ بلى! فمن المتيقظين لجوانب الحياة من هو عميق الشعور بها، ومن هو متوفز الشعور أو مهتاجه أو مستفيضه أو محصوره أو مستقيمه أو منحرفه، إلى غير ذلك من أنواع الشعور ودرجاته، فالذي تجمعه كلمة اليقظة هنيهة لا تلبث أوصاف اليقظة أن تفرقه كل مفرق، فهل من سبيل إلى إسلاس المعنى، وتقريب مقاده للتعريف والتوضيح؟
نعم! وسبيل ذلك غير عسير، فنحن نقول موجزين: إن الطبيعة الفنية هي تلك الطبيعة التي تجعل فن الشاعر جزءا من حياته أيا كانت هذه الحياة من الكبر أو الصغر، ومن الثروة أو الفاقة، ومن الألفة أو الشذوذ، وتمام هذه الطبيعة أن تكون حياة الشاعر وفنه شيئا واحدا، لا ينفصل فيه الإنسان الحي من الإنسان الناظم، وأن يكون موضوع حياته هو موضوع شعره، وموضوع شعره هو موضوع حياته، فديوانه هو ترجمة باطنية لنفسه، يخفي فيها ذكر الأماكن والأزمان، ولا يخفي فيها ذكر خالجة ولا هاجسة مما تتألف منه حياة الإنسان، ودون ذلك مراتب يكثر فيها الاتفاق بين حياة الشاعر وفنه أو يقل، كما يلتقي الصديقان أحيانا طواعية واختيارا، أو كما يلتقي الغريبان في الحين بعد الحين على كره واضطرار، فالإنسان والشاعر في هذه الحالة شخصان يلتقيان في المواعيد، ثم يذهب كل منهما لطيته إلى أن يتاح لهما اللقاء مرة أخرى بعد زمن طويل أو قصير، وكأن الشعر عند هؤلاء الشعراء روح من تلك الأرواح التي تلبس صاحبها وتفارقه، ثم تلبسه كلما استحضرها له مستحضر من الحوادث والأهواء، فهو إذا لبسته شاعر يأخذ عنها ما تحسه، وينقل عنها ما تقول، وهو - إذا فارقته - فرد من هذا الملأ الذي لا يوحى إليه، ولا يكشف عنه الحجاب.
ابن الرومي واحد من أولئك الشعراء القليلين الذين ظفروا من الطبيعة الفنية بأوفى نصيب، فمن عرف ابن الرومي الشاعر؛ فقد عرف ابن الرومي الإنسان حق عرفانه، ولم ينقص منه إلا الفضول. والغريب مع هذا أن ابن الرومي الشاعر هو ابن الرومي الذي لم يعرف بعد، وإن عرفت له مزايا ونالت حسنات له حقها من الإعجاب.
ليس من الصدق للتاريخ أن يقال: إن ابن الرومي كان خاملا في زمانه أو بعد زمانه، بهذا المعنى الشائع من الخمول الذي يراد به سقوط المكانة الأدبية ونسيان الأثر بين المتأدبين، فلعله إذا قيس إلى الشعراء الهجائين خليق أن يعد سعيد الحظ موفور الجزاء؛ فقد ذهب شعر بشار إلا أقله، وذهب شعر دعبل إلا أقله، وبقي ديوان ابن الرومي كله فلم يذهب منه إلا أقله! وهذه محاباة من الشهرة لم يرزقها في العربية شاعر هجاء، أو لم يرزقها قبل عصر الطباعة إلا أفراد معدودون بين سائر الشعراء، ثم جاء عصر الطباعة فلم يكن الخمول هو الذي جنى على ابن الرومي وأخر طبع ديوانه بعد الدواوين التي في طبقته؛ لأنه ذكر في كل كتاب متداول من كتب الأدب، وحفظت له مختارات كثيرة في حيثما وردت مختارات الشعراء المبرزين، والذين أهملوه - كصاحب الأغاني - إنما تعمدوا ذلك حنقا عليه لا إصغارا لشأنه، فتأخر طبعه في العصر الحديث لأسباب غير الخمول والإهمال؛ تأخر لأن ديوانه أطول ديوان محفوظ في اللغة العربية من جهة، ولأن نسخته - من جهة أخرى - لم تكن ميسورة في البلاد السورية حيث طبعت بعض الدواوين، وريما كان الإقذاع في الهجاء سببا ثالثا مضافا إلى ذينك السببين.
فليس من الصدق للتاريخ إذن أن يقال: إن ابن الرومي كان خاملا بذلك المعنى الشائع من الخمول، ولكنه مع هذا كان خاملا، وكان خموله أظلم خمول يصاب به الأدباء؛ لأنه الخمول الذي يحفظ ذكر الأديب، ولكنه يخفي أجمل فضائله وأكبر مزاياه. وهذا هو الحيف الذي أصاب ابن الرومي، ولا يزال يصيبه عندنا بين جمهرة الأدباء والمتأدبين.
قال ابن خلكان يصفه ويقدره: «هو صاحب النظم العجيب، والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، فيستخرجها من مكامنها ويبرزها في أحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره ولا يبقي فيه بقية.»
وهذا وصف صادق كله، ولكنه ليس بكل الوصف، الذي ينبغي أن يوصف به ويتمم به تعريفه، فهو تعريف ناقص، والناقص فيه هو المهم، وهو الأجدر بالتنويه؛ إذ هو المزية الكبرى في الشاعر، وهو هو الطبيعة الفنية التي تجعل الفن جزءا لا ينفصل من الحياة.
ما الغوص على المعاني النادرة؟ وما النظم العجيب والتوليد الغريب إن لم يكن ذلك كله مصحوبا بالطبيعة الحية، والإحساس البالغ، والذخيرة النفسية، التي تتطلب التعبير والافتنان فيه؟ إن كثيرا من النظامين ليغوصون على المعاني النادرة ليستخرجوا لنا أصدافا كأصداف ابن نباتة وصفي الدين، أو لآلئ رخيصة كلآلئ المعتز وابن خفاجة وإخوان هذا الطراز، وإن الغوص على المعاني النادرة لهو لعب فارغ كلعب الحواة والمشعوذين إن لم يكن صادق التعبير، مطبوع التمثيل والتصوير. وعلى الأوراق المالية رسوم ونقوش وأرقام وحروف، ولكنها برسومها ونقوشها وأرقامها وحروفها لا تساوي درهما إن لم يكن وراءها الذهب المودع في خزانة المصرف! فالإحساس هو الذهب المودع في خزانة النفس، وهو الثروة الشعرية التي يقاس بها سراة الكلام، أما الرسوم والنقوش والأرقام والحروف، فعلامة لا أكثر ولا أقل، وقد تغني عنها علامة أخرى برقم ساذج وتوقيع بسيط!
نعم، ما النظم العجيب والتوليد الغريب واستغراق المعنى حتى يستوفى إلى آخره ولا تبقى فيه بقية؟ إن هذا بقضه وقضيضه إن هو إلا أدوات التعبير، وليس هو التعبير المطلوب في لبابه، فإذا لم يكن عند الشاعر ما يعبر عنه، فكل معانيه وتوليداته ونوادره لغو لا حاجة بنا إليه، وإذا كان عنده ما يعبر عنه، واستطاع التعبير بغير توليد ولا إغراب ولا استغراق؛ فقد أدى رسالته وأبلغ في أدائها أكمل بلاغ، وهذه هي الرسالة المقصودة، وهذا هو الشعر الجيد، وهذه هي الطبيعة الفنية. أما المعاني والتوليدات فهي وسائل إلى غاية لا قيمة لها إلا فيما تؤديه وتنتهي إليه، ويستوي بعد ذلك من أدى إليك سريرة نفسه بتوليد وإغراب، ومن أداها إليك بكلام لا أغراب فيه ولا توليد.
وابن الرومي شاعر كثير التوليد، غواص على المعاني، مستغرق لمعانيه، ولكننا لو سئلنا: ما الدليل على شاعريته؟ لكان غبنا له أن نحصر هذا الدليل في التوليد والغوص والاستغراق، فقد نحذف منه توليداته ومعانيه، ولا نحذف منه عناصر الشاعرية والطبيعة الفنية، فهو الشاعر من فرعه إلى قدمه، والشاعر في جيده ورديئه، والشاعر فيما يحتفل به وفيما يلقيه على عواهنه، وليس الشعر عنده لباسا يلبسه للزينة في مواسم الأيام، ولا لباسا يلبسه للابتذال في عامة الأيام، كلا! بل هو إهابه الموصول بعروق جسمه، المنسوج من لحمه ودمه، فللرديء منه مثلما للجيد من الدلالة على نفسه، والإبانة عن صحته وسقمه، بل ربما كان بعض رديئه أدل عليه من بعض جيده، وأدنى إلى التعريف به والنفاذ إليه؛ لأن موضوع فنه هو موضوع حياته، والمرء يحيا في أحسن أوقاته، ويحيا في أسوأ أوقاته، ولقد تكون حياته في الأوقات السيئة أضعاف حياته في أحسن الأوقات.
هذا الجانب من شاعرية ابن الرومي هو الجانب الخامل المجهول، وهو الجانب الذي وقفنا على التعريف به صفحات هذا الكتاب، وعندنا أننا ننصف كل شاعر - ولا ننصف ابن الرومي وحده - بتوضيح هذا الجانب من الشاعرية، أو بتوضيح ما نسميه الطبيعة الفنية؛ لأنه هو المقياس الذي لا يتم لنا أن نقدر شاعرا بغيره، والذي نجهل الشعر كله والشعراء كلهم إذا نحن أغضينا عنه والتفتنا إلى سواه مما لا يستحق كبير التفات.
الفصل الأول
عصر ابن الرومي أو القرن الثالث للهجرة
«كان أحسن الأزمان وكان أسوأ الأزمان، كان عصر الحكمة وكان عصر الجهالة، كان عهد اليقين والإيمان، وكان عهد الحيرة والشكوك، كان أوان النور وكان أوان الظلام، كان ربيع الرجاء وكان زمهرير القنوط: بين أيدينا كل شيء، وليس بين أيدينا شيء قط، وسبيلنا جميعا إلى سماء عليين، وسبيلنا جميعا إلى قرار الجحيم، تلك أيام كأيامنا هذه التي يوصينا الصاخبون من ثقاتها أن نأخذها على علاتها، وألا نذكرها إلا بصيغة المبالغة فيما اشتملت عليه من طيبات ومن آفات.»
هذا هو عصر الثورة الفرنسية، وهكذا استهل وصفه الكاتب الإنجليزي «شارلس دكنز» في بداية قصة المدينتين، إلا أنك قد تنقل هذا الوصف إلى أمة غير الأمة الفرنسية، وعصر غير القرن الثامن عشر للميلاد، وأنت لا تخرج به عن زمانه ومكانه وفحواه؛ إذ هو وصف صادق لكل عصر من العصور في تواريخ الانتقال والاضطراب، ومن تلك العصور القرن الثالث للهجرة في دولة الإسلام الشرقية، وهو القرن الذي لا يوصف في جملته إلا بمثل هذا الوصف الغامض الجلي الذي كأنما يصف لك عصرين مختلفين، لا عصرا واحدا متناسق الأوضاع والأحوال؛ لأنه في الحقيقة عصران مختلفان، أو عدة عصور مختلفات، وإن اجتمعت في نطاق واحد من الزمان.
إن كان لكل دولة أوان للبذر، وأوان للنماء، وأوان للحصاد، فالقرن الثالث للهجرة كان أوان النماء للدولة العباسية، جاء بعيد التمهيد، وقبيل النضج والذبول، ففيه نما وأزهر كل ما بذره مؤسسو الدولة من جراثيم الخير والشر، وعناصر الصلاح والفساد، وكانت الدولة في إبانه أشبه شيء بالمرج الأخضر الذي ينمو فيه الحب والفاكهة والشوك والعشب المسموم: خضرة زاهية نضرة، ولكنها وسيمة شائهة، ومصلحة مهلكة، ومرجوة مخشية، ومختلط فيها الغذاء والسم اختلاطا لا سبيل فيه إلى التنقية والتمييز؛ فهو العصر الذي بلغ كل شيء فيه أقصاه، وأثمر كل عمل فيه نتاجه المحتوم، أثمر فيه الخطأ كما أثمر فيه التوفيق، وظهر فيه ما قدموا صالحا أو طالحا على السواء، فبدأ التمام وبدأ النقص في حين واحد، واجتمع الخليط من حضارات العرب والفرس والروم إلى الخليط من عوامل القوة والضعف والبشارة والإنذار، فكان نسيجا من ألوان الزمان لا تشبع منه عين الفنان ولا رؤية الحكيم .
وليس بنا أن نسهب في وصف هذا القرن واستقصاء تاريخه، فإنما يعنينا منه ما يحيط بفرد واحد هو الشاعر الذي نترجم لحياته، فحسبنا من تاريخ ذلك العصر ما نوضح به نواحي تلك الحياة، والقليل الوجيز من ذلك التاريخ كاف لتوضيح ما نريده في هذا المقام.
حالة الحكومة والسياسة
ولد ابن الرومي في سنة إحدى وعشرين ومائتين، وتوفي في سنة أربع وثمانين، على قول بعض الرواة، فهو قد أدرك في طياته ثمانية خلفاء؛ هم: الواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي والمعتمد، والمعتضد الذي توفي بعد ابن الرومي ببضع سنوات، فإذا أردنا أن نحيط بالحالة التي كانت عليها الحكومة وسياسة الدولة يومذاك؛ فلعلنا لا نستطيع أن نعرض لذلك ببيان هو أوجز من الإلمام بالمصير الذي صار إليه بعض أولئك الخلفاء؛ فمنهم واحد قتل، وهو المتوكل، وثلاثة خلعوا وقتلوا بعد خلعهم؛ وهم: المستعين والمعتز والمهتدي، وقيل: إن من الآخرين من مات مسموما، والبقية الذين ماتوا على سرير الملك لم يخل عصر أحدهم من فتنة، أو انتفاض، أو غارة خارجية، ولم يكن حظ ولاة العهود والأمراء والوزراء بخير من حظ الخلفاء، ولا مصير أكثرهم بأسلم من هذا المصير، فقل بين هؤلاء من نجا من الخلع والسجن والتعذيب واستصفاء الأموال.
وكان الخلفاء عرضة للغضب والكيد من الجند والوزراء ونساء القصور، أما الأمراء والوزراء فكانوا عرضة للغضب والكيد من جميع هؤلاء، ويزيد عليهم الخلفاء كلما قدروا على البطش، وأمنوا على أنفسهم دسائس المشاغبين والمنافسين.
إن اطراد البطش بالخلفاء والوزراء لا يدل على أمان أو انتظام في سير الأمور، ولكن هذا كله لا يزال ضعيف الدلالة على ما كانت عليه حقيقة الحال في حكومة تلك الأيام، فقد يعوزنا أن نعلم كيف كان المقتولون يقتلون، والمخلوعون يخلعون؛ لنعلم كيف كان الفساد يجري في خلائق النفوس كما كان يجري في سياسة الدولة وأعمال الدواوين، فقصارى ما يدل عليه اطراد العدوان أن شريعة الحكم لا ترعى، وأن الحكام لا تتقى، إلا أن الحكومة قد تهزل هيبتها، وتبطل شريعتها، ثم تبقى للناس بعد ذلك حرمات أخرى يتقونها، وآداب أخرى يحرصون عليها.
تبقى لهم حرمات المروءة وآداب العرف والدين، أما في ذلك العهد فقد بلغ التنكيل والتبشيع في بعض حوادث الفتك مبلغا لا حرمة معه لشرع ولا لدين ولا لمروءة.
فمن أمثلة ما كان يصيب الخلفاء ما حدث للمعتز حين طالبه الجند الأتراك بأرزاقهم، فلم يجدوا عنده ولا عند كتابه ووزرائه مالا، قال الطبري في أخبار سنة خمس وخمسين ومائتين: «فلم يرعه إلا صياح القوم من أهل الكرخ والدور، وإذا صالح بن وصيف وبايكباك ومحمد بن بغا، المعروف بأبي نصر، قد دخلوا في السلاح، فجلسوا على باب المنزل ... ثم بعثوا إليه أن اخرج إلينا، فبعث إليهم: إني أخذت الدواء أمس، وقد أجفلني اثنتي عشرة مرة، ولا أقدر على الكلام من الضعف، فإن كان أمر لا بد منه فليدخل إلي بعضكم. فدخل إليه جماعة من أهل الكرخ والدور من خلفاء القواد، فجروا برجله إلى باب الحجرة، قال: وأحسبهم كانوا قد تناولوه بالضرب بالدبابيس، فخرج وقميصه مخرق في مواضع وآثار الدم على منكبه، فأقاموه في الشمس ... فجعلت أنظر إليه يرفع قدمه ساعة بعد ساعة من حرارة الموضع الذي قد أقيم فيه ... ورأيت بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ... فذكر أنه لما خلع دفع إلى من يعذبه، ومنع الطعام والشراب ثلاثة أيام، فطلب حسوة من ماء البئر فمنعوه، ثم جصصوا سردابا بالجص السخين، ثم أدخلوه فيه وأطبقوا عليه بابه فأصبح ميتا، وكانت وفاته لليلتين خلتا من شعبان في هذه السنة، فلما مات أشهد على موته بنو هاشم والقواد، وأنه صحيح لا أثر فيه ...»
ومن أمثلة ما كان يصيب الوزراء ما حدث لمحمد بن عبد الملك الزيات في أيام المتوكل، وذكره الطبري في أخبار سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، قال بعد أن ذكر مصادرة الأموال، ونهب الدور، وضم الضياع: «لم يزل أياما في حبسه مطلقا، ثم أمر بتقييده فقيد، وامتنع من الطعام، وكان لا يذوق شيئا، وكان شديد الجزع في حبسه، كثير البكاء، قليل الكلام، كثير التفكر، فمكث أياما ثم سوهر ومنع من النوم: يساهر وينخس بمسلة، ثم ترك يوما وليلة فنام وانتبه فاشتهى فاكهة وعنبا، فأتي به فأكل ثم أعيد إلى المساهرة، ثم أتي بتنور من خشب فيه مسامير حديد ... وكان هو أول من عمل ذلك، فعذب به ابن أسباط المصري حتى استخرج منه جميع ما عنده، ثم ابتلي به فعذب به أياما.
وذكر عن الدنداني عن الموكل بعذابه أنه قال: كنت أخرج وأقفل الباب عليه، فيمد يده إلى السماء جميعا حتى يدق موضع كتفيه، ثم يدخل التنور فيجلس، والتنور فيه مسامير حديد، وفي وسطه خشبة معترضة يجلس عليها المعذب إذا أراد أن يستريح، فيجلس على الخشبة ساعة ثم يجيء الموكل به، فإذا هو سمع صوت الباب يفتح قام قائما كما كان ثم شدوا عليه، قال المعذب لي: خاتلته يوما وأريته أني أقفلت الباب ولم أقفله، إنما أغلقته بالقفل ثم مكثت قليلا، ثم دفعت الباب غفلة فإذا هو قاعد في التنور على الخشبة، فقلت: أراك تعمل هذا العمل؟ فكنت إذا خرجت بعد ذلك شددت خناقه، فكان لا يقدر على القعود، واستللت الخشبة حتى كانت تكون بين رجليه، فما مكث بعد ذلك أياما حتى مات.
واختلف في الذي قتل به فقيل: بطح فضرب على بطنه خمسين مقرعة، ثم قلب فضرب على ظهره مثلها، فمات وهو يضرب وهم لا يعلمون، فأصبح ميتا قد التوت عنقه ونتفت لحيته، وقيل: مات بغير ضرب، وذكر عن مبارك المغربي أنه قال: ما أظنه أكل في طول حبسه إلا رغيفا واحدا، وكان يأكل العنبة والعنبتين، قال: وكنت أسمعه قبل موته بيومين أو ثلاثة يقول لنفسه: يا محمد يا ابن عبد الملك! لم تقنعك النعمة والدواب الفره والدار النظيفة والكسوة الفاخرة وأنت في عافية حتى طلبت الوزارة! ذق ما عملت بنفسك! فكان يكرر ذلك على نفسه، فلما كان قبل موته بيوم ذهب عنه عتاب نفسه، فكان لا يزيد على التشهد وذكر الله.» والذي روي عن التمثيل بالمذنبين - ولا سيما في أيام المعتضد - أفظع من هذا وأعنف، وكأنما كان التفظيع بهم فرجة يتفننون في ابتداع أشكالها وأساليبها؛ ليلهوا بها النظارة ويذكروها فيما يذكرون من مشاهد المجون والفكاهة!
أساس هذا الشر كله سببان غالبان؛ هما: القطيعة بين بني العباس والعرب، ونظام الإقطاع الذي تمادى فيه بنو العباس حتى انتهى إلى تصدع العالم الإسلامي وتشعبه في مدى قرنين اثنين بضع عشرة شعبة، فبنو العباس كانوا قوما موتورين طال عليهم الظلم واحتمال المكاره، وكانوا ينقمون على العرب أنهم خذلوا آل النبي في نضالهم مع بني أمية، وباعوهم بيع السماح لما استمالهم الأمويون بالعطايا والوعود، فلبثوا زمانا يسامون الذل، ويلعنون على المنابر، ويشهدون قتل رجالهم، وسبي نسائهم وهم آل النبي الذي لم يسأل قومه على الهداية أجرا إلا المودة فيهم، وابتلوا بكل محنة في دولة الأمويين، ولا من يغضب لهم أو يجنح إليهم.
ولقد كان بنو العباس شركاء بني علي في الوتر، وإن كان المصاب في معظمه مصاب هؤلاء؛ لأنهم كانوا جميعا من آل البيت، ينالهم من الذل ما ينال كل منتم إليه، ثم لما قامت لهم آخر الأمر دولة لم تقم على أيدي العرب وهم أولى الناس أن ينصروهم وتأخذهم الغيرة لهم، وإنما قامت على أيدي الفرس الذين كانوا ينقمون مثلهم على الدولة العربية، فامتلأت نفوسهم حفيظة على العرب، وانقطع ما بينهم وبينهم من صلة المودة والطمأنينة، وشعروا لهم في نفوسهم بما يشعر به المظلوم لمن ظلموه، أو أعانوا عليه ظالميه، والموتور إذا خاب ظنه في إنصاف الناس، وساء رأيه في أمانتهم وإخلاص طويتهم لم يعرف لهم حقا، ولم يرع لهم ذمة، ولم يجر الأمر بينه وبينهم إلا على المنفعة والرهبة دون الثقة والمودة. ومن هنا كانت تلك السياسة النفعية الفاتكة التي اشتهر بها أساطين بني العباس، ومضى عليها خلفاؤهم من بعدهم، وجاء اتصالهم بأجلاف الأعاجم من قبائل الترك والديلم، فنقلوا عنهم ضروبا من المثلات التي تعودها هؤلاء الأعاجم في وحشية البداوة.
قيل: إن العباسيين إنما قربوا إليهم الفرس والأعاجم واتخذوا منهم الأعوان والقواد مكافأة لهم على نصرهم إياهم ، وتأييدهم لهم على أعدائهم ... والحقيقة أن بني العباس كانوا يتوجسون من العرب قبل أن تقوم لهم دولة، وتنتظم لهم عقدة، وكان إبراهيم بن محمد بن علي، صاحب الدعوة قبل السفاح، يكتب إلى أبي مسلم: «إن استطعت ألا تدع بخراسان لسانا عربيا فافعل، فأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.» فهو الحذر من العرب الذي أبعد هؤلاء وأخملهم في دولة بني العباس، وليست مكافأة الفرس ومن إليهم.
ثم توالت الحوادث بما باعد الشقة بين العرب وأصحاب الدولة الجديدة، فلما كان الخلاف بين الأمين والمأمون ذهب العرب مع الأمين؛ لأن أمه عربية، وذهب الفرس مع المأمون؛ لأن أمه فارسية، وقتل الأمين وانتصر المأمون، فحفظها للعرب وأمعن في إقصائهم وتقريب الأعاجم على تعدد أجناسهم، ثم جاء المعتصم - وكانت أمة تركية - فاعتمد على جنود الترك، وكثر اختلاف الأجناس في جيش الدولة وولاة أمرها، فضلا عن اختلاف الأجناس بين نساء القصور وأمهات الأمراء، وتفاقمت أسباب الدسائس بين الملوك والأمراء والقادة والوزراء، وحاشية القصور من رجال ونساء، وبلغ من تفاقمها أن أشفق منها الجند والقواد الذين هم مساعير نيرانها، فشغب الجند على قوادهم، وتنازع القواد أمرهم فودوا جميعا لو يملكهم خليفة قوي يخيفهم، ويحسم أسباب النزاع بينهم، كما قال بغا الكبير: «نجيء بمن نهابه ونفرقه فنبقى، وإن جئنا بمن يخافنا حسد بعضنا بعضا فقتلنا أنفسنا.» ثم اشتد إشفاقهم من تحاسدهم حتى طلبوا أن يتولى القيادة أمير من بيت الخلافة، ولا يتولاها أحد منهم، ولكن أسباب الشقاق كانت أكبر وأوسع من أن يحسمها مثل هذا التدبير العاجل الذي لا يطول الاستقرار عليه.
كان أمر الدولة إذن قائما على سوء الظن والدسيسة، وقد ألف المؤرخون أن يذكروا إخلاص الفرس لبني العباس، حتى خيل إلى بعض قراء التاريخ أن بني العباس كانوا خليقين أن يطمئنوا إلى جهة واحدة على الأقل من جهات الدولة، وأن يسكنوا إلى شعب واحد من شعوبها الكثيرة، وما كان الأمر كذلك إلا في الظاهر الذي لا ينخدع به رجال من المحنكين الحذرين كرجال الدولة العباسية ، فما نظن أبا مسلم نصير الدولة الأكبر إلا كان طامعا في الخلافة متربصا بأوليائه الدائرة؛ ولهذا طمح إلى مصاهرة بيت الملك وارتقى بنسبه إلى العباس، وبدأ باسمه في مخاطبة الخليفة، وأراد أن يؤم الناس في موسم الحج، واستعد للملك استعداده الذي لا يخفى على أوليائه، وما نظن البرامكة إلا كانوا يفعلون فعل أبي مسلم في شيء من التبصر وطول الأناة.
ولم لا يطمع هؤلاء وغيرهم وما كانت تعوز العظماء في أمة الفرس أسباب الدعوة والانتقاض؟ فإن كان الأمر أمر الطمع والقوة، فها هم الفرس أصحاب القوة التي وصل بها العباسيون إلى الخلافة، وإن كان أمر الدين والغيرة على آل البيت فها هم أبناء علي عندهم، يدعون لهم إذا شاءوا، ويجدون من الناس مستمعا ومجيبا بعدما أصاب العلويين على أيدي بني العباس من قسوة وتنكيل، وما أصاب العرب في دولتهم من إهمال واطراح.
كان حكم بني العباس حكم الموتور المستريب، ولا يكون إلا هكذا حكم الموتور المستريب، وأطبق نظام الإقطاع على هذه الآفة فتمت به البلية، وتشعبت المقاصد حتى فشا سوء الظن، ولم يبق موضع لثقة بين إنسان وإنسان من العاملين في الحكومة.
نظام الإقطاع
فنظام الإقطاع نظام معيب، ولكنه يبقى مستور العيوب ما بقيت هيبة الدولة وسطوة القائمين عليها، فإذا ضعفت وضعفوا فهو الشر المستطير يشقى به الحاكم والمحكوم، وينخر في أركان الملك فلا يدعه إلا وهو مفكك الأجزاء معتور بأسباب الفناء.
فكان الولاة - والخلافة العباسية مرهوبة الجانب والأمور مستقرة في عنفوانها - يؤدون المال الذي عليهم، ويتعهدون الأرض والمرافق بالإصلاح؛ لتغزر عندهم موارد الجباية، وتدوم لهم وللناس منابع الثروة، فلما تقلقلت الخلافة وارتاب الولاة في أمرها وفي أمرهم أهملوا الإصلاح، وتهافتوا على جمع المال، وحبسوا أرزاق العمال، وأغفلوا مرافق الرعية، فخربت الأرض وعم السخط وفسدت طاعة الجند على ما بها من فساد الشقاق والدسيسة، ولجأ الخلفاء إلى اغتيال الولاة والكتاب، وكل من بأيديهم مال الجباية، فأعملوا فيهم القتل واستصفاء الأموال، واستخراج الدفائن والمخبآت، وأصبحت الكتابة والوزارة وما إليهما من وظائف الدولة كأنما هي رخصة بالظلم والغصب ريثما يحتاج الخلفاء إلى ما جمعه الوزراء والكتاب، فيحصلوا على المال من هذه الطريق!
وبلغ من شيوع الاختلاس أن الذين كانت بأيديهم خزائن الدولة شاركوا العمال وأصحاب الوظائف في أرزاقهم، فكانوا لا يؤدون رزق عامل أو صاحب وظيفة إلا إذا اقتطعوا منه إتاوة لأنفسهم، واستكتبوه توقيعه باستيفاء رزقه، غير مستثنين من ذلك أحدا حتى إخوة الخليفة وأهل بيته، بل قد بلغ من شيوع الاختلاس أن أصبح سرا مذاعا لا يكتم في حضرة الخليفة نفسه، ولا يبالي الوزير أو الكاتب أن يجهر بين يديه بفعله: فلما عرض الخليفة المهتدي لسليمان بن وهب بما كان يأخذه هذا من العمال «معجلا ومؤجلا»، قال له سليمان: «يا أمير المؤمنين! هذا قول لا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله، وإن كان حقا وقد علمت أن الأصول محفوظة، فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من غير تحيف للرعية، ولا نقص للأموال؟»
وراجت تجارة الارتشاء من العمال وعمال العمال حتى بلغت أقصى ما عساها أن تبلغه في أواخر أيام الدولة، فقيل عن الخاقاني فيما رواه الفخري: إنه ولى في يوم واحد تسعة عشر ناظرا على الكوفة، وقبض من كل واحد منهم رشوة! فإن كان قد بقي لحسن الظن بين ولاة الأمر بقية، فهذه السرقات والرشاوى والمصادرات والنكبات قد أتت على هذه البقية، فلم تدع بينهم إلا علاقات الحذر والمساومة والتربص وفساد الطوية، ولا جرم تبيض الفتنة وتفرخ في بيئة كهذه بين جند يشغبون، وعمال يدلسون، وعرب يحنقون، وعلويين يتحفزون، ورعية تمزقها براثن الرعاة، وملوك لا يؤمنون على الملك ولا على الحياة.
وقد حضر ابن الرومي في زمانه بعض هذه الفتن وسمع بما تقدمه، وترك لنا في شعره مثلا مما حدث في واحدة منها، وهي فتنة الزنج التي اختلطت فيها الأسباب السياسية والدينية والاجتماعية، فقال يصف ما حل بأهل البصرة على أيدي الثائرين:
كم أغصوا من شارب بشراب!
كم أغصوا من طاعم بطعام!
كم ضنين بنفسه رام منجى
فتلقوا جبينه بالحسام!
كم أخ قد رأى أخاه صريعا
ترب الخد بين صرعى كرام!
كم أب قد رأى عزيز بنيه
وهو يعلى بصارم صمصام!
كم مفدى في أهله أسلموه
حين لم يحمه هنالك حام!
كم رضيع هناك قد فطموه
بشبا السيف قبل حين الفطام!
كم فتاة بخاتم الله بكر
فضحوها جهرا بغير اكتتام!
كم فتاة مصونة قد سبوها
بارزا وجهها بغير لثام!
صبحوهم فكابد القوم منهم
طول يوم كأنه ألف عام
ودرجت الأحوال على ذلك، فلم يكن يهونها على الناس إلا اتساع أرجاء البلاد الإسلامية، وتفرق الفتن في تلك الأرجاء، وإلا فترات من القوة يتاح فيها للدولة في الحين بعد الحين خليفة حازم الرأي، نافذ العزيمة، فتسكن غوارب الفتنة بعض السكون، ويستقيم الولاة والعمال بعض الاستقامة، وتعلو هيبته، فيخشاه المغيرون على الدولة من داخلها وخارجها، وتفيء الرعية إلى ظله زمنا حتى يحم أجله، فتعود الأمور إلى ما كانت عليه؟
الحالة الاجتماعية
تنتهي الفوضى السياسية - إذا تطاول بها الزمن - إلى الخراب والعسر ونضوب الأرزاق بين جميع الطبقات عاليها وهابطها على السواء، ولكن الفوضى لا تمنع الترف إذا هي جاءت في البداءة، أو ترددت في الفترة بعد الفترة ولم يطل بها زمن التخريب والإفساد، فلا يندر أن يجتمع الترف والفوضى في طبقات من الدول المتداعية، التي ورثت السلطان القديم والثروة الواسعة ومظاهر الحضارة وأفانين المعيشة الفاخرة، بل كثيرا ما تكون الفوضى من أسباب الترف والمغريات به؛ لتعويدها النفوس أن تخلد إلى الدعة واغتنام اللذة، وأن تحجم عن المساعي الجليلة والآمال الرفيعة يأسا من كل غاية، وشكا في مصير كل نعمة، وعلما بأن الحياة لا تجري على وتيرة، ولا تنتظم في سياق.
وكذلك كان القرن الثالث للهجرة قرن الفوضى والترف، أو قرن الخطر و«التسلية»، بلغ فيه كلاهما مبلغه، وسرت إلى العصر جرائر العصور الأولى، فجنى ثمارها خللا في السياسة، وبذخا في المعيشة، وحياة كحياة الجند ليلة الحرب كلها قصف، وكلها استسلام.
ورث القرن الثالث حضارات العرب والفرس والروم، وأساليب اللهو في هذه الأمم، وفي الأمم التي اتصلت بها من ترك وهند وصين، وتجمعت الأموال المستحيرة في أيدي الأمراء وجباة الخراج وأصحاب التجارات الغادية الرائحة في البر والبحر بما تستدعيه ضرورات العيش، ونوافل الشهوات، فكثر المترفون المنعمون، وشاعت فنون الخلاعة والمجون، وأصبح لكل ضرب من ضروب اللهو علم يعرفه علماؤه، ويقرب أهله إلى الخلفاء وذوي الرئاسة، حتى الرقص وما إليه، فضلا عن الغناء والسماع.
نقل المسعودي في مروج الذهب أن الخليفة المعتمد قال لبعض من حضر من ندمائه: «صف لي الرقص وأنواعه، والصفة المحمودة من الرقاص، واذكر لي شمائله، فقال المسئول: يا أمير المؤمنين، أهل الأقاليم والبلدان مختلفون في رقصهم من أهل خراسان وغيرهم، فجملة الإيقاع في الرقص ثمانية أجناس: الخفيف والهزج والرمل وخفيف الرمل، وثقيل الثاني، وخفيفه، وخفيف الثقيل الأول وثقيله، والرقاص يحتاج إلى أشياء في طباعه، وأشياء في خلقته، وأشياء في عمله، فأما ما يحتاج إليه في طباعه فخفة الروح، وحسن الطبع على الإيقاع، وأن يكون طالبه مرحا إلى التدبير في رقصه والتصرف فيه، وأما ما يحتاج إليه في خلقته فطول العنق والسوالف، وحسن الدل والشمائل والتمايل في الأعطاف، ودقة الخصر، وحسن أقسام الخلق ... ومخارج النفس والإراحة، والصبر على طول الغاية، ولطافة الأقدام ... ولين المفاصل، وسرعة الانفتال في الدورات، ولين الأعطاف، وأما ما يحتاج إليه في عمله، فكثرة التصرف في ألوان الرقص، وإحكام كل جزء من حدوده، وحسن الاستدارة وثبات القدمين على مدارهما، واستواء ما تعمل يمنى الرجل ويسراها حتى يكون في ذلك واحدا. ولوضع القدم ورفعها واجبان: أحدهما أن يوافق بذلك الإيقاع، والآخر أن يتثبط به، فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن، فليكن ما يوافق الإيقاع، فهو من الحب والحسن سواء، وأما ما يتثبط به فأكثر ما يكون هو فيه أمكن وأحسن، فليكن ما يوافق الإيقاع مترافعا، وما يتثبط به متسافلا.»
وقس على ذلك سائر ضروب اللهو والترف حتى انتهى القرن وأقبل ما بعده، وللقوم في آداب المجالس وآداب المائدة ما لم نسمع بمثله عن رومة وبيزنطة، فكان من رؤسائهم من لا يأكل لقمتين بملعقة واحدة، كما قيل عن الوزير المهلبي: إنه «كان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه إذا أراد أكل شيء بملعقة، كالأرز واللبن وأمثاله، وقف في جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا - وكان يستعمله كثيرا - فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قام في الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى يفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية؛ لئلا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية.»
واقتدى الأواسط والفقراء بالعلية والأغنياء، فكثرت بيوت القيان والخمر، وأدمنت المعاقرة صبوحا وغبوقا، وشاع اقتناء الجواري والغلمان، واستبيحت اللذات على أنواعها مألوفها وغير مألوفها، وطيبها وخبيثها، فتكشفت الوجوه، وقل الحياء، وخف موقع الهجر والبذاء على الأسماع، ولا سيما حين أصبح الحكام والولاة هم قدوة الناس في هذه الأفانين، وهم موضع النعمة التي تصبو إليها نفوس المحرومين، وفي إحدى قصائد ابن الرومي البائية وصف لعيش الكتاب والموسرين، لا بأس بأن نلحقه بهذا الباب لدلالته على ذلك العصر وعلى موقع هذه اللذات من نفس الشاعر، وذلك حيث يقول:
أتراني دون الألى بلغوا الآ
مال من شرطة ومن كتاب؟
وتجار مثل البهائم فازوا
بالمنى في النفوس والأحباب
خير ما فيهم ولا خير فيهم
أنهم غير آثمي المغتاب
ويظلون في المناعم واللذ
ات بين الكواعب الأتراب
لهم المسمعات ما يطرب السا
مع والطائفات بالأكواب •••
من جوار كأنهن جوار
يتسلسلن من مياه عذاب
لابسات من الشفوف لبوسا
كالهواء الرقيق أو كالسراب
ومن الجوهر المضيء سناه
شعلا يلتهبن أي التهاب •••
لهف نفسي على مناكير للنك
ر غضاب ذوي سيوف عضاب
تغسل الأرض بالدماء فتضحى
ذات طهر ترابها كالملاب
1
من كلاب نأى بها كل نأي
عن وفاء الكلاب غدر الذئاب
واثبات على الظباء ضعاف
عن وثاب الأسود يوم الوثاب
شرط خولوا عقائل بيضا
لا بأحسابهم بل الإكساب
من ظباء الأنيس تلك اللواتي
تترك الطالبين في أنصاب
فإذا ما تعجب الناس قالوا
هل يصيد الظباء غير الكلاب؟
أصبحوا ذاهلين عن شجن النا
س وإن كان حبلهم ذا اضطراب
في أمور وفي خمور وسمو
ر وفي قاقم وفي سنجاب
2
وتهاويل غير ذاك من الرق
م ومن سندس ومن زرياب
3
في حبير منمنم وعبير
وصحان فسيحة ورحاب
في ميادين يخترقن بساتي
ن تمس الرءوس بالأهداب
ليس ينفك طيرها في اصطحاب
تحت أظلال أيكها واصطخاب
من قرينين أصبحا في غناء
وفريدين أصبحا في انتحاب
بين أفنانها فواكه تشفي
من تداوى بها من الأوصاب
في ظلال من الحرور وأكنا
ن من القر جمة الحجاب
عندهم كل ما اشتهوه من الآ
لات والأشربات والأشواب
4
والطروقات والمراكب والول
دان مثل الشوادن الأسراب
واليلنجوج
5
في المجامر والن
د ترى نشره كمثل الضباب
والغوالي وعنبر الهند والمس
ك على الهام واللحى كالخضاب
ولديهم وذائل الفضض البي
ض تباهي سبائك الأذهاب
لم أكن دون مالكي هذه الأم
لاك لو أنصف الزمان المحابي
ففي هذه القصيدة وصف واف لمناعم العيش في بيوت الطبقات الموسرة، ومعظمها من «الموظفين»، وفيها - مع هذا الوصف الوافي - تفسير واضح لتهالك الناس على العمالة والكتابة وسائر الوظائف التي يأتي رزقها من المرتبات والجبايات والرشى والأسلاب، وفيها - مع هذا وذاك - تفسير لنقمة الطبقات المحرومة، وللثورات التي كانت تهب من هنا وثم لرد الظلامات وإنصاف الفقراء، وأي شيء أدل على طلب الثورة والتلهف على قلب الأحوال، والتأهب لتلبية الداعين إلى الشغب من قول شاعر وديع كابن الرومي:
لهف نفسي على مناكير للنك
ر غضاب ذوي سيوف عضاب
تغسل الأرض بالدماء فتضحى
ذات طهر ترابها كالملاب
من كلاب نأى بها كل نأي
عن وفاء الكلاب غدر الذئاب
لا جرم يكون ذلك العصر عصر الحيرة والانتظار، ولا جرم تتأهب فيه النفوس لدعوة الجماعات السرية، وتتعلق الآمال بالمهدي المنتظر والمصلح الأكبر الذي يغسل الأرض بالدماء، ولا جرم يكون ذلك العصر هو عصر بابك الخرمي، وداعية الزنج والقرامطة، وغيرهم من الثوار وأصحاب المذاهب الذين كانوا يمزجون المقاصد الاجتماعية بالمقاصد الدينية، ويعالجون الترفيه عن الفقراء المنزوفين بالدعوة إلى المساواة، والتمرد على الحكام، وكان ذلك على أكثره في بلاد الفرس، حيث بقي الفلاحون كما كانوا في عهد الأكاسرة يسامون سوم الأنعام، ويستنزفون كما كان يستنزفهم الأمراء والملوك والمؤلهون في غابر الأزمان، ثم كان ذلك على أكثره في المرافئ والثغور حين تكثر الحركة، ويزدحم العمال والصناع، ويرتفع السعر، ويشتد التنافس بين الطبقات.
على أن هذه الأحداث كانت تمر بالدولة وهي باقية سليمة منها بعض السلامة؛ لأنها - كما أسلفنا - كانت تتلقاها متفرقة في الأماكن والأوقات، وكان شغب الشاغبين يوصم بالكفر والإفساد في الأرض، ويسمى القائم به تارة باسم الفاسق، وتارة أخرى باسم المارق أو الفاجر أو الخبيث، فينسى اسمه الأول ولا يذكر إلا بهذا الاسم المنتحل، وكانت هذه الثورات بتراء ليست لها وجهة مرسومة، ولا خطة معلومة، فكانت تعوزها عناصر الدعوة المشروعة المستجابة التي تلتف بها الجماهير، وتستبسل فيها، فلا توشك الثورة أن تستفحل حتى تفتر وتضمحل، وتثوب الأمور إلى نصابها.
هذا والقصور سادرة في غيها قلما تحس لهذه المشكلات الاجتماعية أثرا، أو تتحرك لعلاج أسبابها الدفينة إلا في العهد بعد العهد، والصحوة بعد الصحوة، ولا تراها فيما عدا ذلك إلا غارقة في بذخها مفتنة في زينتها ولهوها: المهندسون والمزخرفون والمطربون والطهاة، والندماء يستبقون في تجويد أساليب المعيشة، وجلب ألوان المسرة، ومجالس الطرب تدخل على المجتمع العالي بعرف جديد من الآداب والأذواق، فلا يكون الأدب إلا أدبها، ولا الذوق إلا ذوقها، ولا يحسب الوزير وزيرا ولا الرئيس رئيسا إن لم يكن مع ذلك نديما يحسن المجالسة والمفاكهة، ويصلح للمجلس قبل صلاحه لسياسة الدولة، فأصبحت المنادمة باب السلوك إلى الملوك، وسلم الوصول إلى الحظوة عندهم والدالة عليهم، والنقض والإبرام في شئون الدولة بالزلفى إلى أهوائهم، واحتاج إلى علم هذه الصناعة كل ذي خطر في الدولة لما كان عسى أن يحتاج إليه من الترويج عن الخليفة، وحسن المدخل عليه في ساعات صفوه وغضبه، ونوبات إقباله وإعراضه.
وكان أعلى ما يرجوه صاحب العلم والأدب والفضل والكياسة أن يصبح نديما لملك، أو مربيا لابن ملك. وهما عملان متقاربان متشابهان في الآلة والكفاءة، ولم يكن من السهل أن يحذقهما الأديب؛ لأنهما صناعة تجمع صناعات، وفن يلم بشتى فنون، وإليك مثلا مما كان يعرفه النديم الذي كان يرتقي به الحظ إلى مجالسة الأمراء والخلفاء، نقل ياقوت في معجم الأدباء عن أمالي جحظة النديم أن يزيد بن محمد المهلبي قال: «كنت أرى علي بن يحيى المنجم، فأرى قبح صورته، وصغر خلقته، ودقة وجهه، وصغر عينيه، وأسمع بمحله من الواثق والمتوكل فأعجب من ذلك وأقول: بأي سبب يستظرفه الخليفة؟ وبماذا حظي عنده والقرد أملح من قباحته؟
فلما جالست المتوكل رأيت علي بن يحيى قد دخل على المتوكل في غداة من الغدوات التي قد سهر في ليلتها بالشرب وهو مخمور يفور حرارة يستثقل لكل أمر يخف دون ما يثقل، فوقف بين يديه وقال: يا مولاي، أما ترى إقبال هذا اليوم وحسنه، وإطباق الغيم على شمسه، وخضرة هذا البستان ورونقه، وهو يوم تعظمه الفرس وتشرب فيه؛ لأنه هرمزروز - يوم هرمزد إله الخير - وتعظمه غلمانك وأكرتك مثلي من الدهاقين، ووافق ذلك يا سيدي أن القمر مع الزهرة، فهو يوم شرب وسرور وتجل بالفرح، فهش إليه وقال: ويلك يا علي! ما أقدر أن أفتح عيني خمارا.
فقال: إن دعا سيدي بالسواك فاستعمله، وغسل بماء الورد وجهه، وشرب شربة من رب الحصرم، أو من متنة مطيبة مبردا ذلك بالثلج انحل كل ما يجد. فأمر بإحضار كل ما أشار به، فقال علي: يا سيدي، وإلى أن تفعل ذاك تحضر عجلانيتان بين يديك مما يلائم الخمار، ويفتق الشهوة، ويعين على تخفيفه، فقال: أحضروا عليا كل ما يريد، فأحضرت العجلانيتان بين يديه، وفراريج قد صففت على أطباق الخلاف، وطبخ حماضية وحصرمية ومطجنة
6
لها مريقة، فلما فاحت روائح القدور هش لها المتوكل فقال له: يا علي، أذقني. فجعل يذيقه من كل قدر بجرف يشرب فيها، فهش إلى الطعام وأمر بإحضاره، فالتفت علي إلى صاحب الشراب فقال له: ينبغي أن يختار لأمير المؤمنين شراب ريحاني، ويزاد في مزاجه إلى أن يدخل في الشرب، فيهنئه الله إياه إن شاء الله، قال: فلما أكل المتوكل وأكلنا نهضنا، فغسلنا أيدينا وعدنا إلى مجالسنا، وغنى المغنون فجعل علي يقول: هذا الصوت لفلان والشعر لفلان، وجعل يغني معهم وبعدهم غناء حسنا إلى أن قرب الزوال، فقال المتوكل: أين نحن من وقت الصلاة؟ فأخرج علي أصطرلابا من فضة في خفه، فقاس الشمس وأخبر عن الارتفاع وعن الطالع وعن الوقت، فلم يزل يعظم في عيني حتى صار كالجبل، وصارت مقابح وجهه محاسن، فقلت: لأمر ما قدمت؛ فيك ألف خصلة: طبيب ومضحك، وأديب وجليس، وحذق طباخ، وتصرف مغن، وفكر منجم، وفطنة شاعر ... ما تركت شيئا مما يحتاج إليه الملوك إلا ملكته.»
وعلي بن يحيى هذا هو الذي ذكر ياقوت قبيل ذلك أنه «كان بكركر من نواحي القفص ضيعة نفيسة لعلي بن يحيى المنجم، وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى، فقدم أبو معشر من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة فمضى ورآها، فهاله أمرها فأقام بها وأضرب عن الحج، وتعلم فيها النجوم وأغرق فيها حتى ألحد، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والإسلام.»
كذلك كانت مجالس المجتمع العالية وآداب جلاسها وندمائها، والحديث الذي نقله ياقوت مظنة للزيادة والتأليف في بعض أجزائه، ولكنه يدل في جملته على المناقب والخصال التي كانت تطلب من النديم في ذلك الزمان. وترى من هذا الحديث كيف كانت سنة الفرس غالبة على مجالس الطرب وآدابها ومواعيدها وأدواتها، كما ترى ذلك من أوصاف المهرجانات والنواريز، وأعياد الطبيعة، ومنازه الرياضة والألعاب والصيد والطرد، وسائر المراسم والأزياء. •••
إذا تلخصت الحالة السياسية في سوء الظن، فقد تتلخص الحالة الاجتماعية في اغتنام الفرصة، وإن هذا وذاك في الحالتين لكالشيء وظله، أو كالصوت وصداه.
الحالة الفكرية
قال ابن قتيبة في مقدمة كتابه «أدب الكاتب» يصف حالة عصره من العلم والأدب:
إني رأيت أكثر أهل زماننا هذا عن سبيل الأدب ناكبين، ومن اسمه متطيرين، ولأهله كارهين. أما الناشئ منهم فراغب عن التعلم، والشادي تارك للازدياد، والمتأدب في عنفوان الشباب ناس أو متناس ليدخل في جملة المجدودين، ويخرج عن جملة المحدودين، فالعلماء مغمورون، وبكرة الجهل مقموعون، حين خوى نجم الخير، وكسدت سوق البر، وبارت بضائع أهله، وصار العلم عارا على صاحبه، والفضل نقصا، وأموال الملوك وقفا على شهوات النفوس، والجاه الذي هو زكاة الشرف يباع بيع الخلق، وآضت المروءة في زخارف النجد،
7
وتشييد البنيان، ولذات النفوس في اصطفاق المزاهر ومعاطاة الندمان، ونبذت الصنائع،
8
وجهل قدر المعروف، وماتت الخواطر، وسقطت همم النفوس ...
فأبعد غايات كاتبنا في كتابته أن يكون حسن الخط، قويم الحروف، وأعلى منازل أديبنا أن يقول من الشعر أبياتا في مدح قينة أو وصف كأس، وأرفع درجات لطيفنا أن يطالع شيئا من تقويم الكواكب، وينظر في شيء من القضاء ومن المنطق، ثم يعترض على كتاب الله بالطعن وهو لا يعرف معناه، وعلى حديث رسول الله بالتكذيب، وهو لا يدري من نقله، فقد رضي عوضا من الله ومما عنده بأن يقال: فلان لطيف، وفلان دقيق النظر. يذهب إلى أن لطف النظر قد أخرجه من جملة الناس، وبلغ به علم ما جهلوه، فهو يدعوهم الرعاع والغثاء والغثر، وهو - لعمر الله - بهذه الصفات أولى، وهي به أليق! لأنه جهل وظن أن قد علم؛ فهاتان جهالتان، ولأن هؤلاء جهلوا وعلموا أنهم يجهلون.
ولو أن هذا المعجب بنفسه، الزاري على الإسلام برأيه، نظر من جهة النظر لأحياه الله بنور الهدى وثلج اليقين، ولكنه طال عليه أن ينظر في علم الكتاب، وفي أخبار الرسول وصحابته، وفي علوم العرب ولغاتها وآدابها، فنصب لذلك وعاداه وانحرف عنه إلى علم قد سلمه له ولأمثاله المسلمون، وقل فيه المتناظرون، له ترجمة تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الغمر والحدث الغر قوله: الكون، والفساد، وسمع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية، والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة، راعه ما سمع وظن أن تحت هذه الألقاب كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعها لم يحل منها بطائل!
إنما هو الجوهر يقوم بنفسه، والعرض لا يقوم بنفسه، ورأس الخط النقطة والنقطة لا تنقسم، والكلام أربعة: أمر وخبر واستخبار ورغبة، ثلاثة لا يدخلها الصدق والكذب، وهي: الأمر والاستخبار والرغبة، وواحد يدخله الصدق والكذب، وهو الخبر! والآن حد الزمانين! مع هذيان كثير ... ولو أن مؤلف حد المنطق بلغ زماننا هذا حتى يسمع كلام رسول الله وصحابته؛ لأيقن أن للعرب الحكمة وفصل الخطاب ... فلما أن رأيت هذا الشأن كل يوم إلى نقصان، وخشيت أن يذهب رسمه، ويعفو أثره، جعلت له حظا من عنايتي، وجزءا من تأليفي، فعملت لمغفل التأديب كتبا خفافا في المعرفة، وفي تقويم اللسان واليد يشتمل كل كتاب منها على فن، وأعفيته من التطويل والتثقيل ...
وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالجسم، ومن الكتابة إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شدا شيئا من الإعراب، فعرف الصدر والمصدر، والحال والظرف، وشيئا من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء وأشباه ذلك. ولا بد له مع كتبنا هذه من النظر في الأشكال لمساحة الأرضين، حتى يعرف المثلث القائم الزاوية، والمثلث الحاد، والمثلث المنفرج، ومساقط الأحجار، والمربعات المختلفات، والقسي والمدورات والعمودين، ويمتحن معرفته بالعمل في الأرضين لا في الدفاتر، فإن المخبر ليس كالمعاين.
وكانت العجم تقول: من لم يكن عالما بإجراء المياه وحفر فرص المشارب، وردم المهاوي، ومجاري الأيام في الزيادة والنقص، ودوران الشمس، ومطالع النجوم، وحال القمر في استهلاله واقفا له، ووزن الموازين، وذرع المثلث والمربع والمختلف الزوايا، ونصب القناطر والجسور والدوالي والنواعير على المياه، وحال أدوات الصناع ودقائق الحساب كان ناقصا في حال كتابته. ولا بد له مع ذلك من دراسة أخبار الناس، وتحفظ عيون الحديث؛ ليدخلها في تضاعيف سطوره متمثلا إذا كتب، ويصل بها كلامه إذا حاور، ومدار الأمر على القطب، وهو العقل وجودة القريحة، فإن القليل معها بإذن الله كاف، والكثير مع غيرهما مقصر.
هكذا كان حكم ابن قتيبة على عصره.
وابن قتيبة أديب لغوي فقيه ولد في أوائل العقد الثاني من القرن الثالث، ومات في سنة ست وسبعين ومائتين، ونشأ وعاش في بلاد العراق، فهو معاصر ابن الرومي في زمنه، وقرينه في وطنه، وشاهد عيان لذلك العصر يحدث عنه بما اختبر ورأى من صفات أهله.
فهل أصاب ابن قتيبة أو أخطأ في حكمه؟
لم يصب كل الصواب ولم يخطئ كل الخطأ، وأيا كان حظه من الصواب أو الخطأ، فقد مثل عصره أحسن تمثيل ينظر إليه صاحب الأدب واللغة والفقه، وغاب عنه ما وراء ذلك من نظر لا يحيط به الذين يتحزبون لهذه العلوم على فروع العلم كافة.
فمن حسن تمثيله للعصر أنك تعرف من مقدمته كل ما كان يشتغل به أبناء عصره، أو لا يشتغلون به من المعارف القديمة والحديثة، وأنك تعرف منه أن العصر لم يكن عصر العلوم القديمة وحدها؛ لأن العلوم الحديثة المنقولة والموضوعة أصبحت شرطا في الكاتب والأديب لا تتم بغيرها كتابته وأدبه، حتى رأى مثل ابن قتيبة أنه في حاجة إلى إظهار مساهمته في هذه المعرفة وهو يدعو إلى علم اللغة والكتابة؛ لئلا يستجهل ويعرض عنه.
والمعاصر من بعض الوجوه أصلح الناس للحكم على عصره، ولكنه من وجوه أخرى أقل الناس صلاحا لإنصافه، والإحاطة بجميع نواحيه، فهناك أشياء يراها القريب ولا تدخل في رؤية البعيد، وهناك أشياء يحيط بها البعيد ولا يلمح منها القريب إلا اليسير؛ كالناظر إلى القمر في المنظار يرى جزءا منه كبيرا مفصلا، ولكنه لا يراه كله، ولا يقع نظره على ما حوله، ومثل هذا ما حدث لابن قتيبة حين كبر وصغر، وتناول المقياس ليقدر فأخطأ فيما قدر.
أخطأ ابن قتيبة في شرح حالة العلم والتفكير بين أبناء عصره لأسباب متعددة، منها أن العلم لم يكن منهجا واحدا في ذلك العصر، ولكنه كان مناهج كثيرة تشتمل على منهج أهل السنة المتشددين في إنكار البدع، ومنهج الفرق الإسلامية التي تدخل فيها فرق الشيعة وفرق المعتزلة على اختلافها وتباعد المسافة بينها، ومنهج العلوم الحديثة من يونانية وفارسية وهندية وغيرها من مستحدثات الترجمة والابتكار، ومنهج المتأدبين المتظرفين الذين يقتبسون كل قبس، ويستطرفون كل طرفة، إلى غير ذلك من المناهج التي تتقارب وتتباعد على نحو مما نعهد في زماننا الذي نحن فيه.
وقد كان الخلاف والتعصب بين هذه المناهج على أشده في العراق؛ لأنه كان مجمع العواصم، وملتقى العرب والعجم، ومثابة العلماء والأدباء من جميع الطوائف والمذاهب، فرأي ابن قتيبة هو رأي المتشددين أنصار العلوم العربية، لا يرون غيرها إلا فضولا أو كالفضول، ولا يحسبون المنطق والفلسفة والرياضة وما إليها إلا لغوا، قصاراه أن يلغط اللاغط بالكمية والكيفية، والخط والنقطة، والجوهر والعرض مع «هذيان كثير».
ولكنه مع ازدرائه هذه العلوم الحديثة لم يلبث أن فرق من تهمة الجهل بها، فذكر أطرافا من مصطلحاتها، ودل بذلك على خطرها الذي لا يزدرى، ولكنها - كما رأى القارئ - أطراف مقتضبة كالتي نهاها على الأغرار المفتونين بظواهر تلك العلوم، فلا يقولها القائل وله علم صحيح بما وراء تلك الأطراف.
ومن الأسباب التي باعدت بين الأديب اللغوي، والإصابة التامة في تمثيل عصره أنه كان أديبا ولغويا، وكان سبيل العلم بالأدب واللغة أن يتحرى الطالب ما تقدمه، وأن يرتقي في تحري القدم إلى أبعد عصوره، فلا ينظر إلى العصور التي خلفت بعد العرب الأسبقين إلا على أنها عصور نازلة منحدرة تمعن في الجهل والإسفاف بمقدار إمعانها في البعد من العربية الجاهلية! فعنده أن السلف قد ذهبوا بالخير كله، ولم يبق للمتأخرين إلا أن ينعوا زمانهم، ويأسوا على ما فاتهم! وكل زمان هو شر الأزمنة في أوانه، وخير الأزمنة - أو من خيرها - متى لحق بالماضي العريق! وما برح ذم الإنسان عصره وانتقاصه إياه ديدن كل أديب فيما غبر، وديدن بعض الأدباء في هذه الأيام، فابن قتيبة إنما جرى على هذه العادة التي لا تستغرب في عهد البداوة العربية، وفي عهد كل بداوة طبعت على تعظيم السلف، والتفاخر بالأسباب، والرجوع إلى القديم.
على أن الرجل لو تجرد من هذه العادة لبقي سبب آخر لعله كان يمنعه أن ينصف أبناء عصره، أو يستجمع أخبارهم ويحسن المقابلة بينهم وبين من سبقهم، ولحق بهم من أمثالهم، فربما كان بعض الجهابذة في أيامه متباعدين متفرقين في أقطار ذلك الملك الواسع لا يسمع بهم إلا لماما، وربما كان القريبون منه في طريق العمل، فلم يستووا بعد على غاية القمة، ولم يلبسوا بعد هالة الخلود والشهرة، وذلك فضلا عن الذين جاءوا بعده بقليل؛ فهو لا يعرفهم، ولا يطالب بأن يعرفهم.
والحقيقة أن ذلك العصر كان من أزهى عصور العلم في بلاد الإسلام قاطبة؛ لأنه كان أول عصر تلقى علوم الثقافة الإسلامية كلها كاملة مفروغا من وضعها وترجمتها، وتحضيرها غير مستثنى منها علوم السنة والعربية التي كان ابن قتيبة يتوفر عليها.
ففي القرن الثالث تمت المذاهب الأربعة في الفقه، وظهرت آثار أقطاب الحديث كالبخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه والترمذي والنسائي، ونزعت السياسة إلى تأييد أهل السنة أيام الخليفة المتوكل، ثم انتهى القرن بظهور أبي الحسن الأشعري الذي مال من مذهب المعتزلة إلى مذهب أهل السنة، فقيل فيه: «كان المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري، فحجزهم في أقماع السمسم.»
ولم يخل علم من العلوم القديمة أو الحديثة من أعلام نبغوا في القرن الثالث أو حضروا أوائله، حتى العلوم العربية التي كان ابن قتيبة يتهم القوم بإهمالها والجهل بفضائلها، وهي علوم الرواية والنحو واللغة والأدب، فمن رجالها المشهورين الذين حضروا ذلك القرن: الفراء، وابن السكيت، وقطرب، وابن الأعرابي، ونفطويه، والجاحظ، وأبو عثمان المازني، وثعلب، والزجاج، والمبرد، وابن الأنباري، وابن دريد، والأخفش، والسجستاني، والصولي، والرياشي، وأبو سعيد البكري، وقدامة بن جعفر، وابن أبي الدنيا، وابن العلاء السكري، وكثيرون ممن يضارعون هؤلاء أو يقلون عنهم في الطبقة والشهرة.
أما العلوم الأخرى فقد تأسس في ذلك القرن التاريخ والجغرافيا، وعاش فيه من المؤرخين والجغرافيين: البلاذري، واليعقوبي، وأبو حنيفة الدينوري، وأبو زيد البلخي، والطبري، وابن البطريق ، وابن خرداذبه، وابن الفقيه، وابن رسته، وبرزك بن شهريار وآخرون، وكان من فلاسفته: الكندي والفارابي وابن سينا، ومن أطبائه: الرازي وابن سهل وابن ماسويه، وراج علم النجوم حتى أوشك ألا يكون في ذلك الزمن إلا منجم!
ولم يقتصر الأمر على نبوغ هؤلاء الأعلام في مناهج العلم المختلفة، بل تجاوزه إلى طوائف الناس من خاصة وعامة، فتحدثوا بالعلوم واشتغلوا بمحاوراتها ومناظراتها، وأقبلوا على اقتناء كتبها، فكان العصر عصر ثقافة عامة كثرت فيه المشاركة في مسائل البحث والمطالعة، وشاع ذلك بين الناس أوسع شيوع، حتى كان الرجل منهم يجمع بين أشتات الثقافة في زمنه، كما رأيت فيما نقلناه عن علي بن يحيى المنجم، أو كما ترى من قول ابن الرومي في رجل يصفه بدعوى العلم في معرض الهجو والتهكم:
قولا لطوط أبي علي
بصرينا الشاعر المنجم
المنذر المضحك المغني
الكاتب الحاسب المعلم
الفيلسوف العظيم شأنا
العائف القائف المعزم
الماهن الكاهن المعادي
في نصر إبليس كل مسلم
وبلغت هذه التهمة العلمية حدا أضجر الظرفاء كما أضجر المتشددين، فكان الفتى المهذب يومئذ إما طالب علم قديم أو طالب علم حديث، أو مشاركا في هذا وذاك، أو ظريفا ضجرا من أكثر هؤلاء على حد وصف ابن المعتز:
قليل هموم القلب إلا للذة
ينعم نفسا آذنت بالتنقل
فإن تطلبه تقتنصه بحانة
وإلا ببستان وكرم مظلل
يعب ويسقى أو يسقى مدامة
كمثل سراج لاح في الليل مشعل
ولست تراه سائلا عن خليفة
ولا قائلا: من يعزلون ومن يلي
ولا صائحا كالعير في يوم لذة
يناظر في تفضيل عثمان أو علي
ولا حاسبا تقويم شمس وكوكب
ليعرف أخبار العلو من أسفل
يقوم كحرباء الظهيرة ماثلا
يقلب في اصطرلابه عين أحول
ولكنه فيما عناه وسره
وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل
والظاهر أن علم النجوم والرياضيات على الجملة كان أروج العلوم الحديثة، وأكثرها طلابا؛ لطرافته وموافقته أحوال الزمن وتقلباته، وشيوع الحضارة الفارسية التي كان أهلها يعبدون الكواكب، وينوطون بها مقادير الخير والشر، وطوالع السعود والنحوس، ولم يكن الإيمان بالسعد والنحس والزجر والقيافة غريبا عن العرب، فقبلوا العلم الحديث غير متعسرين، وأفرطوا فيه ذلك الإفراط الذي لم يرض عنه ابن قتيبة، ولم يرض عنه ابن المعتز، وهما في هذا المقام طرفان!
وربما كان من تمام البيان عن آراء المتعلمين يومئذ في فنون العلوم المختلفة أن نأتي هنا على رأي «النجوميين» في أنصار القديم، كما أتينا على رأي أنصار القديم في النجوميين، فقد كان هؤلاء يهزءون بالمتشددين كما كان المتشددون يهزءون بهم، وكانت لهم في التنادر بالقوم دعابات ونكات أطرفها ما وضع - فيما نظن - على لسان أحمد بن ثوابة الكاتب المعروف في زمنه، وجمعت فيه نكات العصر على كارهي الهندسة والرياضة وما إليها، قال أبو حيان في كتاب الوزيرين:
9 «... أن صديقا لابن ثوابة الكاتب أبي العباس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم: إنك بحمد الله ومنه ذو أدب وفصاحة وبراعة، فلو أكملت فضائلك بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي وعلم الأشكال الهندسية الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت إقليدس وتدبرته ...»
ثم نقل أبو حيان عن ابن ثوابة أنه كتب إلى صديق له سأله عما حدث بينه وبين معلمه الهندسة، فأجابه بعد تطويل وحوقلة واستعاذة بما يأتي: ... فأخذ القلم ونكت نكتة، نقط منها نقطة تخيلها بصري، وتوهمها طرفي كأصغر من حبة الذر، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من حكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرا بإفكه، وأقبل علي وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني ورب الكعبة، وما الشيء الذي لا جزء له؟ فقال: كالبسيط ... فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كالله والنفس! فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله الأمثال والله يقول:
فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ، فلما سمع مقالتي كره استعاذتي، فاستخفه الغضب فأقبل علي مستبسلا وقال: إني أرى فصاحة لسانك سببا لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك، فلولا من حضر والله المجلس، وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبينت من توازرهم؛ لأمرت بسل لسان اللكع الألكن، وأمرت بإخراجه إلى حر نار الله وسعيره ...
ومضى ابن ثوابة يذكر كيف جاءوا له بمعلم مسلم بعد هذا المعلم النصراني، وكيف استعظم هذا المعلم المسلم عليه أن يدرك النقطة، وقال له:
وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟ فقلت: استجهلني ورب الكعبة! وأخذ يخط وقلبي مروع يجب وجيبا، وقال لي غير متعظم: إن هذا الخط طول بلا عرض. فتذكرت صراط ربي المستقيم، وقلت له: قاتلك الله! أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربي عن تخطيطك وتضليلك! إنه لصراط مستقيم، وإنه لأحد من السيف الباتر والحسام القاطع، وأدق من الشعرة، وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي، وحسبتني غرا غبيا لا أعلم ما في باطن ألفاظك، ومكنون معانيك؟ والله ما خططت الخط وأخبرت أنه طول بلا عرض إلا ضلة بالصراط المستقيم لتزل قدمي عنه، وأن ترديني في جهنم! أعوذ بالله وأبرأ إليه من الهندسة ومما تدل عليه وترشد إليه ... إني بريء من الهندسة ومما تعلنون وتسرون ...
فهذا مثل بارع من السخرية التي كانوا يقابلون بها سخرية القوم من المنطق والنجوم، والكتاب على ما فيه من الصورة الهزلية يدل بين سطوره على حقائق كثيرة، منها استفاضة تلك العلوم وجلالة خطرها بين المتأدبين، حتى إن رجلا كابن ثوابة بلغ من المكانة والسن مبلغه يخف إلى تعلمها، ويحسب أن مروءته لا تكمل بين ذوي العلم بغير درسها، ومنها أن أشياعها كانوا من الكثرة، وأن أساتذتها كانوا من التجلة والهيبة بحيث كان يعز على ابن ثوابة أن يجد في مجلس رجلا واحدا يؤازره، ويرضى له أن يهين المعلم الذي جبهه بالقول الخشن، واستطال عليه بالتقريع في داره.
وليس يخفى أن الهزل كالغضب كلاهما مصور مبالغ موكل بالغلو في التكبير والتصغير، فلا المتشددون كانوا كما مثلهم لنا أبو حيان في دعابته وهزله، ولا المشغوفون بالحديث كانوا كما مثلهم لنا ابن قتيبة في نكرانه وغضبه، بيد أننا إذا حسبنا كل حساب لمبالغة الهزل ومبالغة الغضب بقيت المسافة طويلة بين الفريقين، والبرزخ الفاصل بينهما متعذر العبور على تقارب الجيرة في الزمان والمكان.
وسكان دار لا تزاور بينهم
على قرب بعض في المحلة من بعض
وليس يصعب على القارئ أن يتخيل هذه الحالة بجملتها؛ لأنها أشبه شيء بما نحن فيه الآن من تباعد وتقارب، واتصال في الثقافات وانفصال، أو لعل الفرق الوحيد بيننا وبينهم أن عصرهم كان عصر الموالي الذين يدخلون العصبية الشعوبية في هذا الخلاف، ويجتهدون في درس العلوم الحديثة لأنها تنافس العلوم العربية، وتضيف إليها ما ليس منها، وهم يودون ألا يحصروا الدين والعلم والسيادة جميعا في العرب، وألا يستأثر العرب دونهم بكل مأثرة وفضيلة، وقد يشعرون بهذا القصد أو لا يشعرون، ولكنهم حريون أن تميل بهم ضمائرهم هذا الميل إذا وقع التنافس بين العرب والشعوبية، والتمست المفاخر من الجانبين.
الشعر
قد تكثر دراسة الآداب والعلوم ولا شعر، وقد يكثر الشعر ولا دراسة للآداب والعلوم، أما القرن الثالث للهجرة فقد كان جامعا لأشتات الثقافة بفروعها، كثير الآداب والعلوم، كثير الشعر، كثير المعنيين بالأشعار.
عاش في ذلك القرن - ولا سيما أوائله وأواسطه - نخبة من جلة الشعراء النابهين: كأبي تمام، والبحتري، والحسين بن الضحاك، وعلي بن الجهم، ودعبل الخزاعي، وابن المعتز، وابن الرومي، وعاش فيه مع هؤلاء مئات من قالة الشعر المحسنين وغير المحسنين، والمحترفين وغير المحترفين، وأوشك أن يكون كل متعلم متأدب شاعرا ينظم الأبيات والمقاطع في بعض أغراضه.
فالخلفاء كانوا ينظمون للغزل والغناء، والأمراء والوزراء - سواء منهم الفرس والعرب - كانوا يتطارحون الأشعار، ويحفظون منها الشيء الكثير، والمنتمون إلى الفرس والأعاجم كانوا أسبق إلى المنافسة في هذا المضمار؛ لينفوا عنهم تهمة العجمة ويدخلوا مع العرب في ميدان الفصاحة. ومن الأمراء الفرس الذين مدحهم ابن الرومي من وضع كتابا في الشكر ضمنه مختارات مما قيل في هذا المعنى، وختمه بأماديح يطري بها صديقه العلاء بن صاعد على حروف المعجم، ونعني به عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، عميد بيته العريق الذي تخرج منه كبار القواد والولاة.
لهذا كان ابن الرومي يقول وهو يشكو:
قد بلينا في دهرنا بملوك
أدباء علمتهم شعراء
لأنه كان يشعر بالمنافسة، ولا يشعر بالعطف من جانب هؤلاء الزملاء. •••
وندر في ذلك العصر من خلا شعره من آثار الحضارة التي أجملنا وصفها فيما تقدم، فمن لم تظهر في شعره المعاني الفلسفية والآراء الطريفة التي سرت إلى المتأدبين من مذاكرة علم الكلام والعلوم المترجمة، ظهرت فيه محسنات اللفظ والمعنى التي كشفها البحث في أشعار المتقدمين، وأدت إليها المعارضة بين أقوال الفحول، واستطلاع أسرار البلاغة فيما أجادوه، ومن لم يظهر في شعره هذا وذاك ظهرت فيه تفخيمات الفرس وترصيعاتهم، وجاءته العدوى من أساليب الكتاب في النثر المنمق، وأساليب التحية في المجالس، وأساليب المعيشة في القصور، وربما عرضت الكلمة الفارسية في البيت العربي مما له المرادفات بالعشرات كقول شاعرنا:
يا أيها الملك الذي
في برده قمر وشير
يعني الأسد.
وربما نظموا في أوزان الشعر الفارسية كالدوبيت والرباعية، أو تفننوا في التسميط والتوشيح والازدواج على نحو ما نراه من كلف بعض الشعراء المعارضين باختراع الأوزان والأعاريض.
وامتاز هذا العصر والذي تقدمه بما يصح أن نسميه علم الشعر تمييزا له من العناية بنظم الشعر نفسه؛ فقد كان الشعراء المولدون يأتون بالمحسنات البليغة عفوا، أو محاكاة للأقدمين، أو تصرفا في الاختراع، ولا يسمون هذه المحاسن بأسمائها، أو يستخرجون منها علما مرتبا على أقسام، معززا بشواهد، وسبق في هذا المجال أمثال بشار ومسلم والعتابي وأبو نواس، وتلاهم أبو تمام وتلامذته في أوائل القرن الثالث، ثم تمكن حب التعريف والتقسيم والتخريج والتأويل من عقول الأدباء، وكتب الجاحظ وقدامة بن جعفر وابن المعتز في هذه المعاني فإذا علم جديد مقيس على الشواهد معروف بالأسماء.
وما انتهى القرن الثالث حتى كانت لهم نظرة في الشعر كالنظرة التي رواها صاحب زهر الآداب عن الحاتمي إذ يقول:
مثل القصيدة مثل الإنسان في اتصال بعض أعضائه ببعض، فمتى انفصل واحد عن الآخر وباينه في صحة التركيب غادر الجسم ذا عاهة تتخون محاسنه، وتعفي معالمه، وقد وجدت حذاق المتقدمين وأرباب الصناعة من المحدثين يحترسون في مثل هذا الحال احتراسا يجنبهم شوائب النقصان، ويقف بهم على محجة الإحسان، حتى يقع الاتصال ويؤمن الانفصال، وتأتي القصيدة في تناسب صدورها وأعجازها، وانتظام نسيبها بمديحها كالرسالة البليغة، والخطبة الموجزة لا ينفصل جزء منها عن جزء. وهذا مذهب اختص به المحدثون لتوقد خواطرهم، ولطف أفكارهم، واعتماد البديع وأفانينه في أشعارهم، وكأنه مذهب سهلوا حزنه، ونهجوا دارسه.
فأما الفحول الأوائل ومن تلاهم من المخضرمين والإسلاميين، فمذهبهم التعالم عن كذا إلى كذا، وقصارى كل أحد منهم وصف ناقة بالعتق والنجابة والنجاء، وأنه امتطاها فادرع عليها جلباب الليل، وربما اتفق لأحدهم معنى لطيف يتخلص به إلى غرض لم يتعمده، إلا أن طبعه السليم وصراطه في الشعر المستقيم نضى تياره، وأوقد باليفاع ناره.
إلى أن يقول بعد أبيات أوردها للنابغة الذبياني:
وهذا هو كلام متناسب تقتضي أوائله أواخره، ولا يتميز منه شيء عن شيء ... ولو توصل إلى ذلك بعض الشعراء المحدثين الذين واصلوا تفتيش المعاني، وفتحوا أبواب البديع، واجتنوا ثمر الآداب، وفتقوا زهر الكلام؛ لكان معجزا عجبا.
فهذه النظرة تريك أثر البديع في كتابتهم، وفي نقدهم القصيد، فأما الكتابة فهذا نمط منها تكثر فيه الاستعارة مع القصد إلى معنى يراد ويفهم، وأما النقد فمذهبهم في وحدة الأغراض واتصال الأجزاء لا يخالف مذهب المعاصرين إلا باستحسان التلفيق بين المديح والنسيب، وعذرهم أن المديح كان قوام حياة الشاعر يومئذ؛ فما كان الاستغناء عنه والاعتماد على النسيب وحده بالمستطاع. •••
وغني عن القول بعد هذا أن «التنبه» كان هو السمة الغالبة على الشعر كله في ذلك العصر الدائب على التفتيش والانتقاد، فكان شاعرهم ينظم القصيدة وهو واع لنفسه، عامد لترتيب أبياته، عارف بمواضع التجويد في لفظه ومعناه، وتتابع الشعراء كبارهم وصغارهم على هذا، فكان فيهم كل ما في هذه الطريقة من المآخذ والفضائل، ومن عناصر الضعف والقوة. •••
وتغيرت أغراض الشعر، فهذا الذي يقول فيه ابن قتيبة: إنه لا يعدو مدح قينة أو وصف كأس ...! وإنما كان هذا الإمام الناقد الذي درس الشعر ووازن بين أصوله وفصوله مستنكرا مستصغرا يرى الشوهة، ويغمض عن الحسنة، ولولا ذلك لرأى أن الشعر قد كان يعدو مدح القيان، ووصف الكئوس إلى أغراض كثيرة تشمل كل وصف، وتدخل في كل معرض من معارض الحياة في ذلك الزمان، ولم يقل فيها إلا ما كان وقفا على أغراض البداوة، وأيام الجاهلية الأولى؛ لأن هذه البداوة قلت فلم يكن لها نصيب من الشعر إلا القليل.
لكنا نخاله كان على حق فيما شكاه من شح الجوائز وكساد سوق أهل الأدب عامة عند الملوك والأمراء، فاشتغال هؤلاء الملوك والأمراء بالشعر ونظمه وحفظه وروايته شيء، وإجازتهم عليه الجوائز السنية شيء آخر.
إنما كانوا في عصر ثقافة يود فيه كل امرئ كامل المروءة أن يعرف كل ما يعرف من الآداب والفنون والملاهي، فإذا تعلموا الشعر فكما يتعلم الرجل المثقف التوقيع على المعازف والشعوذة، وطرائق التفكهة والإضحاك في مجالس السمر، ولا يلزم من ذلك أن يكون لهذه الأشياء أو لأهلها المنقطعين لها خطر في نفسه.
ولا عجب أن يكثر الناظمون وحافظو الشعر في زمن كانت الوزارة فيه والكتابة - أو صناعة الأدب - فنا واحدا، وشارة واحدة، وكان معظم الوزراء والولاة من الأدباء الذين ظفروا بالحظوة عند الخلفاء، ولكن أمورا كثيرة طرأت في أواخر ذلك العصر كان من جرائها تطفيف أرزاق الشعراء، وابتلاؤهم بكثرة النظراء وقلة النصراء، ومنها توزع العناية بين العلوم الحديثة والشعر الذي كان مستأثرا بجل عناية العرب في صدر الدولة الإسلامية، ومنها غلبة المنادمة على الشعر، وترجيح صفة النديم على صفة الشاعر إذا تعذر الجمع بين الصفتين، ومنها قلة الاكتراث للمدح والذم حين استبحر العمران، واستفاضت المناعم واللذات، وشاعت الإباحة والمجون، ومنها كثرة الشعر والشعراء، فقد أصابه وأصابهم ما يصيب كل كثير من الرخص والبوار.
ومنها أن الدعوة السياسية خرجت كلها - أو أغلبها - من أيدي الشعراء إلى أيدي الدعاة، الذين تفرغوا لهذه الصناعة وبلغوا بها أيام العباسيين والعلويين شأوا من البراعة والإتقان قلما يفاق في عهد من العهود، ومنها اضطراب أمور الحكم واختلال أحوال الرعية في أواسط القرن الثالث بين عصرين سعيدين، فات السابق ولم يأت بعده أوان اللاحق، ونعني بهما عصر الهيبة والثروة والعطايا والملك الموطد المرجو المخوف، وقد ذهب، وعصر الأمراء الذين تقسموا المملكة، واستقر كل منهم على جزء منها، وتنافسوا بينهم في اجتلاب الشعراء والتشبه بالخلفاء، ولم يأت بعد!
فكان الشعراء ضائعين من هنا وهناك، وربما كان هذا سر خفوت الشعر وقلة الشعراء المجيدين في الربع الأخير من القرن الثالث، والربع الأول من القرن الذي تلاه.
الدين والأخلاق
إذا عرفت حالة السياسة وحالة الاجتماع وحالة التفكير، فليس بالحاجة الدينية ولا الخلقية خفاء.
لأن عقيدة المرء شديدة الصلة بتفكيره ومعيشته، ومجرى الأحكام في زمانه، وظاهر بعدما تقدم أن الدين في القرن الثالث لم يكن «دين الفطرة» الذي يؤمن به شعب لم يعرف الترف والفساد، ولم يشهد من ولاته إلا العدل والاستقامة، ولم يتعود أن يناقش نفسه في عقيدته وعقيدة غيره، فنشوء المذاهب واختلاف الآراء ضرورة لا محيد عنها في أمثال تلك الأحوال.
كتب ميسرة بن حسان السمري إلى أحمد بن سليمان بن أبي شيخ يسأله عن مذهبه، ولم يكن أحد يقف على حقيقته:
دخلتنا الشكوك يا ابن أبي شي
خ بأي الأديان أنت تدين
وإلى أيها تميل أبا جعفر؟
كم ذا الهوى وذا التلوين!
فأجابه عنه ابن الرومي:
يا ابن حسان لا تشكن في دي
ني ولا تقتسمك في الظنون
فهو توحيد ذي الجلال وتصدي
ق الذي بلغ الرسول الأمين •••
فاعد عني وانظر لنفسك دوني
ليس يجزى سواي عما أدين
وسؤال ابن حسان له مغزاه، فما كان له من محل لو أنهم كانوا يصدقون أن الرجل في زمانهم يبطن ما يظهر، ويؤمن بالدين الذين يؤمن به الناس كافة، فكأنما كان المفروض في طائفة من الناس أن يطووا سرائرهم على مذهب غير مذهب الإجماع، وسر في الاعتقاد غير الذي يبدونه علانية من «توحيد ذي الجلال، وتصديق الذي بلغ الرسول».
وليس بعجيب أن يكون الأمر كذلك والعهد عهد الملل والنحل والأحزاب والعصبيات والدعوات والبحث والتفسير ، فما من نحلة كانت ولا شعبة من نحلة إلا كان لها أنصار، ولأنصارها شأن ما في بعض الجهات، ولا سيما العراق ملتقى الأمم، ومشتجر النزاع، ومتوسط الرقعة الإسلامية، ومثابة الحضارات القديمة والحديثة، وما كان أكثرها من نحل، وأشده من لهج بالانتحال! لكأنما كانت بلاد الدولة العباسية معرضا للنحل، ومستبقا للمشاقة بين المنتحلين! ففيه التشيع بدرجاته، والاعتزال بطوائفه، والسنة باختلاف أقوال المجتهدين فيها، والفلسفة بمذاهبها، والعلوم الحديثة بشعابها، وفيه ما بين هذا وذاك أشكال من التدين يجيء بها دخول الفرس والروم والديلم في الإسلام عمدا أو على غير عمد، فبعضهم كان يسلم وهو في الباطن على دين آبائه، وبعضهم كان يخلص في إسلامه، ولكنه ينقل إلى دينه الجديد موروثات دينه القديم، وذلك فضلا عن النصارى واليهود وعباد الأوثان، وكلهم على اختلاف في المذاهب والعصبيات كهذا الاختلاف، فغير مستغرب أن يسأل المرء عن دخيلة رأيه وباطن اعتقاده في هذا المعرض الحاشد بالطوائف والأديان.
إلا أننا لنخطئ أشد الخطأ إذا فهمنا من هذا أن الإباحة حلت محل الدين في تلك الفترة، فتعفى أثره وبطل سلطانه؛ فإن مداراة الآراء التي تخالف الإجماع لا تدل على ذلك، بل لا تدل إلا على نقيض ذلك، والمعهود في أمثال تلك الفترة أنها تقبل الغلو في التدين، كما تقبل الشكوك وتعدد المذاهب، كأن الإحساس بالخطر على العقيدة يحرك بواعث الغيرة عليها، ويزعج النفوس إلى المنافحة عنها، فإذا رأيت الإباحة والترخص في جانب لم تلبث أن ترى الغلو والتشدد في الجانب الآخر، ولا يخفى أن هذا الجانب الآخر والأقوى والأكبر؛ لأنه جانب العادة الخالدة والعدد الأكثر.
وربما لاح للناس أنهم نبذوا الدين، فما يشعرون إلا وهم يلبون دعواته، ويتعصبون لأهله، ويظنون في أنفسهم أنهم غير متدينين! ولقد كان مع الترخص في إباحة اللذات أناس غالون في النهي عنها يثورون على أصحابها في الحين بعد الحين؛ ليقوموا المنكر باليد واللسان. ومن هؤلاء فئة ببغداد خرجت بعيد مولد ابن الرومي تهجم على البيوت، فتريق الخمر، وتضرب القيان، وتكسر العيدان، وكان ينادى في بغداد قبيل وفاته - أي في سنة تسع وسبعين ومائتين: «ألا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاص، ولا منجم، ولا زاجر.» وحلف الوراقون ألا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
بل كان ابن الرومي إذا ذكر الخمر في مديح أمير أسرع فاستدرك قائلا: إنها الشراب الحلال لا الشراب الحرام:
لا المدام الحرام لكن حلال
سؤر نار يحثها طابخان
شارك الخمر في اسمها ليس إلا
أن أداموه مثلها في الدنان
وحكاها في اللون والريح والطع
م ولطف الدبيب في الجثمان
فهو لا خمر في الحقيقة لكن
هو خمر في الظن والحسبان
ومثل هذا لا يقال إلا وللدين هيبة، وللفرائض رعاية. •••
وهناك الضمائر التي لا تقوى على الشك لأنها تستريح إلى التسليم والاتكال، فهي إما أن تهرب من الشكوك والأقاويل إلى إيمان بسيط لا لجاجة فيه، أو تهرب منها إلى اللهو والمؤانسة وما يعنيها في الحاضر بين يديها لحظة بعد لحظة، كما قال ابن المعتز:
ولكنه فيما عناه وسره
وعن غير ما يعنيه فهو بمعزل
وأصحاب هذه الضمائر - حين يحسبون - أقرب إلى المؤمنين منهم إلى المتشككين. •••
وما يقال في الدين يقال في الأخلاق، فلا ريب في أن السياسة القائمة على السلب والغيلة، والآداب القائمة على اغتنام الفرص وانتهاب اللذات، والعقائد القائمة على ما رأيت من الشك والتشعب قلما تبقي للنفوس بقية صالحة من الأخلاق، ومسكة عاصمة من الغواية، ولكننا حريون أن نذكر أن نفوس الدهماء مطبوعة على العزاء، وأن أكبر العزاء لها في هذه الفترات أن تحسب الغواية والرذيلة من مساوئ الغنى والجاه، وتعتصم هي بالصبر والرجاء، وفي بنية الأمة أبدا مثلما في بنية الحي من العوامل المكافحة للفساد التي لا تني تصون الجسم زمنا، ولا تبرح تلهم وظائفه السداد وإن ضل العقل، وأنحى على الجسم بما ينهكه ويرديه، فتظل هذه العوامل ناشطة في بنية الأمة ولو تراءى للنظر من مشارفة بعض الطبقات أنها وفت في الاضمحلال؛ فلا يحسن بنا أن نبالغ في تضخيم شأن الفوضى التي ابتليت بها العقائد والأخلاق في تلك الفترة الشاذة المتناقضة، فهي ولا ريب كبيرة وبيلة، ولكنها ليست أكبر ولا أوبل مما قد يعتري أمما كثيرة، وتؤاتيها بعده أسباب السلامة. •••
ذلك عصر ابن الرومي بخيره وشره، وزيادته ونقصه، لقائل أن يقول في أطواره ما شاء أن يقول، وأن يختلف في أوصافه ما شاء أن يختلف، ولكن وصفا واحدا من تلك الأوصاف لا يجوز فيه أقل اختلاف؛ ذلك أنه كان في خيره وشره عصرا حيا يصنع التواريخ، وليس بالعصر الميت الذي يطويه التاريخ في ثناياه.
وقد وضعنا له حدودا من أرقام السنين لضرورة الحصر والتقريب، ولكننا لم نرد بتلك الأرقام إلا أن تكون معالم في طريق الزمن يهتدى بها إلى البدايات والنهايات، وليست هي البداية والنهاية، ولا هي محور الابتداء والانتهاء.
هوامش
الفصل الثاني
أخبار ابن الرومي
العصر والرجل
في تاريخ كل أمة عصر أو عصور اشتهرت بكثرة الذين ظهروا فيها من النوابغ والعبقريين في الشعر والأدب والعلم والفن والصناعة، فيقول الذين يرجعون الفضل كله إلى العصر وحده: إن أحوال العصر هي التي عليها المعول في تكوين المواهب والعبقريات.
وفي تاريخ كل أمة أيضا نوابغ وعبقريون ظهروا في مختلف العصور على تفاوت الأحوال بين عصر وعصر، وبيئة وبيئة، فيقول الذين يرجعون الفضل كله إلى ملكة الفرد واستعداده: إن العصر لا يغني شيئا في تكوين المواهب والعبقريات، أو إنه - إذا لم تسعف الموهبة والعبقرية - قليل الغناء.
ونحن يجب أن نحذر كل فكرة يراد بها أن تخدم فكرة أخرى، فهي تفقد استقلالها كله أو بعضه، كما يفقد استقلاله كل من يخدم سواه، إنما تحترم الفكرة إذا أريدت لنفسها ولم ترد لتأييد فكرة هي مضافة إليها.
فيغلب على الذين يحصرون الفضل في العصر وحده أنهم يدعون إلى الاجتماعية والاشتراك في مرافق الأمة، فيقللون من شأن الأفراد في الوصول إلى حظ من حظوظ العلم والمال بغير مساعدة المجتمع ومؤاتاة الحوادث.
ويغلب على الذين يحصرون الفضل في الفرد وحده أنهم ينازعون أصحاب ذلك الرأي، وينظرون إلى تفنيده وتوهينه لإبطال ما يدعو إليه .
فهم مخطئون وأصحابهم أولئك مخطئون، ولا يرجى الإخلاص وصدق التحري في فكرة مسخرة تساق في ذيل مذهب تعتمد عليه، أو يعتمد هو عليها، فلا العصر هو كل شيء، ولا الموهبة الفردية هي كل شيء. والأمر الذي لا مراء فيه هو أن العصر لا يخلق الموهبة إذا هي لم توجد في صاحبها، وأن بعض العصور من الجهة الأخرى أصلح لإظهار المواهب والعبقريات.
ثم إن العصر إذا لم يخلق الموهبة خلقا، فهو بلا ريب يوجهها ويهيئ لها أسباب تمامها واستوائها، بحيث يسهل علينا أن نفهم كيف أن عبقرية من العبقريات تهتدي على وجهتها في زمن، ولا تهتدي إليها في زمن آخر، وكيف أن رجلا يكون صانعا في هذا العصر أو ذاك، وهو لو ولد في غيره لكان من الأدباء أو السواس.
ولا فائدة هنا من البحث في مصير ابن الرومي: ماذا كان يلقى؟ وماذا كان يصبح لو أنه ولد في غير القرن الثالث للهجرة؟ فقد ينبغ أو لا ينبغ، إلا أن المحقق عندنا أنه في أي عصر ظهر لا يكون إلا شاعرا، أو صاحب عمل فني بسبيل من الشاعرية؛ فقد نتخيل أبا تمام مثلا قاضيا، والبحتري عاملا، والمتنبي وزيرا، والمعري فقيها، والشريف خليفة أو إماما من أئمة الطرق، وقد نتخيلهم جميعا ظاهرين بارزين في غير هذه الأعمال التي يزاولها أبناء الدنيا، ويفلحون فيها على درجات من الفلاح، فهم يصلحون لها ولغيرها بعض الصلاح، وإن كانوا مع هذا شعراء وذوي قدم في مناهج الشاعرية.
أما ابن الرومي فهو لا يصلح إلا للشعر وما إليه، ولا ينفعه العصر إن لم ينفعه في هذا المجال، فإذا تمهد له الشعر فقد استوى على نهجه، وإذا لم يكن شاعرا فهو لا شيء.
والعصر الذي عاش فيه كان صالحا لظهور ابن الرومي أيما صلاح: كان صالحا لظهور ابن الرومي الشاعر؛ لأنه كان عصرا حيا حافلا بأشتات الحياة وألوان الإحساس مشغولا بالشعر والعلم، وكل ما تشتغل به قريحة أو سليقة، وكان فيما عدا ذلك عصر الموالي، أو عصرا للموالي فيه نصيب وافر من التعلم والتأدب والتربية التي تعد صاحبها للسبق في كل مضمار، كان لهذا عصرا صالحا لظهور ابن الرومي الشاعر الذي لا متقدم له في غير الشاعرية.
ولكن أتراه كان ذلك عصرا صالحا لظهور ابن الرومي «الرجل» الذي لم تبق منه الشاعرية بقية لمسعاة ولا لتصرف؟
لا، لم يكن ذلك العصر صالحا لابن الرومي الرجل كما كان صالحا لابن الرومي الشاعر، بل لم يكن ذلك العصر إلا عصر مضيعة له ولأمثاله الذين خلقوا في هذه الدنيا وكأنهم أطفال في حجر الفن، لا يكفلون أنفسهم إن لم تلحظهم من الدنيا كفالة ساهرة.
فكانت قسمته تلك من غرائب القسم التي تتنازع الإنسان بين النقيضين كأنه جسم مشدود للتعذيب بين قطبين متجاذبين.
فمن جهة هو في زمنه الذي لم يخلق لغيره، ومن جهة هو في الزمن الوحيد الذي لم يخلق له، ولم يتزود له بآلة: ابن الرومي الشاعر في عصر الحياة والإحساس والدراسة والموالي فهو بخير، وابن الرومي الرجل في عصر الدهاء والخبث والصراع الجهنمي، فهو بشر ما يكون عليه مثله، ولا سبيل إلى الافتراق بين الشخصين، ولا سبيل كذلك إلى التوفيق بينهما على حال!
لو كان ابن الرومي شاعرا وشيئا آخر لكان قمينا أن يرضى بعصره، وأن يرضى به عصره، لو كان شاعرا ورجلا يحسن الخوض في معترك العيش بين تلك الفتن والمغامرات لاتقى بعض الإخفاق على الأقل، وارتجى بعض النجاح، لكنه كان شاعرا وحسب، ولم يكن له زاد آخر غير السليقة الفنية! فجنى الشاعر على الرجل، ولم يسعد الشاعر بما جناه. ومن هناك ذلك التفاوت بين نصيب شعره ونصيب شخصه، وذلك الخطأ في تقدير مكانه وسمعته؛ فهو خامل وليس بخامل، وهو نابه وليس له نصيب النباهة! شعره نافق، وقائل الشعر كاسد، وربما عابوا شعره في حياته وأكثروا من عيبه، ولكنك بيسير من النظر قد ترى أنهم لم يقصدوا بالعيب الشعر كما قصدوا القائل وإن كان في الشعر ما يعاب!
فالذين سبق إليهم أن ابن الرومي كان مجهول القدر في حياته وبعد مماته، إنما نظروا إلى إحدى صفحتيه ولم ينظروا إلى الصفحة الأخرى؛ إنما كان خمول الرجل أنه لم ينتفع بمعرفة الناس إياه لا أنه لم يعرف، وربما كان له خمول آخر؛ وهو أنه لم يعرف بأحسن مزاياه، أما أنه قد عرف، فذلك حق لا شك فيه.
وقد ازداد الناس معرفة به بعد موته كما اتفق كثيرا لمعظم الأدباء والعلماء؛ فقال العميدي - صاحب الإبانة، المتوفى سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة - وهو يذكر المتنبي: «ولا أقيسه في امتداد النفس، وعلم اللغة، والاقتدار على ضروب الكلام وتصوير المعاني العجيبة، والتشبيهات الغريبة، والحكم البارعة، والآداب الواسعة بابن الرومي.» وقال ابن رشيق - صاحب العمدة، المتوفى سنة ثلاث وستين وأربعمائة: «أكثر المولدين اختراعا وتوليدا فيما يقول الحذاق أبو تمام وابن الرومي.» وقال ابن سعيد المغربي - المتوفى سنة ثلاث وسبعين وستمائة - في كتابه عنوان المرقصات والمطربات: «ويقولون: إنه أحق الناس باسم شاعر لكثرة اختراعه وحسن توليده.» وذكر وفاته ابن الأثير - المتوفى سنة ثلاثين وستمائة - فقال: «إن ديوانه معروف.» أي أن هذا الديوان كان متداولا في أيدي الأدباء إلى أيامه، ونظر إلى معانيه كثير من فحول الشعراء والأدباء منهم: المتنبي، وبديع الزمان، والمعري، والشريف، وشاعت مختاراته في كتب الأدب، فلم يخل منه إلا قليل.
أما أخباره فقد عني بكتابتها وروايتها اثنان من أدباء عصره؛ وهما: عبيد الله بن المسيب، وأبو عثمان الناجم، وثالث هو أحمد بن عمار، قال ابن المسيب: إنه لما مات ابن الرومي «عمل كتابا في تفضيله ومختار شعره، وجلس يمليه على الناس».
ويظهر أن أبا عثمان سعيد بن هاشم الخالدي، من أدباء القرن الرابع، توسع في ترجمته إما في كتابه حماسة المحدثين، أو في كتاب مقصور عليه، ولكن أخباره هذه ذهبت كلها، ولم يبق منها أثر إلا متفرقات في الكتب لا تغني في ترجمة وافية، ولا شبيهة بالوافية، وهي على قلتها لا يسعنا إغفالها، ولا يسعنا كذلك أن نعتمد عليها ونقبلها على علاتها.
فنحن ننقلها كما هي فيما يلي، ثم نعقب عليها ونستخرج منها ما في الوسع أن نستخرجه من ترجمة للرجل تدل عليه، وتستحضر للذهن صورة لعبقريته، ومثلنا في ذلك كمثل المنقبين في المحفورات إذ يعثرون ببعض العظام المهشمة من جسم مدثور، فهم يقيسون المفقود على الموجود، ويضنون بما وجدوه على الضياع ولو لم يكن به قوام.
أخبار ابن الرومي
ولد ابن الرومي - كما جاء في ابن خلكان - يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين ببغداد، في الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور.
وبحثنا كثيرا في الكتب التي عثرنا على شيء من أخباره فيها، فلم نجد ذكرا لأبويه وأهله، ولا لأيام حداثته وتعليمه، وانقطعت أخباره في هذه الفترة، فلم تقع لنا إلا النوادر التي رويت عنه، وهو شاعر لا تعرف سنه إلا بالنظر إلى تواريخ الوقائع التي وردت في شعره، فجاء في معجم الأدباء لياقوت الحموي أثناء الكلام على أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار: ... ووجدت في كتاب ألفه أبو الحسن علي بن عبيد الله بن المسيب الكاتب في أخبار ابن الرومي، وكان ابن المسيب هذا صديقا لابن الرومي وخليطا له قال: كان أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمار - هكذا قال في نسبه بتقديم محمد علي عبيد الله - صديقا لابن الرومي كثير الملازمة له، وكان ابن الرومي يعمل له الأشعار وينحله إياها يستعطف بها من يصحبه، وكان ابن عمار محدودا فقيرا وقاعة في الأحرار، وكان أيام افتقاره شديد السخط لما تجري به الأقدار في آناء الليل والنهار، حتى عرف بذلك، فقال له علي بن العباس بن الرومي يوما: يا أبا العباس، قد سميتك العزير، قال له: وكيف وقعت لي على هذا الاسم؟ قال: لأن العزير خاصم ربه بأن أسال من دماء بني إسرائيل على يدي بختنصر سبعين ألف دم، فأوحى الله: لئن لم تترك مجابهتي في قضائي لأمحونك من ديوان النبوة! وقال فيه:
وفي ابن عمار عزيرية
يشارك الله بها في القدر
لم كان ما كان ولم لم يكن
ما لم يكن، فهو وكيل البشر
إلخ إلخ.
وكتب ابن الرومي إلى أحمد بن محمد بن بشر المرثدي قصيدة يمدحه بها، ويهنئه بمولود ولد له، ويحضه على بر ابن عمار والإقبال عليه يقول فيها:
ولي لديكم صاحب فاضل
أحب أن يرعى وأن يصحبا
إلخ إلخ.
قال: «وصار محمد بن داود بن الجراح يوما إلى ابن الرومي مسلما عليه، فصادف عنده أبا العباس أحمد بن محمد بن عمار، وكان من الضيق والإملاق في النهاية، وكان علي بن العباس مغموما به، فقال محمد بن داود لابن الرومي ولأبي عثمان الناجم: لو صرتما إلي وكثرتما بما عندي لأنس بعضنا ببعض، فأقبل ابن الرومي على محمد بن داود فقال: أنا في بقية علة، وأبو عثمان مشغول بخدمة صاحبه - يعني إسماعيل بن بلبل - وهذا أبو العباس بن عمار له موضع من الرواية والأدب، وهو على غاية الإمتاع والإيناع بمشاهدته، وأنا أحب أن تعرف مثله، وفي العاجل خذه معك لتقف على صدق القول فيه.
فأقبل محمد بن داود على أحمد بن عمار، وقال له: تفضل بالمصير إلي في هذا اليوم. وقبله قبولا ضعيفا، فصار إليه ابن عمار في ذلك اليوم ورجع إلى ابن الرومي فقال: إني أقمت عند الرجل وبت، وأريد أن تقصده وتشكره وتؤكد أمري معه - ومحمد بن داود في هذا الوقت متعطل ملازم منزله - فصار إليه وأكد له الأمر معه، وطال اختلافه إليه إلى أن ولي عبيد الله بن سليمان وزارة المعتضد، واستكتب محمد بن داود الجراح وأشخصه معه وقد خرج إلى الجبل، ورجع وقد زوجه بعض بناته وولاه ديوان المشرق، فاستخرج لابن عمار أقساطا أغناه بها، وأجرى عليه أيضا من ماله، ولم يزل يختلف إليه أيام حياة محمد بن داود.
وكان السبب في أن نعشه الله بعد العثار وانتاشه من الإقتار ابن الرومي، فما شكر ذلك له، وجعل يتخلفه ويعيبه، وبلغ ابن الرومي ذلك فهجاه بأهاج كثيرة ... قال ابن المسيب: ومن عجيب أمر عزير هذا أنه كان ينتقص ابن الرومي في حياته، ويزري على شعره، ويتعرض لهجائه، فلما مات ابن الرومي عمل كتابا في تفضيله ومختار شعره، وجلس يمليه على الناس.»
وجاء في الجزء الأول من العمدة لابن رشيق:
وهجا ابن الرومي البحتري - وابن الرومي من علمت - فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط:
شاعر لا أهابه
نبحتني كلابه
إن من لا أعزه
لعزيز جوابه
وروى المرزباني في الموشح أن عبد الله بن يحيى العسكري أخبره عن أبي عثمان سعيد بن الحسن الناجم، أن البحتري قال له:
أشتهي أن أرى ابن الرومي! قال: فوعدته ليوم بعينه، وسألت ابن الرومي أن يصير إلي فيه، فأجابني إلى ذلك، فلما حصل ابن الرومي عندي وجهت إلى البحتري فصار إلي، فقال له البحتري: قد أقرأني أبو عيسى بن صاعد قصيدة لك في أبيه، وسألني عن الثواب عنها، فقلت: أعطوه لكل بيت دينارا، ثم تحدثا، فقال البحتري: عزمت على أن أعمل قصيدة على وزن قصيدة ابن الرومي الطائية في الهجاء، فقال له ابن الرومي: إياك والهجاء يا أبا عبادة، فليس من عملك وهو من عملي، فقال له: نتعاون. وعمل البحتري ثلاثة أبيات، وعمل ابن الرومي ثمانية، فلم يلحقه البحتري في الهجاء، وكان اجتماعهما عندي سببا للمودة بينهما.
وروى المرزباني أيضا في الموشح:
أخبرني محمد بن يحيى قال: كنت يوما عند عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فذكرنا قصيدة ابن الرومي في أبي الصقر التي أولها: «أجنت لك الوجد أغصان وكثبان»، فقال عبيد الله: هي دار البطيخ! فضحك الجماعة، فقال: اقرءوا تشبيبها فانظروا؛ هي كما قلت! قال محمد: وقد ملح عبيد الله وظرف، وهذه القصيدة أكثر من مائتي بيت مر له فيها إحسان كثير، ومن تشبيبها مما يدل على قول عبيد الله:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
فيهن نوعان تفاح ورمان
وفوق ذينك أعناب مهدلة
سود لهن من الظلماء ألوان
وتحت هاتيك عناب يلوح به
أطرافهن قلوب القوم قنوان
غصون بان عليها الدهر فاكهة
وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطل يضربه
وأقحوان منير النور ريان
ألفن من كل شيء طيب حسن
فهن فاكهة شتى وريحان
فلما سمع أبو الصقر قوله:
هذا الذي حكمت قدما بسؤدده
عدنان ثم أجازت ذاك قحطان
قالوا: أبو الصقر من شيبان، قلت لهم:
كلا - لعمري - ولكن منه شيبان
قال: هجاني والله! قيل له: هذا من أحسن المديح، اسمع ما بعده:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف
كما علا برسول الله عدنان
فقال: أنا بشيبان، ليس شيبان بي، قيل له: فقد قال:
ولم أقصر بشيبان التي بلغت
بها المبالغ أعراق وأغصان
لله شيبان، قوم لا يشيبهم
روع إذا الروع شابت منه ولدان
فقال: «والله لا أثيبه على هذا الشعر وقد هجاني فيه.» قال الشيخ أبو عبيد الله المرزباني - رحمه الله تعالى: «وهذا ظلم من أبي الصقر لابن الرومي، وقلة علم منه بالفرق بين الهجاء والمديح.»
وجاء في الجزء الثاني من زهر الآداب أن علي بن العباس الرومي كان مفرط الطيرة شديد الغلو فيها، قال عبد الله بن المسيب: وكان يحتج لها ويقول: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يحب الفأل، ويكره الطيرة، أفتراه كان يتفاءل بالشيء ولا يتطير من ضده؟ ويقول: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر برجل وهو يرحل ناقة ويقول: يا ملعونة. فقال: لا يصحبنا ملعون. وأن عليا - رضى الله عنه - كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب، ويزعم أن الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها، وأن بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض، وأن الأكثر في الناس إذا لقي ما يكرهه قال: على وجه من أصبحت اليوم؟ فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين وقد أهدي إلي عدة من جواري القيان، وكانت فيهن صبية حولاء، وعجوز في إحدى عينيها نكتة، فتطير من ذلك، ولم يظهر لي أمره، وأقام باقي يومه، فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت لي ابنة من بعض السطوح ، وجفاه القاسم بن عبيد الله، فجعل سبب ذينك المعينين المغنيتين، وكتب إلي:
أيها المحتفي بحول وعور
أين كانت منك الوجوه الحسان؟
قد - لعمري - ركبت أمرا مهينا
ساءني فيك أيها الخلصان
فتحك المهرجان بالحول والعو
ر أرانا ما أعقب المهرجان
كان من ذاك فقدك ابنتك الحر
ة مصبوغة بها الأكفان
وتجافي مؤمل لي جليل
لج فيه الجفاء والهجران
قلما غاب من أمورك عنوا
ن مبين، وللزمان لسان
لا تكن بالهوى تكذب بالأخ
بار حتى تهين ما لا يهان
لا يقدك الهوى إلى نصرة الأخ
بار حتى يقدم البرهان
إن عقبى الهوى هوى وعقبى
طول تلك المهونات هوان
لا تصدق عن النبيين إلا
بحديث يلوح فيه البيان
خبر الله إن مشأمة كا
نت لقوم وخبر القرآن
أفزور الحديث تقبل، أم ما
قاله ذو الجلال والفرقان؟
أترى من يرى البشير بشيرا
يمتري في النذير يا وسنان؟
فدع الهزل والتضاحك بالطي
رة والنصح مثمن مجان
جاء في ذلك الجزء بعد ذلك:
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، غلام أبي العباس المبرد، في عصر ابن الرومي شابا مترفا ومليحا مستظرفا، وكان يعبث به؛ فيأتيه بسحر فيقرع الباب، فيقال له: من؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن حنظلة! فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره، وذلك كان سبب هجائه إياه ... فاعتذر إليه، وتشفع عنده بجماعة من أهل بغداد - وكان الأخفش أكثر الناس إخوانا - فقبل عذره ومدحه بقصيدته التي يقول فيها:
ذكر الأخفش القديم فقلنا:
إن للأخفش الحديث لفضلا
إلخ إلخ، ثم عاد علي بن سليمان إلى أذاه، واتصل به أن رجلا عرض عليه قصيدة من شعره فطعن عليها، فقال قصيدته التي يقول فيها:
ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقرده
ولا أنا المفهم البهائم والط
ير سليمان قاهر المرده
فإن يقل إنني حفظت فكالد
فتر جهلا بكل ما اعتقده
سأسمع الناس ذمه أبدا
ما سمع الله حمد من حمده
وفي الوقائع بينه وبين الأخفش يقول الزبيدي تلميذ أبي علي القالي - وهو صاحب طبقات النحويين، المتوفى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة: «حدثني أبو علي قال: كان علي بن العباس الرومي لا يدع التطير والتفاؤل في جميع حركاته وتصرفه، وكان علي بن سليمان الأخفش قد أولع باعتراضه في مخارجه فيما يتطير به، فربما صرفه بذلك عن وجهه، وربما دق عليه الباب فإذا قال: من أنت؟ قال: الشؤم والبلاء! فلا يبرح علي بن العباس يوم ذاك، فلما شق عليه ذلك هجاه فأقذع في هجائه، فكان الأخفش يستعمل حفظ هجائه، ثم يمليه فيما يملي من الأخبار والأشعار على أصحابه، فلما رأى علي بن العباس أن الأخفش لا يألم لهجائه أقصر عنه.»
ويقول صاحب العمدة في هذه الوقائع بينه وبين الأخفش: «وقد مزقه بالهجاء كل ممزق، وجعله مثلة بين أصحابه، على أن الأخفش كان يتجلد عليه، ويظهر قلة المبالاة به، وهيهات وقد وسمه وسمة الدهر، وسامه سوم الخسف والقهر.»
والأقوال في طيرة ابن الرومي كثيرة، منها ما استطرد إلى ذكره صاحب زهر الآداب، حيث قال بعيد ما أسلفنا نقله:
ولابن الرومي في الأخفش إفحاش صنت الكتب عنه، قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي: كنت بداري جالسا فإذا حجارة سقطت بالقرب مني، فبادرت هاربا وأمرت الغلام بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية: من أين تأتينا الحجارة؟ فقال: امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد تشوفت وقالت: اتقوا الله فينا واسقونا جرة ماء وإلا هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها، ففعلت وبادرت بالجرة، وأتبعتها شيئا من المأكولات، ثم عادت إلي فقالت: ذكرت المرأة أن الباب عليها مقفل من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي؛ وذلك أنه يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على ثقب في خشب الباب، فتقع عينه على جار له كان نازلا بإزائه، وكان أحدب يقعد كل يوم على بابه، فإذا نظر إليه رجع وخلع ثيابه وقال: لا يفتح أحد الباب.
فعجبت لحديثها، وبعثت بخادم كان لي يعرفه ، فأمرته بأن يجلس بإزائه، وكانت العين تميل إليه، وتقدمت إلى بعض أعواني أن يدعوا الجار الأحدب، فلما حضر عندي أرسلت وراءه غلامي لينهض إلى ابن الرومي ويستدعيه الحضور، فإني لجالس ومعي الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتمد، ودخل ابن الرومي، فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر، فانقطع شسع نعله، فدخل مذعورا، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرا يدل على تغير حال، فدخل وهو لا يرى جاره المتطير منه، فقلت له: يا أبا الحسن، أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم، ونظرك إلى وجهه الجميل؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة لأني فكرت أن به عاهة وهي قطع أنثييه! قال برذعة: وشيخنا يتطير؟! قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: علي بن العباس، قال: الشاعر؟ قلت: نعم، فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه
بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت إلى نفسي فوطنتها على
ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها
فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسة من كل يوم تعيشه
وكن حذرا من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح
تطير جار أو تفاؤل صاحب
فبقي ابن الرومي باهتا ينظر إليه، ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي لا يتطير أبدا من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره، فقلت: وهذا الفكر أيضا من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه وحسن مأتاه، فقلت له: ليتنا كتبناه! قال: اكتبه؛ فقد حفظته. وأملاه علي.
ومن شدة حذره وعظيم تطيره قوله لأبي العباس بن ثوابة وقد ندبه إلى الخروج إليه وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع
لك الخير تحذيري شرور المحاطب
ومن يلق ما لاقيت في كل محنة
من الشوك يزهد في الثمار الأطايب
أذاقتني الأسفار ما كره الغنى
إلي وأغراني برفض المطالب
ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
فصبري على الإقتار أيسر مطلبا
علي من التغرير بعد التجارب
إلخ إلخ.
وهي طويلة وفيما مر كفاية تنبئ عنه وتدل عليه، ولو مددت أطناب الاختيار لتتبع هذا النحو من شعره لخرجت عن غرض الكتاب.
وفي الجزء الأول من العمدة أنه: «كان كثير الطيرة ربما أقام المدة الطويلة لا يتصرف تطيرا بسوء ما يراه ويسمعه، حتى إن بعض إخوانه من الأمراء افتقده، فأعلم بحاله في الطيرة، فبعث إليه خادما اسمه إقبال ليتفاءل به، فلما أخذ أهبته للركوب قال للخادم: انصرف إلى مولاك! فأنت ناقص، ومعكوس اسمك لابقا ... وابن الرومي القائل: الفأل لسان الزمان، والطيرة عنوان الحدثان، وله فيه احتجاجات وشعر كثير.»
وقال علي بن عبد الرحمن العباسي - صاحب معاهد التنصيص، المتوفى سنة ثلاث وستين وتسعمائة: «كان كثير التطير جدا، وله فيه أخبار غريبة، وكان أصحابه يعبثون به فيرسلون إليه من يتطير من اسمه، فلا يخرج من بيته أصلا، ويمتنع من التصرف سائر يومه، فأرسل إليه بعض أصحابه يوما بغلام حسن الصورة اسمه حسن، فطرق الباب عليه فقال: من؟ قال: حسن، فتفاءل به وخرج، وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها درفتين كهيئة اللام ألف، ورأى تحتها نوى تمر، فتطير وقال: هذا يشير بأن لا تمر، ورجع ولم يذهب معه. وكان الأخفش علي بن سليمان قد تولع به فكان يقرع عليه الباب إذا أصبح، فإذا قال: من القارع؟ قال: مرة بن حنظلة! ونحو ذلك من الأسماء التي يتطير بذكرها، فيحبس نفسه في بيته ولا يخرج يومه أجمع، وكتب إليه ينهاه ويتوعده بالهجاء.»
وجاء في هذا الكتاب قبل ذلك: ... حكى ابن درستويه أن لائما لامه فقال له: لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال: ألا تنشدني شيئا من قوله الذي استعجزتني عن مثله؟ فأنشده قوله في الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال له: زدني. فأنشده قوله في الآذريون الأصفر، وهو زهر أصفر في وسطه خمل أسود، وليس بطيب الرائحة، والفرس تعظمه بالنظر إليه وفرشه في المنزل :
كأن آذريونها
والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب
فيها بقايا غالية
فصاح وا غوثاه! تالله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها! ذاك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن خليفة، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظر إذا أنا وصفت ما أعرف: أين يقع قولي من الناس؟ هل لأحد قط مثل قولي في قوس الغمام:
وساق صبيح للصبوح دعوته
فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم
فمن بين منقض علينا ومنفض
وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا
على الجود كنا والحواشي على الأرض
يطرزها قوس السحاب بأخضر
على أحمر في أصفر إثر مبيض
كأذيال خود أقبلت في غلائل
مصبغة والبعض أقصر من بعض
وبعضهم ينسبها لسيف الدولة بن حمدان، منهم صاحب اليتيمة.
وقولي في صانع الرقاق:
إن أنس لا أنس خبازا مررت به
يدحو الرقاقة مثل اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يلقى فيه بالحجر
وقولي في قالي الزلابية:
ومستقر على كرسيه تعب
روحي الفداء له من منصب نصب
رأيته سحرا يقلي زلابية
في رقة القشر والتجويف كالقصب
كأنما زيته المقلي حين بدا
كالكيمياء التي قالوا ولم تصب
يلقى العجين لجينا من أنامله
فيستحيل شبابيكا من الذهب
وفي الجزء الثاني من زهر الآداب: «كان ابن الرومي منهوما في المآكل، وهي التي قتلته، وكان معجبا بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة لا تنقطع، فبعث إليه يوم سبت ثم قطعه، فقال:
ما لحيتاننا جفتنا وأنى
أخلف الزائرون منتظريهم
جاء في السبت زورهم فأتينا
من حفاظ عليه ما يكفيهم
وجعلناه يوم عيد عظيم
فكأنا اليهود أو نحكيهم
وأراهم مصممين على الهج
ر، فلم يسخطون من يرضيهم؟
قد سبتنا وما أتتنا وكانوا
يوم لا يسبتون لا تأتيهم؟
فاتصل ذلك بالناجم فكتب إلى ابن الرومي:
أبا حسن أنت من لا نزال
نحمد في الفضل رجحانه
فكم تحسن الظن بالمرثدي
وقد قلل الله إحسانه!
ألم تدر أن الفتى كالسراب
إذا وعد الوعد إخوانه؟
فبحر السراب يفوت القلوب
فقل في طلابك حيتانه!
وخرج ابن الرومي إلى بعض المتنزهات، وقصدوا كرما رازقيا فشربوا هناك عامة يومهم، وكانوا يتهمونه في شعره، فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئا، فقال: لا تريموا حتى أقول فيه، وأنشدهم لوقته:
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
إلخ إلخ.»
وفي الجزء الأول من هذا الكتاب: وكان ابن الرومي لا يزال معتما، وكان يغضب إذا سئل عن ذلك، وسأله بعض الرؤساء: لم تعتم؟ فقال بديها:
يا أيها السائلي لأخبره
عني: لم لا أراك معتجرا؟
أستر شيئا لو كان يمكنني
تعريفه السائلين ما سترا
وقد بين العلة التي أوجبت اعتمامه في قوله:
تعممت إحصانا لرأسي برهة
من القر يوما والحرور إذا سفع
فلما دهى طول التعمم لمتي
وأودى بها بعد الإطالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلة
لتستر ما جرت علي من الصلع
فيا لك من جان علي جناية
جعلت إليه من جنايته الفزع!
وأعجب شيء كان دائي جعلته
دوائي على عمد، وأعجب بأن نفع!
وفي الجزء الثالث من هذا الكتاب: قالوا: وكان الناس يتشوقون إلى أوطانهم ولا يفهمون العلة في ذلك حتى أوضحها علي بن العباس الرومي، في قصيدة لسليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه على رجل من التجار يعرف بابن أبي كامل أجبره على بيع داره، واغتصبه بعض جدرها بقوله:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عمرت به شرخ الشباب منعما
بصحبة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا
إلخ إلخ.
وقال علي بن عبد الكريم النصيبي: أتاني أبو الحسن بن الرومي بقصيدته هذه، وقال: أنصفني وقل الحق، أيهما أحسن قولي في الوطن أو قول الأعرابي:
أحب بلاد الله ما بين منعج
إلي وسلمى أن يصوب سحابها
بلاد بها نيطت علي تمائمي
وأول أرض مس جلدي ترابها
فقلت: بل قولك؛ لأنه ذكر الوطن ومحبته، وأنت ذكرت العلة التي أوجبت ذلك ...
وتخلف سليمان عن نصرة ابن الرومي، فذاك الذي هاجه على هجائه، فمن ذلك قوله وقد خرج في بعض الوجوه فرجع مهزوما:
جاء سليمان بني طاهر
فاهتاج معتز بني المعتصم
كأن بغداد وقد أبصرت
طلعته نائحة تلتدم
مستقبل منه ومستدبر
وجه بخيل وقفا منهزم
وقال:
قرن سليمان قد أضر به
شوق إلى وجهه سيتلفه
كم يعد القرن باللقاء! وكم
يكذب في وعده ويخلفه!
لا يعرف القرن وجهه ويرى
قفاه من فرسخ فيعرفه!
وقال المعري في رسالة الغفران: «أما ابن الرومي فهو أحد من يقال: إن أدبه كان أكثر من عقله، وكان يتعاطى علم الفلسفة، واستعار من أبي بكر بن السراج كتابا فتقاضاه به، فقال ابن الرومي: لو كان المشتري حدثا لكان عجولا. والبغداديون يدعون أنه متشيع ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية، وما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء، ومن أولع بالطيرة لم ير فيها من خيرة.»
أما وفاته ففيها يقول المسعودي في كتابه مروج الذهب: «وممن أهلك القاسم بن عبيد الله على ما قيل بالسم في خشكنانجة علي بن العباس بن جريج الرومي، وكان منشؤه ببغداد ووفاته بها، وكان من مختلقي معاني الشعراء، والمجودين في القصير والطويل، متصرفا في المذاهب تصرفا حسنا، وكان أقل أدواته الشعر ... وكان ابن الرومي الأغلب عليه من الأخلاط السوداء، وكان شرحها نهما، وله أخبار تدل على ما ذكرناه من هذه الجمل مع أبي سهل إسماعيل النوبختي وغيره من آل النوبخت.»
واختلفت الروايات في قتله، فقال الشريف المرتضي في أماليه:
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الكاتب قال: حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني الباقطاني، قال: اتصل بعبيد الله بن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم ابنه، وسمع شيئا من أهاجيه، فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا. فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده، فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه، فرآه مضطرب العقل جاهلا، فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقاربه عند أول عتب، ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك! فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا ويذيعه في تمكننا، فقال: يا بني، إني لم أرد بإخراجك له طرده، فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:
فقلت لها سرا: فديناك لا يرح
سليما، وإن لا تقتليه فألممي
فحدث القاسم ابن فراس بما جرى، وكان أعدى الناس لابن الرومي، وقد هجاه بأهاج قبيحة، فقال له: الوزير - أعزه الله - أشار بأن يغتال حتى يستراح منه، وأنا أكفيك ذلك ... فسمه في الخشكنانج فمات ... قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراس وإنما قتله عبيد الله. قال ابن الرومي لما رجع إلى داره وقد دب السم في أعضائه شعرا:
أشرب الماء إذا ما تلتهب
نار أحشائي لإطفاء اللهب
فأراه زائدا في حرقتي
فكأن الماء للنار حطب
هذه رواية.
واعتمد ابن خلكان رواية أخرى فقال: توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل: سنة أربع وثمانين، وقيل: ست وسبعين ومائتين ببغداد، ودفن في مقبرة باب البستان، وكان سبب موته - رحمه الله تعالى - أن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراش «هكذا»، فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم فقام، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي! فقال له: ما طريقي على النار! وخرج من مجلسه وأتى منزله وأقام أياما ومات، وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط في بعض العقاقير، وقال إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه، فقلت له: ما حالك؟ فأنشد:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب وإنما
غلط الطبيب إصابة المقدار
وقال أبو عثمان الناجم الشاعر: دخلت على ابن الرومي أعوده، فوجدته يجود بنفسه، فلما قمت من عنده قال لي:
أبا عثمان، أنت حميد قومك
وجودك للعشيرة دون لومك
تزود من أخيك فما أراه
يراك ولا تراه بعد يومك!
وللناجم قصة عن وفاة ابن الرومي، رواها ابن القارح في رسالته إلى المعري، وفيها يقول:
دخلت عليه في علته التي مات فيها، وعند رأسه جام فيه ماء مثلوج، وخنجر مجرد لو ضرب به صدر خرج من ظهر، فقلت: ما هذا؟ قال: الماء أبل به حلقي، فقلما يموت إنسان إلا وهو عطشان، والخنجر إن زاد علي الألم نحرت نفسي، ثم قال: أقص عليك قصتي تستدل بها على حقيقة تلفي: أردت الانتقال من الكرخ إلى باب البصرة، فشاورت صديقنا أبا الفضل، وهو مشتق من الأفضال، فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عن يمينك، وهو مشتق من اليمن، واذهب إلى سكة النعيمة، وهو مشتق من النعيم، فاسكن دار ابن المعافي، وهو مشتق من العافية. فخالفته لتعسي ونحسي، وشاورت صديقنا جعفرا، وهو مشتق من الجوع والفرار، فقال: إذا جئت القنطرة فخذ عن شمالك، وهو مشتق من الشؤم، واسكن دار ابن قلابة، وهي هذه لا جرم قد انقلبت بي الدنيا، وأضر ما علي العصافير في هذه السدرة تصيح «سيق سيق»، فها أنا في السياق، ثم أنشدني:
أبا عثمان أنت قريع قومك
وجودك في العشيرة دون لومك
تمتع من أخيك فما أراه
يراك ولا تراه بعد يومك!
وألح به البول، فقلت له: البول ملح بك، فقال:
غدا ينقطع البول
ويأتي الويل والغول
ألا إن لقاء الله
هول دونه الهول
ومات من الغد.
وروى صاحب زهر الآداب اتفاقا أن ابن الرومي فصد في مرض وفاته من سياق قصته عن بعض معانيه المأخوذة، حيث يقول في الجزء الأول من الكتاب:
دخل يحيى بن خالد على الرشيد وقد ابتدأت حاله في التغير، فأخبر أنه مشغول فرجع، فبعث إليه الرشيد: خنتني فاتهمتني، فقال: إذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة، والله ما انصرفت إلا تخفيفا. أخذه ابن الرومي فقال وقد فصده بعض الأطباء، فزعم أن الفصد زاد في علته: غلط الطبيب إلى آخر البيتين ... ولهذه القصة قيمتها فيما يلي من البحث في أسباب وفاته.
هذه أنفع الأخبار التي وردت في ترجمته، أما ديوانه فقد جاء عنه في الفهرست لابن النديم أن شعره «كان على غير الحروف، رواه عنه المسيبي، ثم عمله الصولي على الحروف، وجمعه أبو الطيب وراق ابن عبدوس من جميع النسخ، فزاد عن كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت.»
ثم ذكر أسماء رواته وعدة الأوراق التي كتبوها من شعره؛ وهم:
مثقال غلام ابن الرومي مائة ورقة، ورواه أبو الحسن علي بن العصب الملحي عن مثقال عن ابن الرومي.
ابن الحاجب غلام ابن الرومي مائة ورقة، أحمد بن أبي قر الكاتب مائة ورقة، خالد الكاتب - وعمله الصولي - مائتا ورقة.
والصولي هو أبو بكر الصولي الحافظ الراوية المشهور.
الفصل الثالث
حياة ابن الرومي
كما تؤخذ من معارضة أخباره على شعره
ذلك كل ما عثرنا عليه من أخبار ابن الرومي متفرقا في كتب الأدب والتاريخ، لم نترك منه إلا نبذا قليلة تجيء في مواضعها من فصول هذا الكتاب، وإلا الفضول الذي لا ينتظم في مادة الترجمة ولا يزيدنا علما بالرجل أو بأدبه وشعره.
وكل هذا الذي عثرنا عليه وما يشابهه في مادته لا يجزئ في ترجمة وافية، أو فيما يقرب من ترجمة وافية؛ لأنه مفرط الزيادة في مواضع، ومفرط النقص في مواضع أخرى، وبين أجزائه فجوات بعيدة لا تترك خلوا، ولا حيلة لنا الآن في ملئها، فلا خبر عن صباه ولا عن دراسته ولا عن أهله، ولا عن أمر مفصل موثوق به من أمور معيشته، وبغير هذه العناصر الجوهرية لا تقوم ترجمة، ولا يكمل تصوير رجل، وعلى هذه القلة في الأخبار التي بين أيدينا لا نراها تسلم من الخطأ حينا، ومن المبالغة أحيانا، فنحن - على حد المثل الذي اخترناه - كمن يؤتى له بعظام ناقصة ليبني منها بنية جسم كامل، وفيها مع هذا عظام مدسوسة لا تدخل في بنية الجسم الذي يراد تركيبه!
إلا أن ابن الرومي يعوضنا بعض العوض من ذلك النقص الكبير بخاصة فريدة فيه ليست في غيره من الشعراء هي: مراقبته الشديدة لنفسه، وتسجيله وقائع حياته في شعره.
فما من أحد كان له شأن في حياته إلا وجدت اسمه في ديوانه ممدوحا أو مهجوا أو موصوفا أو مردودا عليه، وما عاب أحد مشيته أو أكله أو لبسه العمامة أو طريقته في النظم إلا كان لذلك خبر مفيد في ديوانه، ولم يعرف عنه أنه كان يشتهي طعاما أو فاكهة إلا وذلك معروف من شعره قبل أن يعرف من نوادر المتحدثين عنه، وما خاطر طويته خلق محمود أو مذموم إلا شهد به على نفسه كأنه في حرج من أمر كتمانه.
أقر على نفسي بعيبي لأنني
أرى الصدق يمحو بينات المعايب
لؤمت - لعمر الله - فيما أتيته
وإن كنت من قوم كرام المناصب
ولا بد من أن يلؤم المرء نازعا
إلى الحمأ المسنون ضربة لازب
على أنه يشهد بخلة الكذب على نفسه كما يشهد لها بهذا الصدق المقرون بإظهار العيوب، فيقول في أصرح عبارة:
وإني لذو حلف كاذب
إذا ما اضطررت وفي الأمر ضيق
وهل من جناح على مرهق
يدافع بالله ما لا يطيق؟!
ويقول في تسجيله حرصه وجبنه:
وأصبحت في الإثراء أزهد زاهد
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
حريصا جبانا أشتهي ثم أنتهي
بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي
ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب
ويتوهم أن أناسا سيعيبون مجونه في مجلس الشراب، ويرون أنه لا يليق بما يدعي من العلم والوقار، فيسبقهم إلى ذاك ويقول:
وأرى أن معشرا سيقولو
ن: سخيف من الرجال لعوب
أين عنه وقار ما يدعيه
من علوم لحامليها قطوب؟
ولعمري إن الحكيم وقور
ولعمري إن الكريم طروب
ويحس دبيب الشيخوخة في مآرب نفسه وخلجات قلبه؛ فيخشى أن يفوته تسجيل ذلك كله كأنه محاسب عليه معاقب على تفويته، فيقول لقرائه:
اكتهلت همتي فأصبحت لا
أبهج بالشيء كنت أبهج به
وحسب من عاش من خلوقته
خلوقة تعتريه في أربه
وهكذا في الصغائر والكبائر، وفي وقائع العيش وخواطر السريرة، وفيما يلقى به الناس ويلقى به الله.
وقد تجد في الشعراء من تتعرف بعض وقائعه من قراءة شعره، ومن تستطلع خلائقه من ثنايا كلامه، ولكن ابن الرومي لا يحوجك إلى التعرف والاستطلاع؛ لأنه يعفيك من الملاحظة بما يقوم به هو من ملاحظة نفسه، وتقييد شوارد فكره، وهمسات فؤاده، وسبحات أحلامه، فكأنما هو رقيب على بواطنه وظواهره، وكأنما أعطي نفسه ليجربها ويقيد تجاربه فيها! فكان ديوان شعره كناشة الرقابة أعدها ليحصي فيها كل ما يحصيه الرقيب الحسيب.
هذه الخصلة في الشاعر تعوضنا كثيرا مما ضيعته التواريخ من حوادثه وأوصافه، فعلى ما جاء في ديوانه نعتمد في تصحيح الأخبار المسطورة وتكميلها على وجه نستوفي به الترجمة جهد المستطاع، فهو حسبك من مترجم لحياته وصافة لحقيقته. ولولا أن الشعر لا يسجل الأرقام ولا يتقصى كل ما فات الشاعر قبل أن يصبح شاعرا؛ لكان هو حسبك من رواية لا تحتاج بعده إلى تدوين رواية.
أصله ونشأته «ولد أبو الحسن علي بن العباس بن جريج الرومي يوم الأربعاء بعد طلوع الفجر، لليلتين خلتا من رجب سنة إحدى وعشرين ومائتين، ببغداد في الموضع المعروف بالعقيقة ودرب الختلية في دار بإزاء قصر عيسى بن جعفر بن المنصور.»
وقد رجعنا إلى كتب المضاهاة بين التاريخ الهجري والتاريخين الميلادي والقبطي، فوجدنا في كتاب «التوفيقات الإلهامية»، لصاحبه محمد مختار باشا، أن أول رجب من تلك السنة يوافق الثلاثاء، الذي يقع في العشرين من شهر يونيو سنة 835 ميلادية، وفي السادس والعشرين من شهر بؤنة سنة 512 قبطية، فاليوم الثاني من رجب هو يوم أربعاء، وهو مما يحقق صحة تاريخ المولد الذي لم يختلف فيه مؤرخوه.
وكان ابن الرومي مولى لعبد الله بن عيسى بن جعفر بن المنصور، وجعفر هو الابن الثاني للمنصور لم يتول الملك، ولم تكن له ولاية عهد، ولا كانت بعده لأحد من ولده الذين نشأ فيهم الشاعر.
ولا يدع ابن الرومي مجالا للشك في أصله الرومي، فإنه يذكره ويؤكد في مواضع شتى من ديوانه كقوله:
ونحن بنو اليونان قوم لنا حجى
ومجد وعيدان صلاب المعاجم
وقوله في مدح بعض مواليه من بني العباس:
ومتى اختل ابن روميكم
فأياديكم حرى منه قمن
وقوله فيهم:
مولاهم وغذي نعمتهم
والروم، حين تنصني، أصلي
وغير ذلك كقوله:
قد تحسن الروم شعرا
ما أحسنته العريب
و:
آبائي الروم توفيل وتوفلس
ولم يلدني ربعي ولا شبث
و:
يا بني السمري قد لزمتكم
حرمة الروم - ويحكم - فاحفظوني
و:
إذا ما حكمت والروم أهلي
في كلام معرب كنت أهلا
و:
إذا الشاعر الرومي أطرى أميره
فناهيك من مطرى وناهيك من مطر
و:
إن لم أزر ملكا أشجى الخطوب به
فلم يلدني أبو الأملاك يونان
بل إن تعدت فلم أحسن سياستها
فلم يلدني أبو السواس ساسان
أو كقوله - وهو كما تقدم في نسب أبيه وأمه:
كيف أغضي على الدنية والفر
س خئولي والروم أعمامي؟!
واسم جده مع هذا جريج أو جورجيس، وهو اسم يوناني لا شبهة فيه، فلا معنى إذن للشك في أصله، ولا ينبغي الالتفات إلى من قال: إنه سمي ابن الرومي لجماله في صباه.
أبوه
ولم يرد لأبي الشاعر ذكر خاص في ديوانه، إلا حيث يقول من قصيدة بائية يذكر فيها مناقبه ومناقب آبائه:
وكم من أب لي ماجد وابن ماجد
له شرف يربي على الشرف المربي!
إذا أمطرت كفاه بالبذل نورت
له الأرض واهتزت رياها من الخصب
وإلا حيث يقول:
شاد لي السور بعد توطئة الأ
س أب قال: أنت للشرف
والبيتان الأولان فخر يراد به وقع الكلام، واستيفاء باب من أبواب الشعر التي كان الشعراء ينظمون فيها من نسيب ومدح ورثاء وهجو وفخر ونحوها، فليس فيه خبر ولا رواية، ولكنه معالجة فنية كهذه الموضوعات التي يعالجها الشاعر المعاصر لتصوير الأطوار النفسية، ووضع الأماثيل على لسان الحال، ثم لا يعني بها الإخبار عن نفسه وإن جاءت بضمير المتكلم، وقد كان الشاعر القديم يأبى أن يخلو ديوانه من باب من أبواب الشعر المعروفة، ويأنف أن يظن به التقصير في واحد منها؛ فهو لهذا يشبب ويفخر، ويقول في الفخر ما يهول وقعه لا ما يصدق خبره! والفخر على هذا الاعتبار عمل فني يؤخذ على هذا المعنى، ولا يستمد منه التاريخ أو يرجع إليه في تقرير الوقائع.
والبيت الثالث يلحق بهذين البيتين في الفخر والإشادة بالنسب من ناحية «الفن» لا من ناحية «التاريخ»، إلا أننا نستخلص منه أن أباه كان يتوسم فيه الذكاء، ويرجو أن يشرف بعلمه وأدبه، كما شرف بالعلم والأدب كثيرون من أبناء الموالي ارتفعوا إلى مناصب الوزارة من طريق الكتابة والمساجلة ومعاشرة العظماء المتأدبين. وكان أبوه صديقا لبعض العلماء والأدباء منهم محمد بن حبيب الراوية الضليع في اللغة والأنساب، فكان الشاعر يختلف إليه لهذه الصداقة، وكان محمد بن حبيب يخصه لما يراه من ذكائه وحدة ذهنه، وحدث الشاعر عنه فقال: «إنه كان إذا مر به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي: «يا أبا الحسن، ضع هذا في تامورك».»
1
ونرجع أنه فقد أباه وهو صغير لم ييفع؛ لأنه لم يرثه حين وفاته مع أنه قال الشعر وهو صبي في المكتب؛
2
ولأنه كان يسمي أخاه «والدا» كأنما كان له عليه فضل تربية وكفالة.
أمه
وقد علمنا أن أمه كانت فارسية من قوله: «الفرس خئولي والروم أعمامي.» وقوله: «فلم يلدني أبي السواس ساسان.» بعد أن رفع نسبه إلى «يونان» من جهة أبيه، ولا يخفى أن انتماءه إلى ساسان لا يقصد به أنه من أبناء الملوك الساسانيين، وإنما هو كقول المصري اليوم: إنه من أبناء الفراعنة. ولا علاقة في النسب بينه وبينهم.
وربما كانت أمه من أصل فارسي، ولم تكن فارسية قحا لأبيها وأمها، وهذا هو الأرجح؛ لأنه علمه بالفارسية - كما سيأتي - لم يكن علم رجل نشأ في حجر أم تتكلم هذه اللغة، ولا تحسن الكلام بغيرها.
وماتت أمه وهو كهل أو مكتهل كما يقول في رثائها:
أقول - وقد قالوا: أتبكي كفاقد
رضاعا، وأين الكهل من راضع الحلم؟
هي الأم - يا للناس - جرعت فقدها
ومن يبك أما لم تذم قط لا يذم
وكانت تقية صالحة رحيمة كما يؤخذ من أبياته في رثائها:
لقد فجعت فيك الليالي نفوسها
بمحيية الأسحار حافظة العتم
ولم تخطئ الأيام فيك فجيعة
بصوامة فيهن طيبة الطعم
وفات بك الأيتام حصن كنافة
دفيء عليهم ليلة القر والشبم
رجعنا وأفردناك غير فريدة
من البر والمعروف والخير والكرم
فلا تعدمي أنس المحل فطالما
عكفت فآنست المحاريب في الظلم
وجزع عليها جزعا شديدا ينم عليه قوله:
ألا من أراه صاحبا غير خائن
ألا من أراه مؤنسا غير محتشم
ألا من تليني منه في كل حالة
أبر يد برت بذي شعث يلم
ألا من إليه أشتكي ما ينوبني
فيفرج عني كل غم وكل هم
نبا ناظري يا أم عن كل منظر
وسمعي عن الأصوات بعدك والنغم
وأصبحت الآمال - مذ بنت - والمنى
غوادر عندي غير وافية الذمم
وصارمت خلاني وهم يصلونني
وقد كنت وصال الخليل وإن صرم
وآنسني فقد الجليس وأوحشت
مشاهده نفسي، ولم أدر ما اجترم
وكانت لها أخت ماتت قبلها، فهو يقول إذ يرثيها: إنه كان له جناحان من عطفها وعطف أمه:
أراني وأمي بعد فقدان أختها
وإن كنت في رفه بها وصلاح
كفرخ قطاة الدو بان جناحه
فباء إلى حصن بفرد جناح
أخوه
ويظهر أن أبويه لم يعقبا من البنين غيره وغير أخيه محمد المكنى أبا جعفر، وهو أكبر منه لأنه يقول:
بأخي بل بوالدي بل بنفسي
وهو يتفجع بذكراه، وشقيقه لأنه يقول في موضع آخر:
بأخ شقيق بعد أم برة
بالأمس قطع منهما أقرانه
ويذكره بمثل ذلك في غير موضع.
وكل ما وصل إلينا عن هذا الأخ قصة جاءت في ديوان الشاعر نعلم منها أنه كان أديبا: «وكان يكتب لرجل فعزل بعد مدة، فعبث به آل أبي شيخ أصدقاؤه وقالوا: عزله شؤمك. وكان بين آل أبي شيخ وابن سعدان - مؤدب المؤيد - مودة، فخرجوا إليه في أيام المؤيد فأقاموا مدة، وكان من المؤيد ما كان وتشتت أصحابه، فكتب إليهم أبو جعفر يولع
3
بهم ويقول: إن شؤمي عزال وشؤمكم قتال، وسيأتيكم في هذا نظم علي بن العباس - يعني أخاه.» ومن ذلك النظم قوله:
أنا شؤمي فيما تقولون عزا
ل ولكن شؤمكم قتال
بالذي أدرك المؤيد منكم
وابن سعدان تضرب الأمثال
زرتموه والصالحات عليه
مقبلات فأدبر الإقبال •••
إن شؤما حلت به عقدة المل
ك لشؤم تزول منه الجبال
ونعلم من هذه القصة أن محمدا عاش إلى سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وهي السنة التي قتل فيها المؤيد، وكان ابن الرومي في تلك السنة قد بلغ الحادية والثلاثين، فالأرجح أن محمدا قد عاش بعدها بضع سنوات؛ لأن الشاعر ذكره في رثاء أمه حيث قال: «أقاسي وصنوي منه كل شديدة.» أي ذكره وهو كهل جاوز الحادية والثلاثين؛ لأنه كان كهلا حين ماتت أمه كما مر بنا في رثائها، والحادية والثلاثون ليست بسن كهولة، إلا أن يكون الذين لاموا الشاعر لفرط جزعه على أمه قد تعمدوا تكبير سنه لاستيجاب الملام.
ونرى في موضعين من الديوان أبياتا يستعطف بها الشاعر لأخيه رئيسا غضب عليه، وكأن أخاه مات وهو يعمل في خدمة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أحد أركان بيت بني طاهر المشهور في دولة بني العباس؛ فإن الشاعر يقول من قصيدة يخاطب بها عبيد الله، ويذكر أخا شقيقا مات بعد أم برة:
فليحيه الملك الهمام فلم يفت
محياه قدرته ولا سلطانه
وحياته لي أن أقوم مقامه
وأسد من دار الأمير مكانه
فالشاعر يتكلم عن نفسه على ما نرجحه كثيرا، ويطلب أن يحل في دار عبد الله محل أخيه،
4
والمجزوم به بعد هذا كله أن محمدا مات بعد موت المؤيد، وأنه كان على شيء من الأدب ومعرفة الكتابة، وحب العبث والدعابة.
وقد حزن عليه ابن الرومي حزنا طويلا ملحا بقي يعاوده إلى آخر أيامه، فلم يفتأ يذكره ويعيد ذكره في شعره إذا مدح أو عتب أو استعبر، ومن ذاك أنه قال يرثيه:
وتسليني الأيام لا أن لوعتي
ولا حزني كالشيء ينسى فيعزب
ولكن كفاني مسليا ومعزيا
بأن المدى بيني وبينك يقرب
وقال لصاحب كان يحسده ويغري به:
أيها الحاسدي على صحبتي العس
ر وذمي الزمان والإخوانا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ليت شعري ماذا حسدت عليه
أيها الظالمي إخائي عيانا؟
أعلى أنني ظمئت وأضحى
كل من كان صاديا ريانا؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أم على أنني ثكلت شقيقي
وعدمت الثراء والأوطانا؟
وقال وهو يعاتب القاسم بن عبيد الله:
أنا ذاك الذي سقته يد السق
م كئوسا من المرار رواء
ورأيت الحمام في الصور الشن
ع، وكانت لولا القضاء قضاء
ورماه الزمان في شقة النف
س فأصمى فؤاده إصماء
وقد مرض واشتد مرضه بعد موته، فهو يقول حين أجلي عن مسكنه:
فيه عافاني الإله من الشك
و وفك البلاء عني كبوله
بعد جهد حملت منه ضروبا
ليس أثقالهن بالمحموله
ومصاب بشقة النفس مني
ضمن الجسم سقمه ونحوله
ولم يبق لابن الرومي بعد موت ذلك الأخ الوحيد أحد يعول عليه من أهله، أو من يحسبون في حكم أهله، إلا أناس من مواليه الهاشميين العباسيين كانوا يبرونه حينا، ويتناسونه أحيانا، وكان هو لعهد الهاشميين الطالبيين أحفظ منه لعهد الهاشميين العباسيين، كما يظهر مما يلي. أما ابن عمه الذي أشار إليه في قوله:
لي ابن عم يجر الشر مجتهدا
إلي قدما، ولا يصلي له نارا
يجني، فأصلى بما يجني، فيخذلني
وكلما كان زندا كنت مسعارا
فلا ندري أهو ابن عم لح أو ابن عم كلالة، ومبلغ ما بينهما من صلة المودة ظاهر من البيتين.
أولاده وزوجته
ورزق ابن الرومي ثلاثة أبناء؛ هم: هبة الله، ومحمد، وثالث لم يذكر اسمه في ديوانه، ماتوا جميعا في طفولتهم ورثاهم بأبلغ وأفجع ما رثى به والد أبناءه، وقد سبق الموت إلى أوسطهم محمد فنظم في رثائه الدالية المشهورة التي يقول منها:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد؟
على حين شمت الخير في لمحاته
وآنست من أفعاله آية الرشد
ومنها في وصف مرضه.
لقد قل بين المهد واللحد لبثه
فلم ينس عهد المهد إذ ضم في اللحد
ألح عليه النزف حتى أحاله
إلى صفرة الحادي عن حمرة الورد
وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القضيب من الرند
ويذكر فيها أخويه الآخرين:
محمد ما شيء توهم سلوة
لقلبي، إلا زاد قلبي من الوجد
أرى أخويك الباقيين كليهما
يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذعا
فؤادي بمثل النار عن غير ما عمد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة
يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
فابنه محمد إذن قد مات منزوفا في حياة أخويه الصغيرين، وهو فيما بين الرابعة والخامسة؛ لأنه يقول فيه: «لقد قل بين المهد واللحد لبثه.» ويقول: «وظل على الأيدي تساقط نفسه.» وإنما يحمل الطفل المريض على الأيدي في مثل تلك السن، ولا يحتمل أن يكون أصغر من ذلك؛ لأن أخاه الصغير كان في سن اللعب، وهي لا تكون قبل الثالثة ونحوها، أما ابنه هبة الله فقد ناهز الشباب على ما يفهم من قوله في رثائه:
يا حسرتا فارقتني فننا
غضا، ولم يثمر لي الفنن
والبيت من قطعة مرة دفينة الحزن أشبه بالنشيج منها بالنحيب يقول فيها:
أبني إنك والعزاء معا
بالأمس لف عليكما كفن
تالله لا تنفك لي شجنا
يمضي الزمان وأنت لي شجن
ما أصبحت دنياي لي وطنا
بل حيث دارك عندي الوطن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أولادنا أنتم لنا فتن
وتفارقون فأنتم محن
وكأنها لم تشف لوعته أو كأنه لام نفسه على حزنه الصامت، فعاد يقول وهو موزع القلب بين الصبر والجزع:
شجى أن أروم الصبر عنك فيلتوي
علي، ولؤم أن يساعدني الصبر
فيا حزني ألا سلو يطيعني
ويا سوءتي من سلوتي، إنها غدر
وفي الديوان أبيات بائية يرثي بها ابنا لم يذكر اسمه، وهي هذه الأبيات:
حماه الكرى هم سرى فتأوبا
فبات يراعي النجم حتى تصوبا
أعيني جودا لي فقد جدت للثرى
بأكثر مما تمنعان وأطيبا
بني الذي أهديته أمس للثرى
فلله ما أقوى قناتي وأصلبا
فإن تمنعاني الدمع أرجع إلى أسى
إذا فترت عنه الدموع تلهبا
ويبعد أن تكون رثاء لابنه الأكبر هبة الله، فهي - على الأرجح - رثاؤه لأصغر أبنائه الذي لم يذكر اسمه، ولا ندري هل مات قبل أخيه أو بعده، ولكن يخيل إلينا بالمقابلة بين هذه المراثي أن الأبيات البائية كانت آخر ما رثي به ولدا؛ لأنها تنم عن فجيعة رجل راضه الحزن على فقد البنين حتى جمدت عيناه، ولم يبق عنده من البكاء إلا الأسى الملتهب في الضلوع، وإلا العجب من أن يكون قد عاش وصلبت قناته لكل هذه الفجائع، وقد كان رثاؤه لابنه الأوسط صرخة الضربة الأولى، ففيها ثورة لاعجة تحس من خلال الأبيات، ثم حل الألم المر محل الألم السوار في مصيبته الثانية، فوجم وسكن واستعبر، ثم كانت الخاتمة، فهو مستسلم يعجب للحزن كيف لم يقض عليه، ويحس وقدة المصاب في نفسه ولا يحسها في عينيه.
ولقد غشيت غبرة الموت حياته كلها، وماتت زوجته بعد موت أبنائه
5
جميعا، فتمت بها مصائبه، وكبر عليه الأمر، وقل فيه العزاء؛ فهو يقول:
عيني سحا ولا تشحا
جل مصابي عن العزاء
ورثاها في موضع آخر يقول فيه:
فاستغزرا درة الشئون على
بدركما، بل على قضيبكما
ويلوح منه أنها ماتت وهي فتية توصف بما توصف به الفتيات، ويغلب أنه هجر الزواج بعدها زمنا، فلم يتزوج إلا في أواخر عمره إذا صح ما استخلصناه من بعض أبياته.
ونقول: ما استخلصناه؛ لأننا لا نعتمد على خبر صريح في أمر زواجه الآخر، ولكننا لا بد أن نقف في هذا الصدد عند أبيات قالها للقاسم بن عبيد الله وهي:
وهب خادما لم يوف نعماك شكرها
فبدل عرف عنده بنكير
فما ذنب طفل كان تسبيب كونه
رجاؤك، يا مرجو كل فقير؟
أيحسن أن جر العيال رجاؤكم
وخاب نداكم، وهو خير خفير؟
غياثكم يا آل وهب فإنني،
وإن لم أكن أعمى، أضر ضرير
وأبيات أخرى لعل المخاطب بها هو القاسم أيضا، وهي:
منعت الكفاف الذي لم تزل
تجود به كفك الموسعه
فإن كنت مسلم ذي حرمة
لقول أعاديه، ما أضيعه!
فعجله بالسيف كي يستري
ح، إن كنت من مثله في سعه
أتسلمنا للردى ستة
وقد كنت ترحمنا أربعه؟
لا بد أن نقف عند هذه الأبيات، ولا بد أن نفهم منها أنه تزوج في أواخر عمره، ورزق ولدا فأصبح أهل بيته ستة بعد أن كانوا أربعة، ولا يمكن أن تكون الإشارة في الأبيات الرائية إلى طفله الأول وزوجته الأولى؛ لأن الأبيات قيلت للقاسم بن عبيد الله، والقاسم ولد حوالي سنة خمس وخمسين ومائتين، فلا يبلغ من السن المبلغ الذي يرجى فيه ويمدح إلا حوالي سنة خمس وسبعين، ولا يعقل أن ابن الرومي بقي عزبا إلى تلك السنة ثم تزوج زواجه الأول ورزق أولاده الثلاثة.
وكيفما كانت جلية القول في هذه الأبيات، فقد كانت له زوجة عندما هجا عمرا حاجب القاسم؛ لأنه قال فيه:
أيركب عمرو حوله من يحفه
ويعوزني قوت أعول به عرسي؟
ولا يكون ذلك قبل سنة خمس وسبعين ونحوها، كذلك لا شك في أنه لما قارب الستين لم يكن متزوجا؛ لأنه يقول في قصيدة نظمها في نحو تلك السن:
ومبيتي بلا ضجيع لدى الق
ر، وللوغد شادن مخضوب
ولم يذكر أحد من مؤرخيه - ولا الناجم الذي حضر وفاته - أنه ترك ولدا بعده، فإذا صح ما استخلصناه من أمر زواجه الثاني، فهناك فجيعة أخرى أصيب بها في ولد جديد
6
قبل وفاته، فمات ولا زوج له ولا بنون.
تعليمه
ذلك كل ما استطعنا أن نجمعه من الأخبار النافعة عن نشأة الشاعر وأهله، ولا محصل للبحث في المصادر التي بين أيدينا عن أيام صباه وتعليمه، ومن حضر عليهم، وتتلمذ لهم من العلماء والرواة، فإن هذه المصادر خلو مما يفيد في هذا المقام، إلا ما جاء عرضا في الجزء السادس من الأغاني، حيث يروي ابن الرومي عن «أبي العباس ثعلب، عن حماد بن المبارك، عن الحسين بن الضحاك»، وحيث يروي في موضع آخر «عن قتيبة، عن عمرو السكوتي بالكوفة، عن أبيه، عن الحسين بن الضحاك»، فيصح أن تكون الرواية هنا رواية تلميذ عن أستاذ؛ لأن ثعلبا ولد سنة مائتين، فهو أكبر من الشاعر بإحدى وعشرين سنة. أما قتيبة - والمفهوم أنه أبو رجاء قتيبة بن سعيد بن جميل الثقفي المحدث العالم المشهور - فجائز أن يكون ممن أملوا عليه وعلموه؛ لأنه مات وابن الرومي يناهز العشرين.
وقد مر بنا أنه كان يختلف إلى محمد بن حبيب الراوية النسابة الكبير، وسنرى هنا أنه كان يرجع إليه في بعض مفرداته اللغوية، فيذكر شرحها في ديوانه معتمدا عليه، قال بعد هذا البيت:
وأصدق المدح مدح ذي حسد
ملآن من بغضة ومن شنف «قال لي محمد بن حبيب: «الشنف ما ظهر من البغضة في العين».» وأشار إليه بعد بيت آخر وهو:
بانوا فبان جميل الصبر بعدهم
فللدموع من العينين عينان
إذ فسر كلمة «عينان» فروي عن ابن حبيب أنه قال: «عان الماء يعين عينا وعينانا إذا ساح.»
فهؤلاء ثلاثة من أساتذة ابن الرومي على هذا الاعتبار، ولا علم لنا بغيرهم فيما راجعناه، وحسبنا مع هذا أن الرجل - كيفما كان تعليمه وأيا كان معلموه - قد نشأ على نصيب واف من علوم عصره، وساهم في القديم والحديث منها بقسط وافر في شعره، فلو لم يقل المعري: إنه كان يتعاطى الفلسفة، والمسعودي: إن الشعر كان أقل آلاته، لعلمنا ذلك من شواهد شتى في كلامه، فهي هناك كثيرة متكررة لا يلم المتصفح ببعضها إلا جزم باطلاع قائلها على الفلسفة، ومصاحبة أهلها، واشتغاله بها حتى سرت في أسلوبه وتفكيره، وما كان متعلم الفلسفة في تلك الأيام يصنع أكثر من ذلك ليتعلمها، أو ليعد من متعلميها، فأنت لا تقرأ لرجل غير مشتغل أو ملم بالفلسفة والقياس المنطقي والنجوم كلاما كهذا الكلام:
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأرحب مما كان فيه وأرغد
أو:
سأمدح بعض الباخلين لعله
إذا اطرد المقياس أن يتسمحا
أو:
غاب تحت الحس حتى
ما يرى إلا قياسا
أو :
إذا احتج محتج على النفس لم تكد
على قدر يمنى لها تتعتب
أو:
يا باطلا أوهمتنيه مخايله
بلا دليل ولا تثبيت برهان
أو:
رجوت صلاح القبل بالبعد فانبرى
لنا ظلمكم فاستفسد القبل بالبعد
أو ما قاله في أصحاب الجدل:
لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حجج تضل عن الهوى وتجور
وهن كآنية الزجاج تصادمت
فهوت، وكل كاسر مكسور
فالقاتل المقتول ثم لضعفه
ولوهيه، والآسر المأسور
أو ما قاله في هجاء صاعد وابنه أبي عيسى، ومنه:
وثنى بابنه السفيه المعنى
بأساطير أرسطاطاليس
والذي لم يصخ بأذنيه إلا
نحو ذوثوريوس أو واليس
7
عاقدا طرفه ببهرام أو كيو
ان أو هرمس أو البرجيس
أو بشمس النهار والبدر والزه
رة عند التثليث والتسديس
واجتماعاتهن في كل قيد
وافتراقاتهن عن كل قيس
فهو في الأبيات الأخيرة يذكر الفلاسفة والرياضيين بأسمائهم المعروفة في الكتب المنقولة، ويذكر أكثر الكواكب بأسمائها الفارسية، ويذكرها في غير هذه الأبيات بأسمائها المعروفة عند العرب، وخصائصها التي كانت معروفة عند الكلدانيين والفرس الأقدمين، ونقلها منهم اليونان ولا تزال مشهورة إلى اليوم في آداب الغربيين، فيقول في مدح إسماعيل بن بلبل - وكان كاتبا قائدا:
وافى عطارد والمريخ مولده
فأعطياه من الحظين ما اقترحا
لأن عطارد كان رب الكتابة والحكمة والفنون عندهم، والمريخ كان رب الحرب والشجاعة.
ويقول في مدح عبيد الله بن سليمان بن وهب:
إذا صبت زهرته صبوة
قال له هرمسه: هندسي
وإن عدا هرمسه حده
قالت له زهرته: نفسي
والزهرة هي ربة الجمال واللهو، وهرمس هو اسم عطارد عند الفرس، وهو رب الكتابة والحكمة كما تقدم، يعني أن ممدوحه يميل مع اللهو والجمال، فتهيب به الحكمة والمعرفة، ويرهق نفسه بهذه فتدعوه الزهرة إلى التنفيس.
وربما أعطاك شواهد مساهمته في معارف زمانه كلها من أساطير مأثورة، وعلوم قديمة وحديثة في بيت واحد؛ كقوله يداعب المرثدي حين أخلف وعده في هدايا السمك:
أألحوت حوت الأرض أم حوت يونس
لك الخير أم حوت السماء أروم؟
فحوت الأرض هو الحوت الذي تزعم الأساطير أنه يحمل الثور الكبير الذي يحمل الأرض، وحوت يونس هو الحوت الذي ابتلع النبي يونس، وجاء نبؤه في القرآن، وحوت السماء هو البرج المعروف باسم الحوت.
وبين أيدينا خبران عن اقتناء الكتب - إذا لاحظنا قلة أخباره في كل شأن من شئونه - علمنا أنهما يدلان على شيء كثير: أحدهما أتى به المعري في رسالة الغفران، وفيه أنه: «كان يتعاطى الفلسفة، واستعار من أبي بكر السراج كتابا فتقاضاه به، فقال ابن الرومي: لو كان المشتري حدثا لكان عجولا.»
والخبر الثاني مأخوذ من ديوانه إذ يعاتب أبا الحسين محمد بن المعلى لتضييعه كتابا استعاره منه، فيقول له من قصيدة:
منحتك مصباحا فأعشاك ضوءه
وقد كان ظني أنه سيريكا
وخبران من هذا النوع في حياة قليلة الأخبار يشفان - مع شواهد شعره الكثيرة - عن شغف دائم بالتحصيل ومدارسة العلوم إلى ما بعد سن الكهولة؛ فإنه لا يقول: «لو كان المشتري حدثا لكان عجولا» إلا وهو كهل أو شيخ جاوز الكهولة. •••
ومن الحق له وللتاريخ ألا نهمل أخباره عن نفسه في هذا الباب؛ للإبانة عن منزلته من العلم والدراسة كلما كانت هذه الأخبار مطابقة لما نعرف من مجمل حاله، ففي بعض شعره يقول عن نفسه: إنه أدمن الدرس ورفض المكاسب في سبيل إدمانه، كما جاء في هذه الأبيات:
إن امرأ رفض المكاسب واغتدى
يتعلم الآداب حتى أحكما
فكسا وحلى كل أروع ماجد
من حر ما حاك القريض ونظما
ثقة برعي الأكرمين حقوقه
لأحق ملتمس بألا يحرما
وأظهر من ذلك قوله في الهمزية الكبيرة للقاسم:
إن أكن غير محسن كل ما تط
لب إني لمحسن أجزاء
فمتى ما أردت صاحب فحص
كنت ممن يشارك الحكماء
ومتى ما أردت قارض شعر
كنت ممن يساجل الشعراء
ومتى ما خطبت مني خطيبا
جل خطبي، ففاق بي الخطباء
ومتى حاول الرسائل رسلي
بلغتني بلاغتي البلغاء
وأظهر من هذا وذاك أبياته التي يمدح بها أبا سهل النوبختي، ويذكره فيها مودة آل النبي، واشتغالهما معا بالتفكير في إدحاض شبهات الفلاسفة والمتكلمين، ومنها:
ويدمج أسباب المودة بيننا
مودتنا الأبرار من آل هاشم
وإخلاصنا التوحيد لله وحده
وتذبيبنا عن دينه في المقاوم
بمعرفة لا يقرع الشك بابها
ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
وإعمالنا التفكير في كل شبهة
بها حجة تعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضى الله ماحضا
لحجته صدرا كثير الهماهم
وهذه الأبيات أحجى أن نعتمد عليها في هذا الباب، إذ كانت تتعدى فخر الإنسان بنفسه إلى التذكير بوقائع معهودة، ومدارسات طويلة جرت بينه وبين رجل من صفوة أهل العلم والدراية في أيامه.
وقد وردت في أبياته الهمزية السابقة إشارة إلى حذقه الكتابة، ومشاركته في البلاغة المنثورة تعززها إشارة مثلها في هذا البيت.
ألم تجدوني آل وهب لمدحكم
بشعري ونثري، أخطلا ثم جاحظا؟!
فلا بد أنه كان يكتب ويمارس الصناعة النثرية، إلا أن ما استجمعناه من منثوراته لا يعدو نبذا معدودة موجزة، منها رسالة إلى القاسم بن عبيد الله يقول فيها متنصلا:
ترفع عن ظلمي إن كنت بريئا، وتفضل بالعفو إن كنت مسيئا، فوالله إني لأطلب عفو ذنب لم أجنه، وألتمس الإقالة مما لا أعرفه؛ لتزداد تطولا وأزداد تذللا، وأنا أعيذ حالي عندك بكرمك من واش يكيدها، وأحرسها بوفائك من باغ يحاول إفسادها، وأسأل الله تعالى أن يجعل حظي منك بقدر ودي لك، ومحلي من رجائك بحيث استحق منك، والسلام.
ومنها رسالة كتبها يعود صديقا: «أذن الله في شفائك، وتلقى داءك بدوائك، ومسح بيد العافية عليك، ووجه وفد السلامة إليك، وجعل علتك ماحية لذنوبك، مضاعفة لثوابك.»
وكتب إلى صديق له قدم من سيراف فأهدى إلى جماعة من إخوانه ونسيه:
أطال الله بقاءك، وأدام عزك وسعادتك، وجعلني فداءك. لولا أنني في حيرة من أمري، وشغل من فكري لما افترقنا، وشوقي - علم الله - فغالب، وظمئي فشديد، وإلى الله الرغبة في أن يجعل القدرة على اللقاء حسب المحبة، إنه قادر جواد.
ومكاننا من جميل رأيك - أيدك الله - يبعثنا على تقاضي حقوقنا قبلك، وكريم سجاياك وأخلاقك يشجعنا على إمضاء العزم في ذلك، وما تطولت به من الإيناس يؤنسنا بك، ويبسطنا إليك، وآثار يديك تدلنا عليك، وتشهد لنا بسماحتك. والله يطيل بقاءك، ويديم لنا فيك وبك السعادة.
وبلغني - أدام الله عزك - أن سحابة من سحائب تفضلك أمطرت منذ أيام مطرا عم إخوانك بهدايا مشتملة على حسن وطيب، فأنكرت على عدلك وفضلك خروجي منها مع دخولي في جملة من يعتدك ويعتقدك، وينحوك ويعتمدك، وسبق إلى قلبي من ألم سوء الظن برأيك أضعاف ما سبق إليه من الألم بفوت الحظ من لطفك، فرأيت مداواة قلبي من ظنه، وقلبك من سهوه، واستبقاء الود بيننا بالعتاب الذي يقول فيه القائل: ويبقى الود ما بقي العتاب، وفيما عاتبت كفاية عند من له أذنك الواعية، وعينك الراعية.
وقال في تفضيل النرجس على الورد: «النرجس يشبه الأعين والمضاحك، والورد يشبه الخدود والأعين، والمضاحك أشرف من الخدود، وشبيه الأشرف أشرف من شبيه الأدنى، والورد صفة لأنه لون، والنرجس يضارعه في هذا الاسم؛ لأن النرجس هو الريحان الوارد، أعني أنه أبدا في الماء، والورد خجل والنرجس مبتسم، وانظر أدناهما شبها بالعيون فهو أفضل.»
هذه نماذج من منثوراته لا نعرف غيرها فيما بين أيدينا، وخليق بمن يكتب بهذا الأسلوب أن يعد في بلغاء الكتاب، وإن لم يعد في أبلغهم، على أن ابن الرومي لم يكن يحسب نفسه إلا مع الشعراء إذا اختلفت الطوائف؛ فإنه يقول عن نفسه وهو يمدح أبا الحسين كاتب ابن أبي الأصبع:
ونحن معاشر الشعراء ننمي
إلى نسب من الكتاب دان
وإن كانوا أحق بكل فضل
وأبلغ باللسان وبالبنان
أبونا عند نسبتنا أبوهم
عطارد السماوي المكان
ولا عجب في هذا، فقد كان للشعر كل ما درس الشاعر من فلسفة وعلم وأدب، وكانت هذه المعارف عنده كالروافد للشعر لا نفع لها إن لم ينته بها المصب إلى النهر الكبير. ولم يكن له عقل فيلسوف ولا عقل عالم، وقد رأيت قياسه المنطقي في تفضيل النرجس على الورد، فهل قياس فيلسوف هو أو قياس فنان؟ إنه لقياس فنان نظر إلى الدنيا كأنها متحف للناظر، ومسرح للشعور، وقليلا ما نظر إليها كأنها معمل للتحليل، أو قضية مبهمة للتأمل والتفكير. •••
أما حظه من علوم العربية والدين، فمن الفضول أن نتعرض لإحصاء الشواهد عليه في كلامه؛ لأنه أبين من أن يحتاج إلى تبيين، وندر في قصائده المطولة أو الموجزة قصيدة تقرؤها ولا تخرج منها وأنت موقن باستبحار ناظمها في اللغة، وإحاطته الواسعة بغريب مفرداتها، وأوزان اشتقاقها وتصريفها، ومواقع أمثالها، وأسماء مشاهيرها، وما يصحب ذلك من أحكام في الدين، ومقتبسات من أدب القرآن، فليس في شعراء العربية من تبدو هذه الشواهد في كلامه بهذه الغزارة والدقة غير شاعرين اثنين؛ أحدهما صاحبنا، والثاني المعري، وقد كان يمدح الرؤساء والأدباء أمثال: عبيد الله بن عبد الله، وعلي بن يحيى، وإسماعيل بن بلبل، فيفسر غريب كلماته في القرطاس الذي يثبت فيه قصائده، كأنه كان يشفق أن تفوتهم دقائق لفظه وأسرار لغته، ثم يعود إلى الاعتذار من ذلك إذا أنس منهم الجفوة والتغير:
لم أفسر غريبها لك لكن
لامرئ يجهل الغريب سواكا •••
لغيرك لا لك التفسير أنى
يفسر لابن بجدتها الغريب
وكانوا لشهرته باللغة، وعلم أسرارها، ولطيف نكاتها يختلقون له الكلمات النافرة يسألونه عنها؛ ليعبثوا به أو يعجزوه، وقصة «الجرامض» إحدى هذه المعابثات التي تدل على غيرها من قبيلها، فقد سأله بعضهم في مجلس القاسم بن عبيد الله: ما الجرامض؟ فارتجل مجيبا:
وسألت عن خبر الجرا
مض طالبا علم الجرامض
وهو الخزاكل! والغوا
مض قد تفسر بالغوامض
وهو السلجكل شئت ذا
لك، أم أبيت بفرض فارض
وكلها كلمات من «مادة» الجرامض لا معنى لها ولا وجود.
وإذا صح استقراؤنا وكان من أساتذته أمثال ثعلب وقتيبة، فضلا عن الأستاذية الثابتة لابن حبيب، فلا جرم يصير ذلك علمه بالغريب والأنساب والأخبار، وهؤلاء كلهم من نخبة النخبة في هذه المطالب، ولا سيما إذا أعانهم تلميذ ذو فطنة متوقدة الفهم، وذاكرة سريعة الحفظ كهذا التلميذ، فقد مر بك أنه كان يحفظ الأبيات الخمسة من قراءة واحدة، فهب في الرواية بعض المبالغة التي تتعرض لها أمثال هذه الروايات، فهو بعد سريع الحفظ، وهذا مما يعينه على تحصيل اللغة وتعليق المفردات. •••
أفكان مع هذا العلم بالعربية يعلم لغة غيرها؟ إن جده كان روميا، ولكن كثيرا من الناس أجدادهم غرباء عن أوطانهم وهم لا يعرفون غير لغة الوطن الذين ولدوا فيه.
وإن أمه كانت تنتمي إلى فارس، ولكننا لا نعلم أفارسية هي أم من أصل فارسي قد يرتفع إلى الأجداد، وفرق بين الحالتين كما لا يخفى؛ لأنها قد تجهل الفارسية وهي حفيدة فارسي، أو يغلب أن تجهلها في هذه الحالة، وقد تتكلمها وهي بنت فارسي وفارسية، فيلقنها ابنها وينشأ على التكلم بها من صباه.
وفي أشعار ابن الرومي كلمات فارسية غير قليلة كأبنفشا «البنفسج»، والدستبند «ضرب من الرقص»، والبذبخت «سيئ الطالع»، والشير «الأسد»، والبرشوجة «طائر»، والدستنبوية «الشمامة»، والكذخذاة «القهرمانة» وأشباه هذه الألفاظ، ولكن العلم بألفاظ كهذه وبأضعافها لا يكثر على ساكن بغداد في ذلك العصر الذي تقاربت فيه الأمتان الفارسية والعربية، وامتزجت فيه الحضارتان، ونفذ فيه الفرس إلى كل فرع من فروع المعيشة الرفيعة والوضيعة، فمن أبناء القاهرة اليوم من يتلقف أضعاف هذا العدد من الكلمات الفرنسية والإنجليزية والإيطالية، ويجريها في مخاطبته اليومية وهو لا يتكلم بغير لسان وطنه.
بل هناك ما يكاد يدنو بنا إلى الجزم بجهل ابن الرومي اللغة الفارسية، وهو قوله في هجاء إسماعيل بن بلبل يتهمه في عربيته:
أإسماعيل من رجل
تعرب بعدما شاخا
وأصبح من بني شيبا
ن ضخم الشأن بذاخا
وصار أبوه بسطاما
وكان أبوه قيباخا
وصار يقول: «قم عنا»
وكان يقول: «قوهاخا»
فأول ما يتبادر إلى الذهن أن «قوهاخا» هذه ترجمة «قم عنا» باللغة الفارسية، ولكننا سألنا من يعرفونها بيننا فلم يعرفوا للكلمة هذا المعنى ولا غيره، وأكبر الظن عندنا أنها ليست إلا حكاية صوتية لبعض المخارج الفارسية يحكيها ابن الرومي على سبيل التهكم بالعجمة في تلك المخارج. وقد تكون تصحيفا من «قوماخا»، وهي قريبة من نطق الأعجمي لقم عنا ... ولو كان حظه من العلم بالفارسية أكثر من حظ الحكاية الصوتية لكان أحرى به أن يظهر في هذا المقام .
مزاجه وأخلاقه
أي خبر من الأخبار التي تسربت إلينا عن حياة ابن الرومي لا نتركه مختارين غير آسفين لو استطعنا أن نستبدل به صورة لوجه الرجل وشخصه؟ بل أي خبر من هذه الأخبار لا نتركه مختارين غير آسفين لو استطعنا أن نستبدل به وصفا دقيقا لملامح الرجل وقسماته وشارته وسائر ما يتصل بشكله؟ فقد تعودت النفوس أن تشتاق إلى رؤية من تتحدث به وتسمع عنه، ولم تتعود ذلك عبثا؛ ولكنها تعودته لأن الرؤية تزيدها معرفة بمن تريد أن تعرفه؛ أو لأن المعرفة لا تكمل بغير رؤية.
وليس من مجرد المصادفة - فيما نعتقد - أن تشيع الصور الشمسية والترجمة التحليلية والدراسة النفسية في عصر واحد، ولا أن تكون الأمم المعروفة قديما ببراعة الترجمة وكتابة السير أمما معروفة كذلك بتقييد الملامح والسمات في الصور والتماثيل؛ فإن فراسة الظاهر جزء من فراسة الباطن.
وكلتاهما لازمة لفهم السيرة وإتقان الدراسة النفسية.
ونحن نؤمن بالفراسة كل الإيمان، ولا نشك إلا في المتفرسين أو في بعض المتفرسين، فالذي فاتنا من ترجمة ابن الرومي بفوات صورته قسم ليس بالقليل، وتعويض هذا القسم بما بقي لنا من الوصف العرضي والأخبار المنزورة من أصعب الأمور.
فها نحن أولاء نكتب سيرة ابن الرومي، ولا نعرف ما الفرق مثلا بين سحنته وسحنة شاعر من شعرائنا الآخرين. نعم، إن ابن الرومي كان كما نعلم سليل أبوة يونانية وأمومة فارسية، ولكن ألم يكن من الجائز أنه كان أقرب إلى ملامح الأمومة منه إلى ملامح الأبوة؟ أو أقرب إلى ملامح الأبوة منه إلى ملامح الأمومة؟ أكان له وجه فارسي أو وجه يوناني، أو وجه رجل فيه مسحة من سمات الشعبين، أو لا مسحة فيه من هؤلاء ولا هؤلاء؟ ما نظن ذلك مما يستغنى عنه في ترجمة شاعر أو صاحب ترجمة كائنا ما كان.
فإذا كنا سنرجع إلى ذخيرتنا التي نعتمد عليها من شعر الشاعر، وإلى القليل من أخباره التي تسربت إلينا، فلا ندحة لنا في هذا الصدد ولا حيلة، وعزاؤنا بعض العزاء أننا قد نهتدي من شعره وأخباره إلى صورة له تعين على تخيله وتمثيله، وإن لم تغن عن صورته الحقيقية ولا عن وصفه الدقيق كل الغناء. •••
كان ابن الرومي صغير الرأس مستدير أعلاه، أبيض الوجه يخالط لونه شحوب في بعض الأحيان وتغير، ساهم النظرة باديا عليه وجوم وحيرة، وكان نحيلا بين العصبية في نحوله، أقرب إلى الطول أو طويلا غير مفرط، كث اللحية، أصلع بادر إليه الصلع والشيب في شبابه، وأدركته الشيخوخة الباكرة فاعتل جسمه وضعف نظره وسمعه، ولم يكن قط قوي البنية في شباب ولا شيخوخة، ولكنه كان يحس القوة اليسيرة في الحين بعد الحين كما يحس غيره العلل والسقام، فكان إذا مشى اختلج في مشيته، ولاح للناظر كأنه يدور على نفسه أو يغربل لاختلال أعصابه واضطراب أعضائه، وكان على حظ من وسامة الطلعة في شبابه، معتدل القسمات، لا يأخذ الناظر بعيب بارز ولا حسنة بارزة في صفحة وجهه. أما في الشيخوخة فقد تبدلت ملامحه وتقوس ظهره ولحق به ما لا بد أن يلحق بمثله من تغيير السقام والهموم. •••
هذه خلاصة الصورة التي استخرجناها من شعر الشاعر وأخباره، وقد كان ينبغي أن نكتفي بها ونقف عندها لو كانت «الترجمة لذاتها» هي الغرض الوحيد من هذا الكتاب، ولكن «الترجمة» ليست هي كل ما نقصد إليه، ولا أهم ما نقصد إليه؛ لأن الطريق المؤدي إلى الترجمة غرض كبير من أغراض الكتاب لا يقل عن بيان الترجمة لذاتها، ووسيلة الوصول إلى النتيجة مطلوبة كالوصول إلى هذه النتيجة، والصيد مقصود هنا كما تقصد المائدة والطعام الذي على المائدة، فمن الواجب علينا أن نبين مكان هذه الترجمة من شعر الرومي، وحاجة الأخبار التي بين أيدينا إلى التكميل من كلامه في وصف نفسه عامدا وغير عامد، وأن نبين كيف أن ديوان شعره قد تجاوز حد الترجمة الباطنية إلى الترجمة التاريخية، لاشتمال وجدان الرجل عليه، وفرط استيعابه لنفسه في شعره، وشدة الامتزاج بين حياته وفنه. •••
فأما أنه كان صغير الرأس مستدير أعلاه، فيؤخذ من رده على من عاب صغر رأسه :
إذ تنقصتني بصعلكة الرأ
س، سفاها واذممت غير ذميم
ما تعديت أن وصفت خشاشا
لوذعيا كالحية المشهوم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقديما ما جرب الناس قبلي
ثقل الهام في الخفاف الحلوم
واعتبر أن أفشل الطير في الطي
ر، وفينا كروسات البوم
فهو يقول لعائبه: إن صغر الرأس لا يزري به؛ لأن الحية المشهوم - وهي موصوفة بالحكمة واليقظة - صغيرة الرأس، والبومة كبيرته وهي مضعوفة فاشلة بين الطير والناس.
وأما أنه كان أبيض اللون، فذلك غير عجيب في رجل له جد من الفرس وجد من الروم، وقد قال هو يصف ديباجة وجهه في نضرة العمر:
يا هل تعود سوالف الأزمان
أو لا؟ فمنصرف إلى السلوان
كيما أروح وللشبيبة حبرة
أرني العيون بفاحم فتان
وبمشرق صافي الأديم كأنما
فيه ائتلاف من صفيح يمان
والإشراق والصفاء والائتلاف أشبه بالبياض منها بأي لون من ألوان الوجوه.
وأما أنه كان «يخالط وجهه شحوب في بعض الأحيان وتغير، وأنه كان ساهم النظرة باديا عليه وجوم وحيرة»، فيفهم من قوله وقد لاحظت عليه بنت صغيرة لعبيد الله بن عبد الله أنه كان كثير السكون والتفكير:
وشقيقة قالت: أراه مفكرا
حتى أراه من السكينة نائما
فأجبتها إني امرؤ هيامة
في كل واد ما أفيق هماهما
أمسي وأصبح للشوارد طالبا
بهواجسي، حول الأوابد حائما
وهي ملاحظة صادقة بسيطة كأكثر ملاحظات الأطفال - ولا سيما البنات - على الرجال الذين يرونهم عند آبائهم، فيتفرسون فيهم ويطيلون النظر إليهم، ثم إن أناسا كانوا يعيبون عليه انقباضه كما يؤخذ من قوله في هجاء بعضهم: «يعيب انقباضي معجبا بانبساطه.» وكما قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي: «كان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظرا يدل على تغير حال.» ولو لم يكن هذا واضحا في شعره وأخباره لتوسمناه من صحته وخيبة أمله وكثرة شكواه.
وأما نحول «العصبي» المعروق، فالدلائل عليه في شعره كثيرة، منها قوله:
أنا من خف واستدق فما يث
قل أرضا ولا يسد فضاء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أنا ليث الليوث نفسا وإن كن
ت بجسمي ضئيلة رقشاء
ومنها:
يقول القائلون: ضويت جدا
ولم تنضجك أرحام النساء
ومن إنضاجها إياي أعرت
عظامي من لحومهم الوطاء
إذا ما كنت ذا عود صليب
فيكفيني القليل من اللحاء
ومنها:
وزارية علي بأن رأتني
من الهزلي حقيرا في السمان
وذلك فضلا عن مدحه النحافة فيمن كان يمدحهم، وتفضيله شأو الخماص على شأو البطان؛ لأن العصب جعل في الرجال قديما و«كذا الجدل في الحبال المتان».
ونعلم أنه كان أقرب إلى الطول أو طويلا غير مفرط من شعره وحده لا من خبر روي عنه؛ فقد كان شديد السخر بالقصار، شديد النكاية في هجائهم، ومن قوله في شيخوخته:
أقول وقد شابت شواتي وقوست
قناتي وأضحت كدنتي
8
تتخدد
ومنه:
وأرى قوامي لج في تقويسه
ولقد يلج اللين في تعطيفه
والقوام والقناة والتقويس بالطوال أشبه، ولا سيما حين يلج التقويس ولا يقف عند الانحناء اليسير، ويتوسم فيه الطول من أبيات كثيرة كهذا البيت:
وكم مثلها من ظبية قد تفيأت
ظلالي وأغصان الشبيبة ميد
ومثله:
وظبية من ظباء كان مسكنها
في ظل غصني، إذا ظل الضحى التهبا
ومثله:
إذ للشبيبة صبوة تصبو بها
وبشاشة تصبي بها وتروق
يهتز منك لأريحيات الصبا
غصن تفيؤه الظباء وريق
ولا يكون الاهتزاز والتشبيه بالغصن الذي تتفيؤه الظباء إلا القوام فيه امتداد وطول.
وقد طلب مرة ثوبا فكتب يقول ويذكر نفسه بضمير الغائب:
فأنجز الوعد بثوب له
من الجياد المرتضاة الحسان
وفي القوافي ثمن مربح
فلا يقصر ذرعه عن ثمان
فإذا حسبنا كل حساب للطمع، فلا نظن ثماني أذرع تطلب لرجل قصير أو فوق القصير بقليل.
إلا أنه لم يكن مفرط الطول؛ لأنه كان يهجو من في طوله إفراط، كما قال في عمرو بن الحاجب:
فللقد منه طول نهر معوج
وللأنف منه نفخة البوق في الكفر
ونحسب هذه الشواهد كلها كافية في تخيل قوامه، وأنه لم يكن بالطويل المفرط ولا بالقصير. •••
وكان ملتحيا ولا شك في أوائل كهولته:
رأيت جليسي لا يزال يروعه
بياض القذى في لحيتي فيميطه
فكيف به عما قليل إذا رأى
قذى الشيب قد عفا عليها سفيطه
9
فهو قد التحى في سن يتوقع ما بعدها من زيادة الشيب وعمومه، إلا أنه كان كث اللحية قصير شعرها كما قال:
ولم أزل سبط الأخلاق واسعها
وإن غدوت امرأ في لحيتي كثث
وكأنما جعل من ذلك النقص فخرا؛ لأنه نقص لا يد له في استدراكه، فكان يسخر من اللحى الطوال ويسميها أذنابا ومخالي ومذبات، ويشك في أدب كل غزير اللحية، بل يجعل غزارتها دليلا قاطعا على نزارة أدبه حتى البحتري! لأن:
البحتري ذنوب الوجه نعرفه
وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب
ومغالطته في هذا بادية من دخيلة إحساسه بهيبة اللحية، وأنها علامة التذكير؛ حيث يقول لصاحب لحية طويلة:
أرع فيها الموسى فإنك منها - يشهد الله - في أثام كبير
أيما كوسج يراها فيلقى
ربه بعدها صحيح الضمير
هو أحرى بأن يشك ويغرى
باتهام الحكيم في التقدير •••
لحية أهلمت فسالت وفاضت
فإليها تشير كف المشير
ما رأتها عين امرئ ما رآها
قط إلا أهل بالتكبير
روعة تستخفه لم يرعها
من رأى وجه منكر ونكير
فاتق الله ذا الجلال وغير
منكرا فيك ممكن التغيير
أو فقصر منها فحسبك منها
نصف شبر علامة التذكير
والرغبة في غزارة اللحية معقولة من رجل أصلع كان يفرق من الصلع ويخفيه جهده، ويود أن يداريه بغزارة الشعر في وجهه الذي لا يستطيع مداراته، كما كان يداري رأسه.
أما الشيب والصلع فحديثه عنهما طويل، وشهرته بما قال فيهما مضرب الأمثال بين الأدباء.
شاب رأسه في غضارة الشباب فقال:
شاب رأسي ولات حين مشيب
وعجيب الزمان غير عجيب
قد يشيب الفتى وليس عجيبا
أن يرى النور في القضيب الرطيب
ولم يدع لنا أن نسأل عن السن التي شاب فيها؛ لأنها هي الحادية والعشرون من عمره كما عينها لنا تعيينا في قوله:
فظلم الليالي أنهن أشبنني
لعشرين يحدوهن حول مجرم
ثم والى ذكر السنين مرحلة بعد مرحلة، فقال فيما دون الثلاثين:
وأنى تفرع رأسي المشيب
ولم أتفرع ثلاثين عاما
وبلغ الأربعين فعد نفسه من الموتى إلا أحلاما تذكره الحياة:
مت إلا حشاشة وادكار
مثل أحلام حالم النوام
ومتى ما انقضت أجاري طرف
مات إلا صيامه في المصام ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقضيت الرضاع من درة الكر
م لتجريم أربعين تمام
وهكذا في الخمسين والخامسة والخمسين والستين، كأنه عابر طريق يحصي ما عبر منها وما بقي له أن يعبر، وما وخط الشيب شعره حتى آلى له من البداءة «يمينا لأخفينك جهدي»، ووالى إخفاءه بقية عمره، وأخفى الصلع حين أصابه في شبابه كما أخفى المشيب، فكان لا يرى في مكان إلا لابسا عمامة، وعز عليه أن يمنى بهذا التشويه في نظره، وهو الذي أولع بكل تشويه يتضاحك به، ويفتن في تمثيله، ويغرق أصحابه في المزح والدعابة، فلزم العمامة لا يخلعها، وأخفى سر ذلك عن جلسائه وجليساته، فكان أثقل شيء عليه أن يتعرض متعرض لهذا السر المصون!
يا أيها السائلي لأخبره
عني: لم لا أراك معتجرا؟
أستر شيئا لو كان يمكنني
تعريفه السائلين ما سترا
ومن عيره هجاه وقال فيه:
يعيرني لبس العمامة سادرا
ويزعم لبسيها لعيب مكتم
وتلا ذلك ما لا بد منه في هجاء صاحبنا من عوار الكلام.
ثم انكشف الأمر ولم تغن الحيلة في لجاج الفضوليين والمتشوفين، فعاد إلى العمامة يحيل عليها اللوم، ويتهمها بجريرة الصلع ويقول: إنه لم يكن أصلع قبل أن يلبسها، وإنما كان يتقي بها البرد والحر، فدهاه طول التعمم في لمته، فهو يلبسها الآن لستر هذا التشويه ... الحديث!
تعممت إحصانا لرأسي برهة
من القر يوما والحرور إذا سفع
فلما دهى طول التعمم لمتي
وأودى بها بعد الأصالة والفرع
عزمت على لبس العمامة حيلة
لتستر ما جرت علي من الصلع
فيا لك من جان علي جناية
جعلت إليه من جنايته الفزع
ولا يبعد أن يكون هذا صحيحا بعض الصحة، وأن خوفه البرد والحر كان من أسباب ملازمته العمامة، وإن لم يكن هو كل السبب، فقد كان يكابد في الصيف نصبا كما قال لبعض ممدوحيه: «يا عليما بما أكابد فيه.»
10
وكان مرهف الحس جدا، فكان أهون مس يهيج أعصابه ويستفز خلقه، بل كانت الرائحة إذا قويت تؤذيه وتصدعه؛ فلهذا كان يذم الورد ويمدح النرجس كما جاء في فصل التلطف من كتاب الصناعتين، ومن بلغ منه التقزز هذا المبلغ لم يبعد أن يلبس العمامة لاتقاء الحر والبرد، ولم يبعد كذلك أن يكون ضعيف الشعر فطرة، وأن يصيبه الشيب والصلع لأضعف سبب.
أما مشيته فقد تولى هو وصفها لنا على طريقته التي لا تدع شيئا من تمثيل الشكل والحركة، فعلمنا أنه كان يختلج في مشيته كأنه يحمل بين يديه غربالا يديره.
إن لي مشية أغربل فيها
آمنا أن أساقط الأسفاطا
وهذه المشية معروفة تدل عليها حركة الغربلة، وتكثر فيمن بهم خلل في العصب أو العضل، وفي ديوانه أبيات يهجو بها أخا نضر الجهبذ؛ لأن نضرا أراد أن يزوجه بنته، فمنعه من ذلك أخوه وقال له: أما تنظر إلى مشيته مثل مشية المخنثين؟!
ونحسب أننا في غنى بعد هذا عن شواهد أخرى على حظه من الصحة وقوة التركيب في شبابه ومشيبه، ولكننا لا نحب أن نحدس إذا أمكن أن نجزم، فالرجل يقول في صباه:
وإني للقوي على المعالي
وما أنا بالقوي على الصراع
وكان يشكو مرض العينين قبل الشيخوخة، ففي ذاك يقول في قصيدته الدالية في صلح عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وأخيه سليمان، وهي مما نظم حوالي الأربعين:
شغلت عنك بعوار أكابده
لا بالملاهي ولا ماء العناقيد
ولو قعدت بلا عذر لمهد لي
جميل رأيك عذري أي تمهيد
قاسيت بعدك لا قاسيت مثلهما
نهار شكوي يباري ليل تسهيد
أمسى وأصبح في ظلماء من بصري
فما نهاري من ليلي بمحدود
كأنني من كلا يومي وليلته
في سرمد من ظلام الليل ممدود
إذا سمعت بذكر الشمس آسفني
فصعدت زفراتي أي تصعيد
وذلك إلى شكاية من المتطببين واعتذارات كثيرة بالمرض تدل على بنية مصابة، وحظ من العافية قليل.
فلما أدركته الشيخوخة لا جرم برحت به واشتدت وطأتها عليه، فرجفت أعضاؤه، وتعاورته الأسقام، واحتاج إلى العصا، وزاغ نظره، وثقل سمعه.
ودب كلال في عظامي أدبني
جنيب العصا، أنآد أو أتأيد
وبورك طرفي فالشخوص حياله
قرائن - من أدنى مدى - وهي فرد
أو كما قال في قصيدة أخرى:
وأحدث نقصان القوى بين ناظري
وسمعي وبين الشخص والصوت برزخا
وجماع ذلك قوله:
أنا ذاك الذي سقته يد السق
م كئوسا من السقام رواء
ورأيت الحمام في الصور الشن
ع فكانت لولا القضاء قضاء
وقد اختلفت أقوال ابن الرومي في حظه من القسامة قبل أن تجور عليه السن وتعصف السقام بما كان له من صباحة في ضحوة عمره، فهو إذا أراد أن يمزح أو يهون على نفسه فقد الشباب العزيز قال:
من كان يبكي الشباب من جزع
فلست أبكي عليه من جزع
فإن وجهي بقبح صورته
ما زال لي كالمشيب والصلع
أو قال:
جزى الله عني قبح وجهي سعادة
كما قد جزاه، والإله قدير
دعوت به قوما فأدوا أتاوة
كأني عليهم عند ذاك أمير
وهو إذا أراد أن يرثي الشباب ويتفجع عليه قال:
وكنت جلاء للعيون من القذى
فقد جعلت تقذى بشيبي وترمد
أو قال:
وما يرجى من البيض ابتسام
لمن أمسى لمفرقه ابتسام
كأن محاسني لم تضح يوما
وفي لحظاتهن لها اقتسام
كأني لم أر اللمحات نحوي
وفي اللمحات لثم والتزام
والمرء يبالغ إذا أراد أن يتهكم أو يتفجع، ويبالغ إذا أراد التهوين أو التهويل، فالصورة الأولى أدخل في باب الصور الهزلية التي فيها ما في جميع هذه الصور من التحريف والمسخ والمبالغة، والصورة الثانية أدخل في باب الصور المحسنة التي يكثر فيها التنوق والإصلاح، ولكنا نرجح أنه كان كلما قلنا «على حظ من وسامة الطلعة في شبابه، معتدل القسمات، لا يأخذ الناظر بعيب بارز ولا صفة بارزة في صفحة وجهه»؛ لأنه كان يتناول بالسخر كل عيب في وجوه الذين هجاهم من خصومه ومازحهم من أصحابه، فلو كان فيه مثل هذه العيوب البارزة التي لا تدارى ولا يغالط فيها لما تناولها، ولا حول الأنظار إلى مثلها في وجهه، أو هو لو كانت فيه هذه العيوب وتناولها بالهجو والدعابة لتعرض له المهجوون بمثل فعله، فرد عليهم شعرا كما رد عليهم حين تعرضوا له في العيوب الأخرى من مشية أو صلع أو هزال.
فالأقرب إلى الترجيح أنه لم يكن ذا عيب بارز ولا حسنة بارزة، وأنه لم يكن ظاهر الحسن ولا ظاهر التشويه، على أنه كائنا ما كان حظه من القسامة في صباه قد فقد ولا ريب ذلك الحظ الذي كان له حين شاخ وجاوز الخامسة والخمسين، فإننا لا نتخيل الجمال لشيخ نحيل معروق تقوس ظهره، وشحب وجهه، وانطفأ وميض عينيه، وطال عليه السقم والغم، ولم تزينه الشيخوخة بذلك التاج الفضي الذي تسبغه على رءوس الشيوخ، ولا بتلك الحلية الناصعة التي تحيط بها وجوههم بالوقار والجمال. •••
على أن ضعف البنية لم يكن ليضير ابن الرومي كثيرا في شبابه أو في شيخوخته لو أنه اعتدل في عيشه، وقوي على ضبط نفسه؛ فإن ضعاف البنية قد يعمرون ويبلغون فوق الستين التي بلغها ابن الرومي وهم في عيشة سوية، وحالة من الصحة مرضية، وربما نيف الهزيل على الثمانين وهو معافى الجسد، موقى من الأمراض التي لا يتقيها الأقوياء، ولا يحجمون عن مواقعة أسبابها، ولكن ابن الرومي كان هزيلا، وكان مع هزاله قليل التصون والاحتراس، فجنى على بدنه فوق ما جناه عليه هزاله، ولج به الحس المتوفز، فتهافت على لذات الحياة وأطايبها تهافت من لا يحب أن تفوته متعة، أو تفلت من يديه نهزة، وكبر له الخيال لذات الحس ومباهجه، فأكب على مائدة الحياة كالطفل على مائدة الحلوى لا تمنعه كظة، ولا تقمع شهوته حمية، وراح منهوما كذلك بكل لذة عقلية يلتهم المعرفة كما يلتهم اللهو والنعمة التهام من يخشى أن يذاد عنها ولما يستوف شبع شهوته منها، فجار على بنيته الضاوية، وانطلق مسرفا في درسه، مسرفا في اشتهائه، مسرفا في طعامه وشرابه، وروي له الشعر حتى في أصناف الطعام والشراب، بل روي له الشعر في هذه الأغراض حيث لا يروى له شعر غيره، قال محمد بن يحيى الصولي فيما نقله المسعودي في مروج الذهب:
أكلنا يوما بين يدي المكتفي بعد هذا بمقدار شهر - أي بعد أكلة روي فيها شعر لابن الرومي - فجاءت لوزينجة فقال: هل وصف ابن الرومي اللوزينج؟ فقلت: نعم، فقال: أنشدنيه، فأنشدته:
لا يخطئني منك لوزينج
إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها
إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صحنه
لسهل الطيب له مذهبا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
مستكثف الحشو ولكنه
أرق جلدا من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه
من أعين القطر الذي طنبا
11
يخال من رقة خرشائه
12
شارك في الأجنحة الجندبا
إلى آخر الأبيات، فحفظها المكتفي فكان ينشدها.
وأخبر نفطويه عن أحمد بن حمدون: «تذاكرنا يوما بحضرة المكتفي فقال: أفيكم من يحفظ في نبيذ الدوشاب شيئا؟ فأنشدته قول ابن الرومي:
إذا أخذت حبه ودبسه
ثم أجدت ضربه ومرسه
ثم أطلت في الإناء حبسه
شربت منه البابلي نفسه
فقال المكتفي: قبحه الله، ما أشرهه! لقد شوقني في هذا اليوم إلى شرب الدوشاب.»
وإنا لنقرأ هذه الأبيات وأمثالها الكثيرة في ديوان ابن الرومي، فيخطر لنا عصره المترف، ويخطر لنا أن الإسهاب في وصف الطعام والشراب لم يكن في ذلك العصر معيبا ولا مخلا بالمروءة؛ لأنه كان عصر الشهوات جميعا، وأولها شهوة المآكل والمشارب، بل كان عصرا يصح أن يسمى بعصر الموائد والولائم؛ لأنها كانت وصلة الاجتماع في الجد واللهو، وملتقى طلاب اللقاء في مواعد الوجبات اليومية وغير مواعدها المألوفة، وكان من مقاييس مروءة الرجل أن ينظر إلى مطعمه في بيته، وبراعة طهاته، ونفقته على أكله؛ فغضب المتوكل على عافية بن شبيب وأقصاه من مجلسه ونفاه إلى البصرة لأنه رأى له طعاما لا يليق بمن يجالس الخليفة وينال صلاته.
ونحن لا نتصفح أخبار المجالس في ذلك العصر إلا صادفنا الحديث عن الولائم والمهارة في إتقانها، والسخاء في النفقة عليها، فربما كان الخليفة وجلساؤه يتواعدون إلى الموعد ومع كل منهم طعامه يتفكهون باستعراض ألوانه، والمقابلة بين صناعاته وطعومه، وكان من تمام ظرف الأديب والنديم أن يحذق شأن الطعام، ويخبر صنعه وما قيل في وصفه، فظهرت في ذلك العصر كتب الأدباء في فن الطهو؛ ككتاب الطبيخ لإبراهيم بن العباس الصولي، وكتاب الطبيخ وكتاب فضائل السكباج لجحظة البرمكي، وخفت مذمة النهم لأنه أصبح كأنه قدرة وعلم وظرف! وكأنه في ذلك كله أقرب إلى الفخر منه إلى الملامة!
يخطر لنا ذلك العصر المترف ونحن نقرأ هذه الأبيات الكثيرة في ديوان ابن الرومي فنسأل أنفسنا: ما نصيب العصر في تلك الأوصاف، وما نصيب الرجل؟ وما حظ العين من لون وشكل، وما حظ المعدة من شبع وامتلاء؟ فمن شاء أن يحسب نهم ابن الرومي على النحو المتقدم بابا من الأدب لا بابا من الشره، فله ذلك وحجته في هذا الحسبان غير ضعيفة! ولكنه هو لا يدعنا نحار في خليقة كهذه الخلائق التي تحكى عنه، ويكون لها دخل في حياته، فإذا تطرق الشك إلى جانب، فلا بد له من جانب آخر يقطع ذلك الشك، ويردك إلى اليقين فيه، ومن شعره المحفوظ ما يروي لك كيف كان يعاب في أكله، وكيف كان رده على من يعيبونه، فتارة يقر بالذنب ويزعم أنه هفوة لا جريمة:
أإن اصطبغت ولقمتي معضوضة
13
أنشأت تهجوني بذلك ظالما؟
عيب - لعمرك - غير أن لم آته
عمدا! فهبني هافيا لا جارما
وتارة يقول لقسطنطين جارية أم حبيب وكأنها ضحكت من أكله:
ذريني قسطنطين آكل شهوتي
وتبشمني؛ إني بذلك راض
فأكثر ما ألقي من الزاد كظة
مدى يومها واليوم أسرع ماض
ثم لا ينسى أن يعرض كدأبه بغير ذلك، وأن يذكر الكظة التي لا تنصرف إلا بعد تسعة شهور!
وتارة يصف الطعام ويعقب الوصف بالتشويق إليه واللهفة عليه:
لهفي عليها وأنا الزعيم
بمعدة شيطانها رجيم
بل هو لا يدعنا نحار حتى في «الأصناف» التي كان يحبها ويؤثرها على سواها، فقد علمنا مثلا أنه كان يحب الموز من الفاكهة؛ لأنه غذاء القلوب لا غذاء المعدات:
يكاد من موقعه المحبوب
يدفعه البلع إلى القلوب
وأنه كان يعاف المشمش؛ لأنه دواء لا غذاء:
إذا ما رأيت الدهر بستان مشمش
فأيقن بحق إنه لطبيب
وعلمنا أنه كان يشتهي السمك ويمعن فيه:
فيا حبذا إمعاننا فيه ناضجا
كما جاء من تنوره المتوقد
وعلمنا أن ابن أبي بشر المرثدي غلط مرة فوعده أن يوافيه أيام السبت بالهدية منه بعد الهدية، فوقع المسكين في شباكه، فما كانت تنقضي فترة إلا على تذكير له ومناوشة، وجعل ابن الرومي هذا الوعد هجيراه ودعابته التي لا يفرغ منها.
وما كان يفرغ من دعابة ولا غير دعابة وفيها بقية، فحينا يقول: إنه قد تهود في انتظار السمك، ويسأل ابن أبي بشر:
ما لحيتاننا جفتنا وأنى
أخلف الزائرون منتظريهم!
قد أزحنا اعتلالهم وجعلنا
سبتهم جمعة، فما يشكيهم؟
جاء في السبت زورهم فأتينا
من حفاظ عليه ما يكفيهم
وجعلناه يوم عيد عظيم
فكأنا اليهود أو نحكيهم
واحتملنا مقالة الناس فينا
ولهم كل ما احتملنا وفيهم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قد سبتنا، وإنما كان قوم
يوم لا يسبتون لا تأتيهم
يشير إلى المائدة التي كانت تأتي بني إسرائيل يوم يسبتون ...!
وحينا يحمد الله الذي نجى السمك حين تعلقت به شهوة ابن الرومي ووعد المرثدي:
الحمد لله الذي نجى السمك
من الشصوص الجائلات والشبك
علمه يونس من تسبيحه
ما كان أدناه إلى تسريحه
فهو من الصياد في أمان
ما دمت أبغيه، وفي ضمان
وحينا يسائل المرثدي مستعظما لإبطائه:
أألحوت حوت الأرض أم حوت يونس
لك الخير، أم حوت السماء أروم؟
وحينا يسأل السمك:
أيا سمكا بين السماكين عزة
إلى كم يرانا الله عنك نصوم؟
وحينا يعلم المرثدي أن دجلة قريبة من قصره، وأنه قليل العذر في إخلاف وعده:
اعلم - وقيت الجهل - أنك في
قصر تليه مطارح السمك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وبنات دجلة في فنائكم
مأسورة في كل معترك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
بيض كأمثال السبائك بل
مشحونة بالشحم كالعلك
تغني عن الزيات قاليها
وتبخر الشاوين بالودك ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فليصطد الصياد حاجتنا
تصطد مودتنا بلا شرك
وهكذا وهكذا مما يغريه به حب السمك وحب الدعابة، وكلاهما شهي إليه!
وكان هذا ديدنه في كل أمر من أموره: إسراف واستقصاء لا يمسكهما ضابط، ولا تعقدهما عزيمة، إسراف واستقصاء في النكتة وفي المعنى وفي الدرس، وفي الطعام والشراب والشهوات، لا حد لهما إلا البشم والامتلاء واستنفاد ما بين يديه من مادة في ساعتها حتى لا سؤر ولا صبابة.
إن يكن عندك لي نص
ح فما عندي انتصاح
لا تلمني فالهوى في
ه جماح وطماح ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ما على المفتون فيما
غلب الصبر جناح
كل شيء غلب الصب
ر إليه فمباح
إنما الدنيا ملاه
واغتباق واصطباح
والمزاح الجد إن فك
رت والجد المزاح
وتختلف نزعات هذا الإسراف، وسببها كلها واحد: سببها كلها توفز الحس ومطاوعة الرغبة الحاضرة والاندفاع معها، وقلة الصبر عنها، ولو أن هذه الأشواق الجامحة شفعت بمسكة من العزم المتين لاعتدلت حاله ولو بعض الاعتدال، وسلم جسمه ولو بعض السلامة، ولكن أنى له العزيمة وهو أسير إحساس اللحظة التي هو فيها، لا يترك له استغراقه في مؤثراتها الحاضرة منفذا إلى التفكير في قابل أو غابر، ولا يعدل بما يزينه الحس والخيال حظا تزينه له الحكمة والحصافة.
وصاحب هذا المزاج إذا خلا من الإحساس الثائر، والرغبة الجامحة يثوب لا محالة إلى وجوم يجثم على صدره، وانقباض يثقل على وجدانه، كالنشوان لا يفيق من أحلام الكأس حتى يرين عليه السأم فيسرع إلى النشوة، فهو أبدا بين النقيضين من ثورة الإحساس وشدة الوجوم.
وليس التناقض بين ثورة الإحساس والوجوم في الحقيقة إلا ظاهرا لا يتعمق إلى البواطن الداخلية؛ إذ إن فرط الإحساس كثيرا ما يؤدي بصاحبه إلى فرط الوجوم؛ اتقاء الألم أو شعورا بالوحشة التي تنتابه حين يرى التفاوت بين شعوره وبلادة من حوله، أو مضيا مع عادة التفكير والخلو بالنفس التي ينميها التفات الإنسان إلى موارد الإحساسات المتوالية على وجدانه وحسه، وإذا لم يتوجه الإحساس إلى العمل والحركة فسبيله التي لا محيد عنها أن يتوجه إلى التأمل ومناجاة السريرة، وندر أن يوجد الخجل والاحتجاز إلا مع شدة الوعي والتنبه لكل حركة يتحركها الإنسان، وكل كلمة ينبس بها، وكل أثر يكون لحركته وكلامه في نفوس غيره، فالسكون أدل على الحس المتوفز في بعض الأحيان من الحركة والاضطراب.
ولعل الأصوب أن نقول: إن ابن الرومي وقع من مزاجه وإسرافه في حلقة موبقة لا يدرى أين طرفاها، فمزاجه أغراه بالإسراف، والإسراف جنى على مزاجه، فإن هذا الإسراف الموكل بالاستقصاء في كل مطلب ورغبة خليق ولا غرو أن يسقم جسمه، وينهك أعصابه، ويتحيف صوابه، بيد أنه لا يسرف هذا الإسراف إلا وفي جسمه سقم، وفي أعصابه خلل، وفي صوابه شطط لا يكبح جماحه، فالعلة هي سبب الإسراف، والإسراف هو سبب العلة! وهو من هذه الحلقة الموبقة في بلاء واصب، ومحنة لا قبل بها للضليع الركين فضلا عن المهزول الضئيل، وعلاقة كل ذلك باختلال الأعصاب وشذوذ الأطوار بدءا وعودا ثم عودا وبدءا علاقة من جانب الجسد ومن جانب التفكير.
ولا تعوزنا الأدلة على اختلال أعصاب ابن الرومي وشذوذ أطواره من شعره أو من غير شعره، فإن أيسر ما تقرؤه له أو عنه يلقي في روعك الظنة القوية في سلامة أعصابه واعتدال صوابه، ثم يشتد بك الظن كلما أوغلت في قراءته والقراءة عنه، حتى ينقلب إلى يقين لا تردد فيه، وكل ما نعلمه عن نحافته، وتفزز حسه، وشيخوخته الباكرة، وتغير منظره، واسترساله في الوجوم، واختلاج مشيته، وموت أولاده وطيرته، ونزقه وشهوانيته الظاهرة في تشبيبه وهجائه، وإسرافه في أهوائه ولذاته، ثم كل ما نطالعه في ثنايا سطوره من البدوات والهواجس - قرائن لا نخطئ فيها الدلالة الجازمة على اختلال الأعصاب، وشذوذ الأطوار، بل لا تخطئ فيها الدلالة على نوع الاختلال ونوع الشذوذ.
ونقول: «نوع الاختلال»؛ لأن هذه الكلمة عنوان واسع يشمل من الحالات النفسية والجسدية مثلما تشمله كلمة «الصحة» أو أكثر، فهذا صحيح وهذا صحيح، ولكن البون بينهما جد بعيد، وهذا مختل الأعصاب وذاك مختلها، ولكن الخلاف بينهما في الأخلاق والمشارب كأبعد ما يكون بين فردين مختلفين من بني الإنسان، فتختل أعصاب المرء فإذا هو جسور عنيد متعسف للأخطار، هجام على المصاعب لا يبالي العظائم ولا يحذر العواقب، وتختل أعصاب المرء فإذا هو وديع مطيع، حاضر الخوف، متوجس من الصغائر ، يبالغ في تجسيمها أو يخلقها من حيث لم تخلق، ولم يكن لها وجود في غير وهمه، وبين الحالتين - لا بل في كل حالة من الحالتين - نقائض وفروق لا تقع تحت حصر، ولا تطرد على قياس.
وبديهي أن ابن الرومي لم يكن من الفريق الأول في «نوع اختلاله»، ولكنه كان من الفريق الثاني الذي يستحضر الخوف، ويكثر التوجس، ويختلق الأوهام.
ومن أصحاب هذا المزاج من يخاف الفضاء، أو يخاف الماء، أو يخاف حيوانات منزلية لا قوة لها ولا ضراوة كالقطط والكلاب والجرذان، فابن الرومي واحد من هؤلاء نحسب أنه كان مستعدا لهذه الهواجس طول حياته في صحته ومرضه، وفي شبابه ومشيبه، ونحسب أن استقصاءه للمعاني الشعرية والإلحاح في تفريعها وتقليب جوانبها إن هو إلا علامة خفيفة من علامات هذا الوسواس الذي لا يريح صاحبه، ولا يزال يشككه ويتقاضاه التثبت والاستدراك فيمعن ثم يمعن حتى لا يجد سبيلا إلى الإمعان.
ولكنه مع استعداده للهاجس في شبابه ومشيبه قد تمادى به الوسواس في أعوامه الأخيرة، حتى أصبح آفة متأصلة غلبت على أقواله وأفعاله جميعا، فليس له عنها محيص، فأفرط في الطيرة، واشتد خوفه من الماء لا يركبه ولو أدقع، ودعاه إلى ركوبه من يمنونه الأرفاد وحسن الضيافة، وصور لنا ما يعتريه من خوف الماء تصويرا لا يدل إلا على حالة مرضية، ولو كان التشبيه فيه من مجاز الشعر وتهويل الخيال. وهذا بعض ما قاله في مخاوفه وأهوال ركوبه:
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه
ولكنه من هوله غير ثائب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أظل إذا هزته ريح ولألأت
له الشمس أمواجا طوال الغوارب
كأني أرى فيهن فرسان بهمة
يليحون نحوي بالسيوف القواضب
والماء الذي يصفه هنا هو ماء دجلة لا ماء البحر ولا ماء المحيط! •••
هذه الوساوس هي التي عناها الذين قالوا - في رواية المسعودي: «إنه كان الأغلب عليه من الأخلاط السوداء.» والذين روى عنهم المعري أنه «كان أدبه أكثر من عقله»، وهي التي وسمته في نظر أبناء عصره بسمة الركاكة والجنون. •••
بين أصحاب هذا المزاج أناس من نوابغ الشعر والفنون عرفوا بسرعة الملاحظة، وسرعة الخاطر، أو عرفوا - على الأصح - بسرعة انتقال الخواطر، وتعاقب الأفكار، واستحضار المناسبات الخفية والمشابهات البعيدة التي تدركها سرعتهم، ولا تدركها عقول السواد في بطئها، وأخذها بالسير المألوف.
وقد تتفاقم هذه الخصلة فتصل إلى الجنون الذي يقول عنه القائلون: إنه يخلط بين الشرق والغرب، ويقحم الأحاديث في غير مواضعها ومناسباتها؛ لسرعة وثبه من كلام إلى كلام، ومن معرض إلى معرض، ولخفاء أوجه المناسبة بين موضوعات تفكيره على الذين يستمعون إليه.
ولكنها إذا هي لم تبلغ إلى حدها الأقصى المشاهد في أعراض الجنون، كانت خصلة نافعة للشعراء والمصورين بما تقرب لهم من المشابهات البعيدة، وتبرز لهم من فوارق الأفكار الدقيقة، وظلال الأشكال المستسرة، إذ لا يلزم من سرعة تفكيرهم أنهم يخطئون التفكير ويجيئون به مقتضبا أو مشوها على غير استواء، فإنهم في هذه الخصلة كالآلة التي تنطلق بالصور المتحركة، فتعرض لك في لمحة ما يعرض في برهة، والمناظر بعد واحدة، والنسبة بينها كلها في استواء واحد، أو هم كالمجهر المكبر الذي يرى الأشياء كلها أكبر مما تراه العين المجردة وهي بعد صحيحة الأبعاد، مستقيمة الأوضاع، والعلم يحتاج إلى التكبير في درس الأشياء، ويحتاج إلى مثل هذا التكبير في درس النفوس، فليس كل ما دق الشعور به عن الناس عامة باطلا معيبا، ولا كل ما خفي على العين حقيقا بالتجاهل والإخفاء.
إنما يدرك الخطأ أصحاب هذا المزاج في الغالب من ناحية واحدة هي ناحية ضبط الإحساس، أو ناحية التفريق بين الخواطر وإحساساتها التي تناسبها.
فقد زعموا في الأساطير أن السحرة الأقدمين كانوا إذا فكروا في جني يريدونه حضر بين أيديهم بغير استدعاء ولا انتظار إشارة.
فلك أن تقول: إن ما زعموه حقيقة لا أسطورة، وأن السحرة الأقدمين موجودون في كل زمان؛ لأنهم هم بأعينهم سحرة الفن من أصحاب ذلك المزاج.
يخطر لهم أن صديقا مات، فما هو إلا أن يومض في ذهنهم هذا الخاطر حتى يثب معه الحزن الذي يحزنه الصديق على صديقه، أو بعبارة أخرى يثب معه الجني الملازم لخاطر الموت بغير استدعاء ولا انتظار إشارة.
وقد تسنح لأحدهم الفكرة، فما هي إلا أن تتراءى في خياله حتى يقترن بها الإحساس الذي يناسبها من خوف أو غضب أو فرح أو اغتباط، ثم لا يستطيع أن يضبط حركة إحساسه، ولا أن يصرف عنه الخالجة النفسية التي أيقظتها فيه هذه الفكرة، فكل شر مظنون فهو عنده كالشر المحقق على حد قول شاعرنا:
وإذا ما ظننت شيئا فخفه
رب شر يقينه مظنونه
وربما كان أحدهم على قمة جبل فيسنح له خاطر السقوط منه، فسرعان ما يهب في نفسه شعور الوجل والاضطراب كأنه قد سقط فعلا، ثم لا يستطيع دفع شعوره ولا يهدئ من روعه علمه بأنه مستقر على الأرض، ناج من خطر الوقوع الموهوم! وربما سنح له شبح الأفعى فتفاجئه الرهبة من سمها الناقع، ولو لم يكن في موضع تطرقه الأفاعي أو يظن بها طروقه؛ لأن هذا التنبيه الصغير كاف لتحريك الإحساس وجيشانه، وتمثيله لخياله في مثل لمح البصر، ثم لا توجد عنده القدرة على رد إحساسه إلى نصابه، والهيمنة على حركات نفسه، فهو كأولئك السحرة في قوة الاستدعاء لولا أنه ينسى الإشارة التي يصرف بها الشياطين فتلتوي عليه وترديه!
وهذا هو مورد الخطأ على أصحاب ذلك المزاج.
ولكنك ترى أنه ليس ثمة خطأ في الخاطر ولا في الإحساس الذي يلازمه، فالخاطر صحيح، والإحساس كذلك صحيح، وإنما الخطأ أن الإحساس يجيء قبل الأوان أو في غير الأوان، وقد يعد ذلك عيبا في العلم أو في تدبير المعاش، أما في الفن فلا عيب فيه؛ لأن الفنان أحوج ما يكون إلى استحضار الشعور في غير موعده، وتمثيل العاطفة كلما دعته حاجة عارضة إلى تمثيلها، فهذه الخصلة قد تؤذيه في معاشه، وقد تؤلمه وتشقيه، ولكنها لا تستلزم الخلل في تفكيره وعاطفته إلا من حيث التكبير والتجسيم، وقد يكون التكبير والتجسيم ألزم لإظهار الخفي وتقريب البعيد من نظرة القسط والهدوء، ولا سيما في الفنون. •••
ومع كل هذا يجب أن نذكر أن آمن شيء في الحكم على هذه الأمزجة وأشباهها هو ألا تركن كل الركون إلى قاعدة مقررة في تقدير أعمالها وأحوالها، وألا تزال مترقبا منها للمفاجآت والغرائب في كل لحظة، فقد يجتمع العنف العصبي والوداعة العصبية في إهاب واحد، وقد يعنف اللطيف ويلطف العنيف حسبما يطرأ عليهما من الطوارئ، وهذا الذي تراه اليوم يتوقد ذكاء وفطنة قد تراه في بعض حالاته خابي الذهن، كليل الفهم لا يعي عنك ما تقول، وهذا الذي يقيم القيامة للصغائر التوافه قد تراه وقتا ما وهو مستخف بالعظائم لا يبالي ما كان منها أو ما يكون ... وأنت تسأل: أفي تركيبهم تناقض؟
فلك أن تقول: نعم، ولك أن تقول: لا؛ لأن التناقض موجود في ظواهر الأفعال، غير موجود في بواطن المزاج، فمن كانت تقيمه الهنة الضعيفة وتقعده إذا هي لمسته وبلغت به؛ حري ألا يبالي الحوادث الجسام إذا هي لم تلمسه ولم تبلغ منه، فالمعول في ثورته وسكينته على ما يباشر حسه، ويلامس أعصابه: لا صغير إلا وهو خطير مثير إذا أزعجه وملأ إحساسه، ولا خطير إلا وهو هين طفيف إذا غاب عن وهمه، وأعفاه من رؤيته، فهو الدهر بين تبرم وفزع من توافه الأشياء، وطمأنينة وسخر من فوادح الخطوب.
ويحتاج الأديب أحيانا إلى هذا التناقض كما يحتاج إلى استحضار الإحساس في غير أوانه، أو يحق لنا أن نقول: إن شاعرنا خاصة قد استفاد من هذا التناقض مضاء وحدة في ملكة السخر التي اشتهر بها وبلغ فيها أوجها، فإن النقائض والمفارقات ألزم لوازم هذه الملكة بعد دقة الملاحظة، وها هنا معدن النقائص والمفارقات التي يعانيها الساخر في نفسه، وقد يستغني بها عن مراقبة غيره.
كان ابن الرومي ساخرا، ولا جرم كان شاعر النقائض في عصر النقائض، وكان شاعر الفطنة الوحية في عصر الرياء المضحك، أو عصر الاختلاف بين الظواهر والبواطن، والبعد الشاسع بين ما هو كائن وبين ما يدعى ويستوجب، فلا جرم يسخر وعناصر السخر في نفسه وفي زمنه! وقدرة السخر في قلبه وفي عقله، ولا جرم يسخر وهو مهيأ للسخر فيما عدا ذلك بتعدد أصوله، وتوزع أهوائه وعصبياته؛ فإن صاحب العصبية الواحدة خليق أن يتحيز ويتنطس ويغلو في الجد والمرارة، ولكن صاحب العصبيات الكثيرة لا يستطيع أن يفعل ذلك، ولا يسعه إلا أن يستخف ويضحك من تلك الدعاوى وتلك المظاهر التي يضعها غيره من الناس موضع الجد والقداسة.
وها هنا شاعر ينتمي أبوه إلى الروم، وتنتمي أمه إلى الفرس، ويدين هو بدين العرب، وينتسب في ولائه إلى أبناء النبي العربي، ويتقاسم ولاءه عدوان لدودان من العباسيين والطالبيين، فأين تكون العصبية؟ وأين تكون المطاعن والمثالب؟ ثم أين يكون التصديق الأعمى، وأين يكون التكذيب الأعمى؟ لن يسعه هو إذا اشتجرت مفاخر الروم والفرس والعرب والطالبيين والعباسيين، واختصمت بينهم العصبيات والمنافسات إلا أن يبسم في كل صوب بسمة العطف والدعابة، وأن يصبح على غير قصد منه عظيم الاستعداد للتسامح والفكاهة: كالذي يختصم إليه بنوه ويدعي كلهم ما يدعي من فضله وعيوب إخوته، وكل ما فيهم من فضل وعيب هو من لحمه ودمه، ووشائج حبه وحنانه.
فقد اجتمع لابن الرومي إذن من عناصر السخر ما لم يجتمع لأحد في عصره: اجتمعت له دقة الملاحظة والإحساس، وعمق الشعور بالمناقضات في نفسه وفي زمنه؟ وسعة النظر إلى الفوارق وسماحة العطف التي تقابل مرارة العصبية، فهو ساخر لا يبارى في سخره، وعابث مطبوع على العبث بكل شيء حتى صحبه ونفسه، يستخدم السخر في الهجاء والمديح والمطايبة والمعاتبة، ويعرض لك في متحفه الكبير تلك الصور الهزلية التي لا مثل لها في شعر شاعر واحد من شعراء العالم كله، ثم لا يأنف أن يريك بينها صورة له، بل صورا شتى لا يعوزها حظ من العناية وأمانة الصناعة.
فهذا الوجه الذي فصل للصلاة والتعبد في الفلاة، وجه من هو؟ إنه وجه ابن الرومي فيما صوره لنا حيث يقول:
شغفت بالخرد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة ولا
يشهد فيها مشاهد الجمع!
ومن هذا الغائص الذي تعلم السباحة ليغوص لا ليسبح، أو هذا الخائف المراقب الذي يمر بالماء في الكوز مر المجانب؟ إنه هو ابن الرومي أيضا حيث يقول عن نفسه:
وكيف؟ ولو ألقيت فيه وصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب؟
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على نفس راكب؟
وابن الرومي أيضا هو ذلك المنهوم الذي يشره إلى الطعام حتى في الأحلام، ويأسف على أن يذاد عنه ولو في المنام:
ولقد منعت من المرافق كلها
حتى منعت مرافق الأحلام
من ذاك أني ما أراني طاعما
في النوم أو متعرضا لطعام
إلا رأيت من الشقاء كأنني
أثنى وأكبح دونه بلجام!
وابن الرومي كذلك هو الشيخ الفاني الذي لا ينسيه هم الشيخوخة أن يتهكم بنفسه، ويحمد الله على زيغان بصره؛ لأنه بركة تجعل الشخص شخصين في نظره:
وبورك طرفي فالشخوص حياله
قرائن - من أدنى مدى - وهي فرد
هذا مثاله من سخره بنفسه، أما سخره بغيره فله في أفانينه الكثيرة ومعانيه الغريبة ما يقوم بديوان كامل، وبراعته فيه طبقة لا تعلوها طبقة في نوعها، ويندر أن يدانيها فحول الساخرين في المشرق والمغرب، فله في أحدب كان يضايقه ويترصد له أمام داره ليتطير منه:
قصرت أخادعه وطال قذاله
فكأنه متربص أن يصفعا
وكأنما صفعت قفاه مرة
وأحس ثانية لها فتجمعا
وهي براعة لا نظير لها في وصف الشكل والحركة، ولا في تضمينهما هيئة السخر التي عمل فيها الشاعر عمله المركب ليتم فيها نصيب العين والضحك والخيال، فصورة الرجل وهو يتهيأ لأن يصفع، ثم يتجمع ليتقي الصفعة الثانية هي صورة الأحدب بنصها وفصها لا يعوزها الإتقان الحسي، ولا الحركة المهينة، ولا الهيئة الزرية، ولا التأمل الطويل في ضم أجزاء الصورة بعضها إلى بعض حتى يتفق التشبيه هذا الاتفاق.
وله في معلم صبيان مغن:
أبو سليمان لا ترضى طريقته
لا في غناء ولا تعليم صبيان
له إذا جاوب الطنبور محتفلا
ضرب بمصر وصوت في خراسان
عواء كلب على أوتار مندفة
في قبح قرد وفي استكبار هامان
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طحان
وله في جحظة - وكان مغنيا جاحظ العينين:
تخاله أبدا من قبح منظره
مجاذبا وترا
14
أو بالعا حجرا
كأنه ضفدع في لجة هرم
إذا شدا نغما أو كرر النظرا!
وله فيه:
نبئت جحظة يستعير جحوظه
من فيل شطرنج ومن سرطان
وا رحمتا لمنادميه تحملوا
ألم العيون للذة الآذان
وله في مغن:
إنك لو تسمع ألحانه
تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
موسوسا يخنق معتوها
15
وله في مغنية:
تضغط الصوت الذي تشدو به
غصة في حلقها معترضة
فإذا غنت بدا في «جيدها»
كل عرق مثل بيت الأرضة
وله في مغنية أخرى:
صوتها بالقلوب غير رفيق
بل له بالقلوب عنف وبطش
فإذا رققته بالجهد منها
خلت في حلقها شعيرا يجش
وله في صاحب لحية:
لو غاص في الماء بها غوصة
صاد بها حيتانه أجمعا
أو قابل الريح بها مرة
لم ينبعث في خطوه أصبعا
وله في أبي حفص:
إن أبا حفص وعثنونه
كلاهما أصبح لي ناصبا
قد أغريا بي يهجواني معا
وحدي وكان الأكثر الغالبا
إن كان كفئا لي في زعمه
فليعتزل لحيته جانبا
وله في رجل له منظر ولا أدب عنده:
طول وعرض بلا عقل ولا أدب
فليس يحسن إلا وهو مصلوب
وله في أكول مضاغة:
بعض أضراسه يكادم بعضا
فهي مسنونة بغير سنون
لا دءوب إلا دءوب رحاها
أو دءوب الرحى التي للمنون
لا تعطل رحاك يا ابن سليما
ن فليس الثواب فيها بدون
قسما لو وقفتها للمساكي
ن لما مسهم غلاء الطحين
ما ظننت الإنسان يجتر حتى
كنت ذاك الإنسان عين اليقين
وله في قصير أعور أصلع:
أقصر وعور
وصلع في واحد
شواهد مقبولة
ناهيك من شواهد
تنبئنا عن رجل
مستعمل المقافد
أقمأه القفد فأض
حى قائما كقاعد
وله في قصير:
على أنه جعد البنان دحيدح
إذا ما مشى مستعجلا قيل: يدرج
وله فيمن هجاه:
رقادك لا تسهر لي الليل ضلة
ولا تتجشم في حوك القصائد
أبي وأبوك الشيخ آدم تلتقي
مناسبنا في منسب منه واحد
فلا تهجني حسبي من الذم أنني
وإياك ضمتنا ولادة والد
وله في بخيل:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
وله في أصلع:
فوجهه يأخذ من رأسه
أخذ نهار الصيف من ليله
وله من أمثال ذلك ما يطول بنا إحصاؤه، ولا نرى هنا فائدة من الإسهاب في تكرار شواهده.
وأبرع ما يكون سخره كما ترى إذا هو شبه لك صورة محسوسة، أو خلق لك من خياله صورة معنوية، فإنه يحكم التشبيه، ويحكم خلق الصورة فيضحك بالمقابلة بين الشيء وشبيهه، ويضحك بما تتخيله من المنظر الغريب حين يعمد إلى خلق الشكول المعنوية؛ كصورة الأحدب مثلا، أو كصورة الرجل «المستعمل المقافد» الذي يضرب في كل مكان صالح منه للضرب، فيصلع لقفده في موضع شعره، ويقصر لكثرة الطرق على رأسه، ويعور لضربه على عينه، وحركة الأبيات نفسها حين تتلى على عجل كحركة الصفعات ما تني نازلة صاعدة كما أنبأ عنها في تلك الأبيات.
أو كصورة الرجل الذي لا نفع له إلا أن يصلب؛ لأنه بذاك يظهر أحسن ما فيه، وهو عرضه وطوله، أو كصورة المغني الذي تتراءى عيناه الجاحظتان كعيني الضفدع «الهرم» في لجة يكرر النظر ويغني وفمه في الماء!
وكان فضلا عن هذا لا تفوته من الأغراض فائتة في اللفظ ولا في المعنى ولا في التصوير: ألق بالك مثلا إلى كلمة «جيدها» في هذا البيت:
فإذا غنت بدا في جيدها
كل عرق مثل بيت الأرضة
فلو أن ساخرا غير مطبوع على السخر أراد هذا المعنى لاختار كلمة غير «جيدها» للمبالغة في التقبيح والتشويه، ولكنك تنظر فترى أصلح الكلمات في هذا الموضع هي الكلمة التي توهمك الحسن، وتحضر لك المناقضة التامة بين الوهم والصورة المشهودة، فيستوي طرفا النكتة، ويبدو لنا الفرق المضحك بين الجيد وبيت الأرضة، كما نضحك من الفرق الذي يبدو لنا إذا وقف القزم إلى جانب العملاق.
وتأمل كلمة «طحان» في هذا البيت:
وتحسب العين فكيه إذا اختلفا
عند التنغم فكي بغل طحان
فليس تمام القافية وحدها بهذه الكلمة، بل الصورة المعنوية هي التي تمت بها أحسن تمام؛ لأن السخر لن يستوفى في هذا التشبيه إلا إذا تمثلنا في موقف الغناء الممتع بغلا من بغال الطحانين العجاف الجياع يتنغم ويستكبر بأنغامه استكبار هامان، ولو كان بغلا من البغال الفارهة المترفة لنقصت الصورة، وفترت فيها قوة السخر وقوة التشبيه، وقس على ذلك «الشيخ» آدم، أو قس عليه سائر الأبيات والصور.
وسيأتي تفصيل الكلام على ملكة التصوير في شعره عند الكلام على عبقريته، والصلة بين فنه وبين الطبيعة والحياة. •••
وليس يكفي أن نقول: إن ابن الرومي كان ساخرا بارع التصوير؛ لنعلم كل شيء نحب أن نعلمه عن سخره، فإن السخر يتنوع حتى لا يتفق في الباعث الذي يوحيه، ولا في العبارة التي تؤديه، وأدباء «النفسيين» يقسمونه إلى التهكم والعبث، والمجانة والفكاهة، ويجعلون كل قسم منها جميعا نوعا من «الضحك» قائما بمفرده، مستقلا بصيغته وغرضه. والأقرب إلى فهم الموضوع عندنا أن نوحد الضحك، ونجعل الاختلاف في الخلائق والحالات النفسية، فنفرق بين ضحك الخليقة الكريمة، وضحك الخليقة اللئيمة، وبين الضحك في حالة الرضى والعطف، والضحك في حالة الغضب والجفاء، ثم نفرق بين العبث في الحالين المختلفين من النفس الواحدة؛ فعبث النبيل الأريحي غير عبث الوضيع الخبيث، وتهكم الصارم الأبي غير تهكم الرخو الذليل، وفي الدنيا من التهكم بمقدار ما فيها من المتهكمين، نعني بذلك أن التهكم ليس «نوعا» واحدا من الضحك، ولا شكلا واحدا من الملكات، ولكنه أنواع تختلف باختلاف الحالات والخلائق والأساليب؛ فخير لنا أن نرجع إلى اختلاف هذه الحالات من أن نجمع التهكم كله في باب واحد، وصبغة واحدة، وهو ليس كذلك.
وما من ضاحك إلا وهو قابل لجميع هذه الحالات في مختلف الأطوار، فهو متهكم حينا وعابث حينا، ومازج بين هذين الشعورين في بعض الأحيان كما يتفق كثيرا أن يمتزج الشعوران المتغايران.
فإذا قلنا: إن ابن الرومي ساخر فقد بقي أن نعرف نوع السخر؛ لنعرف نوع الطبيعة التي توحيه، فإن المرء - كما تقدم - يكون ساخرا وهو طيب سليم الطوية، وساخرا وهو خبيث مظلم السريرة، فمن أي فئات الساخرين كان ابن الرومي، وأي خليقة من الخلائق كانت تهيمن على سخره؟ أنسلكه في الطيبين أو في الخبثاء؟ وفي الخلائق الشفافة القويمة أو في الخلائق الكدرة العوجاء؟
إننا نسأل هذا السؤال ونبتسم.
نبتسم كما قد نرى الطفل اللعوب يعدو وراء مضحكة من المضاحك، أو فرجة من الفرج، ثم يسألنا السائل في جد ورزانة: ما هي العداوة التي يكنها ذلك الطفل لمن يعدو خلفهم، ويلهو بمعابثتهم؟! فأي عداوة وأي صداقة؟ وأي خباثة وأي طيبة؟ هنا مضحكة وكفى! ولن يفهم الطفل في منطقه إلا أنه يستطيع هنا أن يضحك، فلم لا يضحك؟ إي نعم، لم لا والضحك لذيذ والإغراء به حاضر؟!
فابن الرومي هو ذلك الطفل في سخره وضحكه وتهكمه وهجائه، لسنا نفهمه حق فهمه إلا إذا تمثلناه أبدا في جدة الإحساس واخضراره على هيئة الطفولة النامية التي لا تجف ولا تشيخ، وإن جفت المفاصل وشاخت الأوصال، وستمر بنا عقد كثيرة من عاداته ومواهبه لا تدرك ولا تفسر إلا على اعتبار واحد، وهو أنه طفل كبير لا يفرغ من الطفولة طول حياته! فسل ما شئت عنه، ولكن سؤالك عن الطفولة النامية بمزيتها ونقصها، وطيبها وخبثها، ورضاها وغضبها، وانتظر منه سوء الأدب إذا غضب، أو احتدم غيظه واختنق صدره، ولكن لا تنس أن الأدب السيئ خلة غير خلة الطبيعة السيئة، وأن ليس الكظم والسكوت علامة على الكرامة والصفح الجميل في كل حال.
وأجهل الناس بالطبائع الإنسانية من يصف امرأ كابن الرومي بالحسد والضغينة؛ لأنه كان يتألم ويتحسر لحرمانه، ويعجب لحظوة الجهلاء بالخير دونه؛ إذ ليس الحسد أن يألم الإنسان؛ لأنه محروم مزءود عن النعم التي يشتهيها ويتذوقها، ويعرف معنى المتعة بها، ولا أن يرى - مصيبا أو مخطئا في رأيه - أنه أجدر وأليق بتلك النعم ممن لا يحسبهم أنداده في الفضل والذكاء، وأقرانه في المناقب والمآثر، كلا! ليس هذا هو الحسد المذموم المعدود في رديء الصفات، وإنما الحسد المذموم هو خلق كريه يبتلى به المرء، فلا يطيق النعمة عند غيره وإن كانت عنده، ولا يستريح إلى شعور الناس بالسعادة لانقطاع ما بينه وبينهم من رحم العطف والمشاركة في الأفراح والآلام.
فالحسد نضوب في العاطفة، وابن الرومي أبعد إنسان من نضوب العاطفة، وتحجر في الشعور، وليس للتحجر في خلائق ابن الرومي وأمثاله مكان، والحاسد لا يجعل الخير مقرونا بالفضل، والنعمة مرهونة بالمناقب، ولا يطلب المتعة والجاه لأنه أقدر وأجدر ممن ينعمون بهما في الدنيا بغير حق ولا معرفة؛ إذ التفكير على هذا النمط غريب عن جبلة الحاسد الذي إنما يريد الخير؛ لأنه يريده وكفى! ثم لا يكلف عقله أن يدلي له بحجة في طلبه غير حجة الأثرة الحيوانية التي لا تسأله سببا، والأنانية الصماء التي لا تعقل ولا توازن ولا تتدبر، ويسوءه أن ينعم الناس لأنه يرى النعمة وقفا عليه، ويرى أن كل ما سر غيره مسلوب منه، وليكن ذلك السرور علما وهو لا ينافس العلماء، أو صلاحا وهو لا يتشبه بأهل الصلاح، أو شرفا وهو لا يطمح إلى الشرف، فحسبه أنه سرور في عرف أحد من الناس، وحظ ينعم به غيره ويتملاه؛ ليكون ذلك السرور ثأرا عنده، ويكون تنغيص المسرور به من همه ودأبه. وهذا هو الحسد الذي ليس في طبيعة ابن الرومي ذرة منه، بل ليس ما عنده إلا نقيضه وضده.
فقد كانت ألذ متعه التي وصفها تلك المتع التي غنمها مع صحبه، وسعد بها كما سعد غيره، وربما كان لا يلح ذلك الإلحاح في طلب السمك الذي يحبه إلا ليسرع به إلى صديقه يدعوه إليه، ويشركه فيه:
متى عهدك بالكرخ
وبالشبوط والفرخ
وبالبكر التي لم تش
ق بالنار ولا الطبخ
وقد كان شعوره بحرمان غيره كشعوره بحرمان نفسه، ولو لم تكن بينه وبين المحروم صداقة ولا علاقة، فكان يرثي للحمال المكدود إذا بصر به فيصف حاله وصف مشفق عليه يألم لجميع ألمه:
رأيت حمالا مبين العمى
يعثر في الأكم وفي الوهد
محتملا ثقلا على رأسه
تضعف عنه قوة الجلد
بين جمالات وأشباهها
من بشر ناموا عن المجد
وكلهم يصدمه عامدا
أو تائه اللب بلا عمد
والبائس المسكين مستسلم
أذل للمكروه من عبد
وما اشتهى ذاك ولكنه
فر من اللؤم إلى الجهد
فر إلى الحمل على ضعفة
من كلحات المكثر الوغد
وما كان بينه وبين ذلك الحمال من صلة حركت فيه ذلك الإشفاق عليه، والعجب من صبره إلا أنه كان يؤثر مقاساة الجهد على مقاساة اللؤم، وبرح العناء على التكسب بمدح البخلاء، ويريح نفسه مما يعانيه الشاعر، ويفتقر إليه من استجداء النوال وذل السؤال، وهي صلة لا تتحرك بها العاطفة إلا في نفس مجبولة على العطف، والتأسي بأحوال الكبير والصغير والرفيع والوضيع. «وكان هو وصديق له متصلين برجل جليل من حاشية السلطان، فكان المتصل به يسرف على صديقه في الاستخفاف به»، فقال ابن الرومي يلوم ذلك الرجل الجليل على استخفافه بصديقه:
أحب أن تشتمني
بوزن ما تشتمه
أو توقع الإكرام لي
وللذي أكرمه
فإن ما تفعله
بحضرتي يحشمه ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وإنني يظلمني
كل امرئ يظلمه
ولو رجل غير ابن الرومي في موضعه كان بنفسه حسد أو دخيلة سوء؛ لسره أن يخص بالحفاوة دون زميله، والتمس الزلفى عند ذلك الرجل الجليل بموافقته على مزاحه واستخفافه، لكنه كان في الواقع كأبرأ الناس من حسد، وأعظمهم سرورا بعطف صديق، بل كان الصديق مقدما عنده على الحبيب.
عرج على ذكر الصدي
ق وعد عن ذكر الحبيب
كم مكثر لي مخبث
ومقل قول لي مطيب!
لأن العطف حاجة من حاجات قلبه وضرورة من ضروراته، ووقاء له مما كان يرهقه ويشتد على صبره، فكان عطف الصديق يحيي نفسه، ويخلقه خلقا جديدا كما قال:
خليل أظل إذا زارني
كأني أنشأ خلقا جديدا
أراني وإن كثر المؤنسو
ن ما غاب عني وحيدا فريدا
فما كان الرجل حاسدا ولا شبيها بالحاسد، وما كان إلا إنسانا كسائر الناس يحب الخير لنفسه ولا يكرهه لغيره، بل ما كان إلا ذلك الطفل الكبير الذي كانه في حدة طعمه، وقلة حيلته، وقد فتح عينيه وفغر فاه إلى قطعة الحلوى في يد غيره، فبلع ريقه وصاح في براءة وصراحة لا تعرفهما طبائع الحاسدين:
لا تلومن حاسدا؛ ألم النف
س من البخس - يا أخي - شديد!
وما حيلة المسكين في شهوة قلبه، وفي قلة حيلته وحوله؟ وكيف الصدوف عن النعمة وما هو بزاهد فيها، ولا بجاهل لقدرها، ولا بغافل عن لذتها؟ أهو معصوم من الفتنة كما قد حرم نصيبه من النعمة؟ لا، بل إن فتنته لأشد وأضرى! وإنه بالغبن لأحس وأدرى:
يا ليت أهل العقل إذ حرموا
عصموا من الشهوات والفتن
لكنهم حرموا وما عصموا
فقلوبهم مرضى من الإحن
وهم أحس على بليتهم
من غيرهم بمرارة الغبن
فمبلغ القول في حسده أنه كان شديد الرغبة في متع الحياة، قليل الحيلة في احتجانها، فإذا سميت هذا حسدا فقل: إن ابن الرومي حاسد، وقل: إن الطفل الذي يتطلع إلى الحلوى في يد رفيقه الصغير حاسد، وأضف إلى الحسد بهذه التسمية معنى جديدا لم يكن من معاني هذا الخلق البغيض الذميم. •••
ويقال في حقده ما يقال في حسده، فقد كان ساخطا ولم يكن حاقدا، والبون بعيد بين السخط والحقد، وإن التبست أعراض هذين الخلقين على طلاب الظواهر.
فهما خلقان متباينان، وقد يكونان في بعض الأحيان متناقضين، فيسخط الإنسان بل يدوم سخطه وليس في قلبه من الحقد أثر، وقد تكون كثرة سخطه لكثرة استجابته للمؤثرات الجديدة الطارئة التي تتعاقب على حسه؛ أي لقلة حقده وقلة إصراره على البغض القديم.
والحقد توءم الحسد في خلة الأثرة الحيوانية والأنانية الصماء، فلهذه الخلة يستكبر الحاقد الإساءة الصغيرة إلى نفسه، كما يستكثر الحاسد النعمة القليلة على غيره، والسبب في الحالتين واحد؛ وهو أنه لغلوه في حب نفسه، واستغراقه في الأثرة الحيوانية لا يريد أن يساء هو، ولا أن يسر غيره، وليس يعنيه أن يساء بالحق أو بغير الحق، وأن يكون عاديا في هذه الإساءة أو معدوا عليه، فإن ذلك كله من وراء تفكيره وحسابه، ولا فرق عنده بين أن يظلمه الناس في الإساءة إليه أو ينصفوه، وبين أن يسيئوا إليه بالعدوان عليه أو بصده هو عن العدوان.
فمن الحاقدين من يحقد على الناس لأنهم أبوا عليه أن يضرهم ليستفيد من ضررهم، ووقفوا بينه وبين مصلحته، ولو كان وقوفهم هذا من حقهم ولإنقاذ حياتهم! وهو لا يكفر بالعدل ولا يكره العدوان لأنه جور وعسف، ولا يعرف من الكراهة إلا أن يكره ما يسوءه كائنا ما كان، وبالغا ما بلغ فيه العذر والاضطرار. وهذا غير الشعور الذي يشعر به المرء حين يعتدى عليه بغير الحق، فيسوءه ذلك، ثم يتوالى العدوان فيتوالى الاستياء، ويطول السخط والامتعاض؛ فإن من النبل أن يغضب المرء للعدوان وقع به ووقع بغيره، فإن لم يرتفع بغض العدوان إلى مقام النبل، فهو لا يهبط بصاحبه إلى ما دون منزلة العذر المعقول والطبع المستقيم.
من هذا القبيل كان شعور ابن الرومي حين توالت عليه أسباب السخط، فتوالى سخطه وغضبه، وتواصلت شكواه وضجره، فكل سبب كان يثيره فهو سبب «أخضر» لا مشابهة فيه لأسباب الحقد التي يطول ثواؤها بالضمير حتى تفسد وتتعفن، أو تيبس وتتحجر.
وما كان لطبيعة مهتاجة كطبيعة ابن الرومي طاقة بضرب من الإحساس غير ذلك الذي نسميه «بالأخضر»؛ لحدته وحرارة نبضه، وسرعة أثره وسرعة زواله، وأنى لمثل هذه الطبيعة إصرار الحقد وتدبيره، وثباته على ما فيه بين تقلب الحوادث وتجدد المسرات والمصائب؟ كل ما تطيقه هذه الطبيعة من الشعور هو ذلك الشعور الذي تحضره أسبابه، وتلح عليه مؤثراته، فإذا كانت الأسباب لا تزال مؤلمة مغضبة، فالألم دائم والغضب لازم، والناس يقولون حينئذ: إنه الحقد، وإنه الضغينة، وإنه خلق ذميم وطبيعة رديئة؛ لأن الحقد هو الاسم الذي يطلقه العامة على الاستياء إذا دام واتصل، وتوالت موارده فتوالى وجوده، ولأنهم ربما بلغوا من بلادة الأنانية وقلة الإحساس بمعنى العدل أن يسيئوا إلى المستضعف المخذول، ولا يتوقعوا منه الألم والاستياء ... ولم لا؟ ألا يسرهم أن يعبثوا به ويتماجنوا عليه؟ فما باله إذن لا يسر بما به يسرون، ولا يضحك هو كما هم يضحكون؟!
فكل ما كانت تطيقه طبيعة ابن الرومي من الشعور هو ذلك الذي تحضره أسبابه، وتلح عليه مؤثراته، فإذا غابت الأسباب وفترت المؤثرات نسي شعوره في لمحة عين، وانقلب إلى نقيضه، وفي قصته مع الأخفش عبرة لمن شاء أن يعرف ما وراء سخطه من الطيب والغفران والمودة، فقد صمد الأخفش ما صمد من الزمن يعبث به، ويثقل عليه في العبث حتى منعه أن يبرح بيته ويتصرف لمعاشه، فعاتبه ابن الرومي فلم يرعو، وأنذره فلم يحفل، وقال له يتوعده:
لا يأمنن السفيه بادراتي
فإنني عارض لمن عرضا
عندي له السوط إن تلوم في الس
ير وعندي اللجام إن ركضا
وما توعد إلا بعد لجاج ومحال وصلح واعتذار، فلما لم ينفعه ذلك هجاه وأقذع في هجائه كعادة أهل الزمان في كل هجاء، فعاد الأخفش إليه يسترضيه ويستعطفه، فرضي وعطف، وأسرع فنسي تثقيله ونسي الهجاء وأقبل يقرظه ويطريه، ويبالغ في تقريظه وإطرائه غير تارك لنفسه بقية لوتر قديم، ولا لوتر مستأنف:
ذكر الأخفش القديم فقلنا:
إن للأخفش الحديث لفضلا
وإذا ما حكمت والروم أهلي
في كلام معرب كنت عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب
لا أرى الزور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلا لم ألقب
فيلسوفا ولم أسوم هرقلا
بدأ النحو ناشئا فغذاه
أحدث الأخفشين فانقاد رسلا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يا ظماء إلى الصواب ردوه
يسقكم بالصواب علا ونهلا
هو بحر من البحور فرات
ليس ملحا، وليس حاشاه ضحلا
وأطنب في ذلك حتى دعاه مقومه وخدينه:
قل له: يا مقومي وسميي
وكنيي ومن غدا لي شكلا
قد أردت الإطناب فيك فقالت
لي غاياتك البعيدة: مهلا
ورأيت اليسير يكفي من الحل
ي إذا النصل كان مثلك نصلا
إلا أن الأخفش لم يصف هذا الصفاء، ولم يكن إلا عابثا في صلحه كما كان عابثا في خصامه، فعاد إلى شنشنته معه، وعاد ابن الرومي إلى سلاحه الذي نبذه حتى حسب صاحبه أنه حطمه، فقال يذكره:
حذار عرامي أو نظار فإنما
يظلكم قطع من الرجز مرسل
ولا تحسبن الصلح أنصل آلتي
ولا أنني في هدنة السلم أغفل
ولكنني مستجمع الحلم مغبر
أفوق نبلي تارة وأنصل
فإن هاجت الهيجاء أو عاد عودها
على بدئها لم يلق مني أعزل
وليس يغر الحاقد هذا الغرور، ولا الناس يصنعون هذا بمن يعلمون حقده، ويحذرون منه تصميم نيته.
وانقلب ابن عمار على ابن الرومي، وابن الرومي - كما عرفت من أخباره - هو الذي أعانه بما في وسعه، وقربه من الرؤساء أصحابه، وجعل له سببا إلى رزقه، فجزاه انقلابا بانقلاب ومسبة بمسبة، ولم يفعل ذلك إلا بعد أن تحيل جهده على عطفه واستلال حقده وحسده فلم يفلح، وكتب إليه يستعيده إلى سالف مودته:
أيها الحاسدي على صحبتي العس
ر وذمي الزمان والإخوانا
حسدا هاجه على ثلب شعري
ولقائي معبسا غضبانا
وانتقاصي مع العدو وقد كا
ن يرى لي نقائصي رجحانا
ليت شعري ماذا حسدت عليه
أيها الظالمي إخائي عيانا
أعلى أنني ظمئت وأضحى
كل من كان صاديا ريانا
أم على أنني أمشي حسيرا
وأرى الناس كلهم ركبانا
أم على أنني ثكلت شقيقي
وعدمت الثراء والأوطانا
عد كريما إلى كريم كما كن
ت وإلا لقيت مني هوانا
لا عقاب بما تقول ولكن
بجفاء أردفته هجرانا
وتيقن أني مقيم على العه
د حياتي، وخذ بذاك ضمانا
لا أعد الذنوب منك ذنوبا
بل هدايا مقبولة وحنانا
فلم يجد ذلك في استعطاف ابن عمار، ولم يثنه عن عدائه وثلبه، ثم تقرأ في ديوان ابن الرومي فترى فيه قصيدة قالها قبل موته بخمسة أيام أو ستة يمدح الجراح على لسان ابن عمار هذا لتيسير منفعة كان يرجوها لديه.
ونظن أننا في غنية عن سرد القصص والأمثلة على عطف ابن الرومي وغرارته وطيب قلبه، فقد كان العطف - كما أسلفنا - حاجة من حاجات طبعه، وضرورة من ضرورات حياته، وآية ذلك بينة في شعره كله، وفي تفجعه على أحبابه، وشدة فقده لأهله، وقناعته منهم باليسير من المودة يأخذها حيث وجدها، ويأسى عليها حيث لا يجدها، وهو القائل وقد صدق:
وإني لبر بالأقارب واصل
على حسد في بعضهم وعلى بغض
ولقد آن أن ننبذ تلك الطريقة العتيقة التي كان بعض الأقدمين يعتمدونها في نقد الأخلاق، وتسمية أسمائها، والمقابلة بين المتشابه والمتخالف منهما؛ فإنهم تعودوا أن يأخذوا فيها بالأعراض دون الجواهر، وبالظواهر دون المخابر، وكانوا ينظرون إلى السمات البادية ولا ينظرون إلى ما وراءها من بواعثها ... فللغضب الدائم والحقد سمة واحدة؛ فهما إذن خلق واحد! ومتى كان الشاعر كثير الذم والإنحاء على الناس، فهذه حجة جديدة تضاف إلى سمات وجهه، فلا جدال إذن في حقده، ولا شك في قبح سريرته وجنوحه إلى الشر دون الخير، والعداوة دون المودة، فإذا اتفق مع هذا أنه شهد على نفسه بالحقد فقد بطل الجدال، وحقت عليه الكلمة، ونفذ فيه القضاء، ألا تراه ناقما مغتما؟ ثم ألا تراه هاجيا لا يكف عن الذم والشتيمة، ثم ألا تراه يقر بذنبه ويصارح الناس بدفين بغضه؟ فماذا بقي بعد من أسباب الحكم غير أن يوصم وأن يدان؟!
لا يا قضاة! بقي من أسباب الحكم كل شيء، ولم يحصل لدينا بعد هذا كله سبب واحد يجوز لنا أن نعتمد عليه! بقي البحث في أسباب نقمته وذمه وشهادته على نفسه؛ فإن هذه هي العناصر التي تتألف منها الأخلاق، وليست ملامح الغضب ولا كلمات الشفاه، فإذا نحن عرفناها فذاك، أما إذا ظلت مجهولة فقد جهلنا كل سر، ولم نعرف إلا ألوان الطلاء. علام تدل النقمة؟
ثم علام يدل الاعتراف؟
إن الإنسان لينقم وهو من أشرف الناس في نقمته، وأنه ليرضى وهو من أخبث الناس في رضاه، وإن اعتراف المعترف لأحجى أن يبرئه من رذيلة المواربة والنفاق، وهي رذيلة لا تخلو منها طبيعة الحاسد أو طبيعة الحقود؟
ويلوح لنا أن نقاد الأخلاق على هذا النمط لا يختلفون كثيرا من قضاة الزمن الغابر الذين كانوا يضربون «المتهم» ليقر بالذنب، ثم يأخذونه بشهادته على نفسه، فغاية الفرق بينهم أن نقادنا لا يضربون، ولكنهم كذلك لا يسألون عن المنقود المسوق إليهم: هل هو مضروب أو غير مضروب؟ ونخالهم يغتبطون بأن يساق إليهم مضروبا معترفا ليغنيهم عن البحث، ويعفيهم من مؤنة السؤال والجواب!
وشهادة الإنسان على نفسه بالشر كشهادته لها بالخير، كلتاهما لا قيمة لها ما لم يكن لها مصداق من الطبيعة والواقع، فابن الرومي قد شهد على نفسه بالحقد فقال وهو يتحدث بأخلاقه:
شكري عتيد وكذاك حقدي
للخير والشر مكان عندي
وقال:
وما الحقد إلا توءم الشكر في الفتى
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقدا على ذي إساءة
فثم ترى شكرا على حسن القرض
إذا الأرض أدت ريع ما أنت زارع
من البذر فيها فهي ناهيك من أرض
ولا عيب أن تجزي القروض بمثلها
بل العيب أن تدان دينا فلا تقضي
فهذا اعتراف صحيح يتلهف عليه القضاة؛ قضاة المحكمة العتيقة، ولكنه بعد ليس بالمهم في البحث عن أخلاق الرجل؛ لأن وراءه سرا هو الأهم في هذا الصدد، وهو الحقيق بأن يدار البحث إليه.
فيجب أن نعلم أولا لماذا شهد ابن الرومي على نفسه بالحقد هذه الشهادة، فإن الحقود لا يشهد على نفسه بحقده، والمطبوع على الصراحة لا يكون مطبوعا على الحقود، وصراحة ابن الرومي هنا تلفت النظر إلى أمر شاذ في هذا «الاعتراف»، وتدعونا إلى السؤال عن سره، وسره ليس ببعيد.
فالرجل كان يدعي الحقد ليخيف الذين يستوطئون جانبه، ويستسهلون إرضاءه بعد إغضابه، فما كان يذكر الحقد إلا وهو ينذر ويتوعد من طرف خفي أو ظاهر، ويخير الناس بين شكره وحقده؛ ليغنموا شكره، ويجتنبوا حقده. فهذه الدعوى عنده كتلك السحنة البغيضة التي ينتحلها بعض الحيوان للإخافة والتهويل حين لا يكون مخيفا ولا هائلا في الحقيقة، وهو محتاج إلى دعواه حاجة الحيوان إلى سحنته البغيضة في معترك الحياة.
وسبب آخر لاعترافه بالحقد أنه كان يتفلسف ويدرس الجدل ويتعاطى صناعة البرهان، ويجب أن يمتحن قوته في المنطق والفلسفة بتقبيح الحسن وتحسين القبيح حسبما يبدو له من وجهيه، ومن تنازع الأقوال فيه، وتلك سنة كانت معروفة في ذلك العصر يقيسون بها البلاغة، ويقيسون بها قوة البرهان، فمدح ابن الرومي الحقد وذمه، ولم يقصر بحجة الذم عن حجة المديح، وهو القائل في ذم الحقد والرد على مادحيه:
يا مادح الحقد محتالا له شبها
لقد سلكت إليها مسلكا وعثا
لن يقلب العيب زينا من يزينه
حتى يرد كبيرا عاسيا حدثا
قد أبرم الله أسباب الأمور معا
فلن ترى سببا منهن منتكثا
يا دافن الحقد في ضعفي جوانحه
ساء الدفين الذي أمست له جدثا
الحقد داء دوي لا دواء له
يرى الصدور إذا ما جمره حرثا
فاستشف منه بصفح أو معاتبة
فإنما يبرئ المصدور ما نفثا
واجعل طلابك بالأوتار ما عظمت
ولا تكن لصغير الأمر مكترثا
والعفو أقرب للتقوى وإن جرم
من مجرم جرح الألباب أو فرثا
16
يكفيك في العفو أن الله قرظه
وحيا إلى خير من صلى ومن بعثا
شهدت أنك لو أذنبت ساءك أن
تلقى أخاك حقودا صدره شرثا
17
نعم وسرك أن ينسى الذنوب معا
وأن تصادف منه جانبا دمثا
إني إذا خلط الأقوام صالحهم
بسيئ الفعل، جدا كان أو عبثا
جعلت قلبي كطرق السبك من حسد
يستخلص الفضة البيضاء لا الخبثا
ولست أجعله كالحوض أمزجه
بحفظ ما طاب من ماء وما خبثا
وهو القائل في هذا المعنى:
يا ضارب المثل المزخرف مطريا
للحقد لم تقدح بزند وار
أصبحت خصم الحق تهدم ما بنى
والحق محتج وأنت تماري
أطريت غثك لا سمينك ضلة
واخترت من خلقيك غير خيار
شبهت نفسك والألى يولونها
آلاءهم بالأرض والعمار
ورأيت حفظك ما أتوا - من صالح
أو سيئ - كرما وعتق بحار
وزعمت فيك طبيعة أرضية
يا سابق التقرير بالإقرار
ولقد صدقت وما كذبت؛ فإنه
لا يدفع المعروف بالإنكار
لكن هاتيك الطبيعة في الفتى
مما يلظ عليه بالأستار
ولصمته عن ذكرها أولى به
من عدها في الفخر يوم فخار
فينا وفيك طبيعة أرضية
تهوي بنا أبدا لشر قرار
هبطت بآدم قبلنا وبزوجه
من جنة الفردوس أفضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها
من تلكم الجنات والأنهار
بئست - لعمر الله - تلك طبيعة
حرمت أبانا قرب أكرم جار
واستأسرت ضعفى بنيه بعدها
فهم لها أسرى بغير إسار
لكنها مأسورة مقسورة
مقهورة السلطان في الأحرار
فجسومهم من أجلها تهوي بها
ونفوسهم تسمو سمو النار ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عرفوا لروح الله فيهم فضل ما
قد أثرت من صالح الآثار
فتنزهوا وتعظموا وتكرموا
عن لؤم طبع الطين والأحجار
نزعوا إلى النجر الذي منه أتت
أرواحهم، وسموا عن الأغوار
فابن الرومي القائل هذا هو ابن الرومي القائل ذاك. وكأننا بقضاة المحكمة العتيقة يتحفزون للإدانة المبرمة، ويبحثون بين أيديهم عن المجرم الذي دانوه، فلا يجدون هنالك إلا متفلسفا يقلب القضية على وجهيها، أو هرا مستضعفا يزأر لأنه خائف لا لأنه مخيف، أو يعلمون أن الرجل قد يستجمع سمات الغضب الدائم ولهجته، ويعترف على نفسه بحقده، ولا يكون بعد ذلك على شيء من الحقد كثير ولا قليل.
وجميع أخلاق ابن الرومي تنتهي عند البحث فيها إلى مثل هذه النهاية، فهو كما أسلفنا لا يعرف من الأخلاق إلا «الأخضر» الذي يجري فيه الماء لوقته، أو هو لا يعرف من الأخلاق إلا ما يحضره سببه، وتختلج في صدره دواعيه:
أيندم ويتوب عن المعاصي؟
نعم! وجبت التوبة والندم؛ إذ:
حتى متى نشتري دنيا بآخرة
سفاهة، ونبيع الفوق بالدون؟
معللين بآمال تخادعنا
وزخرف من غرور العيش موضون
أيلهو ويقصف؟
نعم! يلهو ويقصف ويقول لمن يتوب ويندم:
لا تخلط الخب بالتقوى فتعطفنا
على المقاسي عذاب الهجر والبين
ولم نبع قط دنيانا بآخرة
ومثلنا لا يبيع النقد بالدين
أيسكر بعد إقبال المشيب وإدبار الشباب؟
نعم.
فأعذر شراب المدامة شارب
لتقصير أيام المشيب الأطاول
أو:
فالآن حين أجد الشيب يطلبني
أبادر الشيب باللذات عجلانا
أم يقلع عن السكر بعد إقبال المشيب وإدبار الشباب؟
قد يكون ذلك خيرا:
فدع شربها إذ أصبح الرأس مشرفا
محاذرة أن يصبح القلب مظلما
ولا ترينك السن والله والنهى
على الشيب والإسلام واللوم مقدما
أيشح ويحرص على ماله؟
نعم؛ فإنه:
إذا لم يكن عندي سوى ما يكفني
فشحي عليه مثل شحي على عرضي
لأني متى أتلفته احتجت حاجة
تذيل مصون العرض في طلب القرض
أيجود ويسرف؟
نعم، و:
لا تحملن هموم أيام على
يوم؛ لعلك أن تقصر عن غده
بل هو يسأل الله أن يقيه الشح ويلهمه الجود:
قني يا إلهي شح نفسي؛ فإنني
أرى الجود لي حظا وشيمتي البخل
وربما تعاورته الحالتان في لحظة واحدة، فتراه حائر النفس بين الحرص والتوكل لا يطمئن إلى هذا حتى يثوب إلى ذاك:
وقضاء الإله أحوط للنا
س من الأمهات والآباء
غير أن اليقين أضحى مريضا
مرضا باطنا شديد الخفاء
ما وجدت امرأ يرى أنه يو
قن إلا وفيه شوب امتراء
لو يصح اليقين ما رغب الرا
غب إلا إلى مليك السماء
وعسير بلوغ هاتيك جدا
تلك عليا مراتب الأنبياء
أو قد يدركه الحذر أو الأريحية فيحجم عن هجاء السلطان، ويعلن سر إحجامه كأنه مطالب بهذا الإعلان:
لا أقذع السلطان في أيامه
خوفا لسطوته ومر عقابه
وإذا الزمان أصابه بصروفه
حاذرت رجعته ووشك مثابه
وأعد لؤما أن أهم بعضه
إذ فلت الأيام من أنيابه
ذلك حين يساوره الخوف ويذكر الأريحية، فأما إذا ثارت بلابله، واضطرمت لواعجه، وملكه الغيظ فاجتاح حزمه وخوفه، فهو أهجم هاجم على سلطان حديد ناب أو مفلوله، وهو الجسور في هجائه على ما يخافه الجسور الذي لا يخاف.
فهو ابن ساعته وطوع الحاضر من إحساسه، و«النوبة الطارئة» هي المفتاح الذي يفض به كل ما استغلق من أسرار نفسه على الجملة، وما كان في نفسه من سر مغلق إلا وجدته هو معنى منهوما بالغوص عليه والكشف عنه لقارئي شعره!
معيشته
عاش ابن الرومي حياته كلها في بغداد، لا يفارقها قليلا حتى يعود سريعا، وقد نازعه إليها شوق وغلبه نحوها حنين، وكانت بغداد يومئذ عاصمة الدنيا غير مدافع: فيها كل محاسن العمار الواسع وعيوبه، وكل رفاهة العمار الواسع وشقائه؛ قصور تبلغ النفقة على بنائها وتأثيثها ألوف الألوف، ومتاجر يؤمها أصحاب القوافل من أقصى المشرق وأقصى المغرب، ومدارس ومكاتب وحلقات للمذاكرة يجلس فيها الأئمة في كل فرع من فروع العلم والأدب، وإلى جانب ذلك بيوت في كل منزه، ومرتاد على النهر أو في الخلاء للهو والمعاقرة والسمر يغني فيها القيان، ويرقص الجواري، ويغشاها العلية والسواد، ويسكت عنها الخلفاء حينا، فتكثر وتعمر أو يغضبون عليها فيبعدونها إلى حيث تغيب عن الأنظار، ولكنها لا تغيب عن الطلاب والرواد، ومن وراء ذلك أحياء منبوذة يكمن فيها اللصوص والمغتالون يتألبون على نقب الدور، وحمل الخزائن، واستدراج الموسرين على نحو ما نقرأ عن عصابات الإثم والجريمة في عواصم هذا الزمان، فإذا تصفحت أخبار بغداد بما اشتملت عليه من جمال وشناعة وبذخ وفاقة واحتيال على طلب المال والمتعة من كل مطلب، وانصراف إلى السرور والرغد في كل وجهة، فكأنك تتصفح أخبار الغرائب في عواصم الدنيا التي تسمى اليوم باريس وبرلين ولندن وشيكاغو ونيويورك.
وهذه العواصم كافة لا تطيب فيها إقامة إلا بمال، أما بغداد خاصة فكان ساكنها أحوج إلى المال من ساكن العواصم الحديثة؛ لأنها كانت عرضة للغلاء في القرن الثالث لاضطراب الأمور في الجهات التي كانت تميرها، وانقطاع الوارد عنها حينا بعد حين، فإذا وقع فيها الغلاء ندر الخبز، وارتفع سعر الدقيق، وكان ما وصفه ابن الرومي في بعض شكاياته:
أحسن ما كان الدقيق موقعا
من رجل أفلس حتى أدقعا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وأصبح القوم البطان جوعا
وخشي الجائع ألا يشبعا
وهي إذا لم تغل لم ترخص، ولم يستغن طالب المعيشة فيها عن بعض اليسار، كما قال بعض الشعراء:
سقى الله بغداد من جنة
غدت للورى نزهة الأنفس
على أنها منية الموسر
ين ولكنها حسرة المفلس
وابن الرومي لم يكن طالب معيشة وحسب، بل كان طالب معيشة ومتعة ومسرة، وكان منهوكا في مطالبه كلها، قليل الصبر على غواية المناعم واللذات أنى كانت، وحيث أمكن منها الحول والحيلة:
فبادر الدهر بالمناعم والل
ذات واحذر من وشك مرتحل
فإن تعذرن أن يجئنك بال
قوة فاحتل لطائف الحيل
وكان كثير الألفة لبيوت القيان يعاشرهن ويسمعهن ولا يسمع فيهن لوم لائم:
ولاح في القيان فقلت: مهلا
رميت بنبل أوتار القيان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
شبيهات الرماح قنا متون
وكلما في القلوب بلا سنان
وهل من حربة أو من سنان
كعين أو كثغر أو بنان؟
وربما كان الشعر من حيله التي كان يحتال بها على ود القيان، وحضور مجالسهن، فيثني عليهن حينا، ويهجوهن أحيانا، وينال بذلك ما يناله غيره بالدنانير والدراهم، بيد أنها حيلة تغنيه في هذا الغرض قليلا ولا تغنيه كثيرا، ثم هي لا تغنيه عن المال كلما احتاج إليه في سائر وجوه عيشه ولهوه.
فصاحبنا في مدينة الغلاء قد عاش وعلى غير التقشف والزهد قد فطر، فهل كان ميسور الحالة مكفي المؤنة؟ وهل كان الشعر كفيلا له بمال يغنيه في ضروراته ونوافله؟ أو هو كان فقيرا محروما لا يصيب من فرص العيش إلا ما يغبه على موائد الأمراء، أو يحتال له «لطائف الحيل» حيثما أسعفت وأفادت، وقلما تسعف وتفيد؟
إن قصائد ابن الرومي في جملتها لا تدع إلا أثرا واحدا في ذهن القارئ من هذه الوجهة، وهو أنه كان في ضنك وفاقة، كثير الحرمان، كثير الشكاية، ولكنها لا تخلو هنا وهناك من أبيات تدل على كفاف أو حظ من اليسر، وعلى أن بعض ممدوحيه كانوا يحرمونه عطاياهم لذلك اليسر الذي يرونه عليه:
أتحرمني لأني مستقل
وأني لست كالرزحى السغاب
فما تحمي ذوات الدر درا
إذا صادفن ملآن الوطاب
ومن أبياته ما يدل على أنه كان صاحب ضيعة، وصاحب دارين وثراء وتحف موروثة، منها قدح زعم أنه كان للرشيد، وقال في وصفه وقد أهداه إلى علي بن يحيى المنجم:
وبديع من البدائع يسبي
كل عقل ويطبي كل طرف
وفي الحسن والملاحة حتى
ما يوفيه واصف حق وصف
قدح كان للرشيد اصطفاه
خلف من ذكوره غير خلف
كفم الحب في الحلاوة بل أح
لى، وإن كان لا يناغي بحرف
صيغ من جوهر مصفى طباعا
لا علاجا بكيمياء مصف
تنفذ العين فيه حتى تراها
أخطأته من رقة المستشف
كهواء بلا هباء مشوب
بضياء أرقق بذاك وأصف
وسط القدر لم يكبر لجرع
متوال، ولم يصغر لرشف
فعلى هذا يلوح لنا أنه كان ميسر المعيشة ولو بعض التيسير، وأنه كان في وقت من أوقاته «مستقلا» ليس «كالرزحى السغاب»، غير أننا لا نعلم بخبر تلك الضيعة إلا لنعلم أنها مجدبة تطيل عناءه ولا تغل عليه:
أعاني ضيعة ما زلت منها
بحمد الله قدما في عناء
وأنها كانت تصاب بالجراد فيأتي على زرعها في بعض السنين:
لي زرع أتى عليه الجراد
عادني مذ رزئته العواد
كنت أرجو حصاده فأتاه
قبل أن يبلغ الحصاد الحصاد
وأنه كان يستعفي من دفع خراجها، ويكتب إلى وهب بن سليمان يشكو إليه ضيقه وسلب الخطوب ما في يديه:
هب لراجيك ما عليه فإن اس
مك وهب ووسمك الوهاب
أنت بحر ومن له تجتبى الأم
وال بحر لجانبيه عباب
فارغبا عن مداد شعبي فليست
فيه إلا صبابة، بل سراب
وارثيا لامرئ ألح عليه
للزمان الصئول ظفر وناب
سلبته الخطوب ما في يديه
وله من تجمل أثواب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
غير أن ليس في خراجي وحدي
ما بأعلاقه يسوغ الشراب
لك في مكثري الرعية دوني
حلب كيف شئت بل أحلاب
كذلك لا نعلم «بثرائه» إلا لنعلم أنه أصيب فيه بحريق و:
حدوث حوادث منها حريق
تحيف ما جمعت من الثراء
وأنه أصبح يستطعم بعد أن كان من المطعمين:
أمن بعد منزلة المطعمين
أعدم منزلة الطاعم؟!
وكذاك لا نعلم بخبر داريه إلا لنعلم أنهما غصبتا منه، كما زعم، أو خرجتا من يده بحق أو بغير حق على أية حال، فلما كان في نحو الثلاثين جار على دار له تاجر يعرف بابن أبي كامل - في رواية زهر الآداب - فاغتصب بعض جدرها وأجبره على بيعها، وفزع ابن الرومي إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر يستعديه ويذكر تلك الدار أو ذلك «الوطن»:
ولي وطن آليت ألا أبيعه
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه
لها جسد إن بان غودر هالكا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقد ضامني فيه لئيم وعزني
وها أنا منه معصم بحبالكا
وأحدث أحداثا أضرت بمنزلي
يريغ إلى بيعيه مني المسالكا
وراغمني فيما أتى من ظلامتي
وقال لي اجده في جهد احتيالكا
فما هو إلا نظمك الشعر سادرا
وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا
مقالة وغد مثله قال مثلها
وما زال قوالا خلاف مقالكا
صدوفا عن الخيرات لا يرأم العلا
ولا يحتذي في صالح بمثالكا
من القوم لا يرعون حقا لشاعر
ولا تقتدي أفعالهم بفعالكا
يعيرني سؤل الملوك ولم يكن
بعار على الأحرار مثل سؤالكا
مدلا بمال لم يصبه بحلة
وحق جلال الله ثم جلالكا
وحسبي عن إثم الألية زاجر
بما امتلأت عيني به من جمالكا
وإني وإن أضحى مدلا بماله
لآمل أن ألفى مدلا بمالكا
فإن أخطأتني من يمينك نعمة
فلا تخطئنه نقمة من شمالكا
فلم يصغ إليه سليمان بن عبد الله.
وهذه هي قضية الدار الأولى التي غصبت وسليمان وال على بغداد، وابن الرومي يومئذ في نحو الثلاثين، وهي قضية كما ترى مفصلة لم يسقط منها حرف مما قيل بين الخصمين المتنازعين، تقرأ الأبيات حتى تنتهي منها فلا يسعك إلا أن تنسى الدار وتنسى يسر ابن الرومي وعسره، التفاتا إلى هذا الاستقصاء الدقيق في سرد وقائع المشكلة والمشاجرة التي نشبت بين صاحب الدار والتاجر الباغي عليه، في زعمه، فما من كلمة قيلت في تلك المشاجرة أو تقال في أمثالها إلى اليوم إلا جاء بها ابن الرومي، وأبرأ بها ذمته كما يبرئ الذمة حالف اليمين الغموس.
يجور التاجر على دار الشاعر فينقض جدارها ويتلفها ليجبره على بيعها، فيقوم الشاعر ويقعد، ويرغي ويزبد، وينذر خصمه الويل والثبور وعظائم الأمور، فيهزأ التاجر المعتز بثروته الساخر بكل شيء غير ذهبه وفضته، ويقول له: وماذا عساك أن تفعل؟ قصاراك أن تنظم قصيدة! فاذهب وانظم ما بدا لك، ودع الشعر ينفعك! فما هو إلا ضلة من ضلالك، وبلاء لك يضر بك ولا يجدي عليك، فيغضب الشاعر لشعره، ويذكر الأدب والعلم والملوك والأمراء، فيستخف التاجر بفخره، ويقول له: وما أنت من ذاك كله؟ ما أنت إلا متسول مسترفد تمد يديك إلى مال غيرك! فيرتد عليه الشاعر مزريا بما لم يجمع إلا من السرقة والخداع والسحت والحرام، ويذهب يشكو ويستعدي ويرجو ويستجدي.
وهكذا تدور الملاحاة والمنابزة في القصيدة، وتسجل القضية كلها في الشعر على نمط لا يخرم حرفا، ولا يزيد فيها ولا ينقص، كأن الشاعر مشغول بالرواية عن الدار، والمنازعة عليها! ومن الطبيعي أن يحدث جميع ما حدث، ولكن ليس من الطبيعي أن يثبت الشاعر جميع ما حدث في قصيدة؛ إذ لا فرق بين أقدر الشعراء وأضعفهم إلا أن أقدر الشعراء يجيء في شعره «بالطبيعي» البسيط، وأضعفهم يهمل «الطبيعي» البسيط، وينقص منه أو يزيد عليه.
وللدار الثانية قضية نعرف تفصيلها كما عرفنا تفصيل هذه القضية، فقد نازعته فيها امرأة، ونزعتها منه عنوة، فكتب إلى الوزير عبيد الله بن سليمان يعرض عليه القضية ويستغيث:
تهضمني أنثى وتغصب جهرة
عقاري، وفي هاتيك أعجب معجب
لقد أذكرتني لامرئ القيس قوله:
فإنك لم يغلبك مثل مغلب
وكانت آخر قصيدة قالها - كما في الديوان - لأمية يقول فيها:
أقول إذ غصبتني كف جارية:
الله أكبر من ود ومن هبل
18
إن الغواني بما أملن من أمل
فما يبالين ما لاقين من أجل
متى غلبن رجال الجد في زمن
كما غلبن رجال اللهو والغزل
وإن أعجب شيء أنت مبصره
في كل ما حملته الأرض من ثقل
كف خضيب من الحناء غاصبة
كفا خضيبا من الأبطال والعضل
يا حسرتا لي! ويا لهفا! ويا عجبا!
إن هذه الحال لم تنكر ولم تزل
في دولتي أنا مغصوب وفي زمني
عودي ظميء بلا ري ولا بلل
يريد دولة بني وهب وهم أنصاره وممدوحوه.
ومن الواضح أن هذه الدار أخذت منه قبيل موته بزمن قليل؛ لأنه يطلب رجعها في أواخر شعره ويقول: إنه لم يكن يومئذ «من رجال اللهو والغزل». وقد يحتمل أن هذا الشعر كله قيل في دار واحدة لا في دارين، وأنه تشبث بتلك الدار بعدما أحدث فيها التاجر الأحداث، ورام أن يضطره إلى بيعها فلم يبعها، وظل مالكا لها حتى ضاعت منه في أخريات عمره. وهو احتمال يرد على الخاطر، ولكننا نستبعده لأن زهر الآداب صريح في أن التاجر «أجبره» على بيع داره، ولأن ابن الرومي لا ينسى أن يذكر الصبا وطول العهد بسكنى الدار، لو كانت هي الدار الأولى التي ملكها وعاش فيها من صباه إلى هرمه.
وثم قصة أخرى «لدار» كان ابن الرومي يسكنها، ويخاطب في شأنها والي الشرطة أحمد بن محمد الواثقي الذي بقيت له الولاية إلى ما بعد موت ابن الرومي ببضع سنوات، فعن تلك الدار يقول:
بينما النفس ويبها بك ترجو
ملك دار معمورة مأهولة
وتراعي آمالها منك إنجا
ز مواعيد للمنى ممطولة
إذ أتاني الرسول منك بأمر
يشبه الموت نفسه أو رسوله
وهو إزعاجها بأعنف عنف
عن محل قد استطابت حلوله
أنا إن لم تذد بيمناك عني
غير شك فريسة مأكولة
ونظن أن البيتين الآتيين مما قاله في هذه الدار بعينها:
يا ويح من أصبح في غمة
ليس له من كربها مخرج
فروحه تزعج عن جسمه
وجسمه عن بيته يزعج
وقد تكون هذه الدار هي التي نزعتها منه المرأة، وقد تكون دارا مأجورة وهو الأرجح عندنا؛ لأن الشاعر لا يقول في مزاياها إلا أنها «محل قد استطاب حلوله»، و«منزل أحب نزوله»، وأنها مكان:
فيه عافاني الإله من الشك
و وفك الإله عني كبوله
بعد جهد حملت منه ضروبا
ليس أثقالهن بالمحموله
وهو كلام أشبه بأن يقال في مكان جرب بعد تجربة غيره، وكان فيه معنى للاستطابة والاختيار، وله على غيره من الأماكن المأجورة مزية الموافقة والاستحسان، ويزيد في ترجيح ذلك أن الشاعر يقول: إنه كان يرجو «ملك» دار معمورة مأهولة، فما كفاه أن تفوته الدار المملوكة حتى أزعجوه عن مسكنه، وذلك بما تقدم أشبه.
وأيا كان الخلاف فيما سبق، فالأمر الذي لا خلاف فيه أنه مات في دار مأجورة، فإن الناجم يقول حين قص علينا قصته في مرض وفاته: إنه انتقل من الكرخ إلى باب البصرة، فسكن في دار ابن قلابة، ولم يسكن في دار ابن المعافى كما أشار عليه بعض أصدقائه، وهو يصف حاله قبيل ذلك فيقول من قصيدته البائية إلى القاسم بن عبيد الله، حين عزم على الشخوص إلى «آمد» مع الخليفة المعتضد:
ثوبي الرث والثياب طراء
وطعامي برغمي المجشوب
ومحلي عارية وجدارا
ت بيوتي فكلها منقوب
ومقيلي في الصيف سخن بلا خي
ش، فعظمي يكاد منه يذوب
فالذي يفهم من هذه الأخبار حين يجمع بعضها إلى بعض أنه ورث دارا من أبيه هي التي يقول: إنه قضى فيها أيام صباه، فلا تكون على هذا إلا إرثا نشأ فيه قبل أن يدرك السن التي يكسب فيها ثمن الدور، وورث تحفا تقتنى كتلك الكأس التي زعم أنها كانت للرشيد، وقد تكون الضيعة بعض إرثه من أبيه، وقد تكون مما اقتناه في بعض حالات وفره، ولكنه كان يحتاج إلى الدين فيعرض عقاره للضياع، وتقوم عليه الحجة فلا يقدر الولاة على دفع خصومه وقبول دعواه، وشكاياته من الديون كثيرة تؤيد هذا التفسير، فمنها:
علي دين ثقيل أنت قاضيه
يا من يحملني ديني رجائيه
وقد حماني إخواني مواردهم
ووكلتني إلى بحر سواقيه
ومنها:
أقول لما رأيت عرسي
تسترزق الله باليدين
سيجعل الله بعد عسر
يسرا بجدوى أبي الحسين ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
من حسن حال ورفه بال
ورفع قدر وحط دين
ومنها:
وارتكاب الديون إياي في ظل
ك يهجوك باللسان الفصيح
ففي هذه الديون ضاع عقاره واستبد به دائنوه.
ومثل ابن الرومي لا يستغرب منه أن يسرف ويستدين، وإنما يستغرب منه أن يقصد في نفقته، ويعتدل في تصرفه، فهو إما مضياع متلاف وإما شحيح مقتر، حسبما يتعاوره من المغريات بالإنفاق وهواجس الخوف من الفاقة. وقد كان هو مضياعا متلافا، وشحيحا مقترا في نوبات لا يدرى لها سبب، ولا يضبط لها ضابط، فكان مضياعا متلافا على الكره منه، وشحيحا مقترا على الكره منه كذاك، وكثيرا ما أنحى على نفسه باللوم لحرصه وضعف إيمانه، وشكاها إلى الله كأنما يغالبه على الحرص مغالب شديد المراس كما قال:
إلى الله أشكو شح نفسي لأنني
أرى الجود لي حظا وشيمتي البخل
وقد كان حق الجود بذل ذخائري
إلى أن يراني الله يعوزني الأكل
ولكن نفسي آثرت نبل مالها
وما حيث نبل المال ما يوجد النبل
أو كما قال:
وفيما اجتهادي في محاولة الغنى
وما للغنى عند الجواد به قدر
وحينا يثقل عليه الصراع بين حرصه وسرفه، ويخلد إلى العجز عن المغالبة، فيلتمس المعاذير لنفسه، ويجعل الشح من المكارم المحمودة لأنه يصونه عن الحاجة، ويعصمه من السؤال والاقتراض:
إذا لم يكن عندي سوى ما يكفني
فشحي عليه مثل شحي على عرضي
لأني متى أتلفته احتجت حاجة
تذيل مصون العرض في طلب القرض
فهو لا يزال أبدا شديد الزهد شديد الرغبة:
وأصبح في الإثراء أزهد زاهد
وإن كان في الإثراء أرغب راغب
فلا جرم يضطرب في عيشه، ويخرج عن القصد في حالتي شحه وسرفه، ويظل مدخرا لا ينتفع بما ادخر، أو مبددا لا يبقي من ماله ولا يذر. •••
على أنه لو بقي له كل ما ورث من أبيه وكل ما علمنا أنه ملكه لما أغنانا ذلك عن البحث في مورد رزقه، وسبب اتصال عيشه؛ إذ كان البيت الذي يسكنه مالكه لا يحسب من موارد الكسب، والضيعة التي «ما زال منها في عناء» لا تبلغ أن تدر عليه رزقا يكفيه، ومن أخباره ما يقطع بعثور جده وبؤسه الغالب عليه معظم حياته، فلولا هذا البؤس لما لزمه ميسم النحس ولا عيروه الخيبة والخصاصة، ولولا عسره وافتقاره لما وقع بينه وبين البحتري ما وقع إذ هجاه، «فأهدى إليه تخت متاع وكيس دراهم، وكتب إليه ليريه أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه، وأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط»! فإذا خطر لنا أن مطالبه الكثيرة لا تدل على حقيقة فقره، وأنها عادة جرى عليها كما جرى الشعراء في عصره، فاشتهاره بالنحس والتخلف، ورد البحتري عليه دليل على عسر حقيقي ما فيه ريب، أو دليل على حاجة دائمة إلى المدائح والصلات يعول عليها في ضرورات معاشه فضلا عن نوافل لهوه.
فسؤالنا الذي ينبغي أن نسأله في هذا المعرض هو: ماذا كان نصيبه من المدائح، وكيف كانت حظوته عند ممدوحيه؟ والجواب الذي لا تردد فيه: إنه لم يكن نصيبا جزيلا ولا حظوة مغبوطة؛ إذ هو لم يتصل بالخلفاء، ولم يأخذ جوائزهم الكبيرة التي تغني الشاعر عن السؤال زمنا، أو تغنيه عنه بقية حياته، وإنما كانت مدائحه كلها للولاة والوزراء والقواد والكتاب، ومن يضارعهم ويقل عنهم في الرتبة والثروة، فلم يمدح خليفة قط إلا لعلاقة بين هذا الخليفة وبين رئيس أو نديم من الذين يعرفهم وينتمي إليهم، فمدح المستعين وهجا المعتز حين تنازعا الخلافة بينهما؛ لأن محمد بن عبد الله بن طاهر كان من حزب المستعين، وكان مقيما في بغداد، وابن الرومي يمدحه ويقيم معه في المدينة، ومدح المعتمد لأن بنانا المغني اقترح عليه مدحه - وهو يكتب لبنان - فأجابه إلى ما اقترح، وذكر اسمه في ختام القصيدة:
فلا يزل في نعيم عيش
مزاجه الخفض والليان
حتى يرى فيه كل سؤل
ومنية عنده بنان
ومدح المعتضد بالمقاطيع الكثيرة لأنه كان صديق آل وهب وكالئهم من لدن تولي العهد إلى أن بويع بالخلافة.
وقس على ذلك سائر مدائحه للخلفاء وولاة العهود، وما هي بالكثيرة في عددها ولا هي بالكثيرة في عدد أبياتها، فقد كان لا يعنى بتطويلها كما كان يطول مدائح الولاة والوزراء؛ لأنها مدائح لم تقصد لذاتها، ولم ينظمها إلا مرضاة لأصحابه؛ وتلبية لاقتراح المقترحين عليه، وكأنهم كانوا يطمعونه بذلك في تقريبه من الخلفاء وإزلافه لعطاياهم، ولكنهم لا يفعلون، فظل محجوبا عن الخلفاء لا يستدعونه، ولا يسألون عن شعره حتى مات، وجاء المستكفي يسأل عما قاله في الطعام والشراب!
ونعود إلى الوزراء والرؤساء لنبحث عن نصاب الجائزة عندهم، وغاية ما يصلون به الشاعر إذا رضوا عنه، وبالغوا في عطائه، وليس يطول بنا البحث في هذا؛ لأنه واضح من الحديث الذي جرى بين البحتري وابن الرومي، حيث يقول البحتري: «أقرأني أبو عيسى بن صاعد قصيدة لك في أبيه، وسألني عن الثواب عنها فقلت: أعطوه لكل بيت دينارا.» فكأن هذا غاية ما يرتقي إليه الموصي بجائزة، وغاية ما كان ينتظره ابن الرومي من شفاعة متشفع يتودد إليه. وابن الرومي نفسه قد عين نصاب هذه الجوائز تعيينا في بيت يخاطب به علي بن يحيى المنجم يقول فيه:
وما المائة الصفراء منك ببدعة
ولا من أخيك الأريحي أبي الصقر
يعني مائة دينار، فهي إذن غاية الغايات من جوائز الأمراء، ولا بد أن يحسب في هذا التقدير حساب مبالغتين مفروضتين في هذا المقام هما مبالغة الطمع، ومبالغة الثناء، بل حساب مبالغة أخرى صريحة في البيت، وهي أن الإنعام بمائة دينار كان أقصى ما تسمو إليه الأريحية، وكان بدعة في ذلك العصر من غير هذين الممدوحين، فمن الرؤساء - على هذا - من كان يجيز الشاعر - إن أجازه - بعشرين دينارا وعشرة دنانير، وما فوق ذلك وما دونه، وكانت هذه هي السنة الشائعة والنصاب الذي جرى عليه العرف بين معظم الرؤساء ومعظم الشعراء.
وأنت تقلب ديوان ابن الرومي، فتقرأ فيه عشر قصائد في الشكوى والتذكير والاستبطاء والإلحاح والإنذار والهجاء إلى جانب قصيدة واحدة في المدح الخالص من العتاب والاستنجاز، فلنقدر أنه نجح في مائة قصيدة، وأخذ عليها مائة جائزة، فمحصل ذلك كله لا يزيد على ألفي دينار مع التسهل في عدد الجوائز ومقدار الدنانير. وألفا دينار يتلقفها الشاعر في نحو أربعين سنة ليست بالرزق الرخي، ولا بالوقاء من العوز والدين في مدينة الغلاء، وعصر البذخ والإسراف، ودع عنك أنها تجيء متقطعة ممنونة لا يعرف لها موعد، ولا توافق أوقات الطلب والحاجة.
ذلك نصاب الجوائز عند الرؤساء والوزراء إذا رضوا وسمحوا بالعطاء، فأما الحظوة عندهم فلم تكن من قسمة ابن الرومي في أكثر الأوقات، وإن أكثر وإن أجاد وإن أفرط في التزلف والاسترضاء، فما أكثر ما كانوا يتجنون عليه، ويستخفون به ، ويتمحلون العلل الواهية لحرمانه وجفائه والقدح في شعره! فهذا إسماعيل بن بلبل مدحه بقصيدة معدودة في شعر المدح العربي من أقدم أزمانه إلى أحدثها، فتجهم له وضن عليه، ولأي ذنب؟ لأنه قال فيها:
قالوا: أبو الصقر من شيبان قلت لهم:
كلا - لعمري - ولكن منه شيبان
وأي شيء في ذاك؟ فيه - كما زعم - أنه هجاه، وأنكر عليه ما ادعاه من نسبه! فقيل له: هذا من أحسن المديح، فاسمع ما بعده:
وكم أب قد علا بابن ذرى شرف
كما علا برسول الله عدنان!
فتجنى وتعلل وقال: أنا بشيبان ليس شيبان بي، فقيل له: إنه لم يبخس شيبان، وقد قال فيها:
ولم أقصر بشيبان التي بلغت
بها المبالغ أعراق وأغصان
لله شيبان قوم لا يشيبهم
روع إذا الروع شابت منه ولدان
فأصر على التجني والتعلل وأقسم لا أثابه، ورجع الشاعر مغضوبا عليه فوق حرمانه وطرده، وقد كان رجاؤه بما جود وأطال أنه يرضى عنه ويثاب، ولم يكفه هذا حتى جنى على نفسه انحراف الوزراء الآخرين عنه لأنهم لم يمدحوا بتلك القصيدة، فراح منهم من يقول: إنها دار البطيخ!
ومدح محمد بن عبد الله بن طاهر مرة فانقلب ناقدا منافسا للشاعر وهجا شعره ولم يجزه بشيء:
مدحت أبا العباس أطلب رفده
فخيبني من رفده وهجا شعري
فهبني قد أعفيته من مثوبتي
أيغضى له شعري على مضض الوتر؟
ومن إهمالهم إياه أنه كتب قصيدة عتاب إلى أبي سهل النوبختي، فنظر إليها والرياح تلعب بها في جانب الدار وقد خطط في ظهرها بالمداد! فثارت ثائرته، وأقبل يعاتب لإهمال العتاب بعد أن كان يعاتب لإهمال الثواب:
رقعة من معاتب لك ظلت
ولها في ذراك مثوى مهان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
سطر العابثون فيها أساطي
ر عفت متنها فما يستبان
خط ولدانكم أفانين فيها
أو رجال كأنهم ولدان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقبيح يجوز كل قبيح
رقعة من معاتب لا تصان
ويتماجنون فيقولون إذا مدحهم: إنه ينظم الشعر كأنه نائم، فيرى المسكين فرضا لزاما أن يسلم لهم العيب الذي عابوه، وأن يستخرج معنى جديدا من معاني الثناء على ذلك الممدوح، الذي تماجن عليه:
مدحتك مدح المستنيم إلى امرئ
كريم فقلت الشعر وسنان هاجعا
ولا ترى له شعرا في أحد من الذين انقطع لهم وأكثر من قصدهم، إلا رأيته يشكو في خطابه له أنه يظلمه حقه، ويخصه بالحرمان دون أمثاله ومن هم أقل منه، فهو يقول لبني وهب:
فاز الورى من ريحكم بسحائب
هطلت، وفزت بسافيات تراب
ولبني طاهر:
أرى الشعراء حظوا عندكم
سواء عييهم واللسن
سواي! فإني أراني امرأ
هزلت، وكلهم قد سمن
ولبني هاشم:
بني هاشم ما لي أراكم كأنكم
تجورون أحيانا وأنتم أولو عدل
كما لو هجاكم شاعر حل قتله
كذاك فأوفوا مادحا دية القتل
ولإسماعيل بن بلبل:
أبا الصقر لست أرى مهديا
لك المدح - غيري - إلا مثابا
ولعل قربه منهم وحسابه عليهم هو الذي أنذر نصيبه من جوائزهم وحفاوتهم؛ لأنهم كانوا يحسبون عليه حضور مجالسهم وموائدهم، وإسهامه أحيانا فيما يسهم فيه الجلساء والندمان من ألطافهم وهداياهم، ويوجبون عليه بذلك أن يظل لهم وحدهم شاعرهم، وأديب بيتهم، يطرفهم بالملح الأدبية، ويواليهم بالتهنئة في مناسبات التهنئة، والثناء في معارض الثناء، ثم لا ينتظر منهم الخلع والصلات على كل قصيدة، ولا في كل موسم كما ينتظر الشاعر الطارئ الذي يلقي قصيدته ويذهب لطيته، وهم فوق هذا يمنون عليه أن قبلوه في مجالسهم وأحضروه موائدهم، ويفرضون عليه وفاء العبد للسيد، والصنيعة لولي النعمة، ويظنون أنهم كفلوه بالعيش الرغيد والظل والظليل:
إذا امتاحهم أكلة عبد
وه تعبيد رب لمربوبه
يخالون أنهم بلغو
ه بالقوت أفضل مطلوبه
وأنهم حرسوا نفسه
به من غوائل مرهوبه
يزيل مضيفهم ضيفه
كملبوسه أو كمركوبه
والأغلب عندنا أنهم كانوا يقبلونه في مجالسهم، ويحضرونه موائدهم غراما بضروب الشذوذ والشهرة، وكلفا بالطرائف والملح كما هو دأب أصحاب المجالس في كل أمة، فكانوا يأنسون به في بعض حالاتهم، ويقربونه لغرابة أطواره ووفره محفوظه من الأشعار والنوادر والأمثال، وسرعة ارتجاله للتشبيه والمحاكاة، فكأنهم اصطنعوه للإغراب لا للمودة، وتخيروه للمظهر لا للثقة والكرامة؛ ولهذا كانوا يحضرونه مجالس الاحتشام، وينحونه عن خلوات الحفاوة والتبسط، وكان يعلم بهذا فتسوءه فوق مساءته بالحرمان، ويعجله الغيظ الذي لا يقوى على كظمه أن يسكت عن العتاب في مثل هذا الأمر، فيعتب كلما حجب كما قال في مرة من هذه المرات للقاسم:
في جلنار وأختها دبسية
يا ابن الوزير لعاتب متعتب
أحضرتموني جلنار، وأحضرت
دبسية الكبرى لغيري تحجب
وكان يحار في هذا الحجب ولا يدري ما علته، ولا ما النقص الذي استوجبه، ويسائل الأمير عن نفسه:
هل ترى الغفلة شابت حلمه
أم ترى النكراء شابت فطنه؟
هل ترى العي يؤاخي صمته
أم ترى الغي يؤاخي لسنه؟
هل ترى الشك عليه غالب
عند حق، أم تراه يقنه؟
هل رأى منك قبيحا بثه
أم رأى منك جميلا دفنه؟
هل لديه لك سر ذائع
أم أمانات غدت محتجنه؟
لكن حيرة ابن الرومي هذه قد ترشدنا إلى أسباب حجبه؛ لأنها ترشدنا إلى بضاعته التي أعدها للمنادمة، وحسب أنه مستحق بها التقريب والمصاحبة، وهي أدوات العلم والبحث والشك في موضع الشك، واليقين في موضع اليقين! وما هي بألزم ما يلزم النديم في مجالس الخلوة فضلا عن مجالس الاحتشام، فقد يستغني النديم عنها كلها بالقدرة على المصانعة ومسايرة الأهواء، في حين أن العلم لا يغنيه عن تلك القدرة، ولا يسد مسدها في مجالس الاحتشام ولا مجالس الإباحة.
بقي حفظ السر وما نظن دعواه فيه مطابقة للحقيقة أو لرأي جلسائه المحتجزين عنه في خلوات الإباحة؛ لأن من كان مثله مطبوعا على «الاعتراف» بعيوبه لا نخاله يمسك لسانه ويحفظ سرا رآه ساعة لهوه، فإذا حجبه الأمراء عن مجالس الخلوة؛ فلأنه لا ينفعهم في تلك المجالس، ولا يؤمن عندهم على أسرارها وما يقع فيها من فلتات اللسان، وبوادر رفع الكلفة، وإرسال النفس على السجية.
لكنهم كانوا يحجبونه أيضا عن المجالس العامة، ولا يقتصرون على حجبة عن المجالس الخاصة، وكانوا يقطعون ما بينه وبينهم حتى تضيق به الدنيا، ويتنمر له كل من ينتمي إليه أو ينتمي إليهم:
تعرفت في أهلي وصحبي وخادمي
هواني عليهم مذ جفاني قاسم
فيعود يسأل الإذن في المقابلة، ويكتفي به عن سائر المطالب:
بل أنت معفى من جميع حوائجي
إلا لقاءك في السواد الأعظم
لا أبتغي ما كنت أسأل مرة
حسبي بوجهك، فهو أفضل مغنم
قال هذا وقد حجبه القاسم عن لقائه، وأمر الخدم برده، وكان القاسم وأمثاله يمنعونه بعض المنع وفي نفوسهم بعض الرعاية له، وبعض الرضى عنه، فأما إذا غضبوا عليه وصرحوا له بالجفاء فقد كانوا ينبذونه ويوصدون دونه كل باب، ويخلون بينه وبين الحجاب يدعونه ويتصلفون عليه، والحجاب لا يعوزهم التصلف على مستأذن يأمنون العواقب فيه، ويأنسون من سادتهم الرضى بإيذائه؛ فإن الحاجب منافس لكل جليس ينزل من سيده منزلة الخليل والسمير، وهو قائم على الباب مقام الخادم، وهو يود أن يدل عليه بقدرته على الرد والإذن، والإقصاء والتقريب والتمييز في الحفاوة والتعظيم، فكان ابن الرومي في فترات الإقصاء والإعراض يقاسي شديدا من غلظة الحجاب، ويسرع كدأبه إلى شرح ما يلقاه منهم على أبواب الرؤساء المعرضين عنه، وهو شبيه بما يلقاه كل طارق مهيض الجانب من كل حاجب غاضب أو متغاضب:
وكم حاجب غضبان كاسر حاجب
محا الله ما فيه من الكسر بالكسر
عبوس إذا حييته بتحية
فيا لك من كبر! ومن منطق نزر!
يظل كأن الله يرفع قدره
بما حط من قدري وصغر من أمري
إذا ما رآني عاد أعمى بلا عمى
وصم سميعا ما بأذنيه من وقر
ولقد كان يحمد الله أحيانا أنه نجا من تعجرف الحجاب عليه بغير أذى في جسده:
عم الأذين بأذنه وتخلفت
حالي، فلم أذكر ولم أتوهم
لكن نبذت مع اللفيف بمسمع
وبمنظر للشامتين ومعلم
بل ما أصابتني هناك شماتة
لكن غبطت؛ لأنني لم ألطم!
فلم يكن رزق الرجل إذن متصلا من الجوائز ولا من ألطاف المجالس، ولم تكن حاجته إلى ضرورات العيش بالحاجة المصطنعة التي لا تنم عن فاقة حقيقية في معظم أيام حياته، فسؤاله الدقيق والطعام والملبس سؤال محتاج إلى ما يطلب، معتمد على ما يجمع من النوال، ولنا أن نشك في حاجته إلى الشيء حين يطلبه ويلح في طلبه، ولكن ليس لنا أن نشك في حاجته عاجلا أو آجلا إلى ذلك الشيء من طريق السؤال كما كان يصنع عامة الشعراء في الأزمان الماضية، ولا سيما في ذلك الزمان الذي اضطربت شئونه، وقل ضمانه، وتلاحقت طوارئه، فمن مسائل ابن الرومي ما يصعب الشك في صدقه؛ كقوله يستعطف وهو يكاد ييأس:
إن لله غير مرعاك مرعى
يرتعيه وغير مائك ماء
وتيقن متى جنيت على عب
دك ضيما وضيعة وعناء
إن لله بالبرية لطفا
سبق الأمهات والآباء ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لي خمسون صاحبا لو سألت ال
قوت فيهم ألفيتهم سمحاء
أترى كل صاحب لي منهم
يمنع الشهر بلغتي إجراء
لي في درهمين في كل شهر
من فئام ما يطرد الحوجاء
وكثيرا ما ألم لهذه الحاجة الدائمة وتوسل إلى الرؤساء أن يجربوه في ولاية أو جباية، أو يتخذوه لعمل في الديوان يريحه من ذل السؤال، وعذاب القلق والانتظار، فكانوا يضنون عليه بما سأل، ويأبون أن ينقذوه من سوء تلك الحال، ولزم آل وهب ما لزمهم وهو يترقب أيام دولتهم، ويترجى الخير الجزيل على أيديهم، فلما صارت إليهم الوزارة لم يصنعوا شيئا، وزادوا أنهم قطعوه بعد صلة، ومنعوه ما كان يناله قبل الوزارة! وكثر زوارهم وقصادهم، فتأخر مقامه بينهم، وربما رأوه حينا وهو مقدم على سواه.
أنا من عراك وباب دارك موحش
من كل مؤتنف علي مقدم
وكان أسمح الرؤساء معه من كان يلهيه عن العمل في الديوان بوظيفة صغيرة يشاهرها عليه، ولا يثبتها في سجل الأرزاق المرصودة المضمونة بعض الضمان، ومن شأن هذه النوافل أن تحتاج أبدا إلى التذكير والتنبيه، مما لا بد أن يجر إليه التذكير والتنبيه من السأم والجفاء، فإذا حصل ذلك - ولا بد من حصوله - خسر الوظيفة وصاحب الوظيفة، وباء إلى شر مما كان.
والعمل الوحيد الذي ذكر في ديوانه هو عمله في الكتابة عند آل بنان المغني الذي كان ينادم الخليفة المعتمد ويغنيه، ويسأل ابن الرومي أن يمدح الخليفة بلسانه، وكأنه لبث في هذا العمل عشر سنين على ما يجوز أن يؤخذ من قوله:
والغناء الشديد شدوا وضربا
سحنة قد ملأت منه الإناء
ظلت عشرا كواملا في مغاني
ه أغني وأسمع الأنحاء
ولن يكون ذلك العمل إلا ضئيل الأجر مغبونه كما يظن بأجر يتناوله كاتب مغن، وكما يدل بيتاه المشهوران في بنان:
تعالى جد ديناري بنان
فحلا حيث حل الفرقدان
ولو أن النفوس بحيث حلا
غدون من الحوادث في أمان
فإن قلنا: إن «الدينارين» هنا للتلطيف لا للحصر، فأقصى ما يرتقي إليه الديناران أن يكونا عشرة! وعشرة دنانير ليست بالرزق الطيب في عصر كعصر المعتمد بمدينة بغداد.
فمعيشة الرجل في جميع أدوارها كانت معيشة عارف بالحياة متذوق لها، وهو مع المعرفة والتذوق ملدد محروم طويل الهم بأمر الرزق، مشتت الفكر بين القلق والخيبة، والمطل والحرمان، وهي معيشة مزعجة مكهربة تهد القوى، وتنهك الفكر والجسد، ولا تكون إلا وخيمة الأثر في نفس رجل مثله كثير المخاوف عليل الأعصاب.
لماذا فشل؟
فشل لأنه كان قليل الحيلة صفرا من الدهاء، ذلك أوجز ما يقال في أسباب فشله، فما من عمل كان يحتاج إلى حيلة إلا كان ابن الرومي فيه مخفقا، أو كان مصدوفا عنه حتى اللعب، ومن ثم كراهته للعبة الشطرنج التي راجت في أيامه، وكثر التفنن في طرائق لعبها بين ممدوحيه حتى كان أحدهم يلعبها وظهره إلى رقعتها، وهو يقول فيه:
تقتل الشاه حيث شئت من الرق
عة طبا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينك في الدس
ت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه
ر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء
ولكنه هو كان يجهلها ويحاول البراعة فيها فلا تساعده الحيلة، فينقلب هازئا بها ويقضي عليها بأنها من تعلات الفراغ والجوع:
أرى لعبة الشطرنج إن هي حصلت
أحق أمور الناس ألا تحصلا
تعلة بوابين جاعا وأرملا
بباب قليل خيره، فتعللا
أو يقول:
تفرست في الشطرنج حتى عرفتها
فإن صح رأيي فهي بالوعة العقل
وحسب الرجل أن تقل حيلته في أواسط القرن الثالث ليكون مقضيا عليه بالهلاك أو بالفاقة، وإن اتصل بذوي الأخطار والعاملين في سياسة الدولة، بل يقضي عليه بالهلاك والفاقة لأنه اتصل بميدان هو أحوج الميادين إلى المكر وسعة الحيلة؛ فمدائح ابن الرومي نفسه أدل شيء على ضرورة الدهاء في أيامه، وشيوع هذه الخصلة بين أبناء عصره.
فإنه مدح أشتاتا من ذوي المقامات بينهم الوزير والقائد والنديم والكاتب والفيلسوف، فكان الدهاء صفة تتكرر في مدح كل واحد منهم، وثناء مشتركا بين من يطلب منه الدهاء بحكم عمله، ومن لا يطلب منه ولا يعيبه أن يفوته، وإليك أمثلة قليلة نكتفي بها عن إحصاء كل ما جاء على هذا المعنى في مدائحه الكثيرة:
قال في علي بن يحيى النديم:
فل بالحجة الخصوم وبالكي
د زحوف العدى ذوي التأليب
وقال في ابن ثوابة الكاتب:
وبكيده يروي القنا
علقا ويختضب اختضابه
وقال في القاسم بن عبيد الله الوزير:
يرمي بدهياء من فلائقه
في وجه دهياء من فلائقها
وقال في عبيد الله بن عبد الله القائد:
يصاول القرن أو يخاتله
جلدا أريبا بعيدة سربه
كالليث في بأسه وآونة
مثل الشجاع الخفي منسربه
وقال في الجنود الأتراك:
ترى شبه الآساد فيهم مبينا
ولكنهم أدهى دهاء وأنكر
وقد صدقت في هذه المدائح فطنة ابن الرومي إلى صفة عصره، والخلق الذي لا بد منه للمتقدمين فيه من ندماء، أو كتاب، أو قادة، أو وزراء أو جنود، فلم يكن لواحد من هؤلاء غنى عن الكيد والختل والدهاء، ولم تكن للعصر كله صفة بارزة بروز هذه الصفة التي اشتدت الحاجة إليها بين القلاقل والدسائس والاضطرار الدائم إلى اتقاء الشر، ومداراة الأقوياء، والحيطة لما تأتي به طوارئ الأحداث، وأحجى أن تشتد الحاجة إليها حيث تعشش الفتنة وتبيض وتفرخ بين رجال الدولة ومن يعاشرهم ويلحق بهم من الشعراء والندماء، ومغتنمي الفرص من صعود هذا وهبوط ذاك، وإقبال هذه الدولة وإدبار تلك، فقد كان هذا هو عمل كل يوم وشاغل كل ساعة في البيئة التي عاش فيها ابن الرومي خاصة، فما كانت أيامهم تنقضي على غير خليفة يعزل أو يدبر له العزل، وولي عهد يخلع أو يدبر له الخلع، ووزير يكاد له أو يكاد لخصمه، وصاحب مال يستصفي أو يسعى لاستصفاء مال غيره. وهذا وأشباهه شغل يفتقر من يزاوله ويعيش في بيئته إلى الدهاء افتقاره إلى أداة المعيشة الأولى، وسلاح الحرب الألزم له من كل سلاح. •••
في ذلك العصر عاش ابن الرومي وهو أعزل لم يستعد له بعدة، ولم يحسن قط أن يتداهى على أحد، ولا أن يحترس من دهاء أحد، وراح يتقلب فيه بإحساس طوع الحوادث ولسان طوع الإحساس! فكان نقيض الرجل الذي يصلح لمثل زمنه، إذا كان ألزم ما يلزم ذلك الرجل أن يملك إحساسه ولا يطيعه، وأن يجعل بين إحساسه ولسانه سدا منيعا من الرياء يستتر خلفه، فأخطر ما يجر الخطر على المرء في عصور القلق أن يرسل نفسه، وأن يطلق لسانه، وأن يلهو بما بين يديه عما حوله، كما كان يفعل ابن الرومي ومن طبعوا على غراره، وما نظنه كان يكرر صفة الدهاء في ممدوحيه إلا وهو يشعر بخلوه منه وحاجته إليه، غير أن الشعور بالحاجة إلى الدهاء لا يعطيه الدهاء كما أن شعور المريض بالحاجة إلى القوة لا يعطيه القوة، وغاية ما يستطيعه أن يأسى ويتكلف ما ليس في خلقه، فلا يفيده الأسى ولا التكلف إلا أن يبدي من ضعفه ما هو أولى بإخفائه. •••
ذلك أول الفشل أو ذلك أوجز ما يقال في إجمال أسبابه.
وهو مع هذه الغرة التي تعد من أكبر الجنايات في عصر الدسيسة والمداورة كانت له جناية أخرى تعد من أكبر الجنايات في جميع العصور، وبين جميع الأمم، وعند جميع الأفراد: كان غريب الأطوار، ولا أضر على الضعيف الحيلة من غرابة الأطوار؛ لأنها تفرده بين الملأ فتنصبه وحده هدفا لكل ما في الطبائع الإنسانية من لؤم وسفاهة، وسوء ظن ومجانة، و«الشيء مستوحش إذا غربا» كما يقول، فحسب المرء أن يشتهر بهذه الغرابة وأن يسجلها عليه من يعرفه ومن لا يعرفه حتى تبطل دعواه، وتسقط حقوقه، ويكون المجتمع قد أصدر عليه حكما سرمدا كذلك الحكم الذي كان يصدره السلطان في غابر الأزمان بإهدار دم الطريد الهارب من عقوبته وسخطه، فلا ينصفه أحد، ولا يتحرج متحرج من العدوان عليه، والتعرض لغضبه، فإنما أساس الإنصاف أن يعرف للإنسان حق الرضى والغضب، وحق الشكوى والملام، فإذا سلب هذا الحق واشتهر عنه أنه يألم لغير ما يوجب الألم، ويفرح لغير ما يوجب الفرح، ويعجب والناس لا يعجبون، ويثور والناس لا يثورون، ويطرق وهم لا يعرفون فيم يطرق، ويهلل وهم لا يشعرون فيم يهلل، فهم إذن في حل من إسخاطه واهتضام حقه! وهو إذن طلبة السلطان الأعظم؛ سلطان المجتمع الذي أهدر دمه، وأباح أمنه وماله، فلا يشكو إلا وهو متهم، ولا يشكى إلا وللشاكي عليه حجة، وكل ذنبه بين الناس أنه من معدن غير معدنهم، وذو شعور بالحياة غير شعورهم، وقد يكون خيرا منه وأجدر بالإنصاف.
بل حسب المرء أن يشتهر بالغرابة حتى يصبح المألوف من عمله غريبا يفعله هو، فيلاحظ ويتبعه الناس بالغمزات، ويفعله غيره فلا يلاحظ ولا يتغامز أحد عليه؛ لأن سمعة الغرابة هي المهم في هذا الصدد، وليست الحوادث التي توصف بالغرابة.
وقد يعفى الغريب الأطوار من هذا «الإهدار» إذا كان مع غرابة أطواره له سطوة أو ثروة أو عصمة يعتصم بها من عشيرة تغار عليه، أو جار يميل إليه، فربما أساغوا منه غرابته في هذه الحالة، وعدوها حلية تزينه، وظريفة ترغبهم فيه، فأما أن يكون ضعيفا لا حول له ولا حيلة، وغريبا في خلقه وشعوره؛ فذلك هو الجرم المضاعف الذي لا شفاعة فيه ولا نجاة من عقوبته، وقل في عقوبة مشدد فيها كما يشاء لؤم من لا يخاف عاقبة لؤمه، مبالغ فيها كما يبالغ في إيذاء كل معدوم النصير. •••
عاش ابن الرومي في ذلك العصر قليل الحيلة، فهو أعزل غريب الأطوار، فهو مستهدف لكل من يرميه، دقيق الحس فهو معذب بما يصيبه، وثقلت عليه صدمات الخيبة، وساء ظنه بإنصاف الناس، فوهن ما فيه من بقية عزم الشباب، وعاف السعي وانطوى على اليأس، ووجدت نفسه لذلك وجدا تعرفه من صرخته:
لا عذر لي في أسفي بعدها
على العطايا عفتها عفتها!
فكان هذا مع ضعفه واعتلاله، وحذره المغروس في تركيبه، وحاجته إلى من يرأمه ويعينه صارفا له عن السعي في طلب الرزق، والنزوح عن الوطن، جانحا به إلى القعود حيث قعد لا يرى إلا أن البلاد كبلده، وأن الأخيار والأشرار سواء في قلة إنصافه.
ذقت الطعوم فما التذذت كراحة
من صحبة الأشرار والأخيار
وما كان الرجل مخلوقا للجلد والمشقة في أيام الشباب، بله المشيب، ولكنه كان ربما رحل في تلك الأيام إلى الأبلة أو سامرا «سر من رأى» أو بعلبك - وهي فيما نظن أبعد ما وصل إليه في رحلاته - فلا يلبث أن ينكرها وتنكره ويعود منها، وما لقي فيها إلا مثلما لقي في وطنه:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها
بل الأرض بل بغداد صاحبة البتل
ويرسل إلى أصحابه في بغداد يتشوف ويقسم لا أزمع بعدها سفرا، ولا آثر على قلوبهم مطمعا:
وإن يقض لي الله الرجوع فإنه
علي له ألا أفارقكم نذر
ولا أبتغي عنكم شخوصا ورحلة
مدى الدهر إلا أن يفرقنا الدهر
فما العيش إلا قرب من أنت إلفه
وما الموت إلا نأيه عنك والهجر
و«طول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه» كما قيل، فإذا أحصينا أسباب الجفاء الذي كان يشكوه من ممدوحيه، وأسباب فشله بعبارة أخرى، فلا شك أن طول مقامه ببغداد واحد من تلك الأسباب التي رجحت عليه غيره من أنداده الشعراء، ومن هم أقل في الطبقة؛ لأنهم كانوا يغيبون ويحضرون، فلا يضن عليهم الأمراء بالعطاء في السنة بعد السنة أو بعد السنوات، ولأنه كان مقيما أمام أعينهم في كل يوم فلا يلقى عندهم حفاوة الطارق بعد غياب، وهو لم يرحل تلك الرحلات القصار التي كان يظنها غربة طويلة إلا وهو في إبان القوة والطمع في الولاية والجوائز، فلما طال عليه الأمر، ووطن نفسه على اليأس قعد في بغداد لا يريمها، وقنع بما يتفق له وهو وادع في بلده، وأبى أن يجيب من يستدعيه إليه، ويحضه على «الحطب لناره»؛ لأنه يكلفه ركوب البحر وهو أخوف ما يكون من ركوبه.
حضضت على حطبي لناري فلا تدع
لك الخير تخويفي شرور المحاطب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أيعزب عنك الرأي في أن تثيبني
مقيما مصونا من عناء المطالب
وما هي بعد إلا دعوة فيما نظن لم يكن بالمنظور أن تتكرر، إذ قل في الولاة من كان يعنى بشأنه وشأن رزقه في حالي شبابه ومشيبه، وقل فيهم من كان يرعى حقه ويخلص في مودته.
وربما اغتر هو ببعض المجاملة منهم، وخيل لنفسه حقا عندهم، فتشفع إليهم في أتباعهم كما تشفع لمهندس القاسم الأسير المغضوب عليه «وما ضيف بأضعف من أسير»، أو كما تشفع لكتابه الذين «أضحوا وهم أسوأ الكتاب أحوالا»، أو كما تشفع فيما هو أكبر وأجل، وهو شكاية الحسن بن عبيد الله إلى أبيه من تقديم أخيه القاسم عليه، وترشيحه لعظيم المراتب دونه، إلا أنه شفاعات لا نعرف ماذا أوجبها على ابن الرومي، ولا نعرف ماذا كان مصيرها عند المشفوع لديهم، فهي إن دلت على شيء قاطع، فإنما تدل على أن قوما ذوي حوائج كانوا يقصدون فيها من يقبل تبليغها، ويأنسون من ابن الرومي تلبية لا يأنسونها في صحابة الأمراء غيره، وربما أغراهم به سذاجة طبعه وسرعة استمالته، ولا سيما في وساطة الحسن عند أبيه، والتماسه منه أن يسوي بينه وبين أخيه القاسم لأنه:
ليس يوهي أخاه شدك إيا
ه بل يزيده في اشتداده
ولا يبعد أن تكون هذه الوساطة علة إعراض القاسم عنه، ومجافاته إياه تلك المجافاة التي قيل: إنها انتهت بقتله، فغير ابن الرومي لا يقدم على هذه الوساطة وهو جليس القاسم المطالب في شريعة تلك الأيام بنصرته على كل من ينافسه، ولو جاءت المنافسة من أخيه؛ إذ يرى الحزم والحكمة أن يتبع الدولة حيث كانت، وألا يعرض نفسه لغضب صاحب الحظوة من أجل أخ له مهجور ضعيف الأمل في النجاح، فاستشفاع الناس بابن الرومي لا يدل على أكثر من هذا، ولا على أكثر من أنهم أرادوه للتبليغ والتذكير، عسى أن ينبهوا غافلا ويسمعوا من لم يسمع، وقد يدل على أنه أصيب بسبب هذه الشفاعة في رزقه وحياته، كما يلوح لنا من جرائر الوساطة بين الحسن وأبيه، فأما أن تدل هذه الشفاعات على حق مرعي له عند الأمراء، وعناية منهم بأمر رزقه وصيانته في قربه وبعده؛ فذلك احتمال بعيد تناقضه أخباره وأشعاره على السواء.
وما نخال أن أحدا من ممدوحيه كان بينه وبين ابن الرومي من المؤاخاة في الأدب مثلما كان بينه وبين أبي سهل بن نوبخت سليل البيت الفلكي المعروف، فقد كانت بينهما مساجلات كثيرة تلمح فيها مخاطبة الند للند، والصديق للصديق في بعض الأبيات، فابن الرومي يغرب في مدحه فيقول:
أعلم الناس بالنجوم بنو نو
بخت علما لم يأتهم بالحساب
بل بأن شاهدوا السماء سموا
ورقيا في المكرمات الصعاب
وأبو سهل يجيبه وهو يعتذر من قلة اضطلاعه بجوابه:
هكذا يجتني الودود من الإخ
وان أهل الأذهان والآداب
نظم شعر به ينظم شمل ال
مجد كالعقد فوق صدر الكعاب
قد سمعنا مديحك الحسن القر
ض ولكن لم نضطلع بالجواب
ومثل هذا الخطاب لا يكون إلا بين رجلين صديقين أو كالصديقين فيما توجبه العلاقة بينهما من الولاء والمعونة، فانظر مع هذا كيف كان أبو سهل في رعايته لحقه، وعنايته بأمره، وصيانته لقدره، كان كما قال فيه:
لي صديق إذا رأى لي طعاما
لم يكد أن يجود لي بشراب
فإذا ما رآهما لي جميعا
كفياني لديه لبس الثياب
فمتى ما رأى الثلاثة عندي
فهي حسبي لديه من آرابي
لا يراني أهلا لملك الظها
ري ولا موضع العطايا الرغاب
وكأني في ظنه ليس شأني
لهو ذي نهية ولا متصاب
في طبع ملائكي لديه
عازف صادف عن الإطراب
أو حمارية! فمقدار حظي
شبعة عنده بلا إتعاب
إنما حظي اللفاء لديه
مع ما فيه بي من الإعجاب
ليس ينفك شاهدا لي بفهم
وبيان وحكمة وصواب
ومتى كان فتح باب من الله
توقعت منه إغلاق باب
نعم! مع ما فيه من الإعجاب به والشهادة له بالفهم والبيان، فقد كان قصارى حقه عند صاحبه هذا وعند أصحابه الموسرين جميعا أن يعجبوا به، أو يتعجبوا لفطنته وغرائب أحواله، أو يساجلوه في الشعر مساجلة يظهرون بها قدرتهم على مجاراة شاعر قدير منقطع للشاعرية، أو يسامروه سمرا يلهون فيه بحديثه ونوادره، ثم يستأدوه الثمن غاليا من صبره وماء وجهه، فأما ما وراء ذلك من نفع ومبرة، فليس من حقه عندهم، وليس له منه كما قال إلا نصيب الملائكة أو نصيب الحمير! وما كان واحد من كبار ممدوحيه عاجزا عن إغاثته وإصلاح أمره، وتدبير عمل له يناسبه لو صححوا النية، ولم يساوموه مساومة التاجر الشحيح ليأخذوا منه أكثر مما يعطونه، وليأبوا أن يهبوه ما دام في وسعهم أن يمنعوه؛ ففي قدرتهم كانوا أن يستحضروا النية في إصلاحه، وجبر نقائصه، وتلافي عيوبه، وفي قدرتهم كانوا أن يجدوا سببا واحدا على الأقل يوجب هذا الحق عندهم من باب الوفاء، أو من باب الرحمة، بيد أنهم لم يجدوه ولا حاولوا إيجاده، ووجدوا أسبابا شتى لحرمانه وإهماله، والاعتذار من توجيه الأعمال إليه، واتخاذه للكتابة أو النظر في بعض مرافق الديوان، ونحن نقرأ قوله لأبي سهل الذي تقدم ذكره:
أتزعم أني إن توليت قرية
رأيت ازوراري عن صديقي من الفرض؟
وقوله للقاسم:
أركيكا رأيت عبدك صفرا
لا جنى فيه، أم جنى شنعاء؟
فنفهم جملة هذه العلل التي كانوا يعتلون بها عليه، نفهم أنهم كانوا يكرهون توليته؛ لئلا يستقل عنهم ويعرف له موردا غير موردهم، أو أنهم كانوا يحسبون عليه غراراته ذنبا يحرمه الولاية، كما حرمه العطاء وكفالة الرزق من جراية لا يكدرها المن والتسويف. وهي - ولا مراء - أسباب طبيعية للحرمان في الحياة نفهمها حين نبحث عن سر حرمانه، ولكنها لا تصلح عذرا للمتفضل الذي يريد الإفضال، ولا تعد ميزانا رفيعا للمروءة ومكارم الأخلاق؛ فمن الطبيعي أن يأكل الذئب الحمل، وأن يعبث اللئيم بالغرير، وأن ينهب المحتال مال الطفل اليتيم، والمغتال مال الأعزل الضعيف، إلا أن البون بعيد جدا بين هذه الأسباب الطبيعية في الدنيا وبين معالي الهمم ومكارم الأخلاق، وأن هذا البون البعيد جدا لهو مناط الحمد واللوم والشرف والضعة والفضل والقصور. •••
وكان لفشل ابن الرومي وحرمانه سبب آخر هو فشله وحرمانه.
نعم كان فشله وحرمانه سببا لنفرة الناس منه واتهامهم إياه، فكانوا يلومونه على بلواه، ويعدونها من ذنوبه وخطاياه، وكان لومهم هذا بلاء فوق بلاء، وحسرة فوق حسرة، وشكاية أشد عليه من سائر الشكايات؛ لأنها تحرمه حق الشكاية:
يا رب ما أطول البلاء وما
أكثر في أن بليت لوامي
يلومني الناس أن حرمت وما
ألزمني الله غير إحرامي
فإذا شكا فهو مذنب، وإذا سكت فالرزيئة عنده أعظم من السكوت، وهذا آلم ما يبتلى به المنكوب وأظلمه وأدعاه إلى المزيد من نكبته وظلمه، ولكنه كذلك طبيعي مألوف في الناس؛ لأنهم لا يكلفون أنفسهم الرأفة بأحد إذا استطاعوا أن يحيلوا عليه جريرة خطاياه! فإذا حرم فما ذاك إلا لأنه محروم مستحق للحرمان بما جناه على نفسه، أو بما جناه عليه القضاء، وإذا كان كذلك فهم أولى بالإجفال منه والهرب من عدوى شقائه! وإلا فماذا يصنعون له وهو الجاني على نفسه؟ ثم ماذا يصنعون للقضاء ولا طاقة لهم برد القضاء؟ فمن حرم وفشل فليحرم أبدا وليفشل أبدا، وليكن مصابه حجة للمزيد من مصابه، ودليلا على شقاء مكتوب عليه لا خلاص منه، ولا للناس فيه حيلة!
وتضاف إلى ذلك الحرمان نكبات متواليات لا يد لمخلوق فيها، ولا هي مما يجنيه إنسان على نفسه، أو يرده إنسان عن حوزته، فتحق عليه تهمة الشؤم، وتثبت عليه مطاردة الأقدار، فلا رأي للعاقل إلا أن يفر منه، ويلتمس العصمة والأمان بالبعد عنه، وقد أطبقت على ابن الرومي النقمتان: نقمة الفشل والحرمان، ونقمة الفجائع في أهله وولده، والتلف في زرعه، والحريق في تراثه، والضياع في عقاره؛ فالرجل لا ريب مشئوم يستعاذ منه، وطريدة للأقدار لا يجيرها مجير وهو آمن على سربه، فمن غرر بنفسه وعالج خلاص الطريدة من القدر الذي يتعقبها، فهو مبتلى لا محالة بمثل بلائها، ثم لا يلومن إلا نحسه، ورأيا سخيفا سول له التورط في المهالك، وخيل إليه أنه مجير من قدرة الله، وراد لما لا مرد لحكمه.
وحق لأبناء القرن الثالث أن يخافوا المشئومين وطرداء القدر؛ لأنه كان عصر السعد والنحس والقلاقل والمفاجآت، مع الإيمان بما يصحب ذلك من الخرافات والأوهام؛ ولأنه العصر الذي تمت فيه ترجمة الكتب الهندية والفارسية، وشاعت بين المسلمين أحاديث النجوم والطوالع ما كان منها خرافيا كاذبا، وما كان من قبيل العلم الصحيح. وزاد في شيوع تلك الأحاديث أن الدولة كانت يومئذ للفرس، وأن آداب المجالس في قصور الملوك والشرفاء كانت آداب الفارسية، والناشئين في البلاد الفارسية، وكانت لهؤلاء ساعات للسعود وساعات للنحوس، ومقارنات بين الأفلاك يطيب معها الطعام والشراب تارة، ولا يطيبان تارة أخرى، بل كان لكل شيء في الأرض والسماء حسابه وأرصاده، وبشائره ونذره، فلا يسافر المسافر ولا يتحرك العامل إلا بعد استشارة للنجوم، وموافقة لأرصاد الطوالع. ولا عجب أن يدرج الفرس على ذلك وهم أمة عبدت الكواكب زمانا، وجعلت لها صفات الخير والشر، وأسندت إليها تدبير الحوادث، وتحويل الدول، وتقدير المقادير.
وكأنما شاءت الأقدار أن تهيئ للقرن الثالث كل أسباب العناية بالنجوم، فظهر في أوائله مذنب «هالي» الذي رأيناه هنا في دورته الأخيرة قبل نيف وثلاثين سنة، والذي قال فيه أبو تمام في تلك الأيام:
وخوفوا الناس من دهياء داهية
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبراج العليا مرتبة
ما كان منقلبا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة
ما دار في فلك منها وفي قطب
وليس يصعب علينا أن نتمثل كيف يكون أثر ذلك المذنب المرهوب أول ظهوره في زمان كذلك الزمان، وبين أناس كأولئك الأناس، قد غلب عليهم الاشتغال بالتنجيم صادقه ومكذوبه، وكثر بينهم جدا من يعلقون حوادث الأرض بأنباء النجوم.
ولقد تردد ذكر السعود والنحوس وأسماء الكواكب في كلام شعراء القرن الثالث والقرن الذي بعده من أثر هذه العوامل كلها، فألمع إليها أبو تمام والبحتري مرارا، وأفرط ابن الرومي في الإشارة إليها؛ لأنه كان أعلم من صاحبيه بهذه المطالب، وتمادى الأمر بمن بعدهم حتى أصبح درس النجوم فريضة على كل رجل مثقف مطلع على آداب زمانه، ولو كان كالمعري مكفوف البصر غير صالح للتوسع في هذا الباب، فكان رهين المحبسين يذكرها في سقط الزند واللزوميات، ويصف مواقعها، ويتكلم عن مقارناتها كأنه فلكي مشتغل بصناعته، وليس بأديب ضرير واضح العذر في جهل هذه الصناعة.
ثم اتفق أن راجت عقيدة النجوم في الأسرتين اللتين علق بهما ابن الرومي، وكان لهما نصيب من شعره ومدحه وعتابه أكبر من نصيب سائر ممدوحيه، نعني أسرة بني طاهر وأسرة بني وهب، وهما أقوى وأغنى من حكم في ذلك الزمان من الأسر التي تصرفت في الدولة، وتصدى أبناؤها للمدح والعطاء، وتولية الأنصار، وعزل الخصوم، فلما مات محمد بن عبد الله بن طاهر وخسف القمر تحدث أهله، وتحدث الناس أن القمر خسف لموته، وكتب ذلك المؤرخون فيما كتبوا من تاريخه، وذكره ابن الرومي في بعض شعره فقال:
بات الأمير وبات بدر سمائنا
هذا يودعنا وهذا يكسف
قمر رأى قمرا يجود بنفسه
فبكى عليه بعبرة لا تذرف
وكسفت الشمس مرة فخاف القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب أن يكون كسوفها مؤذنا بموت عظيم في الدولة، وهلع لذلك؛ فكان ابن الرومي هو الذي هدأ روعه، ونصح له باللهو والسماع للتسرية عن نفسه وكتب إليه:
لا تهولنك شمس كسفت
دون أن تطلع من مغربها
هان ذاك الرزء فيها مثلما
هان ما عزك من مطلبها
هي نار وافقت مطفئها
لست بالآيس من ملهبها
فابك من تشفق من معطبه
فلقد أومنت من معطبها
ضل باك أن أبيخت جمرة
سوف تذكيها يدا مثقبها
ليس للشمس إذا ما كسفت
غير شمس تخلف الشمس بها
من بنات الروم لا يكذبنا
لونها المشرق عن منصبها
وإنها لفكاهة مضحكة من فكاهات الخطوب أن يكون ابن الرومي مهدئ روع في هذا، وهو أحوج إنسان إلى من يهدئ روعه، ويذهب عنه الوجل من نذر الزمان وعلاماته!
فالخوف من شؤم صاحبنا كان من أقوى أسباب فشله واجتنابه، وفي بعض معاتباته إشارة صريحة إلى تطير أبناء طاهر وأبناء وهب من هذا الشؤم، واجتنابهم إياه بعد أن جاءتهم الدولة، وزخرت لهم النعمة؛ مخافة على سعودهم أن يدركها طائف من شقائه ونحسه، فكان يقول لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر يدفع عن نفسه هذه التهمة:
نحن ميامين على أننا
على أعاديك مشائيم
لما دخلنا دخلت نعمة
كان لها حولك تحويم
ولم يفخمك الذي نلته
بل للعطايا بك تفخيم
وكان يقول للقاسم بن عبيد الله:
طلعت بأيمن ما طائر
عليكم وأسعد ما طالع
فجاءتكم دولة غضة
تفيأ في ثمر يانع
وكأنما كان حاسدوه ومزاحموه يعرضون بشؤمه لبني وهب، وينسبون إليه ما يكره الوهبيون من رحلة أو مشقة، فكان يبرأ إليهم ويسرع إلى تفنيد ما نسبوه إليه قبل أن يحسب عليه، وما هو في حاجة عندهم إلى اختلاق الذنوب:
ولقد خفت والبريء ملقى
كل ذنب برأسه معصوب
أن يقول الوشاة لي: إن شؤمي
قاد هذا الشخوص، والإفك حوب
وجوابي أن لم يغيبوا وشاهد
ت فزالت مخاوف ونكوب
أنا من لا يشك في اليمن منه
أو يمين ابن فجرة ويحوب
جئت والدولة السعيدة خلفي
رأسها في مقادتي مجنوب
فحسب الإنسان في ذلك العصر أن تلوح عليه شبهة من السعد أو النحس فيقال: إنه مسعود أو منحوس، ثم تلزمه التهمة وتلصق به طول حياته، وتشتد لصوقا به إذا كان في أحواله وأخلاقه ما يغري الناس بالإلحاح فيها والإصرار عليها، وهل كان شيء من ذلك ناقصا عند ابن الرومي؟ كلا، بل عنده كل شبهة النحس؛ لأنه كان عالما ذكيا ولا حظوة ولا جاه، فما الذي يحول بينه وبين حظوة أمثاله إلا أن يكون الجد العاثر، والطالع المشئوم؟ ولأنه فقد أباه وأمه وأخاه وزوجته وأبناءه، وعاش بعدهم كئيبا حزينا مستهدفا للبلاء من الأيام والناس، وهل يفقد كل هؤلاء ويعيش بعدهم في تلك الحال إلا المنكود المرزأ المنحوس؟ ولأنه مني كما رأينا بالجراد في ضيعته، والحريق في ماله، والضياع في عقاره، وهل يمنى بذلك - مع مصائب الموت والضنك - إلا من شمله النحس في شبكة لا نجاة منها لمشبوك؟
ثم هل كان ابن الرومي مبرأ من تلك الخلائق التي تغري به أهل العبث والمجون، فيلحون عليه بتهمة الشؤم، ويتفكهون بما يؤلمه من ذلك ويؤذيه؟ لا، بل كان الرجل أول المتفائلين المتشائمين، وأول من يسوغ للناس التباشر والتطير، ولزمته الحجة من ذكائه وإدبار حظه، ومن مصائبه في ذويه وصحبه، فكان الذكاء نكبة عليه تعد في النكبات والمصائب ضعفين: ما يصيبه من شرها، وما يصيبه من سمعة نحسها، وولع العابثين بالسخر منها، وإنه لمصاب عظيم.
ولقد رأينا أن أخاه أبا جعفر كان يكتب لرجل، فعزل الرجل بعد مدة، فعبث به أصدقاؤه آل أبي شيخ وقالوا له: «إنما عزله شؤمك.» كأن حديث الشؤم والسعد كان حديثهما في كل نكبة، وفي كل نعمة، ولو أنصف القوم لكانوا كلهم مشئومين منحوسين، إذ كانوا كلهم قد فجعوا في الأصحاب والأنصار، وشهدوا نكبات الأخيار والأشرار، وإذا كان ابن الرومي قد فقد أعداءه كما فقد أحبابه، فلا فضل لشؤمه على سعده، ولا رجحان لطوالع الخيرات فيه على طوالع الشرور، ولكنها الحظوظ التي لا تعرف القسط في الموازين! ومن الحظوظ التي ألممنا بأسبابها أن يكون ابن الرومي منفردا بسمعة الشؤم في ذلك العصر دون سائر المشئومين!
وسواد الناس لا ينصفون مختارين، ثم هم لا ينصفون إذا كان الإنصاف يكلفهم واجبا، أو يحرمهم فكاهة يضحكون منها! فليس لابن الرومي إذن إلا أن يبوء وحده بجريرة ضعفه وعقائد زمنه، فغاية الحكم فيه أنه ولد مقضيا عليه بالفشل، وعاش في زمن لا رحمة فيه لمثله، ووجب أن يترك لقضائه يصنع به ما لا حيلة في دفعه.
إن من الباحثين من يرى أن رجال الفنون في الجماعات الإنسانية كالأطفال في الأسرة، لا بد لهم من رعاية تكتنفهم وأمداد قومية تغنيهم عن السعي لأنفسهم؛ لأنهم لا يحسنون حيل السعي، ولا يجيدون عملهم إذا تفرغوا لممارسة العيش وإتقان حيله، فإذا التمس هؤلاء الباحثون مثلا يدعمون به رأيهم، فما نخالهم يجدون في تاريخ الآداب مثلا أصلح من شاعر كابن الرومي في زمان عجيب متناقض كأواسط القرن الثالث للهجرة.
طيرته
الطيرة شعبة من مرض الخوف الناشئ من ضعف الأعصاب واختلالها، الذي أشرنا إليه في الكلام على مزاج الشاعر، إلا أنها خوف خاص له بواعثه وأعراضه، وهي في ابن الرومي خلة خاصة قد بلغت مداها، ولبست ألوانا غير ألوانها في أكثر المتطيرين، بحيث وجب أن نفردها بالبحث في هذه الكلمة ببعض التفصيل.
فأصل البواعث التي أصابت ابن الرومي بداء الطيرة هو اختلال الأعصاب قبل كل شيء.
فالرجل السليم لا يتطير ولا يتشاءم؛ لأنه ينتظر من الدنيا خيرا، ولا يحس النفرة بينه وبينها، ومن ثم لا يحس الخوف والتطير منها.
وقد تصادفه الحوادث كما تصادف الناس كافة، فتقع على نفسه موقعا خفيفا يملك معه عزمه، ويضبط معه شعوره، فهو في غنى عن الحذر والتوجس مذ كان يلقى الخطر - حين يلقاه - بعدة كاملة، ونفس مطمئنة، لا يتسلف الفزع منه قبل وقوعه، ولا يفرط في الفزع منه متى وقع واستحال عليه دفعه. وقد تؤدي به هذه الطمأنينة إلى نقيض الطيرة، فيحتجب عنه الخطر الصحيح والمتوهم على السواء، ويستسلم للأمن الصادق والكذاب استسلام المتطير لكاذب الخوف وصادقه، وظاهر الوهم ومكنونه، فهو أبدا في حالة سلم وأمان إذ يكون المتطير أبدا في حالة حرب وارتياب.
هذه طبيعة السليم من حيث التطير خاصة، والخوف من الطوارئ عامة.
أما مختل الأعصاب فالصغائر مكبرة في حسه، والأشباح والأطياف كثيرة في وهمه، يتخيل ويتوهم، ثم يزيده الفزع من الأخيلة والأوهام، فإن كان إلى ذلك شاعرا، وكان خياله قويا؛ فللطيرة فيه معين لا ينضب من الخلق والابتكار والطوارق.
وتتوارد عليه المنبهات - وكل طارق في الدنيا منبه لأصحاب هذا المزاج - فيتيقظ فيه الشعور بالخطر، ويلمح المخاوف حيث لا يلمحها الآخرون، كما هو الشأن في كل مستحضر للحذر متوقع للمفاجأة.
فأنت تسير في الطريق المأمون، فلا تزعجك نبأة ولا يلفتك ما قد يوجب التلفت، ولكنك إذا أدلجت في الأجمة المرهوبة، واستحلك الليل حولك خيل إليك أنك تسمع في كل همسة فحيح أفعى، وفي كل نفخة همهمة أسد، وفي كل خبطة تليك هجمة عدو ينتحيك بمكروه، وما اختلف على حسك بين الطريق المأمون والأجمة المرهوبة إلا اختلاف التوقع، واستحضار الحذر من كل مجهول غير منظور، وذلك هو موضع الاختلاف بعينه بين المتطيرين وغير المتطيرين.
ولقد كان ابن الرومي أوعى لنفسه من أن تخفى عليه طبيعة الحذر المركبة فيه؛ فهو يشعر من دخيلة طبعه بأنه حذور، ويعلم ألا مفر له من الحذر، فيتخذ من الضرورة فضيلة - كما يقولون - ويزعم أن الحذر باب الأمان:
فآمن ما يكون المرء يوما
إذا لبس الحذار من الخطوب
ويحتج لذلك بحجج كثيرة من القرآن والحديث والمنطق والروايات، كما مر بك في أخباره، ثم لا يشك في أنه محق مصيب، ضعفت حجته أو قويت، وصدقت محاذيره أو كذبت؛ لأن الحجة في العقائد الشعورية تلحق العقيدة ولا تسبقها، وتؤكدها إذا وافقتها، ولكنها لا تفندها إذا عارضتها. •••
ومن روافد الطيرة في ابن الرومي ذوق الجمال وتداعي الخواطر.
فالنفس المطبوعة على ذوق الجمال تفرح وتتهلل للمناظر الجميلة السوية، وتنفر وتنقبض من المناظر الدميمة الشائهة، ويصاحب الفرح الإقبال والاستبشار والرغبة، ويصاحب النفور الحزن والإنكار والتشاؤم والكراهة، وليس أقرب من المسافة بين النفور والطيرة إذ دق الحس وغلب عليه الحذر، وأصبح الانقباض عنده نذيرا يثنيه ويقتضب عليه طريق أمله.
أما تداعي الخواطر فصاحبه أبدا يستخرج من الكلمة أو الفكرة غاية ما تؤدي إليه، وتنقلب عليه، ومتى كانت طبيعته الحذر ومزاجه مركبا على التشاؤم، فليس أسهل من اتجاه خواطره السريعة إلى حيث ألفت طبيعته واستمر مزاجه.
فلكل كلمة عنده سر، ولكل سر مخافة، ويسير عليه أن يعرف ذلك السر، ويكشف تلك المخافة؛ لأنه سريع حركة الذهن يتنقل كومضة البرق بين المعاني ومشابهاتها ومناقضاتها، وبين الكلمات وما يجانسها ويشاكل حروفها وأوزانها، فلا يشق عليه أن يعثر بطلبته الموافقة لنزعة طبعه، ومتوجه ذهنه عند معنى من تلك المعاني، ومشاكلة من تلك المشاكلات.
وذوق الجمال وتداعي الخواطر كانا في ابن الرومي على أدق وأيقظ ما يكونان في إنسان؛ كانت له عين خاطفة تلتهم الألوان والأشكال التهام الجائع المنهوم الذي لا يشبع، وقد عرفنا أمثلة من ذلك في دقة تشبيهاته، وإحكام صوره، وغرابة التفاته إلى مواقع للنظر لا يلتفت إليها شاعر غيره. وسنعرف أضعاف ذلك عند الكلام على عبقريته وفنه وأسلوبه في تناول الحس وتصويره.
ثم كان مع هذه النظرة الخاطفة يشنأ القبح، ويحسبه ذنبا يعاف ويستر، وكان يبالغ في إخفائه من نفسه إذا ابتلي به، كما كان يبالغ في إخفاء صلعه، والسخط على من يسألونه عنه! فالقبح عنده شر أو نذير بالشر، ولا يرى الأحدب أو الأعور أو الخصي أو الأشقر الذي يحكي لون وجهه لون الجلد المسلوخ، أو غيرهم من المشوهين الخارجين عن سواء الخلقة إلا انقبضت نفسه، وأسرع إليه ما يلازم الانقباض من التوجس والحذر والوجوم.
وتداعي الخواطر ملحوظ في جميع شعره لا يستدل منه بغرض دون غرض، ولا بقصيدة دون قصيدة، فهو يسلسل المعنى ويشعبه حتى يستنفد، وكلما عن له خاطر لحق به ما يقاربه وما يناسبه حتى تبطل المناسبة، ويضطر إلى الوقوف. هذا في المعاني. أما في الألفاظ فإنه يغوص في تصحيف حروفها مثل هذا الغوص، ويستخرج البعيد والقريب من رموزها وقراءتها، ويستنبط منها ما يشاء من ملامح اليمن والشؤم، ودفائن المدح والذم، فجعفر عنده تساوي «جاع وفر»، والخان يذكره بالخيانة.
فكم خان سفر خان فانقض فوقهم
كما انقض صقر الدجن فوق الأرانب
ويلعب بتصحيف الكلمات في السمع والخط أحيانا لينقلها إلى المدح أو الهجاء، فيقول في القيان:
لا تلح من تفتنه «قينة»
فإن تصحيف اسمها «فتنة»
ويقول فيمن اسمه ابن «هرثمة»:
عائذ دهره إذا سطع النق
ع بمعنى مصحف اسم أبيه
وتصحيف هرثمة هو «هزيمة».
ويجعل عمر «عيرا» بقوله:
يا عمرو لو قلبت ميم مسكنة
ياء محركة لم تخطئ الفقر
أو يفعل ذلك في الاسم الواحد ممعنا أشد الإمعان في استخراج التصحيف للمدح والذم، كما فعل في اسم إسحاق مادحا وهاجيا، فقال وهو يمدح:
واسلم أبا إسحاق لابس غبطة
وعداك للإبعاد والإسحاق
وقال وهو يهجو وأبعد جدا في تصحيفه:
يا أبا إسحاق واقلب
نظم إسحاق وصحف
واترك الحاء على حا
ل فما للحاء مصرف
يشهد الله لقد أص
بحت عين المتخلف
فتبدل اسم «إسحاق» بعد قلبه وتصحيف قافه فاء وسينه شينا، وإثبات حائه على حالها، فخرج من هذه العملية الطويلة «فاحشا»، وليس بينه وبين الأصل صلة كما ترى إلا ما عرض له من التصحيف والتحريف من أبعد طريق.
وقد يذهب ذهنه إلى الصورة التي تنقلب إليها الأسماء بعد اللثغ المضاعف كما قال في أبي علي بن أبي قرة:
أنت عندي وشيخك السيد الما
جد لا شك صادق الكنيتين
ليس في منطق الفصيح ولكن
حين يحكيكما أخو لثغتين
مبدل لام كل لفظ بياء
مبدل قاف كل لفظ بغين
فيصبح علي بن أبي قرة في لغة الألثغ وهو: عيي بن أبي غرة بكسر العين! ولولا السرعة في تداعي الخواطر وخلق المناسبات لما وصل إلى هذا التصحيف في الاسمين.
وقد يعكس اللفظ ليستخرج منه فألا لغيره كما صنع بكلمة «سكان»، حين انحدر العلاء بن صاعد يريد واسطا، فتحركت ريح الجنوب حركة عظمت معها الأمواج فانكسر السكان، فرجع، فقال ابن الرومي:
رأيت منكسر السكان ظاهره
هول وتأويله فأل لمنجاكا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لأن لفظة «سكان» إذا قلبت
حروفها «ناكس» لا شك في ذاكا
وإن عقلا كهذا العقل المطبوع على سرعة التنقل بين المعاني والألفاظ، وما يتفرع عليها ويتسلسل منها ليس بالغريب أن يهتدي إلى مكامن الطيرة والشؤم في كل معنى، وكل كلمة، ولا سيما إذا رانت على نفسه الخيبة، وقدر الفشل في كل خطوة، واقترن ذلك بالإحساس المتوفز المتربص الذي لا تضبطه عزيمة، ولا تحكمه صرامة في الفطرة.
وتداعي الخواطر بهذه السرعة من الحالات التي تتقارب فيها العبقرية والجنون، كما تقدم في الكلام على مزاج الشاعر، فيثب العبقري في لمحة عين من المعنى إلى شبيهه أو نقيضه ، ويصل بين القطبين البعيدين بسلسلة من المشابهات والمناقضات دقيقة الحلقات لا يتبينها الناظر إلا بعد التوضيح والجهد الجهيد في التنبه لمداخلها، وتعقب أوصالها، والجري معها جريا يتعبه ولا يسره لأول وهلة. وتسمع المجنون يتكلم فإذا هو يخلط ويأتي بالمفارقات، ولكنه في داخل ذهنه يجمع بينها بمناسبات تقرب منها ما نأى، وتؤلف ما تبعثر، غير أن الجنون عقيم منبت والعبقرية مثمرة نافذة، وهذا هو الفرق الكبير بين الشذوذين المتناقضين؛ أي بين أسمى ما يرتقي إليه الذهن وأوضع ما ينحدر إليه.
وإليك مثلا هذه الأبيات التي قالها ابن الرومي في هجاء ابن طالب الكاتب:
أزيرق مشئوم أحيمر قاشر
لأصحابه، نحس على القوم ثاقب
وهل أشبه المريخ إلا وفعله
لفعل نذير السوء شبه مقارب
وهل يتمارى الناس في شؤم كاتب
لعينيه لون السيف والسيف قاضب
ويدعى أبوه طالبا وكفاكم
به طيرة إن المنية طالب
ألا فاهربوا من طالب وابن طالب
فمن طالب مثليهما طار هارب
فبهذا المثل نستطيع أن نتتبع مداخل الطيرة إلى نفس ابن الرومي من جانب «ذوق الجمال»، ومن جانب «تداعي الخواطر» في وقت واحد، ونستطيع أن نراقب ذهنه وهو يعمل في حركته السريعة بين الأشكال والألوان والألفاظ والمعاني، كما نراقب البنية الحية وهي تعمل من وراء المجاهر والكواشف، فانظر إلى لون الوجه «الأحيمر» القاشر، وإلى نذير السوء والبلاء، أين هما؟ وماذا يجمع بينهما من الصلة والمناسبة؟ لا صلة ولا مناسبة! ولكن ضع بينهما المريخ ولونه الأحمر، ثم ضع مع المريخ ما اقترن به في الأساطير من خصائص الحرب والفتنة تنتظم العلاقة، وتنعقد المناسبة من جميع أطرافها، وقل مثل ذلك في لون العين ولون السيف القاضب! وفي «الطالب» الذي لا يقابله إلا «الهارب»، وفي «الطلب» الذي يعقد الشبه بين الموت وذلك الكاتب! وفرق هذا كله فإذا هو أبعد المتفرقات، واجمعه كما جمعه ابن الرومي، فإذا هو أقرب المناسبات، وألزم العلاقات. •••
ولقد ضاعف العصر ما في نفسه من الاستعداد للطيرة من هذه الجوانب الكثيرة، فاستعصى عليه علاجها، وسهلت عليه مطاوعتها والإغراق فيها ، فقد كان أصح الأصحاء في عصره يصدق الطوالع، ويؤمن بالسعد والنحس، والتفاؤل والتشاؤم، فزعم ابن الرومي أن الطيرة موجودة في الطبائع، وأنه ما من أحد إلا يتفاءل بأشياء ويتشاءم بأشياء، ويتخذ العلامات من ظواهر الزمان لخفاياه، ومن فلتات لسانه لما في دخائل ضميره!
وكثر التصحيف في زمنه، بل كثر في بيت من بيوت الرؤساء التي اتصل بها وتردد عليها في مجالس سمرها ولهوها؛ وهو بيت بني طاهر، ولاة الحكم في خراسان والشرطة ببغداد، ومن رءوسه عبد الله بن طاهر الذي قال ملغزا في اسم ظريف:
اسم من أهواه اسم حسن
فإذا صحفته فهو حسن
فإذا أسقطت منه فاءه
كان نعتا لهواه المختزن
إلخ إلخ.
ومن رءوسه عبيد الله الذي كان يعرض الشعر على ابن الرومي، ويقترح عليه تصحيفه كما ترى في ديوانه.
فتمكنت عادة التصحيف في ذهنه، وجاءت الطيرة فوجدت منها أداة صالحة لخلق دلائل الشؤم، واستنباط الإشارات الخفية من ظواهر المعاني والألفاظ.
على أنا - مع توافر هذه البواعث في مزاجه وعصره - نلاحظ أن الروايات التي ذكرت عن طيرته لا ترجع واحدة منها إلى ما قبل الخمسين من عمره، فرواية ابن المسيب التي يقول فيها: إن ابن الرومي فزع من رؤية الحول والعور في المهرجان، ترجع إلى مهرجان سنة ثمان وسبعين ومائتين؛ أي حين كان ابن الرومي في السابعة والخمسين، والنوادر التي حكيت عن الأخفش لا يظن أنها حدثت قبل نيف وسبعين ومائتين؛ لأن الزبيدي يخبرنا أن الأخفش كان له تلاميذ يملي عليهم هجاء ابن الرومي فيه، ويغلب ألا يكون للعالم حلقة يجلس فيها للتدريس قبل الثلاثين، والأخفش مات سنة ست عشرة وثلاثمائة عن نحو ثمانين سنة، فكان ابن الرومي في الخمسين حين جاوز الأخفش الثلاثين.
والرواية التي نقلت عن إبراهيم كاتب مسروق البلخي، وحضرها برذعة الموسوس صاحب المعتضد ترجع إلى أيام المعتضد الذي تولى الخلافة سنة تسع وسبعين ومائتين؛ أي حين بلغ ابن الرومي الثامنة والخمسين، فيرجح إذن أن الطيرة الشديدة في ابن الرومي كانت عارضا من عوارض الشيخوخة ، وأنه أفرط فيها بعدما ابتلي بالآلام والأحزان، وساورته المخاوف من كل جانب، وقل حوله المؤاسي والرفيق. وللشيوخ كافة ميل إلى تصديق الأساطير، واستطلاع الغيوب وما يدخل في باب العيافة والزجر على العموم. فابن الرومي في شيخوخته أحجى أن يصاب بهذه العاقبة التي ادخرها له المرض والمزاج والعصر وحوادث الأيام.
إلا أننا يجب أن نحسب هنا حسابا للمبالغة التي تدخل على كل شهرة، وتغري الناس باختراع الأقاويل وإضافة النوادر الشائعة عن كل صفة غريبة إلى الشخص الذي يشتهر بتلك الصفة، ويتفرد فيها بالظهور، فقد يكون الموضوع من أخبار هذه الطيرة أكثر من الصحيح، وقد يكون الصحيح مشوبا بالمبالغة والإطناب.
عقيدته
تقدم في الكلام على الحالة الدينية في القرن الثالث للهجرة أنه كان عصرا كثرت فيه النحل والمذاهب، وقل فيه من لا يرى في العقائد رأيا يفسر به إسلامه، وبخاصة بين جماعة الدارسين وقراء العلوم الحديثة.
فابن الرومي واحد من هؤلاء القراء، لا ننتظر أن تمر به هذه المباحث التي كان يدرسها ويحضر مجالسها، ويسمع من أهلها بغير أثر محسوس في تفسير العقيدة، فكان مسلما صادق الإسلام، ولكنه كان شيعيا معتزلا قدريا يقول بالطبيعتين، وهي أسلم النحل التي كانت شائعة في عهده من حيث الإيمان بالدين.
وقد قال المعري في رسالة الغفران: أن البغداديين «يدعون أنه متشيع، ويستشهدون على ذلك بقصيدته الجيمية»، ثم عقب على ذلك فقال: «ما أراه إلا على مذهب غيره من الشعراء.»
ولا ندري لماذا شك المعري في تشيعه لأنه «على مذهب غيره من الشعراء»؛ فإن الشعراء إذا تشيعوا كانوا شيعة حقا كغيرهم من الناس، وربما أفرطوا فزادوا في ذلك على غيرهم من عامة المتشيعين، وإنما نعتقد أن المعري لم يطلع على شعره كله، فخفيت عنه حقيقة مذهبه، ولولا ذلك لما كان بهذه الحقيقة من خفاء.
على أن القصيدة الجيمية وحدها كافية في إظهار التشيع الذي لا شك فيه؛ لأن الشاعر نظمها بغير داع يدعوه إلى نظمها من طمع أو مداراة، بل نظمها وهو يستهدف للخطر الشديد من ناحية بني طاهر، وناحية الخلفاء، فقد رثى بها «يحيى بن عمر بن حسين بن زيد بن علي» الثائر في وجه الخلافة، ووجه أبناء طاهر ولاة خراسان، وقال فيها يخاطب بني العباس ويذكر «ولاة السوء» من أبناء طاهر:
أجنوا بني العباس من شنآنكم
وأوكوا على ما في العياب وأشرجوا
19
وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم
فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا
نظار لكم أن يرجع الحق راجع
إلى أهله يوما، فتشجوا كما شجوا
على حين لا عذرى لمعتذريكم
ولا لكم من حجة الله مخرج
فلا تلقحوا الآن الضغائن بينكم
وبينهم إن اللواقح تنتج
غررتم لئن صدقتم أن حالة
تدوم لكم، والدهر لونان أخرج
لعل لهم في منطوي الغيب ثائرا
سيسمو لكم، والصبح في الليل مولج
فماذا يقول الشيعي لبني العباس أقسى وأصرح في التربص بدولتهم وانتظار دولة العلويين من هذا الكلام؟ فقد أنذر بني العباس بزوال الملك، وكاد يتمنى - أو تمنى - لبني علي يوما يهزمون فيه أعداءهم، ويرجعون فيه حقهم، ويطلبون تراثهم، وينكلون بمن نكل بهم، وهواه ظاهر مع العلويين لا مداجاة فيه كهوى كل شيعي في هذا المقام، على أنه كان أظهر من هذا في النونية التي تمنى فيها هلاك أعدائهم، ولام نفسه على التقصير في بذل دمه لنصرتهم:
إن يوال الدهر أعداء لكم
فلهم فيه كمين قد كمن
خلعوا فيه عذار المعتدي
وغدوا بين اعتراض وأرن
20
فاصبروا يهلكهم الله لكم
مثلما أهلك أذواء اليمن ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قرب النصر فلا تستبطئوا
قرب النصر يقينا غير ظن
ومن التقصير صوني مهجتي
فعل من أضحى إلى الدنيا ركن
لا دمي يسفك في نصرتكم
لا ولا عرضي فيكم يمتهن
غير أني باذل نفسي وإن
حقن الله دمي فيما حقن
ليت أني غرض من دونكم
ذاك أو درع يقيكم ومجن
أتلقى بجبيني من رمى
وبنحري وبصدري من طعن
إن مبتاع الرضى من ربه
فيكم بالنفس لا يخشى الغبن
وليس يجوز الشك في تشيع من يقول هذا القول، ويشعر هذا الشعور؛ فإنه يعرض نفسه للموت في غير طائل حبا لبني علي، وغضبا لهم، وإشهارا لعاطفة لا تفيده ولا تفيدهم، وقد كان لا يذكر يحيى بن عمر إلا بلقب الشهيد، كما ذكره في القصيدة الجيمية، وفي خاطرة أخرى مفردة نظمها في هذين البيتين:
كسته القنا حلة من دم
فأضحت لدى الله من أرجوان
جزته معانقة الدارعين
معانقة القاصرات الحسان
وبعض هذا يكفي في الدلالة على تشيعه للطالبيين، واتخاذه التشيع مذهبا في الخلافة كمذهب الشعراء أو غير الشعراء، ولا سيما التشيع المعتدل الذي يقول أهله بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، ويستنكرون لعن الصحابة الذين عارضوا عليا في الخلافة، ومعظم هؤلاء من الزيدية الذين خرجوا في جند يحيى بن عمر لقتال بني العباس.
فهم لا يقولون في نصرة آل علي أشد مما قال ابن الرومي، ولا يتمنون لهم أكثر مما تمنى.
ويلوح لنا أن ابن الرومي ورث التشيع وراثة من أمه وأبيه؛ لأن أمه كانت فارسية الأصل، فهي أقرب إلى مذهب قومها الفرس في نصرة العلويين؛ ولأن أباه سماه عليا وهو من أسماء الشيعة المحبوبة التي يتجنبها المتشددون من أنصار الخلفاء، ولا حرج على أبي الشاعر أن يتشيع وهو في خدمة بيت من بيوت العباسيين؛ لأن مواليه كانوا أناسا بعيدين من الخلافة وولاية العهد، وهما علة البغضاء الشديدة بين العباسيين والعلويين. وقد اتفق لبعض الخلفاء وولاة العهد أنفسهم أنهم كانوا يكرمون عليا وأبناءه، كما كان مشهورا عن «المعتضد» الخليفة الذي أكثر ابن الرومي من مدحه، وكما كان مشهورا عن «المنتصر» ولي العهد الذي قيل: إنه قتل أباه «المتوكل» جريرة ملاحاة وقعت بينهما في الذب عن حرمة علي وآله. •••
ومع هذا لم يخطئ المعري حين ظن أن للشعراء تشيعا غير تشيع الدين والعصبية؛ إذ كان الشعراء في كل زمن يؤخذون بالعاطفة، وتستجيشهم البواعث الحية التي تجيش لها القلوب من حولهم، وكانت العاطفة أبدا مع بني علي، حيث كانت المصلحة أبدا مع بني العباس. وقد برز هذا الفارق في مقتل يحيى بن عمر خاصة؛ لأنه كان محبوبا معطوفا عليه لشجاعته ونخوته، وكرم نفسه وشبابه وجماله، وكان معذورا في خروجه على العباسيين؛ لأنهم حرموه رزقه حتى عز عليه القوت، وجاع وأترب، وتبين ذلك لأنصاره فكانوا يعرضون عليه الطعام فيأباه ويقول: «إن عشنا أكلنا.» وفي ذلك يقول ابن الرومي من القصيدة الجيمية:
أفي الحق أن يمسوا خماصا وأنتم
يكاد أخوكم بطنه يتبعج
وتمشون مختالين في حجراتكم
ثقال الخطى أكفالكم تترجرج
وليدهم بادي الضوى، ووليدكم
من الريف ريان العظام خدلج
وقد بلغ من حبه في قلوب الناس أنه لما قتل التمس قتلته أحدا يعالج رأسه، كما تعالج رءوس القتلى لتحفظ وتنصب، فأعياهم أن يجدوه، وطال بحثهم عنه حتى عثروا برجل من أراذل السوقة رضي أن يصنع بالرأس ما لم يرضه الآخرون، ثم أرادوا نصبه في بغداد، فهاج أهلها وماجوا وخيفت الفتنة، فأنزلوه ولما يكد يرفع، ولم يعرف في تاريخ الطالبيين أحد حزن الناس لموته واضطربوا كحزنهم واضطرابهم لقتل يحيى بن عمر، ففي غضب ابن الرومي شيء كثير من غضب الشاعرية، أو من غضب السليقة الحساسة التي لا يسعها أن تهدأ وتفتر والقلوب حولها جائشة، والصدور مكظوظة، والطبائع نافرة. ولا ننسى أنه رثى يحيى وهو دون الثلاثين في سن للعاطفة عليها سلطان عظيم، وللحزم عليها سلطان ضعيف، ولكن أتراه - لولا العقيدة - كان يكرر هذا الغضب، ويخرج هذا الخروج عن الحذر؟ أكان يجازف بحياته ويقول في النونية أشد مما قال في الجيمية التي هيج لها هذا الهياج، وساوره فيها الحزن كما ساور ألوف المحزونين؟ •••
وبعد، فيجب أن نذكر في هذا السياق أن ابن الرومي رثى محمد بن عبد الله بن طاهر الذي تولى حرب يحيى، وجلس لقبول التهنئة بقتله، ففي هذه الملاحظة ما يجوز أن يلقي الشبهة على جده في التشيع، ولدده في الخصومة للمذهب، فإذا أردنا أن نذكر ذلك وجب أن نذكر معه أمورا كثيرة تصحح تلك الملاحظة، وترد تلك الشبهة، وهي أن ابن الرومي لم يكن قط لدودا في خصومة، ولا صارما في عصبية، وأن محمد بن عبد الله بن طاهر مات بعد مقتل يحيى بثلاث سنوات سكنت فيها سورة الحزن، وفترت حدة الغضب، وأن أبناء طاهر كانوا حماة لابن الرومي يمدحهم ويرثيهم، ويختلف إلى قصورهم، ويدخل فيما بينهم من منافسة ومصالحة بين أقطابهم، فأولى أن نذكر هنا أنه نسي ذلك كله وهجاهم وثار عليهم في سورة الحزن، فرماهم بما نسميه الآن «الخيانة العظمى»، واتهمهم بالكيد لبني علي وبني العباس على السواء، وأنهم يأتمرون بالدولة العربية الإسلامية ليقموا على أنقاضها دولة الفرس القديمة؛ فقال لهم في القصيدة الجيمية: إنكم لو أمكنتكم في الفريقين فرصة:
إذن لاستقدتم منهما وتر فارس
وإن ولياكم فالوشائج أوشج
أبى أن تحبوهم يد الدهر ذكركم
ليالي لا ينفك منكم متوج
وإني على الإسلام منكم لخائف
بوائق شتى بابها الآن مرتج
وتلك سورة متشيع ناقم لا يبالي ما يقول وقد ملكه الحزن، ونسي العواقب، وراح يخبط في تهم وحزازات كان أهونها يطير بالرأس في تلك الأيام.
ويصح أن نذكر بعدما تقدم أن الطاهريين كانوا في بواطنهم متشيعين يضطرون اضطرارا إلى حرب بني علي، وقبول التهنئة بموتهم، كما كان الطالبيون أنفسهم يضطرون إلى شهود محافل التهنئة وهم مطويون على الحزن الأليم، والثأر المقيم، ويقول ابن الأثير: إن سليمان بن عبد الله بن طاهر انهزم اختيارا في حرب الحسن بن زيد العلوي، الذي ثار بعد مقتل يحيى بن عمر؛ «لأن الطاهرية كلها كانت تتشيع»، فلما أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان تأثم سليمان من قتاله لشدته في التشيع وقال:
نبئت خيل ابن زيد أقبلت حينا
تريدنا لتحسينا الأمرينا
يا قوم إن كانت الأنباء صادقة
فالويل لي ولجمع الطاهريينا
أما أنا فإذا اصطفت كتائبنا
أكون من بينهم رأس المولينا
فالعذر عند رسول الله منبسط
إذا احتسبت دماء الفاطميينا
وتشيع الطاهريين معقول مرجح؛ لأنهم كانوا فرسا يوافق هواهم هذا المذهب، ويصلح عندهم ذريعة لقلب الدولة، وتجديد ملك فارس وقيام الدولة الطاهرية، فرثاء الشاعر رجلا من الشيعة - على هذا الاحتمال - أمر لا غبار عليه من هذه الوجهة، ولا شبهة فيه على صدق الميل والجد في العقيدة.
وإن أحق عقيدة أن يجد المرء فيها لعقيدة تجرئه إذا خاف، وتبسط له العذر والعزاء إذا سخط من صروف الحوادث، وتمهد له الأمل في مقبل خير من الحاضر، وأدنى منه إلى كشف الظلامات ورد الحقوق، وكل أولئك كان ابن الرومي واجده على أوفاه في التشيع للعلويين، أصحاب الإمامة المنتظرة في عالم الغيب، على العباسيين أصحاب الحاضر الممقوت المتمنى زواله؛ فلهذا كان متشيعا في الهوى، متشيعا في الرجاء، متشيعا في الرأي الذي وافق الهوى والرجاء، وكان «على مذهب غيره من الشعراء»، وعلى مذهب غيره من سائر المتشيعين. •••
أما الاعتزال فابن الرومي لا يكتمه ولا يماري فيه، بل يظهره إظهار معتز به، حريص عليه، فمن قوله في ابن حريث:
معتزلي مسر كفر
يبدي ظهورا لها بطون
أأرفض الاعتزال رأيا
كلا لأني به ضنين
لو صح عندي له اعتقاد
ما دنت ربي بما يدين
يقول: إن ابن حريث هذا يبطن الكفر ويظهر الاعتزال، وهو الإيمان الصحيح في رأي المعتزلة، ثم يقول: أتراني إذن أرفض الاعتزال لأن ابن حريث يدعيه؟ فيجيب نفسه: كلا؛ لأني أضن به، وأعلم أن عقيدة ابن حريث الباطنة غير الاعتزال، ولولا علمي بذلك ما دنت ربي بما يدين.
وكان مذهبه في الاعتزال مذهب القدرية الذين يقولون بالاختيار، وينزهون الله عن عقاب المجبر على ما يفعل، وذلك واضح من قوله يخاطب العباس بن القاشي، ويناشد صلة المذهب:
إن لا يكن بيننا قربى فآصرة
للدين يقطع فيها الوالد الولدا
مقالة «العدل والتوحيد» تجمعنا
دون المضاهين من ثنى ومن جحدا
وبين مستطرفي غي مرافقة
ترعى، فكيف اللذان استطرفا رشدا
كن عند أخلافك الزهر التي جعلت
عليك موقوفة مقصورة أبدا
ما عذر «معتزلي» موسر منعت
كفاه معتزليا مقترا صفدا
أيزعم القدر المحتوم ثبطه؟
إن قال ذاك فقد حل الذي عقدا
أم ليس مستأهلا جدواه صاحبه؟
أنى وما جار عن قصد ولا عندا
أم ليس يمكنه ما يرتضيه له؟
يكفي أخا من أخ ميسور ما وجدا
لا عذر فيما يريني الرأي أعلمه
للمرء مثلك ألا يأتي السددا
فواضح من كلامه هذا أنه «معتزلي»، وأنه من أهل «العدل والتوحيد»، وهو الاسم الذي تسمى به القدرية؛ لأنهم ينسبون العدل إلى الله، فلا يقولون بعقوبة العبد على ذنب قضي له وسيق إليه، ولأنهم يوحدون الله فيقولون: إن القرآن من خلقه، وليس قديما مضاهيا له في صفتي الوجود والقدم، وقد اختاروا لأنفسهم هذا الاسم ليردوا به على الذين سموهم «القدرية»، ورووا فيهم الحديث «القدرية مجوس هذه الأمة»، فهم يقولون: ما نحن بالقدرية؛ لأن الذين يعتقدون القدر أولى بأن ينسبوا إليه، إنما نحن من أهل العدل والتوحيد؛ لأننا ننزه الله عن الظلم وعن الشريك.
وواضح كذلك من كلامه أنه يعتقد حرية الإنسان فيما يأتي من خير وشر، ويحتج على زميله بهذه الحجة فيقول له: لم لا تثيبني؟ إن قلت: إن القدر يمنعك؛ فقد حللت ما اعتقدت من اختيار الإنسان في أفعاله.
وإن قلت: إنك لا تريد؛ فقد ظلمت الصداقة وأخللت بالمروءة.
وله عدا هذا أبيات صريحة في اعتقاد «الاختيار» وخلق الإنسان لأفعاله كقوله:
لولا صروف الاختيار لأعنقوا
لهوى، كما اتسقت جمال قطار
وقوله:
أنى تكون كذا وأنت مخير
متصرف في النقض والإمرار؟
وقوله:
الخير مصنوع بصانعه
فمتى صنعت الخير أعقبكا
والشر مفعول بفاعله
فمتى فعلت الشر أعطبكا
إلا أنه كان يقول بالقدر في تقسيم الأرزاق، وأن:
الرزق آت بلا مطالبة
سيان مدفوعه ومجتذبه
ويقول:
أما رأيت الفجاج واسعة
والله حيا والرزق مضمونا
ولا تناقض عند القدرية في هذا؛ لأنهم يقولون بالاختيار فيما يعاقب عليه الإنسان ويثاب، لا فيما يناله من الرزق وحظوظ الحياة. ومن العزاء لابن الرومي أن يكون الرزق مضمونا مقدرا؛ لأنه أمان له من مخاوف الغد المجهول، وراحة من إلقاء التبعة على نفسه فيما أصابه من الخذلان والتخلف.
أما القول بالطبيعتين، فأوضح ما يكون في قوله:
فينا وفيك طبيعة أرضية
تهوي بنا أبدا لشر قرار
هبطت بآدم قبلنا وبزوجه
من جنة الفردوس أفضل دار
فتعوضا الدنيا الدنية كاسمها
من تلكم الجنات والأنهار
بئست لعمر الله تلك طبيعة
حرمت أبانا قرب أكرم جار
واستأسرت ضعفي بنيه بعده
فهمو لها أسرى بغير إسار
لكنها مأسورة مقسورة
مقهورة السلطان في الأحرار
فجسومهم من أجلها تهوي بهم
ونفوسهم تسمو سمو النار
لولا منازعة الجسوم نفوسهم
نفذوا بسورتها من الأقطار
21
أو قصروا فتناولوا بأكفهم
قمر السماء وكل نجم سار
وكأن الفارسية هنا تسربت إلى أقوال المعتزلة كما تسربت إلى كثير من أفكار الثقافة العربية، فإن القول بالطبيعتين من أقدم ما عرف من ديانة الفرس قبل أديان بني إسرائيل، وقبل النصرانية والإسلام، فلما جاء التوحيد الإسلامي أبطل التثنية، ولم يبطل النزاع بين الخير والشر، والنور والظلام، فجاز للمسلم أن يؤمن بالطبيعتين على أن يؤمن بالوحدانية، ولا يشرك الشر في تدبير الوجود.
وإلى هنا تكلمنا عن مذهبه، ولم نتكلم عن «فطرته الدينية» أو عن قوة الإيمان في نفسه.
والفرق بين الأمرين لا يحتاج إلى شرح طويل؛ فإن الناس قد يختلفون في المذهب أبعد اختلاف، ويتفقون في «الفطرة الدينية» أقرب اتفاق، فربما رأيت ألف رجل يدينون بكل مذهب في فجاج الأرض، وهم على الرغم من ذلك أصحاب «فطرة دينية واحدة»، مطبوعون على حماسة الدين، أو مطبوعون على حب التقديس والعبادة، يتفقون في هذه الفطرة، ويخرج كل منهم إلى معبده، فإذا واحد منهم ذاهب إلى المسجد، والثاني إلى الكنيسة، والثالث إلى البيعة، والرابع إلى بيت الأصنام، أو يتفقون على هذه الفطرة ويخرج كل منهم إلى قتال الآخرين بتلك الغيرة القوية التي يقاتله بها أولئك الآخرون؛ فالفطرة الدينية توجد في أنصار كل مذهب وملة، أما المذاهب والملل فلا نهاية لها في التعدد والافتراق.
وابن الرومي كان مفطورا على التدين؛ لأنه كان مفطورا على التهيب والاعتماد على نصير، وهما منفذان خفيان من منافذ الإيمان، والتصديق بالعناية الكبرى في هذا الوجود، ومن ثم كان مؤمنا بالله خوفا من الشك، مقبلا على التسليم، بسيطا في تسليمه بساطة من يهرب من القلق، ويؤثر السكينة إلى شيء من الأشياء. وبلغ من بساطته أنه كان ينكر على الحكماء شكهم في حفظ أجساد الأتقياء بعد الموت، وحسبانه من فعل الدواء والحنوط، فقال لابن أبي ناظرة حين تذوق بعض الأجساد ليعلم ما فيها من عوامل البقاء:
يا ذائق الموتى ليعلم هل بقوا
بعد التقادم منهم بدواء
بينت عن رعة وصدق أمانة
لولا اتهامك خالق الأشياء
أحسبت أن الله ليس بقادر
أن يجعل الأموات كالأحياء؟
وظننت ما شاهدت من آياته
بلطيفة من حيلة الحكماء؟
ومات وهو يقول في ساعته الأخيرة:
ألا إن لقاء الله
هول دونه الهول
وما كانت الطيرة عنده إلا شعبة من ذلك «التهيب» الديني الغريزي فيه؛ فهو يتفلسف ويرى الآراء في الدين، ولكن في حدود من الشعور لا في حدود من التفكير؛ ولهذا كان الفنان ولم يكن الفيلسوف.
وليس من «الاجتراء» أنه قال بالاختيار، ورأى له في الدين رأيا غير ما اصطلح عليه السواد، فإنه كان يحيل الذنب على الإنسان، وينفي الظلم عن القدر في العقاب والثواب، ويتصور الله على أحسن ما يتصور المتفلسف مثله إلهه، فكأنما جاءه هذا الرأي من محاباة عالم الغيب لا من الاجتراء عليه، وإنما دفع به إلى رأي المعتزلة مخاوف الشكوك التي كانت تخامره، فلا يستريح حتى يسكن فيها إلى قرار، وينتهي من التفكير فيها إلى بر الأمان؛ ولذلك كان يأوي إلى الأصدقاء يكاشفهم بما في صدره، ويستعين بهم على تفريج غمته.
ويدمج أسباب المودة بيننا
مودتنا الأبرار من آل هاشم
وإخلاصنا التوحيد لله وحده
وتذبيبنا عن دينه في المقاوم
بمعرفة لا يقرع الشك بابها
ولا طعن ذي طعن عليها بهاجم
وإعمالنا التفكير في كل شبهة
بها حجة تعيي دهاة التراجم
يبيت كلانا في رضا الله ماحضا
لحجته صدرا كثير الهماهم
بيد أن «الإيمان» شيء، وأداء الفرائض الدينية شيء آخر، فقصارى الإيمان عنده أنه يؤمنه بقرب آل البيت، وتنزيه ربه، والاطمئنان إلى عدله ورحمته، ثم يدع له سبيله يلعب ويمرح كلما لذ له اللعب والمرح، ولا أهلا بالصيام إذا قطع عليه ما اشتهى من ذلة وأرب:
فلا أهلا بمانع كل خير
وأهلا بالطعام وبالشراب
بل لا حرج عليه إذا قضى ليلة في السرور أن يشبهها بليلة المعراج:
رفعتنا السعود فيها إلى الفو
ز فكانت كليلة المعراج
ذلك أنه كان في تقواه طوع الإحساس الحاضر كما كان في كل حالة من حالاته، يلعب فلا يبالي أن يتماجن حيث لا يليق مجون، ويستحضر التقوى والخشوع، فلا يباريه أحد من المتعبدين، ويخيل إليك أنك تستمع إلى متعبد عاش عمره في الصوامع حين تستمع إليه يقول:
تتجافى جنوبهم
عن وطيء المضاجع
كلهم بين خائف
مستجير وطامع
تركوا لذة الكرى
للعيون الهواجع
ورعوا أنجم الدجى
طالعا بعد طالع
لو تراهم إذا هم
خطروا بالأصابع
وإذا هم تأوهوا
عند مر القوارع
وإذا باشروا الثرى
بالخدود الضوارع
واستهلت عيونهم
فائضات المدامع
ودعوا: يا مليكنا
يا جميل الصنائع
اعف عنا ذنوبنا
للوجوه الخواشع
اعف عنا ذنوبنا
للعيون الدوامع
أنت إن لم يكن لنا
شافع خير شافع
فأجيبوا إجابة
لم تقع في المسامع
ليس ما تصنعونه
أوليائي بضائع
ابذلوا لي نفوسكم
إنها في ودائع
وله من طراز هذا الشعر الخاشع كثير لا تسمعه من ابن الفارض ولا محيي الدين.
هجاؤه
أخرج القرن الثالث للهجرة شاعرين هجائيين هما أشهر الهجائين في أدب العصور الإسلامية عامة؛ أحدهما: ابن الرومي، والآخر: دعبل الخزاعي هاجي الخلفاء والأمراء وهاجي الناس جميعا والقائل:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
وقد جمع المعري بينهم في بيت واحد، وضرب بهما المثل لهجاء الدهر لبنيه فقال:
لو أنصف الدهر هجا أهله
كأنه الرومي أو دعبل
وليس للمؤرخ الحديث أن يضيف اسما جديدا إلى هذين الاسمين؛ فإن العصور التالية للقرن الثالث لم تخرج من يضارعهما في قوة الهجاء والنفاذ في هذه الصناعة، وكلاهما مع هذا نوع فذ في الهجاء يظهر متى قرن بالآخر، فدعبل كما قلنا في غير هذا الكتاب:
كان صاحب طبيعة من تلك الطبائع النابية النافرة التي تخرج على المجتمع وتثور به، ولا تزال في حرب معه لا مسالمة فيها ولا مهادنة إلى أن يواريها الموت في ثراه، وكان غاضبا أبدا على الناس ينكر عرفهم، ويشذ على إجماعهم، ويهجو أفرادهم بأسمائهم، وهو إنما يهجو الناس جميعا في أشخاص أولئك الأفراد ... وكان يهيم على رأسه في البلاد سنين عدة تنقطع فيها أخباره، وتخفى آثاره، ثم يظهر حيث كان فجأة وقد أقرى وغنم ليبدد ما جمعه في اللهو والقصف، ثم ينقلب إلى شأنه من الإباق، والتطواف في أرجاء الأرض، وربما لقي الشراة وقطاع الطريق في بعض رحلاته، فيجالسهم ويؤاكلهم ويأمر غلاميه أن يغنيا لهم، ويعرفهم ويعرفونه فلا يمسونه بأذى ولا يذكرهم بسوء؛ لأنهم أبناء نحلة واحدة يؤلف شملهم النفور من الناس، ويوفق بينهم الشذوذ عما تواضعوا عليه من الآداب والدساتير، فهو قاطع طريق بفطرته التي ولد عليها وإن لم يحمل السيف، ولم يخرج للفتك والغيلة.
بل قد قيل: إنه قطع الطريق في بعض أيامه فعلا، «وإنه كان يكمن للناس بالليل، فرصد يوما صيرفيا طمعا بما معه، ففتك به، ولم يجد في كمه إلا ثلاث رمانات في خرقة، فخرج هاربا من الكوفة لاشتداد الطلب عليه»، وما كان هجوه لو بحثت في أسبابه إلا ضربا من قطع الطريق على الناس اشتهاء في أكثر الأحيان للذة الصيد والقنص، ونزوة المطاردة والتخويف، لا طمعا في المال أو طلبا للتراث، فما اتفق الناس على إمام إلا هجاه، وألح في هجائه وإن أحسن إليه وأجزل له العطاء، ولا ترك أميرا ولا وزيرا ولا واليا إلا ناله بلسانه عرضا أو قصدا، ولو كان من أبناء قبيلته ومن خاصة المفضلين عليه ...
أما ابن الرومي فلم يكن مطبوعا على النفرة من الناس، ولم يكن قاطع طريق على المجتمع في عالم الأدب، ولكنه كان فنانا بارعا أوتي ملكة التصوير، ولطف التخيل والتوليد، وبراعة اللعب بالمعاني، والإشكال، فإذا قصد شخصا أو شيئا بهجاء صوب إليه مصورته الواعية، فإذا ذلك الشخص أو ذلك الشيء صورة مهيأة في الشعر تهجو نفسها بنفسها، وتعرض للنظر مواطن النقص من صفحتها كما تتطبع الأشكال في المرايا المعقوفة والمحدبة، فكل هجوه تصوير مستحضر لإشكاله، أو لعب بالمعاني على حساب من يستثيره.
هذا هو الفرق بين مذهبي هذين الشاعرين اللذين ظهرا في قرن واحد، وأخذا بطرفي الهجاء في الآداب العربية.
ولك أن تقول من جهة أخرى: إن الفرق بينهما كان فرقا بين المذهب البدوي والمذهب الحضري في الهجاء، فقد كان دعبل بدويا نافرا بفطرته، وكان ابن الرومي حضريا أنيسا بفطرته، فإذا تبرم ابن الرومي بالناس، فإنما يتبرم بهم تبرم من يألفهم ويأنس إليهم، ويعاني ما يعاني من عشرتهم، ثم يسخط عليهم؛ لأنه مقيد بهم لا يستطيع الفكاك منهم، فسخطه أساسه المودة والألفة، وليس أساسه القطيعة والنفرة، كما كان السخط في نفس صاحبه دعبل الخارج على الجماعة القاطع الطريق.
ولهذا الفرق أثره في موضوع المثالب التي يلقيها كل منهما على مهجويه، فدعبل يسلب المهجو جميع الفضائل التي تعتز بها النفس الصارمة البدوية، يسلبه النخوة والكرم والبأس، وطيب النحيزة، ويجعله رجلا يسمع البدوي صفاته فيقول: إنه حقير مرذول.
وابن الرومي يسلب مهجوه الفطنة والكياسة والعلم، ويلصق به كل عيوب الحضارة التي يجمعها التبذل والتهالك على اللذات، فإذا حذفت من هجوه كل ما أوجبته الحضارة والخلاعة الفاشية في تلك الحضارة، فقد حذفت منه شر ما فيه، ولم يبق منه إلا ما هو من قبيل الفكاهة والتصوير.
والبدوي يخاف الذم، والحضري قلما يخافه:
فما يرتاح للمدح
ولا يرتاع للشتم
كما قال ابن الرومي في بعض مهجويه. فالإفحاش وليد الحضارة، والغلو في الإفحاش وليد التهتك في الحضارة، ومتى غلا الشاعر في القذف بأدناس التبذل والخلاعة، فهناك عيبان محققان؛ أحدهما - لا شك: عيب البيئة التي أشاعت تلك الأدناس، أو جعلت الذم بها ذما هينا على الأسماع، فلا بد فيه للشاعر من المبالغة والإغراق.
والثاني: تبحث عنه في قائل الهجو ومدمنه؛ فإنه لولا عيب فيه لما اضطر إلى الهجاء، ولا أدمنه وأفرط فيه.
فما هو عيب ابن الرومي، أو ما هي عيوبه التي أولعته بالهجاء والإفحاش، وصيرته عنوانا لزمانه في السفاهة والبذاء؟ يبدو لنا أن عيبه الأول هو الشهوانية والتهالك على اللذات؛ فالشهوانية هي التي هونت عليه الإقذاع، وسوغت له خوض الفضائح، فأوغل فيها غير مستكره ولا متحرج، ثم أعانها الضعف، وهو عيبه الغالب عليه الذي تبدأ منه وترجع إليه جميع عيوبه.
ففي هجائه صفة ذميمة يشمئز منها القارئ جدا في كثير من الأحيان، ولكنها صفة الضعف والخفة، وليست صفة الخبث والرداءة، وقل فيه وفي هجائه ما شئت من لوم وتهجين وتأفف، ولكنك متى قلت فيه كل ما هو أهله، وأقبلت ترد هجاءه إلى بواعثه لم تجد ثمة شرا دخيلا، ولم تخطئ قط أن تجد الحرج والاضطرار، وتشعر بأن قائل هذا الهجاء رجل متألم يدفع الألم عن نفسه، وليس برجل السوء الذي يعنيه أن يوقع الألم بغيره، ويعتد إيلام الناس غرضا له مقصودا لذاته.
وهو مع اشتهاره بالهجاء أسلم عن غيره حالا فيه، وأكثر عذرا من غير المشهورين به، أسلم من البحتري مثلا كما قال المرزباني في الموشح:
وكثير من أهل الآداب ينكر خبث لسان علي بن العباس الرومي، ويطعن عليه بكثرة هجائه حتى جعلوه في ذلك أوحد لا نظير له، ويضربون عن إضافة البحتري إليه، وإلحاقه به، مع إحسان ابن الرومي في إساءته، وقصور البحتري عن مداه، وإنه لم يبلغه في دقة معانيه، وجودة ألفاظه، وبدائع اختراعاته، أعني الهجاء خاصة؛ لأن البحتري قد هجا نحوا من أربعين رئيسا ممن مدحه، منهم خليفتان هما: المنتصر والمستعين، وساق بعدهما الوزراء ورؤساء القواد ومن جرى مجراهم من جلة الكتاب والعمال ووجوه القضاة والكبراء بعد أن مدحهم، وأخذ جوائزهم، وحاله في ذلك تنبئ عن سوء العهد وخبث الطريقة. ومما قبح فيه أيضا وعدل عن طريق الشعراء المحمودة أني وجدته قد نقل نحوا من عشرين قصيدة من مدائحه لجماعة توفر حظه منهم عليها إلى مدح غيرهم، وأمات أسماء من مدحه أولا مع سعة ذرعه بقول الشعر واقتداره على التوسع فيه ...
وقال أحمد بن أبي طاهر: ما رأيت أقل وفاء من البحتري ولا أسقط، رأيته قائما ينشد أحمد بن الخصيب مدحا له فيه، فحلف ليجلسن، ثم وصله واسترضى له المنتصر - وكان غضبان عليه - ثم أوصل له مديحا إليه، وأخذ له منه مالا فدفعه إليه، ثم نكب المستعين أحمد بن الخصيب بعد فعله هذا بشهور، فلعهدي به قائما ينشده:
لابن الخصيب الويل! كيف انبرى
بإفكه المردي وإبطاله؟! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يا ناصر الدين انتصر موشكا
من كائد الدين ومغتاله
فهو حلال الدم والمال إن
نظرت في ظاهر أحواله
ثم قال ابن أبي طاهر: كان ابن العلجة فقيها يفتي الخلفاء في قتل الناس، نزحه الله، ثم ختم القصيدة بقوله:
والرأي كل الرأي في قتله
بالسيف واستصفاء أمواله
فالبحتري كان في غنى عن هذا ومندوحة واسعة، ولكنك قل أن تقرأ لابن الرومي هجاء تقول إنه كان من الوجهة النفسية في غنى عنه.
على أن لصاحبنا فنا واحدا من الهجاء لا ترتاب في أنه كان يختاره ويكثر منه، ولو لم تحمله الحاجة وتلجئه النقمة إليه، ونعني به فن التصوير الهزلي، والعبث بالأشكال المضحكة والمناظر الفكاهية والمشابهات الدقيقة، فهو مطبوع على هذا كما يطبع المصور على نقل ما يراه، وإعطاء التصوير حقه من الإتقان والاختراع، وما نراه كان يقلع عنه في شعره ولو بطلت ضروراته، وحسنت مع الناس علاقاته ... لكن هذا الفن أدخل في التصوير منه في الهجاء، وهو حسنة وليس بسيئة، وقدرة تطلب وليس بخلة تنبذ.
وأنت لا يغضبك أن ترى ابنك الذي تهذبه وتهديه ماهرا فيه خبيرا بمغامزه وخوافيه، وإن كان يغضبك أن تراه يشتم المشتوم، ويهين المهين، ويهجو من يستهدف عرضه للهجاء؛ لأنك إذا منعته أن يفطن إلى الصور الهزلية، وأن يفتن في إدراك معانيها وتمثيل مشابهاتها منعت ملكة فيه أن تنمو، وأبيت على حاسة صادقة فيه أن تصدقه وتفقه ما تقع عليه. أما إذا منعت الهجاء وبواعثه؛ فإنك تمنع خلفا يستغنى عنه، وميلا لا بد له من التقويم.
ذلك هو فن ابن الرومي الذي لا عذر له منه، ولا موجب للاعتذار، فأما ما عدا ذلك من هجائه فهو مسوق فيه لا سائق، ومدافع لا مهاجم، ومستثار عن عمد في بعض الأحيان لا مستثير، وإنك لتقرأ له قوله:
ما استب قط اثنان إلا غلبا
شرهما نفسا وأما وأبا
فلا تصدق أن قائله هو ابن الرومي هجاء اللغة العربية، وقاذف المهجوين بكل نقيصة، لكن الواقع هو هذا، والواقع كذلك أنه كان يسكن إلى رشده أحيانا فيسأم الهجاء ويعافه، ويود الخلاص منه حتى لو كان مهجوا معدوا عليه، ويعتزم التوبة عن الهجاء مقسما:
آليت لا أهجو طوا
ل الدهر إلا من هجاني
لا بل سأطرح الهجا
ء وإن رماني من رماني
أمن الخلائق كلهم
فليأخذوا مني أماني
حلمي أعز علي من
غضبي إذا غضبي عراني
أولى بجهلي بعدما
مكنت حلمي من عناني
وهذا أشبه بابن الرومي؛ لأنه في صميمه خلق مسالما سهلا، ولم يخلق شريرا مطويا على الشكس والعداوة، بل هو لو كان شريرا لما اضطر إلى كل هذا الهجاء، أو هو لو كان أكثر شرا لكان أقل هجاء؛ لأنه كان يأمن جانب العدوان فلا يقابله بمثله، وما كان الهجاء عنده كما قلنا إلا سلاح دفاع لا سلاح هجوم، وما كان هجاؤه يشف عن الكيد والنكاية وما شابههما من ضروب الشر المستقر في الغريزة، كما كان يشف عن الحرج والتبرم والشعور بالظلم الذي لا طاقة له باحتماله ولا باتقائه. وكثير من الأشرار الذين يقتلون ويعيثون في الأرض يقضون الحياة دون أن تسمع منهم كلمة ذم في إنسان، وكثير من الناس يذمون ويتسخطون وهم مطبوعون على الخير والعطف وحسن المودة، بل هم قد يذمون ويسخطون؛ لأنهم على ذلك مطبوعون.
ومن قرأ مراثي ابن الرومي في أولاده وأمه وأخيه وزوجته وخالته وبعض أصدقائه؛ علم منها أنها مراثي رجل مفطور على الحنان ورعاية الرحم والأنس بالأصدقاء والإخوان، فمراثيه هي التي تدل عليه حق الدلالة المنصفة، وليست مدائحه التي كان يمليها الطمع والرغبة، أو أهاجيه التي كان يمليها الغيظ وقلة الصبر على خلائق الناس؛ ففي هذه المراثي تظهر لنا طبيعة الرجل لا تشوبها المطامع والضرورات، ونرى فيه الولد البار، والأخ الشفيق، والوالد الرحيم، والزوج الودود، والقريب الرءوم، والصديق المحزون، ولا يكون الرجل كذلك ثم يكون مع ذلك شريرا، مغلق الفؤاد، مطبوعا على الكيد والإيذاء.
وإذا اختلف القولان بينه وبين أبناء عصره، فأحجى بنا أن نصدق كلامه هو في أبناء عصره قبل أن نصدق كلامهم فيه؛ لأنهم كانوا يستبيحون إيذاءه، ويستسهلون الكذب عليه لغرابة أطواره، وتعود الناس أن يصدقوا كل ما يرمى به غريب الأطوار من التهم والأعاجيب، في حين أنه كان يتحامى تلك التهم، ويغفر الإساءة بعد الإساءة مخافة من كثرة الشكاية، وعلما منه بقلة الإنصاف:
أتاني مقال من أخ فاغتفرته
وإن كان فيما دونه وجه معتب
وذكرت نفسي منه عند امتعاضها
محاسن تعفو الذنب عن كل مذنب
ومثلي رأى الحسنى بعين جلية
وأغضى عن العوراء غير مؤنب
فيا هاربا من سخطنا متنصلا
هربت إلى أنجى مفر ومهرب
فعذرك مبسوط لدينا مقدم
وودك مقبول بأهل ومرحب
ولو بلغتني عنك أذني أقمتها
لدي مقام الكاشح المتكذب
ولست بتقليب اللسان مصارما
خليلي إذا ما القلب لم يتقلب
فالرجل لم يكن شريرا ولا رديء النفس ولا سريعا إلى النقمة، فلماذا إذن كثر هجاؤه، واشتد وقوعه في أعراض مهجويه؟ نظن أنه كان كذلك لأنه كان قليل الحيلة، طيب السريرة، خاليا من الكيد والمراوغة والدسيسة وما شابه هذه الخلائق من أدوات العيش في مثل عصره، فكان مستغرقا في فنه يحسب أن الشعر والعلم والثقافة وحدها كفيلة بنجاحه وارتقائه إلى مراتب الوزارة والرآسة؛ لأنه كان في زمن يتولى فيه الوزارة الأدباء والكتاب والرواة، ويجمعون في مناصبهم ألوف الألوف، ويحظون بالزلفى عند الأمراء والخلفاء، وقد كان هو شاعرا كاتبا، وكان خطيبا واسع الرواية مشاركا في المنطق والفلك واللغة وكل ما تدور عليه ثقافة زمانه، أو كما قال المسعودي: كان الشعر أقل أدواته ... وكان الشعر وحده كافيا لجمع المال، وبلوغ الآمال.
فماذا بعد أن يعرف الناس أنه شاعر، وأنه كاتب، وأنه راوية مطلع على الفلسفة والنجوم إلا أن تجيئه الوزارة ساعية إليه تخطب وده، كما جاءت إلى أناس كثيرين لا يعلمون علمه، ولا يبلغون في البلاغة مكانه؟! ألم يصل ابن الزيات إلى الوزارة بكلمة واحدة فسرها للمعتصم وفصل له تفسيرها، وهي كلمة «الكلأ» التي يعرفها عامة الأدباء؟ بلى! وابن الرومي كان يعرف من غريب اللغة ما لم يكن يعرفه شعراء عصره ولا أدباؤه، فما أولاه إذن بالوزارة، وما أظلم الدنيا إن هي ضنت عليه بحقه من المناصب والثراء!
فإذا لم تكن الوزارة، فهل أقل من الكتابة أو العمالة لبعض الوزراء والكتاب المبرزين؟ فإذا لم يكن هذا ولا ذاك، فهل غبن أصعب على النفس من هذا الغبن؟ وهل تقصير من الزمان ألأم من هذا التقصير؟!
ونبوءة أبيه ورجاؤه في مستقبله وقوله له: «أنت للشرف.» أيذهب هذا كله هباء لا يقبض منه اليدين على شيء؟ تلك النبوءات التي تنطبع على أفئدة الصغار بمثل النار، ولا تزال غرارة الطفولة وأحلام الصبا تزخرفها وتوشيها، وتعمق في الضمير أغوارها، أيأتي الشباب وهي محو، لغو مطموس لا يبين، أو لا يبين منه إلا ما ينقلب إلى الأضداد، وتترجمه الأيام بالسقم والفقر والكساد؟ وكيف يمحى إلا وقد محي القلب الذي طبعت فيه؟ وكيف ينعكس معناه إلا وقد انعكس في القلب كل قائم، والتوى فيه كل قويم؟ ذلك صعب على النفوس وليس بالسهل إلا على من يلهو به وهو بعيد.
وهكذا كان ابن الرومي يسأل نفسه مرة بعد مرة ويوما بعد يوم:
ما لي أسل من القراب وأغمد
لم لا أجرد والسيوف تجرد؟
لم لا أجرب في الضرائب مرة؟
يا للرجال! وإنني لمهند!
ولا يدري كيف يجيب نفسه على سؤاله؛ لأنه لم يكن يدري أن فضائله كلها لا تساوي فتيلا بغير الحيلة والعلم بأساليب الدخول بين الناس، وأن الحيلة وحدها قد تغني عن فضائله جميعا ولو كان صاحبها لا ينظم شعرا، ولا ينظر في كتب الفلسفة والرواية والنجوم ...
حسن! إذن ندع الوزارة والولاية والعمالة بعد يأس مضيض يسهل علينا هنا أن نسطره في كلمة عابرة، ولكنه لا يسهل على من يعالجه، ويشقى بمحنته في كل ساعة من ساعات حياته، ندع الوزارة والولاية والعمالة، ونقنع بالمثوبة من الوزراء والولاة والعمال إن كانوا يثيبون المادحين، فهل تراهم يفعلون؟
لا؛ لأن الحيلة لازمة في استدرار الجوائز والمثوبات لزومها في كل غرض من أغراض المعاش، ولا سيما في ذلك الزمان الذي شاعت فيه الفتن والسعايات، وما كانت تنقضي منه سنة واحدة بغير مكيدة خبيثة تودي بحياة خليفة أو أمير أو وزير، وربما كانت مصانعة الحجاب، والتماس مواقع الهوى من نفوس الحاشية والندمان، واللعب بمغامز النفوس الخفية، وإضحاك هؤلاء وهؤلاء أجدى على الشاعر في هذا الباب من بلاغة شعره، وغزارة علمه، وربما كان الوزير لا يثيب الشاعر إلا ليستصلحه، كما كانوا يقولون في لغة ذلك الزمان؛ أي ليتخذه نصيرا له عسى أن ينفعه يوما في مجالس الخلفاء والأمراء بكلمة يقضي بها مأربا، أو يكبت عدوا، أو بحيلة يقرب بها بعيدا، أو يبعد قريبا، وأين يذهب ابن الرومي في هذا المجال؟ وماذا يرجو الممدوحون من تقريبه وهو رجل - كما كانوا يقولون - ممرور موسوس أدبه أكبر من عقله، ولسانه أطول من صبره؟ لقد كان صاحبنا صفرا من هذه البضاعة، فلا جرم نراه يشكو تكبر الحجاب، ودسائس الندماء والأصحاب، ويعطى القليل حين يجزل عطاء الآخرين، أو يثاب مرة ويحرم مرات؛ فقد بلغ من وكس حاله في هذا أنه كان يستجدي الكساء فيمطلونه، ويعود إلى الاستجداء فيعودون إلى المطل حتى يقول:
جعلت فداك لم أسأل
ك ذاك الثوب للكفن
سألتكه لألبسه
وروحي بعد في البدن
وبلغ من وكس حاله أن الممدوحين كانوا يقبلون شعره ولا يثيبونه؛ فإذا ألح في طلب المثوبة قالوا: خذ شعرك فامدح به غيرنا، كما فعل ابن المدبر حين قال فيه:
رددت علي مدحي بعد مطل
وقد دنست ملبسه الجديدا
وقلت: امدح به من شئت غيري
ومن ذا يقبل المدح الرديدا؟
ولا سيما وقد أعبقت فيه
مخازيك اللواتي لن تبيدا
وما للحي في أكفان ميت
لبوس بعدما ملئت صديدا
وكان يصنع القصيدة ويتبعها خمس قصائد أو ستا ليحصل على جائزتها، فلا يحصل بعد الجهد على شيء، ويعجب لذلك ويأخذه الشك في شعره، فيقول:
عجبت لقوم يقبلون مدائحي
وينسون تئويبي، وفي ذاك معجب
أشعري سفساف فلم يجتبونه
وإن لا تكن هذي فلم لا أثوب؟
ولعله كان يتهم شعره أحيانا فيقول:
الشعر كالعيش فيه
مع الشبيبة شيب
فليصفح الناس عنه
فطعنهم فيه غيب
أو يعتذر بالفاقة من السخف:
لا تلحني في المنطق السخيف
فإنني في حالة اللهيف
وأحوج الناس إلى رغيف
أو يقول:
قولا لمن عاب شعر مادحه
أما ترى كيف ركب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب ال
يابس والشوك بينه الثمر
وكان أولى بأن يهذب ما
يخلق رب الأرباب لا البشر
ثم يعود إليه اعتداده بكلامه فيلقي الذنب على الناس لجهلهم بمعاني الكلام:
ما خمدت ناري ولكنها
ألفت قلوبنا نارها خامدة
أو يقول:
ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقرده
وما أنا المنطق البهائم والط
ير سليمان قاهر المرده
أو يقول: إنهم بهائم لا يفهمون إلا البهائم:
بحقهم إن باعدوني وقربوا
سواي وتقريب المباعد أوجب
خفافيش أعشاها نهار بضوئه
ولازمها قطع من الليل غيهب
بهائم لا تصغي إلى شدو معبد
وأما على جافي الغناء فتطرب
ويخطر له حينا أن الأمراء يحسدون شعره؛ لأنهم يقرضون الشعر فينفسون الجيد منه على الشعراء، ولا يبعد أن يكون ذلك صحيحا كما قال:
قد بلينا في دهرنا بملوك
أدباء علمتهم شعراء
إن أجدنا في مدحهم حسدونا
فحرمنا منهم ثواب الثناء
أو أسأنا في مدحهم أنبونا
وهجوا شعرنا أشد هجاء
قد أقاموا نفوسهم لذوي المد
ح مقام الأنداد والنظراء
وكان من هؤلاء محمد بن عبد الله الذي قال فيه:
إخالك إذ جودت فيك مدائحي
منعت ثوابي حاسدا لي على شعري
أتحسدني تجويد ريط نسجته
لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر!
تذكر - هداك الله - أني مادح
وأنك ممدوح فلا تعد بي قدري
ينافس في الشعر النظير نظيره
وجل ملوك الناس عن ذلك النجر
فإذا لج به الغيظ واشتد عليه بلاء الحرمان من العمل والحرمان من المثوبة صرخ متعجبا:
أذو آلة فاستخدموني لآلتي
بقوتي وإلا فارزقوني مع الزمنى
أي ارزقوني مع العجزة والسقماء. وهذه نهاية البؤس والخيبة، ونهاية الحيرة التي لا يهتدي فيها المسكين إلى سبب مريح، فلم يبق له من عزاء إلا أن يوقن أن الدنيا هكذا طبعت على ظلم العارفين، ومحاباة الأغبياء:
رأيت الدهر يرفع كل وغد
وبخفض كل ذي زنة شريفة
كذاك البحر يرسب فيه در
ولا تنفك تطفو فيه جيفة!
وكرر هذا المعنى في معارض شتى على قواف مختلفة؛ لأنه سكن إليه ووجد فيه عزاءه ولو إلى حين.
وينبغي أن نذكر هنا شيئا لا بد من ذكره في هذا المقام؛ لأنه لازم لإدراك حقيقة الغضب الذي كان يستولي على نفس الشاعر المحروم إذا أجاد المديح ولم يظفر بالعطاء؛ فقد كان حق الشاعر في العطاء معترفا به يقبله الأمراء والوزراء، ويقره العرف، وتجري عليه القدوة، فنحن لا نعرف اليوم ذلك الحق للشاعر، ولا نستطيع لهذا أن ندرك غضبه وأسفه إذا حرم وتوالى عليه الحرمان. أما في عهد ابن الرومي، فغضبه من المنع وأسفه على فوات الربح من هذه المقاصد أمر لا غرابة فيه ولا اعتراض عليه، فالحكم عليه إنما يكون بمقياس أيامه لا بمقياس أيامنا التي لا يجب فيها البذل على ممدوح، ولا يجوز فيها الهجاء لشاعر محروم.
ومما ضاعف الاستخفاف بابن الرومي أنه كان متطيرا غريب الأطوار لا يأخذه الناس مأخذ الجد، ولا يزال المعربدون منهم يتعمدونه بالعبث، ويتماجنون عليه؛ لشدة فرقه وانزعاجه من الفأل السيئ.
يضحك من كل ما بكيت له
كأن لذاته بآلامي
وكان بعضهم يصبحه بقرع بابه، فإذا سأله: من الطارق؟ قال: مرة بن حنظلة! فيمكث في بيته لا يريم عنه سحابة يومه! وكانوا يسوقون إليه رجلا أحدب كريه الرؤية يقابله بوجهه إذا خرج من منزله؛ فيرتد على عقبه! وكانوا يجورون عليه بالعبث، فيتوعد فلا يحفلون، فيهجو ولكن بعد مصابرة وإعتاب، وكم قال لابن عروس:
يا ليت شعري وليت شعرك إن
قلت وقلنا واستحكم القذع
ما ينفع الصارم اللسان إذا
غودر يوما وعرضه قطع
فارجع وبقيا أخيك باقية
واندم وفي الحلم فسحة تسع
أو كما قال لبني السمري :
يا بني السمري لا تجشموني
أن تثير القصيد كل دفين
قد تجاوزت ما تجاوزت عنكم
وتغاضت على قذاكم جفوني
لا يغرنكم بجهلي حلمي
وارعوائي إلى حيائي وديني
إن لين المهز في السيف أمضى
بغراريه في صميم الشئون
أو كما قال لغيرهم ولغيرهم من العابثين والماطلين الذين كانوا يضحكون مما يبكيه، ويتفكهون بما يحز في قلبه ويدميه، فماذا أفاده العتاب، وماذا دفعت عنه الشكاية؟! لا شيء! لأن الأعراض هانت على أصحابها في ذلك العصر فلا يبالون المذمة إلا أن يكون فيها معنى الاجتراء على الجاه والقوة، وهم أحرى ألا يبالوها من شاعر كابن الرومي ليس أسهل عليهم من أن يقولوا عنه: إنه هذيان ممرور، فيضيق ذرعا بهم ويهجو كالمدفوع إلى غير ما يحب، ويظهر ذلك منه في بعض القصائد كما يظهر من قوله:
لا يغضبن لعمرو من له خطر
فليس يرضى بظلمي من له خطر
كأن يقول: لقد صبرت على عمرو، فرضي الناس بظلمه إياي، فإذا هجوته أنا الآن فما يحق لذي خطر أن يغضب له وهو منصف بيني وبينه.
وقد يعترف بالوسواس على نفسه، ولكنه يرده إلى سوء حظه وإجحاف الأيام به كما قال حين رماه الناشئ بالوسواس:
إن أوسوس فحقيق
يسعد القرد وأنحس!
أصبح الناشئ ممن
يتغنى وهو أخرس
نافقا عند أناس
تعسوا والدهر أتعس
ته على الدنيا وقل ما
شئت واظلم وتغطرس
لم يقدس منك شيء
ولك الجد المقدس
كيف لا يشتد وسوا
سي وأشعارك تدرس؟!
وضياء الشمس لا يق
بس والظلماء تقبس؟!
فإذا عبث به العابثون وتحدثوا بنحسه لم يسره ذاك، وحق له ألا يسر به، وقال مناجزا:
زعمت بأنني نحس وأني
مجيبك معلنا لا أتقيكا
وانطلق يصخب ويثلب وهو - في رأيه - معذور في ذلك الجرم، الذي جنوه عليه قبل أن يجنيه عليهم، ومعذور حتى من الحسد الذي كان لا يداريه ولا ينكره، ولكن يقول في التماس المعذرة له:
لا تلومن حاسدا، ألم النف
س من النخس - يا أخي - شديد
وزد على ذلك فجائعه في بنيه وأحبابه واحدا بعد واحد وهو أحوج ما يكون إلى معونتهم وعطفهم بين قوم كأنه غريب فيهم لا يفهمهم ولا يفهمونه، وزد عليه طمع الناس فيه حتى كانت تسلبه ملكه الزهيد امرأة، كما جاء في بعض شعره، ويغصبه منزله الذي يسكنه تاجر يستهين به وبما عسى أن يصنع.
وراغمني فيما أتى من ظلامتي
وقال لي: اجهد في جهد احتيالكا
فما هو إلا نسجك الشعر سادرا
وما الشعر إلا ضلة من ضلالكا
لهذا وأمثاله كثرت أهاجي ابن الرومي واشتد إقذاعه، وكان الذين يمدحهم بالأمس هم الذين يثلبهم بعد ذاك، يكاد لا يفصل المدح عن القدح فاصل، أو يكاد يكون المدح والقدح متواليين في صفحات الديوان؛ لأن الديوان مرتب على حسب الحروف لا على حسب التواريخ والموضوعات، ولو أننا نصبنا ميزان العدل لكان ابن الرومي ملوما على المدح أضعاف لومه على الهجاء؛ فقد كان يكذب حين يمدح ويتوسل، ولم يكن يكذب حين يهجو وينتقم، وراجع ترجمة المهجوين في قصائدهم تجدهم كلهم أو أكثرهم لصوصا، لا ينقضي على أحدهم في المنصب أشهر أو سنوات حتى يعمر بيته بالمنهوب المسلوب من أرزاق الرعية الضعفاء، ثم لا تنقضي فترة أخرى حتى يسلط عليه لصوص أكبر منه، فينكبونه ويستصفون أمواله كأنهم تغافلوا عنه ريثما يجمع لهم تلك الأموال. وإن في كتب التاريخ لسوءات لهم غير هذه، وآثاما جساما لا يقال فيها: إنها تخرص شاعر مغبون، أو افتراء خصم متهم بالأقاويل، فإن كان الصدق عذرا للثالب الصادق، فعذر ابن الرومي في التشهير والتجريح أوجه من عذره في الإطراء والمديح.
وقد اشتهر بالهجاء وأصبح له سلاحا لازما وقدرة معروفة بين شعراء عصره، فراح يلوح به كما يلوح المهدد بسلاحه، ويعجب به كما يعجب الفنان بعمله، ولو عوفي في نفسه ورزقه لما بقي له من الهجاء إلا ناحيته هذه الفنية، وألاعيبه الصبيانية؛ فإنه على كل حال لم يحتقب قط من أدواته النية الخبيثة والطبع الشرير، أو هو على حد قوله:
لو أروض الشيطان أذعن كالكل
ب، أو العود عضه الكلوب
22
ولما ذاك أنني الرجل الشر
ير مني الخنا ومني الوثوب
بل لدي الإنصاف يشفعه الإح
سان ما قارب الألد الشغوب
ونعود فنقول: لو كان الرجل أكثر شرا لكان الناس أكثر اتقاء له واجتنابا لكيده، فقلت دواعيه إلى سوء المقال، وأعفى أعراضهم وأعفى لسانه فأراح واستراح.
هو وشعراء عصره
عاصر ابن الرومي في بيئته كثير من الشعراء، أشهرهم في عالم الشعر: الحسين بن الضحاك، ودعبل الخزاعي، والبحتري، وعلي بن الجهم، وابن المعتز، وأبو عثمان الناجم.
وليس لهؤلاء ولا لغيرهم ممن عاصروه وعرفوه، أو لم يعرفوه، أثر يذكر في تكوينه غير اثنين، فيما نظن؛ هما: الحسين بن الضحاك ودعبل الخزاعي.
فقد كان ابن الرومي معجبا بالحسين يروي شعره، ويستملح أخباره، ويذكرها لأصحابه، وكان ابن الرومي يافعا يحضر مجالس الأدب، ويتلقى دروسه، والحسين في أوج شهرته يتناشد أشعاره أدباء الكوفة وبغداد ومدن العراق؛ حدث محمد بن الفضل الأهوازي قال: سمعت علي بن العباس الرومي يقول: حسين بن الضحاك أغزل الناس وأظرفهم. فقلت: حين يقول ماذا؟ فقال: حين يقول:
يا مستعير سوالف الخشف
اسمع لحلفة صادق الحلف
إن لم أصح ويلي ويا حربي
من وجنتيك وفترة الطرف
فجحدت ربي فضل نعمته
وعبدته أبدا على حرف
هكذا جاء في كتاب الأغاني. وجاء فيه أيضا عن ابن الرومي أنه قال: «أنشدنا أبو العباس ثعلب قال: أنشدني حماد بن المبارك صاحب حسين بن الضحاك قال: أنشدني حسين لنفسه:
لا وحبيك لا أصا
فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا
ح وإن كان موجعا
كبدي من هواك أس
قم من أن تقطعا
لم تدع سورة الضنى
في للسقم موضعا
قال ابن الرومي: ثم قال لنا ثعلب: ما بقي من يحسن أن يقول مثل هذا.»
وروى عنه كتاب الأغاني روايات أخرى من هذا القبيل تدل كلها على الإعجاب والاستملاح، ومثل ابن الرومي يعجب بشعر الحسين الأنيق الظريف المطبوع، ولكنه لا يمتزج بطريقته ولا يتزيا بزيه؛ لأن طريقة الأناقة والصقل غير طريقة الإمعان والنفاذ التي طبع عليها ابن الرومي، فأنت تلمح أثر هذا الإعجاب في أبيات من شعر ابن الرومي كقوله:
يا وجنتيه اللتين من وهج
في صدغيه اللذين من دعج
فتعلم أنه نظم هذا البيت وهو يذكر صيحة ابن الضحاك من «وجنتي صاحبه وفترة طرفه.»
أو كقوله:
عيني شحا ولا تسحا
جل مصابي عن البكاء
ترككما الداء مستكنا
أصدق عن صحة الوفاء
فتعلم أنه نظمه وهو يذكر الأبيات التي روى في أولها لابن الضحاك:
لا وحبيك لا أصا
فح بالمدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا
ح وإن كان موجعا
وابن الضحاك يقول:
كأنما نصب كأسه قمر
يكرع في بعض أنجم الفلك
وابن الرومي يقول:
فكأنها وكأن شاربها
قمر يقبل عارض الشمس
فهو كان معجبا بظرائف ابن الضحاك ملتفتا إليها، ولكنه لم يخرج عن طريقته التي طبع عليها، ولم يزد في إعجابه على أن يقتبس منه بعض الخطرات الرشيقة، وهو شيء غير اقتباس الطريقة والتشابه في السليقة.
وقد مات الحسين بن الضحاك وابن الرومي في التاسعة والعشرين، ولم نر في تاريخه ولا في تاريخ الحسين ما يشير إلى تلاقيهما في بغداد، حيث عاش ابن الرومي معظم حياته، أو في غير بغداد حيث كان يرحل ابن الضحاك.
أما دعبل فابن الرومي عارضه في موضعين؛ أحدهما: القصيدة الطائية التي نظمها دعبل حين اتهم «خالدا» بسرقة ديكه وإطعامه لضيوفه، وقال في مطلعها:
أسر المؤذن خالد وضيوفه
أسر الكمي هفا خلال الماقط
بعثوا إليه بنيهم وبناتهم
ما بين ناتفة وآخر سامط
يتنازعون كأنهم قد أوثقوا
خاقان أو هزموا كتائب ناهط
أكلوه فانتزعت به أسنانهم
وتهشمت أقفاؤهم بالحائط
فزاد ابن الرومي فيها وأطالها، وبلغ بها نيفا وستين بيتا، وغير بعض ألفاظها، فمما قال في معارضته وتمثل فيه كل مزاجه وملاحظاته:
طبخوه ثم أتوا به قد أبرمت
أوتاره لمنادف ومرابط
متجملا لدجاجه متجلدا
كتجلد المجلود بين ربائط
ولقد رمته يوم ذلك قدرهم
بغطائط من غليه وغطامط
حملوا عليه كل ماء عندهم
وفرات كوفتهم ودجلة واسط
وآها لذاك الديك بين مساقط
منه عهدناها وبين ملاقط
قوام أسحار مؤذن حارة «وصال» زوجات كمي مآقط
ينفي مناعسه بنفس شهمة
ويشاهد الهيجا بجأش رابط
والموضع الآخر الذي عارض فيه دعبلا أبيات ثانية، قال دعبل في مطلعها:
أتيت ابن عمرو فصادفته
مريض الخلائق ملتاثها
فعارضها ابن الرومي وزاد عليها من أبيات:
قواف أبي الوغد إبريزها
فأخرجت للوغد أخباثها
أوابد قد أخنست قبله
كهول الرجال وأحداثها ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ولا جرم لي إن أساءت جنا
ه مزرعة كان حراثها
ونشأ ابن الرومي ودعبل كذلك شاعر واسع الشهرة، جذاب السيرة؛ لغرابة أخلاقه ومخاطرته وتطويفه في الآفاق، مستحسن الشعر بين من يؤثرون الفحولة اللغوية، مفضل على المحدثين من طبقته، كما قال البحتري - وكان يتعصب له: «دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد؛ لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم، ومذهبه أشبه بمذاهبهم.» وكان دعبل فيما عدا ذلك متشيعا لآل علي غاليا في تشيعه، فجذب ذلك كله نفس ابن الرومي الفتى نحوه، وحبب إليه محاكاته ومجاراته، وربما كانت الرغبة في مجاراته إحدى دواعيه إلى الهجاء.
ومات دعبل وابن الرومي في الخامسة والعشرين ولا نعلم أنهما تعارفا أو كان بينهما لقاء.
هذان هما الشاعران اللذان عاصرا ابن الرومي، وكان لهما أثر يذكر في تكوينه، أما الآخرون فالثابت أنه كان على معرفة وصحبة مع اثنين منهما، وهما: البحتري وأبو عثمان الناجم، وعرف البحتري في بيت الناجم، وكان هذا صديقا له بقي على صداقته إلى يوم وفاته، وراوية يحفظ شعره وأخباره، ويجري على طريقته في بعض تشبيهاته، فسأله البحتري أن يعرفه إلى ابن الرومي ففعل، وجرت بين الشاعرين صحبة غير طويلة ولا وثيقة؛ لأن البحتري كان يدل على ابن الرومي بمكانه من الخلفاء والأمراء، وكان ابن الرومي لا يطيق الصبر على ذلك، فهجاه وعاب شعره واتهمه بالسرقة، فمن قوله فيه:
قبحا لأشياء يأتي البحتري بها
من شعره الغث بعد الكد والتعب
كأنها حين يصغي السامعون لها
ممن يميز بين النبع والغرب
رقى العقارب أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
وقد يجيء بخلط فالنحاس له
وللأوائل ما فيه من الذهب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عبد يغير على الموتى فيسلبهم
حر الكلام بجيش غير ذي لجب
ما إن يزال تراه لابسا حللا
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب
ثم عاد يذكره أيام رضاه ومودته، والفرق بين مسالمته وحربه، ويقول له بعد إقذاع كثير:
يا بحتري لقد أقبلت منقلبا
يوم اكتسبت هجائي شر منقلب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
قد كنت تعرف مني في الرضى رجلا
حلو المذاقة، فاعرفني لدى الغضب
تعرف فتى فيه طورا مجتنى سلع
للمجتنين وطورا مجتنى رطب
ونظن أن المنافسة بينهما لم تكن وحدها سبب هذا الهجاء، وإنما آنس ابن الرومي إغراء من العلاء بن صاعد بالبحتري؛ لأنه خاطبه في هذه القصيدة بما يظهر منه أن العلاء كان يستضعف هجاء الشعراء للبحتري، ويبحث عمن يشد عليه ويفحمه كما يؤخذ من هذا البيت:
أراك لم ترض ما أهدى له نفر
من شتم أم لئيم خيمها وأب
فأرضى ابن الرومي نفسه وأرضى العلاء بهجائه، وكان رد البحتري عليه ما علم القراء من إهدائه تخت المتاع وكيس الدراهم، وإبلاغه «أن الهدية ليست تقية منه، ولكن رقة عليه؛ لأنه لم يحمله على ما فعل إلا الفقر والحسد المفرط.»
عرف ابن الرومي البحتري وابن الرومي شاعر مشهور بالافتنان في المعاني، والقدرة على الهجاء، وكان البحتري يحب مجاراته في بعض قصائده، فقال له في أول لقاء بينهما: إنه عزم على أن يعمل قصيدة على وزن قصيدته الطائية في الهجاء، فنهاه ابن الرومي عن ذاك؛ لأنه ليس من عمله، فإذا كان بينهما اقتباس أو معارضة؛ فالبحتري هو المقتبس، وهو الراغب في المعارضة، على أننا لا نخاله استعار من ابن الرومي شيئا يزيده في مذهبه الذي نبغ فيه؛ لأنهما نمطان متباينان، ولكل منهما اعتداد بنفسه يكفيه ويغنيه.
أما علي بن الجهم - المتوفى سنة 249ه - فقد كان بينه وبين ابن الرومي برزخ واسع من اختلاف المذهب في الدين والشعر، فابن الرومي متشيع وابن الجهم ناصبي يذم عليا وآله، «ولا يلتقي الشيعي والناصبي» كما يقول ابن الرومي، وكان ابن الجهم شديد النقمة على المعتزلة، وعلى «أهل العدل والتوحيد» منهم خاصة؛ يهجوهم، ويدس لهم، ويقول في زعيمهم أحمد بن أبي دؤاد:
ما هذه البدع التي سميتها
بالجهل منك العدل والتوحيدا؟!
وابن الرومي كان مر بك من هذه الجماعة، فمذهبه في الدين ينفره من ابن الجهم، ولا يرغبه في مجاراته ولو تشابها فيما عدا ذلك من المزاج والنزعة. لقد يهون هذا الفارق ويسهل على ابن الرومي الإغضاء عنه وهو ناشئ يتلمس القدوة، ويخطو في سبيل الشهرة، ولكنك تقرأ شعر ابن الجهم في فخره ومزاحه، فيخيل إليك أنك تقرأ كلام جندي يتنفج أو يعربد؛ لخلوه من كل عاطفة غير عواطف الجند الذين يقضون أوقاتهم بين الفخر والضجيج واللهو والسكر، وليس بين هذه الطبيعة وطبيعة ابن الرومي مسرب للقدوة، أو للمقاربة في الميل والإحساس، ولا كان في شعر ابن الجهم شيء يشعر مثل ابن الرومي أنه يقتدي به ويحتاج إلى مجاراته، فيميل به هذا الشعور إلى الإعجاب بالشاعر الذي أبعده عنه المذهب والمزاج. •••
وقد ولد ابن المعتز في سنة سبع وأربعين ومائتين، فلما أيفع وبلغ السن التي يقول فيها الشعر، كان ابن الرومي قد جاوز الأربعين أو ضرب في حدود الخمسين، ولما نبغ واشتهر له كلام يروى في مجالس الأدباء كان ابن الرومي قد أوفى على الستين، وفرغ من التعلم والاقتباس، ولو انعكس الأمر وكان ابن المعتز هو السابق في الميلاد لما أخذ منه ابن الرومي شيئا، أو لكان أفسد سليقته بالأخذ عنه؛ لأن ابن المعتز إنما امتاز بين شعراء بغداد في عصره بمزاياه الثلاث، وهي: البديع والتوشيح، والتشبيه بالتحف والنفائس، وابن الرومي لم يرزق نصيبا معدودا من هذه المزايا، ولم يكن قط من أصحاب البديع وأصحاب التوشيح، أو أصحاب التشبيهات التي تدور على الزخرف، وتستفيد نفاستها من نفاسة المشبهات.
ويجوز أن الشاعرين لم يتعارفا ولم يتلاقيا في مجلس؛ لأن ابن الرومي كان قليل الغشيان جدا للمجالس التي كان يحضرها الخلفاء وولاة العهود، فضلا عن تفاوت السن والخطة، وفضلا عن سبب آخر قد يكون من موانع اللقاء بينهما، وهو أن ابن الرومي هجا المعتز ومدح المستعين حين تنازعا الخلافة وتقاتلا عليها، وكان ابن الرومي من حزب المستعين؛ لأن بغداد كانت معه، وهي وطن ابن الرومي، ومحمد بن عبد الله بن طاهر كان ينصر المستعين، وهو يومئذ أكبر ممدوحيه، ونحن نذكر هذا السبب الأخير للإحاطة به ولا نعيره كبير التفات؛ لأن ابن المعتز كان طفلا رضيعا حين تقاتل أبوه وعمه، ولا يحتمل كثيرا أنه وعى بعد ذلك كل ما قاله ابن الرومي في تلك الأيام.
ممدوحوه
لابن الرومي ممدوحون كثيرون يزيدون على الأربعين، يطول بنا البحث ولا ننتهي إلى غرض يفيدنا فيما نحن فيه لو أننا أجملنا تواريخهم إجمالا سريعا، بله التفصيل والإنعام، ولو كان للمدح في زمن ابن الرومي بواعث نفسية غير طلب العطاء لوجب أن نعنى بتراجم الأشخاص الذين حركوا في نفس الشاعر تلك البواعث، واستحقوا منه إكباره وثناءه؛ لأن العناية بتراجمهم في هذه الحالة عناية بالشاعر نفسه، وبواعث نظمه، ومعايير وصفه وثنائه، ولكن الشعراء كانوا يمدحون ولا يقصدون من المدح إلا الإرضاء والتفنن في معاني التعظيم، فمن العبث أن نحصي هنا تراجم لا تزيدنا علما بالشاعر، وليس العلم بها لذاتها مقصودا في هذا المقام، وحسبنا أن نلم بتاريخ الأسرتين اللتين خصهما الشاعر بمعظم مدائحه، وكانت له صلة طويلة بهما، وعلاقات مذكورة في ترجمة حياته، وهما أسرة آل طاهر وأسرة آل وهب، وكلاهما من أكبر الأسر التي عرفت في تاريخ الوزارة والقيادة في الدولة العباسية. •••
فآل طاهر أسرة قديمة تنتسب إلى أمراء الفرس الأولين، ويذكر منها في عالم الحرب والأدب والنجدة أفراد كثيرون، وأول من نبغ منها واشتهر في عهد بني العباس: طاهر بن الحسين بن مصعب بن رزيق بن ماهان. أسلم جده رزيق على يد عبيد الله طلحة الطلحات الخزاعي، والي سجستان، فنسب إليه ولقب بالخزاعي لهذا السبب، لا لانتمائه إلى قبيلة خزاعة من جهة النسب.
وقد ولد طاهر بقرية بوشنج من أعمال «مرو» سنة تسع وخمسين ومائة؛ حيث كان جده مصعب واليا يتولى أعمال مرو مع أعمال هراة، ثم كان الخلاف بين الأمين والمأمون، فأبلى طاهر في خدمة المأمون - الفارسي الأم - أحسن بلاء، وأخلص له، ونصح في ولائه وتوطيد ملكه، فولاه خراسان وأطلق يده فيها، فأصبحت دولة طاهرية مستقلة في حكومتها لا تربطها ببغداد إلا خطبة المنبر، وقيل: إن طاهرا قطع الدعاء للخليفة يوما فسمه خادم معه كان موكلا به من قبل المأمون، فأصبح ميتا.
وكانت لآل طاهر مع ولاية خراسان ولاية الشرطة في بغداد، وهي من الولايات النافعة لذوي النفود، فاجتمعت لهم أسباب القوة بين العاصمة وذلك الإقليم الخطير الشأن في حياة الدولة العباسية.
وولد لطاهر ابنه عبد الله، فنشأ في رعاية المأمون نشأة فاضلة، وشابه أباه في النجدة والإقدام، وبذه في الأدب والمروءة. تولى مصر، وأعطاه المأمون مال خراجها وضياعها لسنة، فوهبه كله وفرقه في الناس، ورجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله، فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى، وهي:
نفسي فداؤك والأعناق خاضعة
للنائبات أبيا غير مهتضم
إليك أقبلت من أرض أقمت بها
حولين بعدك في شوق وفي ألم
أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها
حذو الشراك على مثل من الأدم
فكان فضلي فيها أنني تبع
لما سننت من الإنعام والنعم
ولو وكلت إلى نفسي عييت بها
لكن بدأت فلم أعجز ولم ألم «فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها، ولا أحدوثة حسن عندها ذكرك، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افتقرت، ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه.» ويقال: «إن البطيخ العبدلاوي» المعروف بمصر منسوب إليه، ولعله نسب إليه لأنه كان يستطيبه كما يقول ابن خلكان.
ولعبد الله شعر جزل وتلحين جيد، وهو القائل: «ينبغي أن يبذل العلم لأهله ولغير أهله؛ فإن العلم أمنع لنفسه من أن يصير إلى غير أهله.» ومن كلامه: «سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان.»
ومحمد بن عبد الله هذا هو الذي أدركه ابن الرومي ومدحه، وظن أنه ينفس عليه شعره فقال له:
أتحسدني تجويد ريط نسجته
لتلبسه؟ يا للعجيب من الأمر!
تذكر - هداك الله - أني مادح
وأنك ممدوح، فلا تعد بي قدري
ونحسب أنه لم يظلمه؛ لأنه تعود أن ينظر في شعر مادحيه نظرة الناقد المتعصب: بعث إليه حاجبه محمد بن أبي عون بأنوار من بستانه وريحان وكتب معه:
قد بعثنا بطيب الريحان
خير ما قد جني من البستان
قد تخيرته لخير أمير
زانه الله بالتقى والبيان
فوقع على ظهر رقعة:
عون يا عون قد ضللت عن القص
د وعميت عن دقيق المعاني
حشو بيتيك قد وقد، فإلى كم؟
قدك الله بالحسام اليماني
23
وكان محمد عظيم النفوذ في الدولة تميل الخلافة حيث يميل، نصر المستعين فرجحت كفته على أخيه المعتز، ودانت له بغداد وما وراءها، وأوشك أن يتفرد بالملك وحده، ثم ارتاب في المستعين فتخلى عنه، فلم يجد المستعين بدا من خلع نفسه، وتمت الغلبة عليه لأخيه، وينسب إليه أنه قال لما انهزم محمد بن خالد في بعض الوقائع بين جنود المستعين وجنود المعتز: «لا يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره!»
ومات محمد في ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسين ومائتين؛ أي حين كان ابن الرومي في الثانية والثلاثين، قال ابن الأثير: «في ليلة أربع عشرة من ذي الحجة انخسف القمر جميعه، ومع انتهاء خسوفه مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، وكانت علته التي مات بها قروحا أصابته في حلقه ورأسه فذبحته، وكانت تدخل فيها الفتائل، ولما اشتد مرضه كتب إلى عماله وأصحابه بتفويض ما إليه من الولاية إلى أخيه عبيد الله بن طاهر، فلما مات تنازع ابنه طاهر وأخوه عبيد الله الصلاة عليه، فصلى عليه ابنه، وتنازع عبيد الله وأصحاب طاهر حتى سلوا السيوف ورموا الحجارة، ومالت العامة مع أصحاب طاهر، وعبر عبيد الله إلى داره بالجانب الشرقي، فعبر معه القواد لاستخلاف محمد، فكان أوصاه على عماله، ثم وجه المعتز بعد ذلك الخلع إلى عبيد الله، فأمر عبيد الله للذي أتاه بالخلع بخمسين ألف درهم .»
وعبيد الله هذا كان شاعرا كأخيه وأبيه وأكثر أفراد أسرته، وكان يقاول البحتري ويناجزه، وهو الذي نظم ديوانا على الحرف في شكر العلاء صاعد، فعهد العلاء إلى ابن الرومي بالرد عليه، وهو القائل:
إن الأمير هو الذي
يبقى أميرا بعد عزله
إن زال سلطان الولا
ية لم يزل سلطان فضله
وكان كأخيه محمد في نقد الشعر ولا سيما إذا مدح به غيره، فهو الذي سمى قصيدة ابن الرومي النونية في مدح إسماعيل بن بلبل بدار البطيخ لكثرة ما ذكر فيها من أسماء الفاكهة، فظرف في النكتة وإن لم ينصف في نقد القصيدة.
وقال ابن خلكان في ترجمته: «... كان عبيد الله المذكور أميرا ولي الشرطة ببغداد خلافة عن أخيه محمد بن عبد الله، ثم استقل بها بعد موت أخيه، وكان سيدا، وإليه انتهت رآسة أهله، وهو آخر من مات منهم رئيسا، وله من الكتب المصنفة: كتاب الإشارة في أخبار الشعراء، وكتاب رسالة في السياسة الملوكية، وكتاب مراسلاته لعبد الله بن المعتز، وكتاب البراعة والفصاحة وغير ذلك، وحدث عن الزبير بن بكار وغيره، وكان مترسلا شاعرا لطيفا، حسن المقاصد، جيد السبك، رقيق الحاشية، ومن شعره ما ذكره ابن رشيق في كتاب العمدة، في باب الاستطراد، قال: ومن الاستطراد نوع يسمى الإدماج، ونحو ذلك قول عبيد الله بن عبد الله بن طاهر لعبيد الله بن سليمان بن وهب حين وزر للمعتضد:
أبى دهرنا إسعافنا في نفوسنا
وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها
ودع أمرنا؛ إن المهم المقدم ... وله ديوان شعر، ونقتصر من نظمه على هذا القدر، وكانت ولادته سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكانت وفاته ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاثمائة ببغداد ...»
ولعبيد الله أخ يسمى سليمان هو الذي هجاه ابن الرومي لأنه أخلف رجاءه في رد داره، وكانت بينه وبين عبيد الله قطيعة وملاحاة شديدة، ثم اصطلحا، فخلد ابن الرومي هذا الصلح في قصيدة دالية اقتبسنا منها فيما تقدم بعض أبيات.
وانتهت إلى عبيد الله رآسة قومه كما قال ابن خلكان، إلا أن دولتهم في خراسان ذهبت منهم في أيامه، واستولى عليها في سنة تسع وخمسين ومائتين ذلك المخاطر الجريء يعقوب بن الليث الملقب بالصفار من الصفر؛ لأنه كان في صباه تاجرا فقيرا يعمل في النحاس، واقتصرت ولاية عبيد الله وسطوة قومه على الشرطة في بغداد، فكان هذا أول بوادر الزوال في ذلك البيت المجيد، ولحق ابن الرومي من ذلك ما لا بد أن يلحقه منه، فضلا عن حسبانه عليه من عثرات جده ودلائل شؤمه! •••
أما أبناء وهب فكانوا أهل كتابة لا شأن لهم بالحرب وقيادة الجيوش، جاء في الفخري أنهم كانوا «من قرية من أعمال واسط، وكانوا نصارى ثم أسلموا.»
وعملوا في الكتابة من مبدأ الدولة الأموية، ثم حظوا عند العباسيين فاشتهر منهم اثنان هما: الحسن بن وهب بن سعيد وأخوه سليمان.
وكان الحسن كاتبا شاعرا ولاه محمد بن عبد الملك الزيات ديوان الرسائل، ومدحه أبو تمام فولاه البريد في الموصل، وكانت بينه وبين أبي تمام صداقة، فلما مات هذا رثاه بقصيدة يقول منها:
فإن تراب ذاك القبر يحوي
حبيبا كان يدعى لي حبيبا
لبيبا شاعرا فطنا أديبا
أصيل الرأي في الجلى أريبا
إذا شاهدته رواك فيما
يسرك رقة منه وطيبا
أبا تمام الطائي إنا
لقينا بعدك العجب العجيبا
فقدنا منك قرما لا نرانا
نصيب له مدى الدنيا ضريبا
ولم يزل الحسن مقربا مجددا حتى نكبه المتوكل مع ابن الزيات في سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
وأخوه سليمان كتب للمأمون وهو في الرابعة عشرة، حدث ابنه عبيد الله عنه أنه قال: «كان مبدأ سعادتي أني كنت وأنا صبي بين يدي محمد بن يزداد وزير المأمون - وكنا جماعة من الصبيان بين يديه - إذا راح الليل إلى داره بات واحد منا في دار المأمون بالنوبة لمهم عساه يعرض في الليل، وكانت ليلة نوبتي فخرج خادم وقال: ها هنا أحد من نواب محمد بن يزداد؟ فقال الحجاب له: نعم! ها هو ذا، فأدخلني إلى المأمون، فقال لي: اعمل نسخة في المعنى الفلاني، ووسع بين سطورها، وأحضرها لأصلح منها ما أريد إصلاحه، قال: فخرجت سريعا وكتبت الكتاب بغير نسخة وبيضته وأحضرته إليه، فلما رآني قال: كتبت النسخة؟ قلت: بل كتبت الكتاب، فقال: بيضته! قلت: نعم، فزاد في نظره إلي كالمتعجب مني، فلما قرأه تبينت الاستحسان على وجهه ورفع رأسه إلي وقال: ما أحسن ما كتبت يا صبي! ولكن أريد أن تقدم هذا السطر وتؤخر هذا السطر. وخط عليهما بقلمه، فأخذت الكتاب وخرجت وجلست ناحية، ثم محوت السطرين وعملت ما أراد وجئته بالكتاب - وكان قد ظن أني أبطله وأكتب غيره - فلما قرأه لم يعرف مبدأ المحو فاستحسنه، وقال لي: يا صبي! لا أدري من أي شيء أعجب؟! أمن جودة محوك، أم من سرعة فهمك، أم من حسن خطك، أم من سرعتك؟! بارك الله فيك! فقبلت يده وخرجت، وكان ذلك أول علو منزلتي، وصار المأمون لا يجري مهم إلا قال: «هاتوا سليمان بن وهب».»
واستوزره المهتدي «ولقبه الوزير حقا؛ لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة ولا مستقل بها.»
24
استكتبه يوما عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فلما وضعت الكتب بين يديه قال له وقد قرأها: أحسنت يا سليمان، ونعم الرجل أنت لولا المعجل والمؤجل! وذاك أن سليمان كان إذا ولى عاملا أخذ منه مالا معجلا، وأجل مالا إلى أن يتسلم عمله ... ونكبه الواثق وحبسه فقال - وفي هذا الشعر غناء:
نوائب الدهر أدبتني
وإنما يوعظ الأديب
قد ذقت حلوا وذقت مرا
كذاك عيش الفتى ضروب
ما مر بؤس ولا نعيم
إلا ولي فيهما نصيب
ثم خرج من الحبس ليلة مات الواثق، ولكنه كان مطموعا فيه لكثرة ماله، واشتهاره بالرشوة، فقبض عليه الموفق، ومات في حبسه سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وقيل: سنة إحدى وسبعين ... ولما قبض الموفق عليه وعلى ابنه عبيد الله تذاكر جماعة أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على دخائل موسى بن بغا وودائعه، فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة ما لهما، فقال ابن الرومي وكان حاضرا:
ألم تر أن المال يتلف ربه
إذا جم آتيه وسد طريقه
ومن جاور الماء الغزير مجمه
وسد مغيض الماء فهو غريقه
25
وسليمان بن وهب هو أبو عبد الله وجد القاسم، وكلاهما وزر للمعتضد وتلقى مدائح ابن الرومي الكثيرة، ولا سيما القاسم؛ فإنه كان له القسط الأوفر من جميع مدحه.
وكانت أول ولاية عبيد الله للوزارة في عهد المعتضد، ثم بويع المعتضد سنة تسع وسبعين ومائتين، فأقره على وزارته، ولبث فيها إلى أن مات سنة ثمان وثمانين ومائتين، وكان كاتبا حاذقا وسائسا حصيفا، وفيه يقول الشاعر:
إذا أبو قاسم جادت يداه لنا
لم يحمد الأجودان البحر والمطر
وإن مضى رأيه أو حد عزمته
تأخر الماضيان السيف والقدر
وإن أضاءت لنا أضواء غرته
تضاءل النيران الشمس والقمر
من لم يبت حذرا من حد صولته
لم يدر ما المزعجان الخوف والحذر
ينال بالظن ما يعيا العيان به
والشاهدان عليه العين والأثر
ويروى أنه «لما مات عزم المعتضد على أن يستأصل شأفة أولاده، ويستصفي أموالهم، فحضر القاسم ابنه واستعان ببدر المعتضدي، وكتب خطابا بألفي ألف دينار فاستوزره المعتضد.»
26
قال صاحب الفخري: «كان القاسم بن عبيد الله من دهاة العالم ومن أفاضل الوزراء، وكان شهما فاضلا لبيبا محصلا كريما مهيبا جبارا، وكان يطعن في دينه ...»
وقال ابن خلكان: كان الوزير المذكور عظيم الهيبة، شديد الإقدام، سفاكا للدماء، وكان الكبير والصغير منه على وجل، لا يعرف أحدا من أرباب الأموال إلا نقمه. وتوفي سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي وعمره نيف وثلاثون سنة، وفي ذلك يقول عبد الله بن الحسن بن سعد:
شربنا عشية مات الوزير
سرورا ونشرب في ثالثه
فلا رحم الله تلك العظام
ولا بارك الله في وارثه
وابن خلكان قد أخذ هذا الوصف من مروج الذهب للمسعودي، وفي هذا الكتاب أن القاسم قتل عبد الواحد عم الخليفة المكتفي، والخليفة يجهل ذلك ولا يريده، وكان القاسم يغريه به، «فوكل به من يراعي خبره، وما يظهر من قوله إذا أخذ الشراب منه، فسمع منه وقد طرب وهو ينشد شعر العتابي:
تلوم على ترك الغنى باهلية
طوى الدهر عنها كل طرف وتالد
إلى أن يقول:
ذريني تجئني ميتتي مطمئنة
ولم أتجشم هول تلك الموارد
فإن نفيسات الأمور مشوبة
بمستودعات في بطون الأساود
وإن الذي يسمو إلى درك العلا
ملقى بأسباب العلا والمكايد
فقال له بعض ندمائه وقد أخذ منه الشراب: يا سيدي، أين أنت مما تمثل به يزيد بن المهلب:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
حياة لنفسي مثل أن أتقدما
فقال له عبد الواحد: مه! لقد أخطأت الغرض وأخطأ ابن المهلب، وأخطأ قائل هذا البيت، وأصاب أبو فرعون التميمي حيث يقول:
وما بي شيء في الوغى غير أنني
أخاف على فخارتي أن تحطما
ولو كنت مبتاعا من السوق مثلها
لدى الروع ما باليت أن أتقدما
فلما انتهى ذلك إلى المكتفي ضحك وقال: قد قلت للقاسم: ليس عمي عبد الواحد ممن تسمو همته إليها ... أطلقوا لعمي كذا وكذا. فلم يزل القاسم بعبد الواحد حتى قتله.»
وكان القاسم مكروها على خلاف أخيه الحسن الذي كان يحبه الناس ويحسنون الظن به، فلما مات الحسن قال أبو الحارث النوفلي:
قل لأبي القاسم المرزا
قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينا
وعاش ذو الشين والمعايب
حياة هذا كموت هذا
فلست تخلو من المصائب
قال أبو بكر الصولي النديم: «وقد رأيت أبا الحارث هذا وكان رجلا صدوقا.»
ونظم آخر في هذا المعنى فقال:
قل لأبي القاسم المرزا
وناد يا ذا المصيبتين
مات لك ابن وكان زينا
وعاش شين وأي شين
حياة هذا كموت هذا
فالطم على الرأس باليدين
ولكن عبيد الله أباهما كان على رأي يخالف رأي الناس في ولديه، فكان يقدم القاسم ويهمل الحسن، حتى راجعه في ذلك ابن الرومي بقصيدة سبقت الإشارة إليها، ولعله رأى من دهاء ابنه القاسم وغدره أنه أصلح للحكم في ذلك الزمان، وعلم أن الخلق الكريم أداة لا تنفع في هذا الغرض، فأخر ابنه الحسن عن منزلة أخيه.
والقاسم هذا هو الذي أجمعت كتب التاريخ على أنه قتل ابن الرومي بالسم؛ لأنه أشفق من فلتات لسانه.
وفاته
يقول ابن خلكان في تاريخ وفاة ابن الرومي: «توفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وقيل: أربع وثمانين، وقيل: ست وسبعين ومائتين، ودفن في مقبرة باب البستان.»
فأي هذه التواريخ صحيح؟
إن الذين جاءوا بعد ابن خلكان تابعوه في هذا الشك الذي لا مسوغ له اعتمادا على روايته بغير بحث في شعر الشاعر، ولا في كتب المؤرخين الذين سبقوا ابن خلكان. ولا مسوغ لهذا الشك كما قلنا لأن ابن الرومي أثبت لنا أنه بلغ الستين، وعاش إلى ما بعد سنة ثمانين إذ يقول:
طربت ولم تطرب على حين مطرب
وكيف التصابي بابن ستين أشيب
فهو لم يمت في سنة ست وسبعين على التحقيق، ولا يظن أن الستين هنا تقريبية لضرورة الشعر، وأنها قد تكون خمسا وخمسين أو ستا وخمسين، فإنه ذكر الخمس والخمسين في موضع آخر حيث قال:
كبرت وفي خمس وخمسين مكبر
وشبت فألحاظها ألمها عنك نفر
وليس من المعروف عنه أنه كان يعيا بنظم ما يريد.
ولو راجع ابن خلكان كتاب مروج الذهب للمسعودي لعرف منه أن ابن الرومي كان حيا بعد ست وسبعين، فلا محل للقول بموته في تلك السنة؛ فقد جاء في تاريخ المعتضد من ذلك الكتاب أن قطر الندى بنت خمارويه وصلت إلى مدينة السلام مع ابن الجصاص في ذي الحجة،
27
سنة إحدى وثمانين ومائتين؛ ففي ذلك يقول علي بن العباس الرومي:
يا سيد العرب الذي زفت له
باليمن والبركات سيدة العجم
إلى آخر الأبيات. وهذا فضلا عن مقطوعات أخرى نظمها الشاعر في العرس الذي احتفل به الخليفة سنة اثنتين وثمانين.
فمن المحقق إذن أن ابن الرومي تجاوز سنة ست وسبعين، ولم يبق لنا إلا أن نبحث في السنتين الأخريين؛ أي سنتي ثلاث وأربع وثمانين.
فعندنا تاريخ اليوم والشهر من أولاهما، وليس عندنا مثل ذلك من الثانية، وهذا مما يرجح وفاته في سنة ثلاث وثمانين دون أربع وثمانين.
ويقوي هذا الترجيح أن مضاهاة التواريخ تثبت لنا أن جمادى الأخرى من سنة ثلاث وثمانين بدأت يوم جمعة، فيكون يوم الأربعاء قد جاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى في تلك السنة، كما جاء في تاريخ الوفاة.
وقد ضاهينا هذا اليوم على التاريخ الأفرنجي، فوجدناه يوافق الرابع عشر من شهر يونيو، أي: يوافق إبان الصيف في العراق، وابن الرومي مات في الصيف كما يؤخذ من قول الناجم إنه دخل عليه في مرضه الذي مات فيه وبين يديه ماء مثلوج، فيجوز لنا على هذا أن نجزم بأن أصح التواريخ هو التاريخ الأول، وهو «يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين». •••
والأقوال بعد ذلك مجمعة على موت ابن الرومي بالسم، وأن الذي سمه هو القاسم بن عبيد الله أو أبوه.
ولكن الروايات في هذا الخبر لا تخلو من ضعف واضطراب، فالرواية التي أوردها ابن خلكان تقول: «إن الوزير أبا الحسين القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وزير الإمام المعتضد، كان يخاف من هجوه وفلتات لسانه بالفحش، فدس عليه ابن فراش، فأطعمه خشكنانجة مسمومة وهو في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الموضع الذي بعثتني إليه، فقال له: سلم على والدي! فقال له: ما طريقي على النار ...»
وضعف هذه الرواية ظاهر؛ لأن عبيد الله بن سليمان مات في سنة ثمان وثمانين؛
28
أي بعد آخر تاريخ فرض لموت ابن الرومي بأربع سنوات، فكان حيا عند وفاة الشاعر، ولا معنى لأن يقول القاسم له: سلم على والدي. ووالده بقيد الحياة.
والرواية التي أوردها الشريف المرتضي في أماليه أصح من هذه الوجهة؛ لأنها تقول: إن عبيد الله كان حيا عند موت ابن الرومي، وإنه هو الذي أوعز بقتله، ولكنها تقول أيضا: إنه قد اتصل «بعبيد الله بن سليمان بن وهب أمر علي بن العباس الرومي وكثرة مجالسته لأبي الحسين القاسم، فقال لأبي الحسين: قد أحببت أن أرى ابن روميك هذا. فدخل يوما عبيد الله إلى أبي الحسين وابن الرومي عنده ، فاستنشده من شعره فأنشده وخاطبه، فرآه مضطرب العقل جاهلا، فقال لأبي الحسين بينه وبينه: إن لسان هذا أطول من عقله، ومن هذه صورته لا تؤمن عقاربه عند أول عتب، ولا يفكر في عاقبته، فأخرجه عنك، فقال: أخاف حينئذ أن يعلن ما يكتمه في دولتنا، ويذيعه في تمكننا، فقال: يا بني، إني لم أرد بإخراجك له طرده، فاستعمل فيه بيت أبي حية النميري:
فقلن لها سرا: فديناك لا يرح
سليما، وإلا تقتليه فألممي
فحدث القاسم ابن فراش بما جرى، وكان أعدى الناس لابن الرومي، وقد هجاه بأهاج قبيحة، فقال له: الوزير - أعزه الله - أشار بأن يغتال حتى يستراح منه، وأنا أكفيك ذلك. فسمه في الخشكنانج فمات ... قال الباقطاني: والناس يقولون: ما قتله ابن فراش وإنما قتله عبيد الله.»
وضعف هذه الرواية ظاهر كذلك؛ لأن عبيد الله كان يعرف ابن الرومي سنوات، وقد مدحه ابن الرومي وتردد عليه وتشفع لديه بين ولديه، فلا حاجة به إلى أن يطلب رؤيته قبل موته ليختبره كما جاء في هذه الرواية. أما الأخبار الأخرى المنثورة في الكتب فهي مزيج مرتبك من هاتين الروايتين.
ويصعب علينا أن نستخلص الحقيقة من الخلف والاضطراب، فإذا قلنا: إن عبيد الله هو القاتل كما نقل الباقطاني، فيجوز على هذا الزعم أنه هو الذي قال له: سلم على والدي، وليس ولده القاسم، فينتفي بذلك موضع الضعف في الرواية الأولى، ولكننا ننفيه بفرض لا يجوز الاعتماد عليه.
وإذا أردنا أن نمزج بين الروايتين ونسقط منهما ما يجب إسقاطه، فالخلاصة منهما أن عبيد الله خاف هجاء ابن الرومي، فأوعز إلى ابنه أن يسمه؛ لأنه كان أقرب إلى مخالطته ومنادمته، ولا صحة لما بعد ذلك من حديث القاسم وابن الرومي، وإنما هو حديث غلبت فيه فكاهة القصة على صدق التاريخ. •••
بين هذه الشبهات المتضاربة شبهة تعرض للذهن، ولا يجوز إغفالها في هذا المقام، وهي تبيح لنا أن نسأل: ألا يحتمل أن يكون حديث السم كله خرافة مخترعة لا أصل لها، وأن ابن الرومي مات ميتة طبيعية تشتبه أعراضها بأعراض التسمم المعروفة في زمانه؟ فمن كلام الناجم الذي زاره في مرض وفاته نعلم أنه كان يشكو من إلحاح البول، فلما لاحظ الناجم ذلك قال:
غدا ينقطع البول
ويأتي الهول والغول
وأنه كان قد أعد ماء مثلوجا؛ لأنه «قلما يموت إنسان إلا وهو ظمآن»، وكان يقول فيما روته الأمالي وهو يشرب ولا يروى:
وأراه زائدا في حرقتي
فكأن الماء للنار حطب
والظمأ وإلحاح البول عرضان من أعراض «مرض السكر»، وهو مرض يحدث لصاحبه التسمم، ولا سيما بعد أكل الحلوى والإفراط فيها، وابن الرومي لم تكن تعوزه أسباب الإصابة به؛ لأنه كان منهوما بالحلوى والأطعمة الثقيلة، مستسلما للشهوات، مسرفا في الشراب مع ضعف أعصابه واعتلال جسمه، فمن الجائز أنه أصيب به فاشتد عليه في شيخوخته، وفصده الطبيب وفسد الجرح كما جاء في رواية زهر الآداب، فأودى ذلك بحياته، ويسهل في هذه الحالة أن يشيع حديث السم ولواحقه لما كان يعتري ابن الرومي من كثرة التوهم، أو لما كان مشهورا عن القاسم من سوء الطوية والضراوة بالغدر والفتك، بحيث لا يكبر عليه قتل شاعر هجاه، فإذا كان الموت قد حدث بعد وليمة في بيت القاسم، فهذا مما يؤكد التهمة ويصعب على الناس أن يعللوه بغير السم والمكيدة، وإن كان الطعام وحده كافيا للقضاء على رجل جاوز الستين في شيخوخة متهدمة مهملة، طالت إصابته بمرض دفين لم يكن علاجه ميسورا في أيامه.
هذه شبهة تعرض للذهن بين مختلف الشبهات، وكل قيمتها عندنا أنها مما لا يصح إغفاله في تحقيق وفاة الشاعر، فهي احتمال كل ما فيه أنه غير مستحيل. •••
أما أن القاسم كان أهلا لأن يغدر بابن الرومي، وأن ابن الرومي كان عرضة لغضب ذلك الوزير الفاتك المغتال، فهو احتمال جد قريب، فالقاسم جريء مستخف بالدماء، وابن الرومي قانط سريع الغضب، وليس أيسر من أن ينسى القاسم رجلا كابن الرومي حين أقبلت الدولة عليه وعلى أبيه وعلى آله، وتبدلت مجالسهم الأولى، وأخذوا في شأن من الصولة والأبهة غير شأنهم الذي كانوا فيه، وليس أيسر من أن يطمع ابن الرومي في عمل أو مرتب أو مكافأة تغنيه حين أقبلت الدولة على ممدوحيه وأصحابه بالأمس في أيام التطلع والانتظار. ومن هنا يبدأ الغضب فاللوم والوشاية، فالمبالغة في الجفاء فالهجاء من الشاعر، فالوعيد من الأمير الذي ليس بين وعيده وإنجازه عائق من خوف ولا لمحاسبة ضمير، وسلسلة القصائد التي تشفع بها ابن الرومي وسأل العمل واعتذر من أحاديث الوشاة سلسلة طويلة يسهل ترتيبها، لولا أنه لا فائدة من هذا الترتيب.
فحسبنا منها أن القاسم سمع الوشايات التي تحدث بها جلساؤه ومنافسو ابن الرومي والمحنقون عليه لهجائه، فأمعن في جفائه والإعراض عن توسلاته وشفاعاته، فلم يفلح ابن الرومي في استعطافه بمثل قوله:
بلغ البغاة علي حيث أرادوا
والله كائدهم بما قد كادوا
وهو الشهيد على أني لم أقل
بعض الذي قد أبدءوا وأعادوا
وهب السعاة أتوا بحق واضح
أين الكرام؟ أبدلوا أم بادوا؟ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
عفو الملوك عن الهجاة مدائح
مدحوا نفوسهم بها فأجادوا
ولم يفلح في استعطافه بأضعاف هذا الكلام، وهو كثير.
وحسبنا منها أن القاسم كان يتوعد ابن الرومي بالقتل، فقال الشاعر يقابل بين ما وشى به السعاة إليه، وما وشوا به إلى القاسم:
تحدثت الأملاء أنك حابسي
على غير إجرام وأنك مغتالي
وما قيل إملاء الرجال وقالهم
بأسهل من قيلي عليك ومن قالي
ثم يستطرد إلى الترضي والاستعطاف:
إخالك لو عاينتني في حفيرتي
بكيت عظامي الباليات وأوصالي
وسرك أن أحيا كما كنت مرة
ببذل الفداء الجزل والثمن الغالي
فلا تجفني حيا ولا تبك رمتي
كمنصرف عني يسائل أطلالي
وتكرر وعيد القاسم بالقتل، فتكرر استعطاف ابن الرومي وتذكيره بسالف المودة:
أيقتلني من ليس لي منه ناصر
عليه، وأعواني عليه مكارمه؟
أبى ذاك أن الحكم بيني وبينه
وأن علو القدر في يخاصمه
وقد طالت السعايات وطال التوسل، حتى اجتمع من ذلك ديوان غير صغير في حجمه، ولا في معانيه وابتكاراته، وابن الرومي في كل ذلك لا يرى من القاسم إلا:
غضبا ألح من السحاب الأسحم
ورضى أعز من الغراب الأعصم
فضاق صدره وجاهره بالهجاء، وأفرغ كل ما في جعبته من قذع أخفه:
يا من إذا ما رأته عين والده
بين الرجال اتقاهم بالمعاذير
أقسمت بالله أن لو كنت لي ولدا
لما جعلتك إلا في المطامير
وقال في آل وهب عامة:
متى آل وهب يرتجي الري حائم
إذا كنتم ملاك سيل المحامد؟!
واتهمهم في إسلامهم؛ لأنهم كانوا قديما نصارى فأسلموا، فقال فيهم هذه القصيدة:
وأحييتم دين الصليب وقمتم
بتشييد «بيعات» وهدم مساجد
وإبطال ما كان الخليفة جعفر
تخيره زيا لكل معاند
يشير إلى إبطالهم زي أهل الكتاب الذي أمر به الخليفة المتوكل في أيام غلوائه ونقمته على أصحاب النحل جميعا وقراء الفلسفة وعلم الكلام.
فليس من المنتظر بعد هذه القطيعة وهذا الهجاء أن يتورع القاسم عن قتل ابن الرومي إذا استطاعه، وهو مستطيعه كما استطاع قتل عم الخليفة بغير جريرة، ودبر لذلك تدبيره الذي لم يعلم به الخليفة إلا بعد موته، ومتى توعد القاسم بالحبس والقتل، فليس هو بالذي يتردد في إنجازه ووعيده، أو يعجز عنه، وليس ابن الرومي بالذي يتخذ الحيطة من مكيدة يراد بها، وهو يسأل القاسم عطفا، وينخدع في ظواهره بغير عناء. •••
وبقيت المرحلة بعد هذا قصيرة:
ذهب ابن الرومي إلى داره وهو يتوقع الموت ويتلمس الشفاء، و«لا مفر من الموت ولا من قضائه المحتوم.» كما قال، وغلط عليه الطبيب أو عز عليه دواؤه، فكانت إصابة المقدار، فتلقاه الموت آخر الأمر كما تلقته الحياة نفسا يساورها القلق، ويتوفز فيها الحس، ولا تزال من خوف الألم في ألم: اطمأنت إلى القضاء المحتوم اطمئنانها، وأبت أن تطمئن إلى آلامه وصرعاته، فاستحضرت المدية الرميضة تحاول أن تتعجل بها الموت إذا اشتدت عليها سكراته، وأبطأ نزوله، ولم تخش من ذلك عقاب الدين، وله عليها ذلك السلطان المرهوب، وللساعة عندها «هول دونه الهول»، وبعده حساب عسير لا شك فيه.
تلك خاتمة الترجمة التي استخرجناها من شعر ابن الرومي، وعثرنا فيها بتفاصيل ودقائق لا تستخرج من شعر شاعر غيره، فكأنما انتزعها من قبضة العدم انتزاعا، وتشبث بها كما تشبث بالحياة، فغلب عليها إهمال التاريخ غلبا ... والفضل في ذلك لتلك الملكة الفنية التي خلقت لتحس وتعبر عما تحسه، وتسجل تعبيرها في سجل الفنون، والتي أرهفتها الأسقام والآلام حتى أصبحت وسواسا يبالغ في تحريه واستيفائه كما يبالغ كل وسواس في التوكيد والتقرير.
هوامش
الفصل الرابع
عبقرية ابن الرومي
فرغنا في الفصل السابق من حياة ابن الرومي لنتكلم في هذا الفصل عن عبقريته، وهي زبدة حياته، والغرض الذي من أجله عاش ومن أجله يكتب الكاتبون عنه، فما تحرك في حياته حركة إلا كان لعبقريته منها نصيب أوفى نصيب، حتى لكأنه كان لا يتحرك ولا يتنفس ولا يطعم ولا يشعر إلا ليتخذ من ذلك كله مادة حياة، ويترجم ما عمل وما علم في قالب الفن ترجمة البر الأمين، وصفوة القول في هذه العبقرية: إنها كانت عبقرية يونانية لولا الإفراط والانهماك، أو إنها كانت عبقرية يونانية مكبرة الجوانب بعض التكبير.
ولسنا نصفها هذا الوصف لأنه تفسير سهل لهذه العبقرية النادرة؛ ولكن لأنه وصف موجز يدل على أجزائها المختلفة بقليل من الكلمات.
فربما كان القول بأن ابن الرومي رجل حساس، متوفز الأعصاب، ملبي المزاج، نشأ في حضارة زاهية فأجابته وأجابها، وأخذت منه وأخذ منها، فنبغ على ذلك المثال الفريد؛ لأنه لا بد في الشعر من مثال فريد، ربما كان هذا أقل في العجب من تفسير عبقريته بأنها عبقرية يونانية، على اعتبار أنها موروثة عن آبائه اليونان؛ إذ من هم آباؤه اليونان؟! لا ندري أهم إغريق الجزر أم من إغريق البلاد المعروفة باسم اليونان، أم من إغريق آسيا الصغرى التي كانت تدور الحرب فيها وحولها بين المسلمين ودولة الروم. ومن الصعب أن يحتاج إلى التفسير أن تقول: إن هؤلاء الإغريق جميعا سليقة واحدة، وأمة واحدة، وعنصر واحد يتحدر منه الرجل، وينتقل إلى بيئة أخرى، وينجب الأبناء في بيئته الجديدة، فيجتمع فيهم كل ما تفرق من خصائص العبقرية الفنية التي تسمى الآن بالعبقرية اليونانية.
ثم نحن لا نعلم أن الإغريق في قديم عهدهم كانوا عنصرا واحدا ينتمي إلى سلالة واحدة؛ لأن امتزاج الأنساب بينهم وبين الآسيويين ثابت لا شك فيه، واقتباسهم من عقائد الآسيويين وفنونهم ولغاتهم ثابت كذلك أقطع ثبوت، ولا يمكن أن نجزم برأي في وراثة الفطرة الفنية، ولا سيما الفطرة في الشعب كله حتى لو عرفنا الأصل الذي تحدر منه ابن الرومي بين أصول اليونان الكثيرة؛ فقد كان في بلاد اليونان نفسها ألوف من أبناء الشعب اليوناني المحاطين بالبيئة اليونانية في جميع ظواهرها وبواطنها، فلم ينبغ منهم في عصر ابن الرومي شاعر مثله، ولا نبغ منهم في العصور السابقة التي أزهرت فيها آدابهم وفنونهم شاعر من طرازه في جميع خصائصه وملكاته. فلو أننا نقلنا ابن الرومي من الأدب العربي إلى الأدب اليوناني لكان فذا في أدبهم كما كان فذا في أدبنا، ولم تنقض الحاجة إلى تفسيره بهذه النقلة من أدب لغته إلى أدب أصله، ولو أننا بحثنا عن مزية أصيلة في الفطرة اليونانية تنتقل مع الدم، وتسري في خلال التكوين لأعيانا أولا أن نحصر هذه الفطرة، ثم أعيانا بعد ذلك أن نحصر هذه المزية.
فنحن لا نفسر عبقرية الشاعر حين نسميها بالعبقرية اليونانية، ولكننا نصفها في كلمات موجزة وصفا يقربها إلى الأذهان، ويطبعها بهذا الطابع المعروف عند المطلعين على الآداب، وما من شك في أن الشاعر الذي تحدر من أصل يوناني أيا كان مقره غير الشاعر الذي تحدر من أصل عربي أيا كان مقره، ولكن التفريق بين هذه الشاعرين شيء، والقول بأن الشاعر لا يحس هذا الإحساس ولا ينظم هذا النظم إلا إذا كان من أبناء اليونان شيء آخر؛ فحسبنا أننا نعرف ما نريد حين نذكر العبقرية اليونانية، ولا نحاول بعد ذلك الخروج إلى تعليل الأصول والتعسف في تقسيم خصائص الشعوب.
وإنما وصفنا ابن الرومي بهذه الصفة؛ لأنه صاحب عبقرية تعبد الحياة، وتحيا مع الطبيعة، وتلتقط الصور والأشكال، وتشخص المعاني، وتقدم الجمال على الخير، أو لا تحب الخير إلا لأنه لون من ألوان الجمال ، ثم هي تنظر إلى الدنيا نظرتها إلى المعرض المنصوب للتملي والمتعة، لا نظرتها إلى الحصن المغلق أو الصومعة الموحشة أو غير ذلك من نظرات الأجيال والأديان، ولا نعرف صفة أجمع لهذه الخصال كلها من صفة العبقرية اليونانية التي اتسمت بها في الجملة فنون الإغريق؛ فقد كان الإغريق بجملتهم كما كان ابن الرومي بمفرده لو أن الإغريق كانوا يصيبون من كل متعة بمقدار، وابن الرومي كان لا يعرف في أمر من الأمور مقدارا أقل من الإفراط والانهماك.
عبادة الحياة
ولننظر أولا إلى حب الحياة الذي كان أول ما اشتهر به اليونان، وأول ما تستشفه من فن هذه العبقرية الحية في كل جزء من الأجزاء، وكل حالة من الحالات، فابن الرومي كان من أخلص محبي الحياة بين محبيها الكثيرين، أو كان - على الأصح الأوضح - من مدمني الحياة بين شرابها غير المدمنين.
وحب الحياة خليقة نادرة وإن ظن أنها أعم شيء بين الناس وعامة الأحياء، فليس الحب - سواء حب حياة أو حب شيء من أشيائها - سهلا رخيصا يطمع فيه كل من يريد، فمن الناس من يحب الحياة كأنه مسوق إلى حبها، ومنهم من يحبها كأنه مأجور على عمله، ومنهم من يحبها كأنما يحب شيئا غريبا عنه، ومنهم من يحبها كما «يحب» الحيوان الأعجم ما هو فيه، ومنهم من يحبها حب العاشق الذي يختار معشوقه، أو يستوي عنده الحب على القسر والحب على المشيئة؛ لأنه يريد ما يقسر عليه، ويأبى أن يفرض للفراق وجودا، أو يتوقع لهواه تغييرا، فهو سعيد بأن يحب، وأن يسمح له بأن يحب، وهو يحب الحياة لأنه حي لا موت فيه ولا عمل لكل حاسة في نفسه إلا أن تحس وتحيا وتستجد إحساسا وحياة، ولا تشبع من الإحساس والحياة، وهكذا كان ابن الرومي يعبد الحياة عبادة لا يبتغي عليها أجرا غير ما يبتغيه خلص العابدين، فكان حيا كله لا مكان فيه للموت إلا الخوف منه والتفكير فيه.
وإنك لتتابع أبياته الكثيرة في هذا الغزل، أو في هذه الفتنة، أو في هذا السكر، فيخيل إليك أنه شارب قبض على الكأس يود أن يجرعها مرة واحدة من فرط التعطش والخوف عليها، لولا أنه يستعذبها ويستطيبها، فيترشف منها رشفة بعد رشفة، ويعود إليها ينظر ما فرغ منها وما بقي فيها، ويضن ويشتاق ويشعر بمرارة الفقد لفرط شعوره بحلاوة المتعة، فما نقصت من تلك الكأس - الحياة - قطرة إلا أحس بطيبها، وأحس بألم فقدها، وعرف مقدارها، وقاس من الكأس حيزها، وعاد يترشف لينسى فيزداد ذكرا على ذكر، وخسارة بعد خسارة، وأي ذكر؟ وأي خسارة؟ وأي ألم؟ وأي فجيعة؟
لعمرك ما الحياة لكل حي
إذا فقد الشباب سوى عذاب
فقل لبنات دهري: فلتصبني
إذا ولى بأسهمها الصياب
ومن هذه اللهفة بعد اللهفة تعرف كيف بلغ العشرين، وكيف بلغ الثلاثين، وكيف بلغ الخمسين، وكيف بلغ الستين في قصائد شتى ومناسبات عدة لا موضع هنا لإحصائها، ولكنها تدلك إذا راجعتها على مغالاته بهذه الوديعة، وضنه بتسليمها والتفريط فيها، وحرصه على ذخيرتها حرص الشحيح الذي يود أن يزيد في ماله المحسوب وهو يراه ينقص ساعة بعد ساعة، ولمحة بعد لمحة.
وهو إذا ذكر الشباب لم تكن صورة الشباب في ذهنه أنه فترة من الزمن، أو ظواهر من المتعة والعافية، وإنما يذكره وهو ينفذ إلى صميمه وباطنه ولبابه الذي لا يحسب بالأيام، ولا معول فيه إلا على جدة الشعور وجلاء الدنيا في بشاشتها الأولى كأنها الثمرة المقطوفة، ولها من الشمس صبغة جديدة، ومن الطل مسحة غضة، ومن العصير المكنوز وليمة تنادي الشهوة، وتفتح اللهوة.
فلا يعنيه أن يدوم له الشباب، وإنما يعنيه أن تدوم له الدنيا القديمة، وهي في جدة البواكير وفي طرافة المفاجأة التي لا تذال، وإلا فما يغنيه أن يدوم الشباب والدنيا أمامه مذالة المنظر مجرودة اللون، مسلوبة من تلك المفاجأة في كل نظرة، وفي كل لقاء.
لو يدوم الشباب مدة عمري
لم تدم لي بشاشة الأوطار
أجل، هذا هو الشباب في صميمه وباطنه ولبابه، والشباب عنده أيضا أن يستقبل الحياة لأنها لا تكون جديدة إلا بهذا الاستقبال .
أطالع ما أمامي بابتهاج
ولا أقفو المولي باكتئاب
والشباب عنده دولة يولى صاحبها على هذه الدنيا فتطيعه وتعطيه من خيراتها كل ما تملك وكل ما يصبو إليه.
سقي الشباب وإن عفا
آثار معهده القتير
ما كان إلا الملك أو
دى تاجه وهوى السرير
والشباب عنده هو الحياة، لا فرق بين فقده وفقد الحياة إلا أن فاقد الشباب يعلم بموته، وفاقد الحياة لا يعلم ولا يأسى على ما فات:
وفقد الشباب الموت يوجد طعمه
صراحا، وطعم الموت بالموت يفقد
والشباب عنده مفقود لا عزاء بعده إلا عزاء الموت القريب:
فما لي عزاء عن شبابي علمته
سوى أنني من بعده لا أخلد
وإن مشيبي واعد بلحاقه
وإن قال قوم: إنه يتوعد
والشباب عنده مبكي ولا يوفى البكاء إلا بالدم:
لا تلح من يبكي شبيبته
إلا إذا لم يبكها بدم
ومرثي لا ينقطع رثاؤه حتى الممات:
سأثني بآلاء الشبيبة باسطا
لساني بها حتى أحين فأقبضا
والخير الأكبر هو أن يحيا الإنسان، والشر الأكبر هو أن يموت، ولا سيئة عنده لهذا الخير العميم إلا تنغيص ذلك الشر العميم.
سوءة للحياة والموت حتم
ولبذل الزمان واسترداده
وكل ما في الحياة من قلة الغبطة أن الأحياء يموتون:
كيف العزاء وما في العيش مغتبط
ولا اغتباط لأقوام يموتونا
متى نعش فبلى الأحياء يدركنا
وإن نمت فبلى الأموات يعفونا
وعلى هذا النحو يقول:
رأيت حياة المرء رهنا بموته
وصحته رهنا كذلك بالسقم
إذا طاب لي عيش تنغصت طيبه
بصدق يقيني أن سيذهب كالحلم
ومن كان في عيش يراعي زواله
فذلك في بؤس وإن كان في نعم
فالخلود الخلود، لا شيء دون الخلود يرضيه ويستقر عليه مناه، وإلا فبنو الحياة بائسون محرومون؛ لأنهم لا يعيشون؛ لا لأنهم يعيشون كما يقول المتشائمون الذين لا يحبون هذا الحب، ولا يعبدون هذه العبادة، ولا يحسون هذا الإحساس، وما تكلمنا بالمجاز حين قلنا: إنه يعبد الحياة؛ لأنه - على ما في شعره في هذه الأبيات المفرقة في شتى القصائد - قد كان يعلم ويقول : إن للحياة دينا يحرم ويحلل، ويأمر ويطاع ولو عارض أوامر الدين:
شربت وقد كان الشباب محللا
لي الراح ما كان الكتاب محرما
وقد طابق الشيب الكتاب فحرمت
على فيك تحريمين إن كنت مسلما
وذكر المحرمات في قصيدة أخرى فقال:
لم تحلل لمن أتاها ولكن
لم يحل دونها من الشيب حام
وأتى الآن دونها فهي اليو
م حرام علي كل الحرام
سوءتي إن أطعت شيبي فيما
لم أطع فيه حاكم الحكام
وعظ الله والكتاب فصمم
ت وأقدمت أيما إقدام
ونهى الشيب بعد ذاك فأسلم
ت وأحجمت أيما إحجام
فقد كان يدين في خوالجه بهذا الدين، ويستوحي منه شريعة التحليل والتحريم، وتهم خواطره بالتبتل فيثنيه عنه هذا التبتل الذي لا تسكت دعوته ولا ينقطع رسوله:
أبى لأخي الدنيا التبتل أنها
لها زيفة في كل حين تزيفها
إذا ما جلاها في الرياض ربيعها
يروق عيون الناظرين رفيفها
وأخرى إذا ما أينعت ثمراتها
ورقت حواشيها وطاب خريفها
تراءى لنا في زخرفين كلاهما
إذا استوحف الأهواء طال وحيفها
وقد كان همه الأكبر أن يحيا؛ لأنه مهيأ النفس للإحساس بالحياة، ولو كان همه على ما به من الخصاصة واللهفة أن يطلب القوت وينصرف إلى ذرائع العيش لما كان بالملوم. •••
وتعلق ابن الرومي بالحياة أقل شيء غرابة، وأقرب شيء إلى طبيعة الأمور. نعم إنه كان سقيم الجسم، عسير الرزق، مخيب الآمال، فكان أحرى لذلك أن يبغض الحياة، أو يحبها حب المجبر الملوم، إلا أن المرء لا يحب الحياة على مقدار سعادته بها، واستجابة آماله فيها، كما أن المرء لا يحب المرأة على مقدار ما ينال من حظوتها، ويغنم من إقبالها، بل يحب هذه أو تلك كلما امتلأت بها نفسه، واشتغل بها حسه، واشتبكت بها ذكرياته، وامتزجت بها رغباته، وابن الرومي كان صاحب نفس لا توصف إلا بأنها أداة مهيأة للنظر والسمع والتلقي عن الوجود من حيثما ألقي إليه بأثر من آثاره، وخبر من أخباره دق أو جل، وأسعد أو أشقى:
العين لا تنفك من نظر
والقلب لا ينفك من وطر
ومن أبهر ما يبهرك في هذه اليقظة الحسية حاسة اللون الذاكية المتوهجة، التي تطالعك من كل وصف يصف به الوجوه أو الأزهار أو الكئوس أو الحلي أو الخمر، أو غير هذه المناظر التي تلامس البصر بألوانها، فإنك قل أن ترى في وصف شاعر من شعراء العالم أجمع نظيرا لهذه الحاسة الشفافة المتوفزة، التي تختلج لكل لمحة من لمحات اللون وكل شعاع من أشعة النور، وتفطن إلى ألطف ما يبديه للعين من محاسن الامتزاج والمقابلة، وأصفى ما يجلوه من دقائق المباينة والمشاكلة، فيصيح صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء إلى جانب الصدغ الأدعج:
يا وجنتيه اللتين من وهج
في صدغيه اللذين من دعج
ما حمرة فيكما أمن خجل؟
أم صبغة الله؟ أم دم المهج؟
ويصيح هذه الصيحة كلما رأى هذا المنظر:
ليت شعري أسحر عينيك داء ال
قلب أم نار خدك الوهاج؟
ويقول في مثل هذا المعنى:
تلقى جنى التفاح في وجناته
وترى جنى العناب في تطريفه
متعت منه مسامعي ومراشفي
بنثير لؤلؤه وماء رصيفه
ويصف قينة فلا يكاد يعرض من مناظرها لغير الألوان التي في وجهها وثيابها:
وقينة إن منحت رؤيتها
رضيت مسموعها ومنظرها
شمس من الحس في معصفرة
ضاهت بلون لها معصفرها
في وجنات تحمر من خجل
كأن ورد الربيع حمرها
ويقول في ساقية:
بنت كرم تديرها ذات كرم
موقد النحر مثمر الأعناب
حصرم من زبرجد بين نبع
من يواقيت جمرها غير خاب
فوق لبات غادة تترك الخا
لي من كل صبوة وهو صاب
تحمل الكأس والحلى فتبدو
فتنة الناظرين والشراب
وفي قينة:
وشرابنا وردية
لكئوسها شرر يطير
حمراء في يد أحمر الو
جنات ملثمة مهير
وفي مثلها:
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
سناها فشفت عن سبيكة سابك
وفي قيان مجتمعات:
لابسات من الشفوف لبوسا
كالهواء الرقيق أو كالسراب
ومن الجوهر المضيء سناه
شعلا يلتهبن أي التهاب
وليس ألطف من قوله في وصف الأعناب السود:
سود لهن من الظلماء ألوان
وفي العنب الأبيض:
لم يبق منه وهج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
أما الخمر فربما كان نصيب عينه من نشوتها أجمل لديه وأحب إليه من نصيب السكر عند الشاربين؛ إذ تراه لا يصف سكرها كما يصف ألوانها وألوان أقداحها، بل هو يكاد يحسبها لونا شائعا في الفضاء كما قال:
صفراء تنتحل الزجاجة لونها
فتخال ذوب التبر حشو أديمها
لطفت فقد كادت تكون مشاعة
في الجو مثل شعاعها ونسيمها
وكما قال في موضع آخر:
نضا الدهر عن أسآرها جل لونها
فغادرها من لونها في غلائل
ثوت تصطلي شمس الظهائر برهة
إلى أن أفادت بون شمس الأصائل
وهكذا يقول في الرياض التي:
توقد فيها كلما تلمع الضحى
كواكب يذكو نورها حين تشمس
أو في الشقائق التي هي:
ترف لأبصار كحلن بها
ليرين كيف عجائب الحكم
شعل تزيدك في النهار سنى
وتضيء في محلولك الظلم
أعجب بها شعلا على فحم
لم تشتعل في ذلك الفحم
وهكذا يقول في كل شيء.
وليست حاسة البصر متفردة بهذه القوة بين حواس ابن الرومي، ولا حظها من الذكاء والتوفز بأوفر من حظ غيرها، فإن الرجل كان يسمع ويشم ويذوق ويتلمس، كما كان يبصر ويتصور، فلا تقصر حاسة من حواسه عن أختها، ولا تشكو إحداهن كلاكا أو فتورا في حصتها من التمييز والشعور، وهو القائل في وصف صوت:
صوت ندي وأنفاس مساعدة
كأنما نفس منهن أنفاس
يظل سامعه لدنا مفاصله
كأنما فترت أوصاله الكاس
وفي وصف مغنية:
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورا ويحيا
مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشي وفيه حلي من النغ
م مصوغ يختال فيه القصيد
فكأنه قد بلغ في تحسس الصوت مرتبة الموسيقيين الذين يتمثلون للأنغام ألوانا وزخارف وأوشية تكاد تنطبع في صفحة الخيال، أو تكاد تدركها العين لشدة بروزها في قرارة الوجدان. وهو لا يدع لك أن تشرح أو تستخلص ما تقرؤه من كلامه حتى يقول لك بالعبارة الصريحة: إنه يصل بين الرؤية والسماع ، ويترجم بين الحاستين فينقل إلى لغة العيون ما تضمنته لغة الآذان. وإليك ما يصف به إحدى القيان:
ذات صوت تهزه كيف شاءت
مثلما هزت الصبا غصن بان
يتثنى فينفض الطل عنه
في تثنيه مثل حب الجمان
ذلك الصوت في المسامع يحكي
ذلك الغصن في العيون الرواني
ثم يستطرد إلى تمييز الأنغام فيقول:
جهوري بلا جفاء على السم
ع مشوب بغنة الغزلان
فيه بم وفيه زير من النغ
م وفيه مثالث ومثان
فتراه يجل في السمع حينا
وتراه يدق في الأحيان
رخمته ورقرقته وضاهى
فعلها الأحمران والأسمران
فهو يحكي ترقرق النهر في الري
ح لعيني ذي غيلة صديان
يلج السمع مستمرا إلى القل
ب بلا إذن ولا استئذان
وإنك إذا قرأت مدائحه الأخريات في القيان المحسنات، وأهاجيه في شنطف ودبس وأبي سليمان ومن لا يجيد هذه الصناعة من المغنين والمغنيات؛ علمت أن له أذنا واعية تهفو إلى السماع الجميل، وتنفر من السماع القبيح، وإذا قرأت مبتكراته في فضائل الأزهار والرياحين ولذة الاستمتاع بروائحها، وتمييزه لمراتبها؛ علمت أنه كان يستروح من جمال مشموماتها مثلما كان يستروح من جمال مناظرها، وإذا قرأت ما قال في الموز الذي «يدفعه البلع إلى القلوب»، وفي المشمس الذي إذا رأيت بستانه «فأيقن بحق أنه لطبيب»، وفي الدجاجة التي تلوح له سميطة صفراء دينارية، والتي «يكاد إهابها يتفطر»، أو قرأت مقطوعاته في القطائف والفطائر واللوزينج والحلوى التي كان يقرظها ويفتن في تشبيهها؛ علمت كيف كان النهم بالمناظر والطعوم بابا عنده للنهم بالطعام، بل حسبك من دليل على شراهة حاسة الطعم عنده وقوة التذاذه بها قوله: إنه ما كان ليحفل بالموت أو ليجزع من القبر «لولا فواكه أيلول ...»
وحاسة اللمس في هذه الأداة الحسية اليقظى كحواس البصر والسمع والشم والطعم في الدقة والرفاهة والانتباه، فها هو ذا يصف الريح الشمالية:
وشمأل باردة النسيم
تشفي حرارات القلوب الهيم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
شاردة في الليل بالنميم
بين نشير الروض والخيشوم
كأنها من جنة النعيم
وها هو ذا يصف الليل في شهر أيلول:
يا حبذا ليل أيلول إذا بردت
فيه مضاجعنا والليل سجواء
وجمش القر فيه الجلد فائتلفت
من الضجيعين أحشاء فأحشاء
أو ها هو ذا يصف البارد:
ألذ من معتق الرساطون
وقهوتي قطربل وكركين
رجرجة من ماء ليل تشرين
كرونق السيف اليمان المسنون
باتت على طود نياف العرنين
تنفحها الريح برش ممنون
في شطر كوز صنع طب أفنون
أخضر في خضرة جرو اليقطين
ألست يا محرومها بمغبون؟
فها هنا تلمس معه برد الهواء الذي «يجمش» الجلود والأحشاء، بل ها هنا يخيل إليك أن لبرد الماء في «شطر الكوز» الأخضر ثقلا راسبا ينقع الغلة بالرجرجة قبل أن ينقعها بالشراب، وأن الشاعر ما اختار «معتق الرساطون» من أسماء الخمر إلا لأنها كلمة مجسمة أشبه بالرصاص البارد الذي ترى لاستقراره راحة كراحة الظمآن بعد الارتواء، ثم تعيد نظرك في الأبيات فتعجب ما هي الحاسة التي لم تشترك في وصف هذه الأبيات؟! أهي حاسة البصر وهي ترى للماء رونقا كرونق السيف اليمان المسنون، وترى خضرة الكوز كأنه جرو اليقطين، وترى «شطر» الكوز وهو كأنما تفلق من برودة ما فيه، وترى صنعة الكوز فإذا هي صنع قادر صناع؟ أم هي حاسة السمع وهي تصغي إلى رجرجة الماء ونفح الريح؟ أم هي حاسة الري وهو هنا ناقع لا يبقي من الظمأ بقية في الصدور؟ أم هي حاسة الخيال وهو يرتفع بالكوز إلى رأس الطود النياف العرنين، ويشبع القلب بالخمر المجلوبة من قطربل وكركين؟ فأوجز ما يقال في تصوير ابن الرومي لهذا الكوز: إنه قد التهمه حسا بكل ما فيه من منظور ومسموع ومشروب ومتخيل وملموس.
فهذه أيها القارئ نفس تامة الأداة تشعر شعورا شديدا بالحياة من حيثما واجهتها، وتداخل الطبيعة في كل جزء من أجزائها؛ فقد عاش صاحبها يوما يوما من عمره، وناحية ناحية من وجدانه، ولابس الحياة ولابسته.
ودامت الدنيا له غضة
كأنها الجارية الناهد
وليس الأمر كله حسا بالظواهر كذلك الحس الذي لا مذهب له وراء العيون والآذان والآناف، ولا هو بالدقة التي ترهف الحواس إرهافا، فلا يكون قصاراها إلا أن تقابل بين المرئيات والمسموعات، أو بين هذه وتلك وبين المشمومات والملموسات، كلا! فإن هذه اليقظة الحسية لتصاحبها يقظة في الشعور الباطني تسري به في كل مسرى، وتنفذ به إلى كل منفذ، وتترجم العواطف والأخلاق كما تترجم المناظر والألحان؛ فإذا تتبع «المكر» في خبايا الفكر، فهو القائل في ذلك قولا لا يسبقه فيه شاعر:
لك مكر يدب في القوم أخفى
من دبيب المدام في الأعضاء
أو دبيب الملال في مستهامي
ن إلى غاية من البغضاء
أو مسير القضاء في ظلم الغي
ب إلى قاصد له بالتواء
وإذا جال الحزن في نفسه بدت منه على الكون غشاوة، ولاح له كأنما نفخ في الصور ودمر كل عامر:
وأظلمت الدنيا وباخ ضياؤها
نهارا، وشمس الصحو حيرى على القمم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وأبدى اكتئابا كل شيء علمته
وأضعاف ما أبداه من ذاك ما كتم
ثم عرف أنه هو الحزن الدخيل، وليست الدنيا البادية للعيان هي التي يراها بتلك النظرة الشاحبة فقال:
كذاك أرى الأشياء إما حقيقة
بدت لي وإما حلم مستيقظ حلم
ولم يحلم اليقظان إلا وقد أتت
على لبه دهياء هائلة الفقم
وقد يتأمل المرأة، فإذا هو محيط - في بيت واحد - بسر «الأنوثة» كله، وبما في المرأة من ضعف وقوة، وبما هنالك من العجب في أن تكون هذه المخلوقة العجيبة إنسانا كالرجل، وهي والرجل جسدان مختلفان، وطبعان متباينان، وأن تكون غريبة عنه وهي قرينة له ما عن مقارنتها محيص، وذلك كله ملحوظ في البيت الذي يقول فيه:
ومن عجائب ما يمنى الرجال به
مستضعفات لنا منهن أقران
ولا عجيبة هنا إلا العجيبة التي يحسها من أحس سر الأنوثة وسر الرجولة، وأحاط بالتوفيق الغريب بين هذين الإنسانين، حيث يفترقان وحيث يلتقيان، واستوعب لغز «الجنس» ببديهة واسعة لم يحجبها عن ذلك اللغز أن الجنسين أشيع ما يرى في عالم الإنسان والحيوان.
وأما وقد ذكرنا المرأة ولغز الجنس المنوط بها، فقد يكون من الواجب أن نعرف مقدار ما شغلته من هذه النفس وحركته من هذا الإحساس ، فإذا كان ابن الرومي عابدا للحياة، فالمرأة ولا ريب كاهنة هذا المعبد التي تتم على يديها مراسم العبادة، ومحورها الذي تلتف حوله الشعائر والقرابين، وإذا كان ابن الرومي نفسا تيقظت فيها أداة الحس والشعور، ففي المرأة ولا ريب تلتقي أشد مغريات الحس، وأعمق بواعث الشعور، ولا بد من شأن لهذه «المخلوقة» في حياة هذا الشاعر، فما هو هذا الشأن؟ وما حقيقته؟ وما مداه؟ وهل هو شأن «المرأة»، أو هو شأن «امرأة» خاصة، أو أكثر من امرأة خاصة؟ وهل عشق؟ وهل أحب؟ وهل عرف ما هو الحب الذي نعني به شيئا أكثر من العشق وأكثر من الغرام؟
فأما هذا الشأن فقد كان، ولا يعقل إلا أن يكون، وما فرغ ابن الرومي قط من شأن النساء، ولا كره الشيخوخة إلا لأنها تصده عن المرأة أو تصد المرأة عنه؛ فلأجلها قبل كل شيء كان يخاف غائلة السن؛ ولأجلها قبل كل شيء كان يتمنى خلود الشباب:
أخشى كسادي على النساء إذا
أسننت والسن جمة الخبل
وإنني من كسادهن على
سني لأولى بالخوف والوجل
ولأجلها كذلك تمنى أن تنعكس أيام العمر فيتقدم فيه الهرم ويتأخر فيه الشباب:
فالعيش طعمان عند ذائقه
مر التوالي مستعذب الأول
من عسل تارة ومن صبر
لهفي لتأخير عقبة العسل
لو أنها أخرت لطاب بها ال
عيش وإن جاوزت شفا الأجل
وفي وسعك أن تقول: إنه عرف «العشق» الذي لا يعرفه إلا من نشبت علائقه بامرأة واحدة دون سائر النساء، فوصف ما وجده من هذا العشق في غير موضع، وقال من ذلك:
قد كنت أبكي لأصحاب الهوى زمنا
فهل لي الآن من باك فيبكيني؟
أهكذا يجد العشاق كلهم؟
يا رحمتا للمحبين المساكين!
وقال:
الحب داء عياء لا دواء له
تضل فيه الأطباء النحارير
قد كنت أحسب أن العاشقين غلوا
في وصفه فإذا في القوم تقصير
سقيا لأيام لم أخبره تجربة
إلا بما وصفت عنه الأخابير
بل جرب الغيرة فقال في تهوينها على العاشق ما لا يقوله إلا غيور:
إذا خلة خانتك بالغيب عهدها
فلا تجعلن الحزن ضربة لازب
وهب أنها الدنيا التي أنت موقن
بفرقتها إذ أنت في شأن لاعب
فهو قد عشق وغار وكابد لوعة الرغبة التي يحصرها العشق في إنسانة واحدة بين سائر النساء، وفارق وناجى وذكر، وقال من ذلك في معشوقة فارقها على أمل اللقاء:
أعلى العهد أنت أم حلت عنه
جعل الله قبل ذاك مماتي؟
لست أنسى امتناع صبرك للتو
ديع والبين مؤذن بشتات
إلا أن هذا كله عشق وليس في حب. وقد يكفي الإحساس والعاطفة لإضرام العشق، وإغرام المرء بامرأة يشتهيها ويغار عليها، ويشعر نحوها بذلك الشعور الفطري الذي ركب في عامة الرجال وعامة النساء. أما الحب الذي نعنيه فلا يكفي فيه الإحساس والعاطفة، ولا بد فيه من «الروحانية» أو الزهد والتضحية، ونكران النفس، ومن ثم نكران الحياة، ويقترن ذلك بالتصوف والارتفاع بالمرأة إلى ما فوق مرتبتها في الطبيعة، وفوق حظها من محاسن الأجسام؛ إذ الطبيعة لا تعرف في المرأة إلا أنها أنثى، وكذلك العاشق. أما المحب فإنه قادر على أن يفيض من روحانيته نورا على من يحب، وأن يحفها بهالة علوية قد يهابها، وقد يخشع لها في بعض المواقف خشوع المتنسكين. ولم يكن لابن الرومي نصيب من هذه الروحانية، ولا من ذلك النور، فما كانت المرأة في حسه أو عاطفته إلا أنثى طبيعية، ومخلوقا جميلا فيه متعة للأعين ومسرة للقلوب، ونساؤه كلهن نساء المتعة والمسرة على نسق واحد يلخصه مثل هذا البيت:
حوراء في وطف، قنواء في ذلف
لفاء في هيف، عجزاء في قبب
وهو في هذا أيضا وفي «للعبقرية اليونانية»، وللصورة التي رسمها اليونان لجمال «فينوس»؛ فقد كان اليونان طبيعيين في الجمال، وطبيعيين في العشق، ولم يكونوا روحانيين في شعر ولا فلسفة ولا تصوير، وخلاصة الحب عندهم أنه نسخة من حب «خلوي ودفنيس» في غابة حفلت بالألوف من نسخ هذا الحب بين أزواج الطير والحيوان، فإذا تنزه فهو حب عصفور لعصفورة، أو ظبي لظبية، أو حيوان جميل لحيوانة جميلة يخلو من الكثافة، ويزدان بالخفة والرشاقة ، ولكنه لا يخلو من «الجسدانية» ولا من «الطبيعية»، ولا يفارق الأرض ليصعد إلى سماء «الروحانية» والنور، وإذا تنزه بعد ذلك فهو صداقة حامية يشترك فيها الفكر والذوق والغريزة، ولا ينفسح فيها مجال كبير للنزاهة والتقديس.
حب الطبيعة
وتنتقل من ذاك إلى الخاصة الأخرى من خواص الطبيعة اليونانية، وهي حب الطبيعة.
فقد وصف الطبيعة شعراء كثيرون، ولم يمنحها الحياة إلا قليلون! أما الذين منحوها حياة نحبها وتحبنا، ونعطف عليها وتعطف علينا، ونناجيها وتناجينا، فأقل من هؤلاء القليلين.
وذاك أن الشاعر قد يؤخذ بأحمرها وأبيضها وأصفرها وأخضرها، ويفتن بما فيها من الزراكش والأفانين، ثم لا يعدو بذلك أن يمدح شيئا قد يجد مثله في ألوان الحلي وأصباغ الطنافس ونقوش الجدران، أو نحن نخطو وراء ذلك خطوة فنقول: إنه لا يعدو بذلك أن ينظر إلى دمية فاتنة يروقه منها وجه مليح، وقوام ممشوق، وحسن مفاض على الجوارح والأوصال، ولكنه لا يتطلع منها إلى عطف ولا يفتش فيها عن طوية.
وقد يستريح الشاعر إلى الطبيعة لأنها ظل ظليل، ومهاد وثير، وهواء بليل، وراحة من عناء البيت، وضجة المدينة، فلا يعدو بذلك أن يستريح إليها كما تستريح كل بنية حية إلى الماء والظل والهواء، كذلك تهجع السائمة في المروج، وكذلك تهتف الضفدع في الليلة القمراء.
وقد يمنحها الشاعر حياة من عنده أو من عند الخرافات والأساطير، فإذا هي حياة بغيضة لا تصلح للتعاطف والمناجاة، ولا يصدر عنها إلا الفزع والإحجام، ولا تقوم بينه وبينها إلا الحواجز والعداوات.
أما الطبيعة التي تحب وتناجى، وينم التعاطف بين الشاعر وبينها عن ثروة غزيرة من الشعر والشعور، فهي طبيعة الحور الخافقات في الهواء، والعرائس السابحات بين الأمواج، والعذارى الراقصات في عيد الربيع، والجنيات الهامسات في رفرفة النسيم ورقرقة الغدير، وحنين الصدى وحفيف الأغصان، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة العامرة بما في البروق والرعود والسماوات والأعماق من بطولة وعظمة، ونضال جياش بالغضب الظافر، والسطوة المجيدة، والخطر المثير، والشجاعة التي تقدم ولا تحجم، وترجو ولا تخاف، أو إن شئت فقل: إنها هي الطبيعة التي تبث الإغراء في كل شيء حتى ليحذر الملاح لجة البحار؛ مخافة أن تستهويه بنات الماء من وراء زرقة الأمواج، فيثب إلى أحضانها وكأنما يثب إلى أحضان عروس طال بها عهد الغياب.
فعلى هذا النحو تنجلي الطبيعة للعبقرية التي تحبها وتمنحها الحياة، فليست هي دمية ولا حلية، وليست هي مروحة للهواء ولا مجلسا للمنادمة، ولكنها قلب نابض وحياة شاملة، ونفس تخف إليها، وتأنس بها، و«ذات» تساجلها العطف وتجاذبها المودة، ثم هي عمار لا خواء فيه، وأسرة لا تبرح منها في حضرة قريب يناجيك وتناجيه، ويعاطيك الإخلاص وتعاطيه.
وقد كان ابن الرومي يحب الطبيعة على هذا النحو، ويستروح من محاسنها نفسا تتصبى الناظر إليها، وتتبرج له «تبرج الأنثى تصدت للذكر»، ويرى وراء هذه الزينة التي تبدو على وجهها عاطفة من عواطف العشق، تتعلق بها العفة والشهوة تعلقها بالعاطفة الإنسانية الشاعرة:
فهي في زينة البغي ولكن
هي في عفة الحصان الرزان
ولا يقول هذا القول على سبيل الاستعارة اللفظية، ولكنه يقوله ويصف الطبيعة الوصف الذي يقتضيه ذلك الشعور، ويمليه ذلك التصور، فيشف وصله لها عن شغف الحي بالحي، وشوق الصاحب إلى الصاحب، وتسمع من تشبيبه بها رنة طرب أو شجو لا تخرج إلا من نفس مفعمة بأصداء الطبيعة قد نفذت إلى طويتها، وشاركتها فيما تتخيله لها من حزن وسرور، فهو يحيا مع الشمس الغاربة حين تضع على الأرض «خدا أضرع» من دهشة الفراق، وهو يحيا مع النوار حين تخضل بالدمع عيونه، وتهبط مع الليل شجونه، وهو يحيا مع الذباب المغرد والطير الساجع في ساعة الغروب التي يمتزج فيها الحنان الذائب بالشوق الخفيض، وهو ينتظم ذلك كله في أنشودة واحدة لم تدع مزيدا لفن اللون والحركة، ولا مزيدا لوحي الخيال والسليقة:
إذا رنقت شمس الأصيل ونفضت
على الأفق الغربي ورسا مذعذعا
وودعت الدنيا لتقضي نحبها
وشول باقي عمرها فتشعشا
ولاحظت النوار وهي مريضة
وقد وضعت خدا إلى الأرض أضرعا
كما لاحظت عواده عين مدنف
توجع من أوصابه ما توجعا
وظلت عيون النور تخضل بالندى
كما اغرورقت عين الشجي لتدمعا
يراعينها صورا إليها روانيا
ويلحظن ألحاظا من الشجو خشعا
وبين إغضاء الفراق عليهما
كأنهما خلا صفاء تودعا
وقد ضربت في خضرة الروض صفرة
من الشمس فاخضر اخضرارا مشعشعا
وأذكى نسيم الروض ريعان ظله
وغنى مغني الطير فيه فسجعا
وغرد ريعي الذئاب خلاله
كما حثحث النشوان صنجا مشرعا
وهو يعرف الربيع حياة تتحرك في الوحش والطير، كما يعرفه زخرفا تتحلى به الأرض والسماء؛ لأنه وليمة الحياة للأحياء.
تجد الوحوش به كفايتها
والطير فيه عتيدة الطعم
فظباؤه تضحى بمنتطح
وحمامه يضحى بمختصم
إن الربيع لكالشباب وإن
ن الصيف يكسعه لكالهرم
وهو ينتشي مع الطيور والأغصان إذا بعثت الشمال بتحيتها و:
هبت سحيرا فناجى الغصن صاحبه
موسوسا وتنادي الطير إعلانا
ورق تغني على خضر مهدلة
تسمو بها وتشم الأرض أحيانا
تخال طائرها نشوان من طرب
والغصن من هزه عطفيه نشوانا
وهو يستمع إلى الروضة في بكائها وشدوها إذ هي:
يتداعى بها حمائم شتى
كالبواكي وكالقيان الشوادي
من مثان ممتعات قران
وفراد مفجعات وحاد
تتغنى القران منهن في الأي
ك وتبكي الفراد شجو الفراد
وهو يفهم الشعر الذي لا ينشده صاحبه للأجر والصنعة:
لكن كما راقت القمري جنته
فظل يتبع تغريدا بتغريد
وهو يحسن الإصغاء إلى سر الحياة الكامنة في هذه الأرض، وينصت إلى ما يبوح به الربيع في نجواها إذا:
لم يبق للأرض من سر تكاتمه
إلا وقد أظهرته بعد إخفاء
أبدت طرائف وشي من زواهرها
حمرا وصفرا وكل نبت غبراء
وهو يشتهي جمال الطبيعة من كل جارحة في نفسه إذا بدت للعين:
برياض تخايل الأرض فيها
خيلاء الفتاة في الأبراد
منظر معجب، تحية أنف
ريحها ريح طيب الأولاد
وقد بلغ من قوة هذا الإحساس فيه أن تجاوز حيز البديهة إلى حيز التفكير، كأنه التفت إلى نفسه فأدرك من طول المراقبة وتواتر الإحساس المتشابه علة أنسه بالطبيعة، وعلم أنه أانس مستمد مما يفيضه عليها من دلائل الحياة، فقال في أبيات يصف بها الأغصان:
تلاعبها أيدي الرياح إذا جرت
فتسمو، وتحنو تارة فتنكس
إذا ما أعارتها الصبا حركاتها
أفادت بها أنس الحياة فتؤنس
ولما شغف بالشباب ذلك الشغف المتوهج لم ينس معه الشغف بالطبيعة، ولم يفرق بين ربيعه وربيعها، وبين ثمراته وثمراتها، بل خلع من شبابه عليها، وخلع من شبابها عليه ومزج بينهما مزجا لا تخاله يكون إلا في مهجة واحدة، وجسد واحد؛ فإذا تذكر الشباب فاسمع ما هذا الذي يذكره بالشباب:
يذكرني الشباب صدى طويل
إلى برد الثنايا والرضاب
وشح الغانيات عليه إلا
على ابن شبيبة جون الغراب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
يذكرني الشباب جنان عدن
على جنبات أنهار عذاب
تفيئ طلها نفحات ريح
تهز متون أغصان رطاب
إذا ماست ذوائبها تداعت
بواكي الطير فيها بانتحاب
يذكرني الشباب رياض حزن
ترنم بينها زرق الذباب
إذا شمس الأصائل عارضتها
وقد كربت تواري بالحجاب
وألفت جنح مغربها شعاعا
مريضا مثل ألحاظ الكعاب
يذكرني الشباب سراة نهي
نمير الماء مطرد الحجاب
قرته مزنة بكر وأضحى
ترقرقه الصبا مثل السراب
على حصباه في أرض هجان
كأن ترابها ذفر الملاب
له حبك إذا اطردت عليه
قرأت بها سطورا في كتاب
تذكرني الشباب صبا بليل
رسيس المس لاغبة الركاب
أتت من بعد ما انسحبت مليا
على زهر الربا كل انسحاب
وقد عبقت بها ريا الخزامى
كريا المسك ضوع بانتهاب
يذكرني الشباب وميض برق
وسجع حمامة وحنين ناب
فيا أسفا ويا جزعا عليه
ويا حزنا إلى يوم الحساب
أأفجع بالشباب ولا أعزى؟
لقد غفل المعزي عن مصابي
تفرقنا على كره جميعا
ولم يك عن قلى طول اصطحاب
وكانت أيكتي ليد اجتناء
فعادت بعده ليد احتطاب
أيا برد الشباب لكنت عندي
من الحسنات والقسم الرغاب
بليت على الزمان وكل برد
فبين بلى وبين يد استلاب
وعز علي أن تبلى وأبقى
ولكن الحوادث لا تحابي
لبستك برهة لبس ابتذال
على علمي بفضلك في الثياب
ولو ملكت صونك فاعلمنه
لصنتك في الحريز من العياب
وهذا حنين إلى الطبيعة وشبابها، وحنين إلى العمر وشبابه لا تدري أين يبتدئ أحدهما وأين ينتهي الآخر، فهما حنين واحد، وشباب واحد، وفاكهة واحدة، وروضة واحدة، وإنك لتذوق الفاكهة فتذوق فيها طعم الشفاه والخدود، وتجد فيها مس الضفائر والنهود، وتجمع فيها بين وليمة الحب ووليمة البستان بعد أن تسمعه يقول:
متع الظبي من جنى غصنك اللد
ن يمتعك منه قبل انخضاده
من عناقيده وتفاحه الغض
ورمانه ومن فرصاده
أو بعد أن تسمعه يقول:
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
فيهن نوعان: تفاح ورمان
وفوق ذينك أعناب مهدلة
سود لهن من الظلماء ألوان
وتحت هاتيك عناب تلوح به
أطرافهن قلوب القوم قنوان
غصون بان عليها الدهر فاكهة
وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الظل يضربه
وأقحوان منير النور ريان
ألفن من كل شيء طيب حسن
فهن فاكهة شتى وريحان
فلا افتراق عنده بين الطبيعة والشعور، يكاد لا ينظر إلى الحسان إلا تذكر الروضة والبستان، أو يكاد لا ينظر إلى الروضة والبستان إلا بنظرة تثير الرغبة وتوقظ الأشجان.
ولو كان للطبيعة في بلاد العراق ظواهر أخرى غير هذه الظواهر التي توزع وصفها في قصائده ومقطوعاته؛ لقرأت له في تلك الظواهر الأخرى وصفا على هذا الأسلوب يحييها ويناجيها، ويلهمها القول والعمل، ويزودها بالسير والأحاديث، كما ترى في الأساطير المروية عن بلاد الرعود والبراكين والمغاور والآجام؛ لأننا لا نحسب هذه القريحة قادرة على أن تتخيل شيئا من الأشياء بغير حياة، ولا على أن تفصل بين عالم الطبيعة وعالم الحياة في أي البلاد.
التشخيص والتصوير
والقريحة المطبوعة على إعطاء الحياة مطبوعة كذلك على إعطاء الشخوص، أو على ملكة التشخيص.
ولكننا نحب أن نستثني هنا ذلك التشخيص الذي تلجئ إليه ضرورة اللغة وتسهيل التعبير مع علم المتكلم بما في كلامه من المجاز والمفارقة؛ فقد يتكلم الشاعر أو غير الشاعر عن الشمس بضمير المؤنث، وعن القمر بضمير المذكر، وقد يسند إليهما فعال الأحياء العاقلة وغير العاقلة، ولكنه بعد تعبير لفظي ليس وراءه تصور، وليس وراء التصور - إن كان - أثر من الشعور، ولا سيما الشعور المتبادل بين طرفين متعاطفين .
وإنما المقصود بالتشخيص تلك الملكة الخالقة، التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حينا، أو من دقة الشعور حينا آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأرضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فإذا هي حية كلها؛ لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر، ويهتز لكل هامسة ولامسة، فيستبعد جد الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير، وتوقظه تلك اليقظة وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الإرادة. وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله، وسبب ما عنده من قدرة الإحياء، وقدرة التشخيص؛ قدرة التشخيص التي هي ملكة مقصودة تكون عند أناس، ولا تكون عند آخرين، وليست قدرة التشخيص التي هي حيلة لفظية تلجئنا إليها لوازم التعبير، ويوحيها إلينا تداعي الفكر وتسلسل الخواطر.
خذ مثلا للمعاني «التشخيصية» التي يأتي بها اللفظ والمعاني التشخيصية، التي يأتي بها الشعور من أبيات ابن الرومي في مشهد الشمس ساعة الغروب؛ فقد ينظر بعض الشعراء إلى الشمس في هذا المشهد، فيجعلها حسناء مفارقة، وما دامت حسناء مفارقة فهي معشوقة أو عاشقة، وما دامت معشوقة أو عاشقة فهناك قصة غرام تدور على هذا المعنى إلى حيث ينتهي بها المطاف؛ وكل هذا لأن الشمس مؤنثة في اللغة العربية، وحسناء في تشبيهات الشعراء! فهي قصة مولدة من لفظ عرضي قد يكون لها نصيب من الشعور، وقد لا يكون لها أقل نصيب. أما الشيء الذي لا يمكن أن يخلقه اللفظ ولا التشبيهات ولا تسلسل الخواطر، فهو الشعور العميق بوحشة الغروب وما ينعكس من ذلك الشعور العميق على الشمس من ترنيق وضراعة وانكسار ونظر يائس كنظر المريض إلى العواد، ووجوم شائع بينها وبين عيون النور التي تغرورق على الأغصان لتدمع، وتلحظ ألحاظا خشعا من الشجو والإغضاء، فلا بد إذن من شعور يسبق التشخيص، ويلقي عليه ظله، ويثبت فيه من حياته، وأيا كان لفظ الشمس من التأنيث أو التذكير، وأيا كان موقعها من تشبيهات الشعراء؛ فإن هذا الشعور لا يتغير ولا يضعف ولا يزول.
هذا الشعور هو الذي يسبق كل تشخيص لابن الرومي أو كل «صورة مشخصة» في شعره، سواء تكلم عن بلد أو يوم أو خليقة، أو فترة من العمر، أو معنى محسوس أو غير محسوس.
فأنت تستخرج من بغداد «صورة مشخصة» حين يقول عنها:
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
وليست ثوب العمر وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
وعليه أغصان الشباب تميد
وأنت ترى للمهرجان والنيروز «شخصين» يشبان ويشيبان، ويدينان بالأديان، ويحدوهما الشوق، وتلوح عليهما الهيبة حين يلوحان لك في قوله:
شبب المهرجان لهوك فيه
فغدا من غطارف الشبان
وكذاك النيروز رد عليه
بك شرخ الشباب ذي الريعان
ولذكرت ذا وذاك جميعا
سنن الملك في بني ساسان
عمرا برهة على دين كسرى
وهما الآن بعده مسلمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فعلى منظريهما هيبة العز
ونور الإسلام والإيمان
وأحباك حب مولى شكور
فهما وامقان بل عاشقان
كل يوم وليلة فرط شوق
ونزاع إليك يطلعان
فبهذا وذاك حتى يجيئا
غلة فوق غلة الظمآن
لو أصابا إلا الغلاط سبيلا
غالطا الحاسبين في الحسبان
أو يخلى عنان ذاك وهذا
سبقا موقتيهما في الزمان
ولودا إذا هما بك حلا
لو يقيمان ثم لا يرحلان
وعزيز عليهما أن يكونا
عنك لولا الإزعاج يرتحلان
لو أطاقا هناك للدهر قسرا
حرنا سائقيه أي حران
ولهنوات النفوس «شخوص» عنده يخاطبها وتخاطبه، ويعتب عليها وتعتب عليه، وتسمع بينه وبينها هذا الحوار:
ليتني ما هتكت عنكن سترا
فثويتن تحت ذاك الغطاء
قلن: لولا انكشافنا ما تجلت
عنك ظلماء شبهة قتماء
قلت: أعجب بكن من كاسفات
كاشفات غواشي الظلماء
قد أفدتنني مع الخبر بالصا
حب أن رب كاسف مستضاء
قلن: أعجب بمهتد يتمنى
أنه لم يزل على عمياء
إلى آخر ذلك الحوار.
والشباب روح أو ملك يعيش كما يعيش الرجل وزميله مع الجان في بعض الأساطير.
أخي وإلفي وتربي كان مولدنا
معا وربتني الأيام حيث ربا
والود كائن حي يعالجه القتل أو يترك إلى الهرم فيموت:
أمت وديك عبطة فمه
دعه على رسله يمت هرما
والعوسج شرير «ملعون» يهجى ويسخر منه ويقال فيه:
عذرنا النخل في إبداء شوك
يذود به الأنامل عن جناه
فما للعوسج الملعون أبدى
لنا شوكا بلا ثمر نراه
تراه ظن فيه جنى كريما
فأظهر عدة تحمي حماه؟!
فلا يتسلحن لدفع كف
كفاه لؤم مجناء كفاه!
وإذا كانت هذه قدرة ابن الرومي على خلق الأشكال للمعاني المجردة، أو خلق الرموز لبعض الأشكال المحسوسة؛ فإن القدرة التي سبق بها الشعراء في الأمم كافة - بغير شك ولا تردد - هي قدرته البالغة على نقل الأشكال الموجودة كما تقع في الحس والشعور والخيال، أو هي قدرته على التصوير المطبوع؛ لأن هذا في الحقيقة هو فن التصوير كما يتاح لأنبغ نوابغ المصورين، فلست أعرف فيمن قرأت لهم من مشارقة ومغاربة أو يونان أقدمين وأوروبيين محدثين، شاعرا واحدا له من الملكة المطبوعة في التصوير مثلما كان لابن الرومي في كل شعر قاله مشبها، أو حاكيا على قصد منه أو على غير قصد؛ لأنه مصور بالفطرة المهيأة لهذه الصناعة، فلا ينظر ولا يلتفت إلا تنبهت فيه الملكة الحاضرة أبدا، وأخذت في العمل موفقة مجيدة، سواء ظهر عليها أو سها عنها، كما قد يسهو المصور وهو عامل في بعض الأحايين.
إنما التصوير لون وشكل ومعنى وحركة، وقد تكون الحركة أصعب ما فيه؛ لأن تمثيلها يتوقف على ملكة الناظر، ولا يتوقف على ما يراه بعينه ويدركه بظاهر حسه، ولكن تمثيل هذه الحركة المستصعبة كان أسهل شيء على ابن الرومي وأطوعه، وأجراه مع ما يريد من جد أو هزل، وحزن أو سرور. وقد مر بك وصفه لمشيته التي «يغربل فيها»، وللأحدب الذي شبهه بالمصفوع وهو يتجمع ويتهيأ للصفع ويخشاه! فأضف إليه هنا وصفه لحركة الكتان في حقله:
وجلس من الكتان أخضر ناعم
توسنه داني الرباب مطير
إذا درجت فيه الشمال تتابعت
ذوائبه حتى يقال: غدير
ووصفه لحركة الرقاق في يد الصانع:
ما بين رؤيتها في كفه كرة
وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة
في صفحة الماء يرمى فيه بالحجر
ووصفه للقمر في سريانه:
وأسفر القمر الساري فصفحته
ريا لها من صفاء الجو لألاء
ووصفه لحركة الري في النبات:
ويحور الخريف وهو ربيع
وتسور المياه في العيدان
ووصفه للحركة البطيئة في سير السحائب:
سحائب قيست بالبلاد فألفيت
غطاء على أغوارها ونجودها
حدتها النعامى مثقلات فأقبلت
تهادى رويدا سيرها كركودها
فإنك تقرأ هذه الأبيات وأمثالها مما سبق أو لم يسبق في هذا الكتاب، فيروعك منها - أول ما يروع - صدق تمثيلها للحركة في الجملة والتفصيل، ليس أصدق من وصف ذوائب الكتان بالغدير وهي تتلاحق مع الريح، ثم يتمم تصوير الحركة هنا تصوير اللون الأخضر، والملمس الناعم والغيم الذي يسري على جلس الكتان مع الليل في وقت الوسن، ويسف بحواشيه المطيرة إلى الأرض البليل، فالصورة كاملة لا تنقص منها سمة من سمات المكان والزمان والحركة، ولا حظ من حظوظ العين واللمس والخيال، ومثلها صورة الرقاق وهي تكبر في لمح البصر كما «تنداح» الدوائر في صفحة الماء، ومثلها صورة الليلة القمراء وهي كاملة متحركة من بداية الإسفار إلى السريان إلى الصفحة الريا التي تطالعك بالامتلاء والنداوة إلى الصفاء المحيط بكل هذا، فاللألاء المشرق على ذلك الصفاء.
ليس في البيت كلمة واحدة إلا لها مكانها من الصورة، ونصيبها من التلوين والتمثيل والتبيين، ومثل ذلك المياه التي تسور في العيدان كأن لها وجيبا أو دبيبا يتتبعه الناظر بعينه، ويصغي إليه بأذنه، والسحائب التي لا تفرق بين حركتها وركودها لأنها أطبقت على أغوار البلاد ونجودها. وهات ما شئت من صور له في وصف الإنسان والحيوان والنبات والجماد، فإنك لتجدن فيها كلها مثل هذا الصدق، ومثل هذه الحركة، ومثل هذه الحياة. وقد يكون قولنا هذا من تحصيل الحاصل بعدما سلف من بيان إحساسه باللون، ويقظته لكل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه، أو يدركه من ظواهر الأجسام وبواطن العواطف والأخلاق، ولكنه تحصيل حاصل غير مألوف ولا مستغن عن بعض الإبانة وبعض التفصيل.
ولو كان ابن الرومي مصورا لما استغرب منه هذا الولع بالألوان والظلال والأشكال والحركات ؛ لأنه كان لا يستطيع إذن أن يشرع في عمله قبل أن يلتفت إلى عناصر الصورة المحسوسة، ويجيلها في روعه، ويهيئها للظهور على قرطاسه، أما الشاعر فلا ضرورة في نظم الشعر تقسره على أن يلتفت هذا الالتفات الدقيق إلى كل لمحة من لمحات اللون والظل، وكل صغيرة من صغائر الشكل والحركة، فإذا التفت إلى ذلك في عامة شعره بغير ضرورة قاسرة، ولا طريقة مسبوقة، فإنما يلتفت إليه لأنه مطبوع على التصوير ينظر إلى حوله، فينطبع ما يراه في حسه وإن دق وخفي، كما ينطبع النور البعيد الضئيل في مصور الفلكي المحكم التركيب.
وبودنا أن نثبت الآن قصيدة «المهرجان» النونية برمتها؛ لأنها نموذج واف لشعر ابن الرومي في هذا الباب، ولكنا نجتزئ منها بما يأتي، وفيه الدلالة الكافية على هذه الملكة النادرة، قال:
يمن الله طلعة المهرجان
كل يمن على الأمير الهجان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
مهرجان كأنما صورته
كيف شاءت مخيرات الأماني ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وأديل السرور واللهو فيه
من جميع الهموم والأحزان
لبست فيه حفل زينتها الدن
يا وزافت في منظر فتان
وأذالت من وشيها كل برد
كان قدما تصونه في الصوان
وتبدت مثل الهدي تهادي
وادع الجيب عاطل الأبدان
فهي في زينة البغي ولكن
هي في عفة الحصان الرزان
كادت الأرض يوم ذلك تفشي
سر بطنانها إلى الظهران ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وتعود الرياض مقتبلات
ناعمات الشكير
1
والأفنان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
زخرفت يوم نعمه حجرات
جد موطوءة من الضيفان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
حجرات ميممات بناها
من فضول المعروف أكرم بان
لم يكن يقتني المساكن حتى
يتقن المجد أيما إتقان
فأذيلت فيها تهاويل رقم
قائمات بزينة المزدان
ثم قام الكماة صفين من كل
عظيم في قومه مرزبان
كلهم مطرق إلى الأرض مغض
وعلى سيفه هنالك حان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وتجلى على السرير جبين
ذو شعاع يحول دون العيان
يمكن العين لمحة ثم ينهى
طرفها عن إدامة اللحظان
فله منه حاجب قد حماه
كل عين ترومه بامتهان
فاستوى فوق عرشه بوقار
وبحلم من الحلوم الرزان
ثم قام الممجدون مثولا
ضاربين الصدور بالأذقان
ليس من كبرياء فيه ولكن
كل وجه لذلك الوجه عان
فثنوا سؤدد الأمير وعدوا
فيه آلاءه بكل لسان
حين لم يجشموا التزيد لا بل
ما تعدوا ما حصل الكاتبان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فقضوا من مقالهم ما قضوه
ثم آبوا بالرفد والحملان
بعدما أرتعوا الأنامل فيما
لا تعداه شهوة الشهوان
من خوان كأنه قطع الرو
ض وإن كان في مثال خوان
فوقه الطير في الصحاف وحاشى
ذلك الطير من جفاء الجفان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
ثم سام الأمير سوم الملاهي
وخلا بالمدام والندمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وقيان كأنها أمهات
عاطفات على بنيها حواني
مطفلات وما حملن جنينا
مرضعات ولسن ذات لبان
ملقمات أطفالهن ثديا
ناهدات كأحسن الرمان
مفعمات كأنها حافلات
وهي صفر من درة الألبان
كل طفل يدعى بأسماء شتى
بين عود ومزهر وكران
أمه دهرها تترجم عنه
وهو بادي الغنى عن الترجمان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أوتي الحكم والبيان صبيا
مثل عيسى بن مريم ذي الحنان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لو تسلى به حديثة رزء
لشفى داء صدرها الحران
عجبا منه كيف يسلي ويلهي
مع تهييجه على الأشجان ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
فترى في الذي يصيخ إليه
أمرات المحزون والجذلان
فتأمل، فهل ترى في وسع المصور القدير أن يلتفت إلى لون أو ظل أو شكل أو خط أو حركة في المهرجان لم يلتفت إليها ابن الرومي في هذه القصيدة؟ وتأمل الشاعر هل تراه في قصيدته إلا كما قلنا في بعض مقالاتنا: «كالرسام الذي بسط أمامه لوحته، وأقبل على الوجوه والأشكال يتفرسها، ويطيل النظر إلى ملامحها وإشاراتها وما تشف عنه من المعاني، وتشير إليه من الدلائل، ويراقبها في التفاتاتها ومواقفها وحركاتها؛ لينثني بعد ذلك إلى لوحته، فيثبت عليها ما توارد على بصره وقريحته من الألوان والمعارف والهيئات من حيث هي تحفة فنية تستهوي الحواس والأذواق؟
فهو يبدأ برسم زينة المهرجان، واختيال الدنيا بمنظرها فيه وبرود الوشي التي أذالتها للناظرين، واللهو والسرور الذي شمل كل شيء، وأديل له من جميع الهموم والأحزان، ثم يرسم حجرات الأمير بزخارفها وتهاويلها، وضيوفها الغادين إليها الرائحين منها، وقيام الكماة صفا بعد صف مطرقين إلى الأرض، مغضين بالأبصار حانين على السيوف، ثم يرسم الأمير فوق سريره وقد طلع على الجمع بوجه معيب يمكن العين منه لحظة، ثم ينهاها عن إدامة اللحظان، ثم يذكر لك وقار الإمارة، وسمات الحلم والرزانة بين قوم يعنون له، ويجلون قدره من الحب والتبجيل، لا من الصلف والكبرياء.
ثم يرسم المادحين بين يديه يرتلون عليه الثناء ضاربين الصدور بالأذقان، وينصرفون من حضرته بالعطايا والحملان، بعدما شبعوا من خوان يلوح في مثل قطع الروض، وإن سمي بالخوان، ثم يرسم القيان الكواعب الأبكار عاطفات على المزاهر عطف الأم على الرضيع بنهود مفعمات، ولكنها صفر من درة الألبان، ثم يرسم أثر الغناء على وجوه السامعين، فإذا هو شجن وسلوى، وأمرات من الحزن والجذل، وطرب يشوبه السكون وسكون يشوبه الطرب ... فلا تزال في القصيدة تنتقل بين أبياتها من صورة إلى صورة، ومن منظر إلى منظر، ومن حركة إلى حركة حتى تأتي عليها، وقد استعرضت في خيالك متحفا واسعا من الأشكال والخطوط عملت فيه القريحة والنظر، واشترك فيه الفن والإحساس، وروى لك أصدق الرواية عن عين تلمح وتعي، ونفس تحس فتستوعب، وخيال يدخر الجمال المنظور فيثري بالألوان والسمات ...»
زعموا أن بعضهم قال لابن الرومي: «لم لا تشبه كتشبيهات ابن المعتز وأنت أشعر منه؟ فقال للائمه: أنشدني شيئا من قوله الذي استعجزتني عن مثله، فأنشده قوله في الهلال:
انظر إليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال: زدني. فأنشده قوله في الآذريون - وهو زهر أصفر في وسطه خمل أسود:
كأن آذريونها
والشمس فيه كالية
مداهن من ذهب
فيها بقايا غالية
فصاح: وا غوثاه! تالله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ذاك إنما يصف ماعون بيته، وأنا أي شيء أصف؟ ولكن انظروا إذا وصفت ما أعرف أين يقع قولي من الناس.» إلى آخر القصة.
وقد تصح هذه القصة أو لا تصح، ولكنها على الحالتين تدل على رأي شائع في التشبيه بين الذين كانوا يتعاطون الأدب في عصر ابن الرومي، وبين الذين يتعاطونه في هذه الأيام، فلابن المعتز تشبيهات كثيرة أبلغ من هذه التي مرت في القصة، وأجمل وأنقى في المعنى والديباجة، ولكنهم لا يختارون له في مقام التحدي والتعجيز إلا هذه الأبيات وأمثالها؛ لظنهم أن نفاسة التشبيه إنما تقاس بنفاسة المشبه والمشبه به، وأن الغرض من التشبيه إنما هو مضاهاة أبيض على أبيض، وأصفر على أصفر، ومستدير على مستدير، ومستطيل على مستطيل مما يرى بالعين، ولا فضل فيه للشعور والتخيل، فالشاعر الذي يصف النجوم ويشبهها بالجواهر والحلي هو الشاعر غير مدافع، وهو المثل الأعلى في هذه الصناعة.
ثم يليه الشعراء على حسب الأشعار في سوق المشبهات! وقصارى ما يطلبه الشاعر من التشبيه أن يثبت لك أنه رأى شيئين من لون واحد، وشكل واحد، كأنك في حاجة إلى مثل ذلك الإثبات الذي لا طائل تحته، فإما أنه أحس وتخيل وصور إحساسه، وتخيله باللفظ المبين والخواطر الذهنية الواضحة، فليس ذلك من شأنه ولا هو مما يدخل عنده في باب البلاغة والشاعرية، وهذا خطأ بعيد في فهم الوصف والشعر يخرج بهما عن القدرة النفسية إلى القدرة الآلية التي تحكي المناظر الظاهرية، كما تحكيها المصورة الشمسية، فالمسافة عظيمة جدا بين شاعر يصف لك ما رآه كما قد تراه المرآة أو المصورة الشمسية، وشاعر يصف لك ما رآه وشعر به، وتخيله وأجاله في روعه وجعله جزءا من حياته.
وليس يعنيك أنت أن يكون الشاعر صحيح العين مطلعا على المرئيات المتشابهة ليتصل ما بينك وبينه، ويقترب وجدانك من وجدانه، ولكنما يعنيك منه أن يكون إنسانا «حيا» يشعر بالدنيا، ويزيد حظك من الشعور بها، وتلك هي مزية ابن الرومي في وصفه وتشبيهه، ومزيته في شعره كله من أوائل شبابه إلى اليوم الذي مات فيه. وينبغي هنا أن نذكر مرة أخرى أن ملكة الشعر غير ملكة الوصف، وليستا بشيء واحد كما يفهم كثير من القراء، فمن وصف وشبه ولم يشعر فليس بشاعر، ومن شعر وأبلغك ما في نفسه بغير وصف مشبه، فلا حاجة به إذن إلى سرد الصفات لتتم له ملكة الشاعرية. •••
من ثم نقول: إننا قسمنا العبقريات الفنية إلى أقسام وفصائل، فخير ما نفهم به عبقرية ابن الرومي أنها عبقرية يونانية على المعنى المفهوم بين قراء الآداب من هذه الكلمة؛ إذ لا نعرف صفة لعبقرية ابن الرومي هي أوجز ولا أبين من هذه الصفة المجموعة في كلمة واحدة، فإنه كان محبا للحياة في خفة وطفولة وأريحية دائمة، كالحب الذي عهدناه في جملة الفنون اليونانية، وكان مشخصا لمحاسن الطبيعة وعناصرها، كما شخصتها أساطير اليونان، وولدت منها بنات الماء وعرائس الغاب وأرباب السحب والبحار وغيرها من ولائد الذوق والخيال، وكان مأخوذا بالجمال في كل شيء كما أخذوا به في كل شيء، مستغرقا في الحس الدنيوي كما استغرقوا فيه.
أما أنه كان كذلك لأنه من سلالة اليونان، فذلك قول لا نجزم به ولا نجزم بنفيه؛ لأنه يستطيع أن يكون كذلك ولو لم يكن من تلك السلالة التي اختلطت فيها سلالات الشرق والغرب والشمال والجنوب، فما اختص اليونان بإبداع الفنون واستجلاء الجمال، ولا يحسن بأحد أن يدعي ذلك لشعب من الشعوب، وكل ما امتازوا به على غيرهم أنهم منحوا الفنون حرية لم تمنحها في الشعوب القوية التي توطدت فيها الدولة وتوطد فيها الدين، فاشتمل على العلوم والفنون، وأحاطها بقيود المراسم والموروثات، فلما خضع اليونان لمثل هذا السلطان نضب فيهم ذلك المعين الحر، وأخلدوا إلى المراسم والموروثات إلا قليلا من الحنين المتجدد إلى الفن القديم، وامتياز اليونان بالحرية في الفن فضل عظيم.
ولكن ما مقدار ما يسري منه في الدم، ويثبت مع الغرائز، ويتنقل مع السلالات؟ وما هو الحد الفارق بين اليونانية وغير اليونانية في الشعوب الكثيرة التي يتناولها اسم اليونان في آسيا وأوروبا، وقبل التاريخ وبعد التاريخ؟ فأنت ترى أن القول بالوراثة اليونانية في ابن الرومي ليس أسهل ولا أصوب من القول بانفراد هذه الظاهرة الغريبة التي لا تزول غرابتها من بعض الوجوه، حتى لو ظهرت في بلاد اليونان، وقد يكون فيما مر بك من شرح مزاجه ونشأته تعليل صالح لهذا الإحساس المتوفز، يساعد على تفسيره بعض التفسير، فحسبنا إذن من كلمة العبقرية اليونانية أنها كلمة مفهومة في لغة الآداب ، وإن لم تكن مفهومة في لغة الأنساب.
هوامش
الفصل الخامس
فلسفة ابن الرومي
لكل شاعر كبير فلسفة للحياة، أو فهم لها على وجه من الوجوه، وهذه هي مزية الشاعر الكبير على الشعراء الصغار.
فإذا قرأت عشرين شاعرا كبيرا، فأنت أمام عشرين نسخة من الدنيا، أو أمام عشرين مثالا لها كل منها مخالف لغيره مستقل عنه في طريقة تمثيله؛ لأن الشاعر الكبير يشعر بكل شيء حوله، فما من مظهر ولا مخبر إلا وله موقع من قلبه، وصدى في ضميره، ولأنه مستقل في إدراكه وشعوره ينحو نحو نفسه، ولا ينحو نحو غيره، فإذا قرأت شعره فهناك الدنيا كلها ممثلة في ذلك الشعر على طريقته التي لا تشبهها طريقة، ولا كذلك الشاعر الصغير؛ أي الشاعر الذي تضيق نفسه بسعة الدنيا فلا يشعر إلا بجانب صغير من جوانبها الكثيرة، والذي يتبع غيره في إدراكه وشعوره، فلا يثبت على قدميه لحظة إلا ريثما يتكئ على سند من سابقيه أو معاصريه، فإن هذا الشاعر الصغير شذرة من الدنيا، وليس بمثال كامل للدنيا برمتها، وقد تكون هذه الشذرة أجمل وأتقن، وأحب وأشهى من المثال الكامل في مساحته الواسعة ومنظره الجسيم، ولكنه شذرة على كل حال أو خريطة بلد واحد لن تغنيك - بالغة ما بلغت من روائها وإتقانها - عن خريطة الأرض الكاملة، وإن قصرت في الرواء والإتقان.
فمن الشعراء الكبار من يريك الدنيا كأنها معرض للجمال، أو يريكها كأنها متنزه للفرجة، أو كأنها كعبة للعبادة، أو ميدان للقتال، أو طريق للعبور، أو ملعب للسرور، أو يريك الدنيا كما هي. وذلك أكبر الشعراء وأعلاهم في مراتب الإلهام. أما الشاعر الذي تسأل نفسك بعد قراءته: ما هي الدنيا؟ وما مثالها في خلدك؟ فلا تهتدي إلى جواب، فليس بالشاعر الكبير وإن عد في المجيدين من الشعراء.
فلا بد للشاعر الكبير من إدراك الدنيا كلها، ولا بد لهذا الإدراك من صورة تختلف كثيرا أو قليلا من سائر الصور، وهذا هو الذي نعنيه بفلسفة الشاعر، ولا نتخطاه إلى معنى الفلسفة الشائع بين المفكرين ، إذ لو قصدنا إلى هذا لوجب علينا أن نقول: إن الفلسفة أبعد المطالب عن ابن الرومي، وإن ابن الرومي أبعد الناس عن الفلسفة، بل لوجب علينا أن نقول أكثر من ذلك: إن قريحة ابن الرومي كانت نقيض القريحة التي يحتاج إليها الفيلسوف؛ لأن الفيلسوف يجرد كل شيء ليراه بعين الفكر؛ حيث تلتقي الكليات، وتنعدم الفوارق والأجزاء، وابن الرومي كان يجسم كل شيء ليراه بعيني الفنان في عالم الأنوار والأشكال والخطوط والحركات.
وربما خطرت للقارئ وساوس ابن الرومي وأوهامه وأسراره، فحسبه من أهل الباطن الذين ينظرون إلى الدنيا نظرة الروحانية، وقرب ما بينه وبين الفلاسفة المجردين على هذا الاعتبار، فيجب علينا كذلك أن نبادر إلى القول بأن ابن الرومي كان نقيض أهل الباطن المتعمقين، كما كان نقيض الفلاسفة المجردين؛ لأن أهل الباطن يتجاوزون الظواهر إلى البواطن، ويحسبون الظواهر وهما أو كذبا لا وجود له إلا في الحس المضلل المخدوع. أما ابن الرومي فكان يعكس الأمر، فيلبس الأسرار ثوب الظواهر، ويلحق عالم الخفاء بهذا العالم المجسم المحسوس، فالباطنيون ينفون الظواهر، ويثبتون الأسرار، وابن الرومي ينفي الأسرار ويثبت الظواهر؛ وكان يلحي الناس لأنهم يغفلون عن نذير الخفاء ولا يتقونه كما يتقون نذير العيان؛ لأن الخفاء عنده إن هو إلا عيان يراه ويلمسه ويتجنبه ويلقاه.
لقد كان الرجل «جديد» الإحساس في شبابه وهرمه، فعالمه أبدا عالم الطفولة الخالدة الذي يطالع صاحبه أبدا ببهجة جديدة أو خوف جديد: طفولة خالدة، ولكنها مروعة لفرط ما ألح عليها من السقم والألم، فهي في هذه المأدبة الإلهية التي تسمى بالدنيا، فاغرة الحس أبدا لكل طارئ جديد من طوارئ الإغراء والترويع، طفولة لم تزدها السنون إلا إمعانا في الطفولة، وإغراقا في اللعب، وشوقا إلى الحلوى، ورهبة من العصا، واحتيالا على هذه الرهبة، فلن ترى في شعره كله قولة واحدة إلا هي قولة الطفل الكبير الذي يفهم أضعاف ما يفهم الكبار، ولكنه لا يحس إلا كما يحس الأطفال.
أيتكلم عن الصبر؟ أيتكلم عن العزلة؟ نعم ويتكلم عن الزهد والعفة والتقوى وعما شئت من الحكم والنصائح! وزد عليه أنه يتكلم عنها كلام النية والعقيدة لا كلام الخبث والرياء، ثم ما هو إلا أن تعروه بادرة واحدة من بوادر الفرح أو الحزن، وغواية واحدة من غوايات الربيع أو الخريف حتى تذهب جميع هذه الحكم والنصائح في الرياح، وينطلق الطفل الكبير مصفقا للمتعة الجديدة، أو صارخا من الألم الجديد؛ لأن الكلمة العليا في هذه «الفلسفة» للإحساس الطارئ، لا للفكر السابق أو الإحساس القديم.
أتسميها إذن فلسفة «أبيقورية» تنشد اللذة أينما كانت، وتهرب من الأمل أينما كان؟ إن كنت تسمي الطفل الذي يتهافت على الحلوى ويجفل من العصا «أبيقوريا»، فلك أن تعد ابن الرومي في جماعة الأبيقوريين، ولكن الأبيقورية - في رأيي - ليست «جدة» الإحساس المتفزز للمسرات والآلام، وإنما هي فتور الإحساس واستكانة الشيخوخة إلى ما يريح، ونفورها مما يزعج ويثير، وهي في معناها الشائع نقص في الإحساس، وليست بزيادة فيه، وإلا فهل تظن أبا نواس شعر بلذعة الألم أو بنضرة السرور قط؟ هذا هو الأبيقوري في الأبيقوريين، وهو كما تعلم واحد من أولئك المترفين الذين يطلبون اللذة ويشفقون من الألم؛ لأنهم فاترون فارغون، لا لأنهم مرهفو الحس مفعمون بالحياة.
أما ابن الرومي فكان يألم ويسر؛ لأن حياته هي الألم والسرور؛ أو لأنه لا بد له من أن يحس، ولا بد للإحساس من أن يكون بعض الألم وبعض السرور، وليس في وسعك أن تعطله من الإحساس بهذا أو بذاك، إلا إذا عطلته من الحياة، وليس في وسعه هو أن يطلب اللذة باختياره، أو يجتنب الألم باختياره؛ لأن الجدول الرقراق لا يطلب الصفاء، ولا يجتنب الكدر، وإنما يصفو ويكدر لأنه ماء، ولن يكون إلا من الماء.
فعالم ابن الرومي هو عالم الطفولة الخالدة لا عالم الشيخوخة الوادعة أو عالم «الأبيقوريين».
والطفولة الخالدة هي الإحساس الجديد بالألم، والإحساس الجديد بالسرور، ولقد دام له هذا الإحساس الجديد كأحسن ما يدوم بعد فقد الشباب، ولكنه لفرط طمعه في الحياة كان لا يقنع إلا بأن يجمع بين «بشاشة الأوطار» وقدرة الشباب ؟
الفصل السادس
صناعة ابن الرومي
قولا لمن عاب شعر مادحه
أما ترى كيف ركب الشجر؟
ركب فيه اللحاء والخشب ال
يابس والشوك دونه الثمر
وكان أولى بأن يهذب ما
يخلق رب الأرباب لا البشر
يتفق لقارئ الشعر أن يعرض له في مطالعاته بيت غير منسوب إلى صاحبه، فينسبه إلى شاعر معروف عنده، ثم يجد بعد البحث أن فراسته قد صدقت، وأن البيت لذلك الشاعر بغير خلاف، ولكنه قد يعلم السبب الذي دعاه إلى نسبة البيت إليه، وقد يتعذر عليه أن يرد ظنه إلى سبب غير البداهة التي لا تعلل؛ لأن سمات الشعراء التي تبدو في قصائدهم وأبياتهم بعضها ظاهر يسهل تتبعه والاستدلال عليه، وبعضها خفي يجري في الكلام مجرى الملامح في الوجوه، تعرفها وتعرف بها الأبناء والآباء، ولكنك لا تردها إلى سبب محدود.
وليس كل الشعراء ذوي ملامح واضحة يعرفهم بها القراء، ففي العربية مثلا ألوف من الشعراء لا تعد منهم مائة بين أصحاب الملامح الواضحة التي تعرفهم بها في القصيدة الواحدة، بله البيت الواحد، وفي طليعة هؤلاء من الشعراء المحدثين - غير ابن الرومي - المتنبي والمعري والشريف الرضي، والبقية درجات في هذه الخصلة تعرفهم بسهولة حينا، ولا تعرفهم حينا إلا بعد جهد وتحقيق.
بعض هذه الملامح أو العلامات نفسي لا نعود إليه في هذا الفصل؛ لأنه سبق في مواضع متفرقة من الفصول المتقدمة، وبعضه لفظي يرجع إلى الصياغة وأسلوب التعبير والنزعة الفنية التي ينفرد بها الشاعر بين الشعراء، وإن تساووا في الإجادة، كما ينفرد الجميل بين ذوي الجمال بسمة خاصة تستحب فيه، وإن تساووا كلهم في الجمال. وهذا الذي نعنيه بالصناعة، ونتم به مباحث هذا الكتاب.
فالعلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه، وشدة استقصائه المعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتا متفرقة يضمها سمط واحد قل أن يطرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقل أن يتوالى فيه النسق تواليا يستعصي على التقديم والتأخير، والتبديل والتحوير، فخالف ابن الرومي هذه السنة، وجعل القصيدة «كلا» واحدا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه؛ فقصائده «موضوعات» كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض، ولا تنتهي حتى ينتهي مؤداها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو خسر في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة.
ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببا من أسباب الإطالة، ولكنه لم يكن كل السبب؛ لأن ابن الرومي كان يطيل القصائد حفاوة بالممدوحين، وإكبارا لشأنهم، وإظهارا لعنايته بإرضائهم، وكان يرى فرضا عليه للممدوح أن يستصعب ولا يستسهل، فإذا طرق القوافي السهلة اعتذر من تقصيره، كما قال لعبيد الله بن عبد الله من قصيدة نيفت على سبعين ومائتي بيت:
كل مدح في غيركم فمثاب
ما أثيبت عبادة الأوثان
هاكها، لا أقول ذاك مدلا
قول ذي نخوة بها وامتنان
بين أثنائها مديح نفيس
من لبوس الملوك والفرسان
ذو قواف كأنها حلق الأصد
اغ في البيض من خدود الغواني
راق معنى ورق لفظا فيحكي
رائق الخمر في رقيق الصحان
إن تكن سهلة القوافي فليست
في المعاني بسهلة الوجدان
فابتذلها في يوم لهوك واعلم
أنها بعد من ثياب الصيان
وابسط العذر في ارتخاص القوافي
واتباعي سهولة الأوزان
أنت ألجأتني إلى ما تراه
بالذي فيك من فنون المعاني
أي وزن وأي حرف روي
لهما بالمديح فيك يدان
ضاق عن مأثراتك الشعر إلا
فاعلات مفاعل فاعلان
ليس مدح يفي بمدحك إلا
صلوات المليك في القرآن
لا ولا حمد كفء نعماك إلا
حمد سبع من الكتاب مثان
أو كما قال لأبي القاسم التوزي الشطرنجي من قصيدة ناهزت مائة وخمسين بيتا:
ولك العذر مثل قافيتي في
ك اتساعا فإنها كالفضاء
وتأمل فإنها ألف الم
د لها مدة بغير انتهاء
وله رأي في إطالة الشعراء وإطالته يقول فيه:
كل امرئ مدح امرأ لنواله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
عند الورود لما أطال رشاءه
غيري فإني لا أطيل مدائحي
إلا لأوفي من مدحت ثناءه
وأعد ظلما أن أقل مديحه
عمدا وأسخط إن أقل عطاءه
على أنه كان يستريح إلى الإطالة كما يستريح الجواد الكريم إلى سعة المضمار؛ لأنها تشبه لذة القدرة على النظم، والتمكن من اللغة، وتنفي ظنة العجمة التي كانوا يعيرونه بها، ويتهمونه في شعره من أجلها. فلغبطة في نفسه - لا لإرضاء الممدوح وحده - كان يركب القوافي الصعبة، ويتعمد رياضة الحروف العصية، فيذل له أعصاها حتى الثاء والخاء والذال والزاي والظاء والغين والهاء، وغيرها من الحروف النادرة في الروي الناقصة في شعر أقدر الشعراء، وكانت فيه غيرة القول، ونخوة المنافسة، وهمة الوثوب إلى الغاية، فكان هذا الجواد الكريم يأرن للسباق كلما مرت به خيل السباق، فإذا سمع الكلام الجيد لم يبرح أن يعارضه بكلام من بحره وقافيته ومعناه، ولم ينس أن يجرب قوته إلى جانب كل قوة، ويحرك شاعريته إلى جانب كل شاعرية؛ ففي ديوانه معارضات كثيرة للنابغة وأبي مسلم وأبي نواس والحمدوني ودعبل وغيرهم ممن تروى لهم الأبيات المستحسنة والحكم المأثورة، ومثل هذا لا يقصر في المضمار إذا نشطت القريحة، وتفتحت أشواط الكلام.
وحبه هذا للمعارضة وتجربة القدرة هو الذي كان يدعو إلى النظم في هذا المعنى أو ذاك من المعاني الطريفة التي كانت تروقه في شعر بعض الشعراء؛ كالمتأنق المغرم باللبس الجميل يستملح الكساء على لابسه، فيود لو يكون له كساء من طرازه وصنفه، ولكنه لا يفكر في سرقته واغتصابه، مثال ذلك: قال أبو تمام:
غربته العلى على كثرة الأه
ل فأضحى في الأقربين جنيبا
فأعجب هذا المعنى ابن الرومي فقال فيه:
رب أكرومة له لم نخلها
قبله في الطباع والتركيب
غربته الخلائق الزهر في النا
س وما أوحشته بالتغريب
وقال:
أعاذك أنس المجد من كل وحشة
فإنك في هذا الأنام غريب
وقال:
فآنس الله نفسا أنت صاحبها
فإنها من معاليها بمغترب ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لولا عجائب لطف الله ما نبتت
تلك الفضائل في لحم ولا عصب
وقال:
وحيد فريد في المحامد آنس
بوحدته مستأثر بالفضائل
وقال:
الله يكلؤه والله يؤنسه
فإنه بمعاليه قد اغتربا
ويروي صاحب الأغاني بيتا آخر نظر إليه ابن الرومي مثل هذه النظرة؛ إذ يقول إبراهيم بن العباس:
لفضل بن سهل يد
تقاصر عنها الأمل
فباطنها للندى
وظاهرها للقبل
فيقول ابن الرومي:
أصبحت بين خصاصة ومذلة
والمرء بينهما يموت هزيلا
فامدد إلي يدا تعود بطنها
بذل النوال وظهرها التقبيلا
وجاء في الجزء الثالث من زهر الآداب أن الحسين بن الضحاك أنشد أبا نواس قوله:
كأنما نصب كأسه قمر
يكرع في بعض أنجم الفلك
فنعر نعرة منكرة، فقال له الحسين: ما لك؟ فقد رعتني! قال: هذا المعنى أنا أحق به منك، ولكن سترى لمن يروى، ثم أنشده بعد أيام:
إذا عب فيها شارب القوم خلته
يقبل في داج من الليل كوكبا
قال صاحب زهر الآداب: وقال ابن الرومي فكأن أحسن منهما:
أبصرته والكأس بين فم
منه وبين أنامل خمس
فكأنها وكأن شاربها
قمر يقبل عارض الشمس
فهذه المآخذ القليلة جدا في شعره تعاب، ولكنها أخلق بأن تعد من المعارضة والمسابقة، ولا تعد من السرقة والغصب، أو هي على كل حال ليست من سرقة المعدم الذي لا رزق له إلا رزق غيره؛ لأنها لو سقطت من شعره جملة، وسقط معها عشرة أضعافها لما نقصت ثروته، ولا مست قدرته على التوليد والابتكار أقل مساس، ولو جازت المقاصة في هذا الباب لكان ابن الرومي دائنا طالبا، ولم يكن مدينا مطلوبا؛ لأن ما أخذ من الشعراء أقل بكثير مما أخذه منه الشعراء.
وهناك المعاني الشائعة والنكات الشعبية العامة التي ليست لأحد، ولكنها لكل أحد؛ أي التي يأخذ منها كل إنسان، ويضيف إليها كل إنسان، أو التي هي كالهواء يتساوى منه نصيب من يشاء، فمن هذه المعاني الشائعة حتى في هذا الجيل، وحتى بين الأميين الذين لا يقرءون الشعر والأدب، أن اللحية تشبه بالمخلاة، وينسب إلى سعيد بن وهب في كتاب الوزراء والكتاب أنه قال في قصة لا محل لذكرها هنا:
قل لمن رام بجهل
مدخل الظبي الغرير
بعدما علق في خد
يه مخلاة الشعير
ليته يدخل إن جا
ء من الباب الكبير
وفي كنايته عن اللحية «بمخلاة الشعير» على هذه الصيغة ما يفيد أن النكتة «معهودة»، وأن الإشارة إليها على هذا النحو غمزة مفهومة، فمن الخطل في النقد أن يقال: إن ابن الرومي عمد إلى بيت سعيد بن وهب فسرقه حين قال:
علق الله في عذاريك مخلا
ة ولكنها بغير شعير
فإن سعيد بن وهب وابن الرومي في هذا الاقتباس يستويان، ويزيد ابن الرومي بتصرف جديد في المعنى، وهو أن المخلاة فارغة.
وقد يلحق بهذا قول صاحب الصناعتين بعدما أورد البيتين الآتيين مثلا للمبالغة في الهجاء:
يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد
فهو يقول: «والناس يظنون أن ابن الرومي ابتكر هذا المعنى، وإنما أخذه مما حكاه أبو عثمان ... أن بعضهم قبر إحدى عينيه وقال: إن النظر بهما في زمان واحد إسراف.» فصاحب الصناعتين أصاب حين نفى ابتكار ابن الرومي للمعنى، ولكن من تراه أولى منه بفضل الابتكار؟ ولقد كان ابن الرومي يخطئ لو أنه عدل عن نظم معناه هذا لأن أبا عثمان سبقه بتلك الحكاية، فحسبه منه أنه تصرف فيه، وأنه مسح المبالغة عنه؛ لأنه لم يقل: إن «عيسى» يتنفس من منخر واحد، ولكنه قال: إنه لو استطاع لفعل!
لكن الحذلقة التي لا يقاس إليها شيء من هذا هي زعم بعض النقاد أن ابن الرومي سرق البيتين اللذين أنشأهما قبيل وفاته؛ وهما:
غلط الطبيب علي غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب، وإنما
خطأ الطبيب إصابة المقدار
فأبو عبد الله بن عبدوس الجهشياري صاحب «كتاب الوزراء والكتاب» يروي عن علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - أنه قال: «إذا نقصت المدة كان الهلاك في العدة.» ثم يزعم أن ابن الرومي سرق البيتين من هذه الكلمة، وصاحب زهر الآداب يزعم أنه أخذهما من يحيى بن خالد حين «دخل على الرشيد فأخبر أنه مشغول فرجع، فبعث إليه الرشيد: خنتني فاتهمتني، فقال: إذا نقصت المدة كان الحتف في الحيلة، والله ما انصرفت إلا تخفيفا .»
ولا نظن أن عصرا مضى من عصور الإسلام خلا من أناس يؤمنون بأن الحذر لا يغني من القدر، أو يقول عامتهم كما يقول العامة في زماننا: «وقت القضا يعمى البصر.» فقول ابن الرومي: إن «خطأ الطبيب إصابة المقدار» إنما هو عقيدته لا يزعم أحد أنه سرقها، إلا إذا زعم أن المسلم في هذا العصر يسرق عقائده من المسلمين في العصور السابقة! ثم يبقى بعد ذلك أن قوله: «خطأ الطبيب إصابة المقدار.» هو أبلغ تعبير جديد عن ذلك المعنى القديم. وما كان النقاد ليتورطوا في مثل هذا النقد لولا أن التعسف في إظهار السرقات كان في زمن من الأزمان - أو في زمن الجمع والتأليف - آيتهم على سعة الرواية والعلم بأقدار الشعراء. •••
وتلاحظ في صناعة ابن الرومي لازمة الأفعال المزيدة والمشتقات التي يستخدم منها من جميع الصيغ والأوزان: فأسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان، وصيغ التفضيل والمبالغة والصفات المشبهة والمصادر تكثر في شعره كثرة لم نلاحظها في شعر غيره، ونحسب أن الإفراط في استخدام المشتقات والأفعال المزيدة هو الوسيلة التي لا بد منها للشاعر العربي الذي يريد أن يتناول المعنى من جميع نواحيه، ويتدرج به في مختلف درجاته؛ إذ ليس في اللغة العربية ظروف كالظروف التي يشتقها الإفرنج من معظم الصفات والأسماء بإضافة صغيرة في أول الكلمة أو في آخرها فتدل على المعنى المقصود، وتدل كذلك على اختلاف الدرجة والقوة في أداء ذلك المعنى؛ فإذا أراد الشاعر العربي أن يلتفت إلى هذه الفروق، فلا بد له من الاستعانة على ذلك بالمشتقات والأفعال المزيدة كما كان يفعل ابن الرومي، إلا أنه كان يسرف في جمعها معا حتى تنبو بها الأذن في بعض الأبيات كقوله:
صاغة صواغة صيغا
بدعا لم تلق في خلد
أو قوله:
أبصر بيضاء في القذال فلا
نفر كنفر رأيته نفره
أو قوله:
يترك بالحول حول حولها
وهو سواء وموق مائقها
أو قوله:
قلت: إن تغلبوا بغالب مغلو
ب فحسبي بغالب الغلاب
وهي ركاكة منه كان ينساها في استطراده، وربما كان يهونها عليه وسواسه؛ لأن طبيعة الموسوس لا تنفر من التكرار كما تنفر منه سائر الطبائع، على أنه كان يجمع بعض المشتقات والحروف المتشابهة المخارج فتساغ - وقد تستحسن - في أصعب القوافي، كما قال في الجيمية:
سلام وريحان وروح ورحمة
عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت ربه
يرف عليه الأقحوان المفلج
فإن للراء والحاء راحة في القلب تزداد بالتكرار، وتمهد لما بعدها من الظل الممدود، والتضعيف المقبول في هذه القافية العصية، أو كما قال من قافية الخاء:
يا صارخا في جموع ليس تصرخه
للظالمين غدا في النار مصطرخ
أو من قافية الفاء:
ومنعم كالماء يشفي ذا الصدى
كشفائه ويشف مثل شفيفه
ويوقعه الاستطراد - ولك أن تقول: الاستغراق في المعنى - تارة في إهمال اللفظ، وتارة أخرى في الأساليب النثرية التي لا ينفسح غيرها للإسهاب والإطناب والتفصيل والتفريع والمراجعة والاستدراك، فينظم في هذه الحالة وكأنه ينثر، إلا أنه لا يخلو من الشاعرية، ولا يسف إلى طبقة «المتن» المنظوم و«الألفيات» التي ليس فيها من الشعر إلا أنها موزونة مقفاة.
ومع هذا تستطيع أن تقول: إنه لم يجعل اللفظ شغلا شاغلا في صناعته، ولم يحفل به إلا لأداء المعنى الذي يريده، فيخيل إليك وأنت تطرد في قراءته أنه يرتجل القصائد ارتجالا، ويفيض بها فيضا لمطاوعة لفظه وغزارة مدده، فهو يجيد في تركيب أبياته وإحكام قوافيه، ولكنه لا ينتزع الإجادة بالجهد والترويض، وما عليه إلا أن يعني ما يقول، فيقول ما يعني بغير إخلال ولا التواء، وما عليه إلا أن يرسم فيجيء البناء على ما رسم، وتقوم الأركان على ما دعم.
ومن الشعراء من تلمح له الكلمة في قصيدة وكأنها تمن على الشاعر بفضل وتستطيل بدالة؛ لأنها أطاعته ولبت رجاءه، ورضيت بمقامها في حظيرته، فإذا بحثت عن أمثال هذه المفردات والتراكيب في قصائد ابن الرومي، فلست واجدها هناك؛ لأن كلماته تقبل إلى مواضعها، وكأنها تعلم أن الفضل في مقامها للشاعر لا لها، وأن الدالة في اختيارها له لا عليه، ومن ثم لم يشغل باللفظ ، ولم يبد على معناه أثر الجهد فيه، وبهذا سلم من لعب الجناس اللفظي والمحسنات المموهة مع أنه نشأ في العصر الذي نشأت فيه هذه المحسنات. وعجيب هذا منه وهو المتطير الذي كان يلقي باله إلى أقل تجانس في الكلمات، وأضعف تشابه في الحروف؛ ليستخرج منه النذر والبشائر، ويعلق عليه القنوط والأمل، ولكنه عجيب في الظاهر دون الحقيقة؛ لأنه إنما كان يبالي بالكلمات حين كان يأخذها مأخذ المتطيرين، وهي حينئذ لها معنى عنده، ومن ورائها نبأ، وفيها شعور، فليست هي خواء ولا تمويها، ولا بهرجا زائفا كبهرج العابثين والمزوقين، إنما كان يجانس لمعنى يراه هو، ويراه من يتطير مثله، ولا يجانس لتزويق فارغ ولهو سخيف، فإذا لم يكن متطيرا فلا جناس ولا اكتراث باللفظ إلا لما فيه من معنى ظاهر مستقيم، وما له من فصاحة ونضارة، أو يتفق له جناس اللفظ كما كان يتفق للشاعر الجاهلي والشاعر المخضرم قبل عهد التنميق والصناعة، فلا غرابة في أن نجد له أو لشاعر مخضرم مثل هذا البيت:
فيسبيك بالسحر الذي في جفونه
ويصبيك بالسحر الذي هو نافثه
أو مثل هذا البيت:
تصيبك إن حكمت وإن طلبنا
لديك العرف كنت حيا تصوب
أو مثل هذا البيت:
ليس ينفك طيرها في اصطحاب
تحت أظلال أيكها واصطخاب
وهكذا كان في كل تجنيسه الذي لا تعسف فيه، وليس هو بالكثير البارز في ديوانه الكبير، فإذا جنس في غير ذلك فهو عابث متعمد للعبث، وليس بملفق محسنات ولا بطالب تزويق كما قال:
لو تلففت في كساء الكسائي
وتلبست فروة الفراء
وتخللت بالخليل وأضحى
سيبويه لديك رهن سباء
وتكونت من سواد أبي الأس
ود شخصا يكنى أبا السوداء
لأبى الله أن يعدك أهل ال
علم إلا من جملة الأغبياء
فالذي يقرؤه هنا لا يخطر له بتة أنه يزوق ويزخرف، ولا يشك لحظة في أنه يعبث ويهزل، وأنه لا يحاول أن يبيع الناس بهرجا بثمن ذهب، وعرضا بثمن جوهر.
أما ما يستشهد به البديعيون من كلامه كقوله في غير الجناس :
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
في الحادثات إذا دجون نجوم
فيها معالم للهدى ومصابح
تجلو الدجى والأخريات رجوم
فهو أقرب إلى التقسيم الفلسفي منه إلى محسنات اللفظ وترصيعاته.
وغني عن القول أننا لم نقصد بما تقدم أن ابن الرومي كان على سذاجة الجاهليين والمخضرمين في صوغ الشعر، وفهم فنون البلاغة، فإن هؤلاء كانوا يأتون بالقول البليغ ولا يعرفون علته، وكانوا يطربون للشعر ولا يتوخون مذاهب نقده، وليس في وسع شاعر عباسي أن يكون كذلك بعدما أولع القوم بالبحث في جميع العلل والأسباب، واصطلحوا في البلاغة على الحدود والأسماء، وخرجوا من حالة «العفو» إلى حالة «الوعي»، ومن سهو الجنة التي كانوا غافلين فيها عن النعيم والعذاب والخجل والعيب إلى يقظة الدنيا التي يؤخذون فيها بالتكاليف، ويدركون فيها المحاسن والعيوب، وابن الرومي أولى ألا يكون على تلك السذاجة الجاهلية أو المخضرمة، وألا يسهو عن محاسن كلامه وعيوبه، وهو الذي لم يسه قط عن شيء فيه، ولم يكن له من هم إلا أن يحصي خطرات ذهنه وخلجات فؤاده، فهو شاعر ناقد، وبليغ له مذهب في البلاغة، ورأي في المعاني، وحجة في الاختيار، ونوادره في ذلك قليلة، ولكن النادرة التي ننقلها بعد كافية للإبانة عن وجود هذه الملكة فيه، وعملها في نقد كلامه ونقد كلام غيره؛ قيل: إنه سمع هذه الأبيات:
أيها الظبي المليح ال
قد مجدول مهفهف
أنا من ميلك في مش
يك مرعوب مخوف
لا تميلن فإني
خائف أن تتقصف
وهي لابن أبي فنن،
1
فقال في البيت الآخر: إنما أراد منه أن يميل من لينه ونعمة أعضائه، فأسرف حتى أخطأ، وذلك أنه جعل اللين المفرط يتقصف، وإنما كان ينبغي أن يقول: لو عقد لانعقد من لينه، فضلا عن أن يميل وهو سليم من التقصف، ثم أسرع إلى معارضة القائل بهذين البيتين:
أيها القائل: إني
خائف أن تتقصف
ليس هذا الوصف إلا
وصف مصلوب مجفف
فملكة الابتكار في ابن الرومي كانت مصحوبة بملكة الانتقاد، وفصاحته كانت فصاحة الذي يحاسب نفسه ويحمل تكليفه، لا فصاحة غير المكلفين في جنة السهو والتوفيق!
كذلك لا يفهم من سهولة شعره وتدفقه، وأخذ بعضه بأطراف بعض أنه كان قليل التهذيب له والرجعة إليه، فربما فرغ من القصيدة وأفضى بها إلى ممدوحه، ثم عاد إلى تنقيحها والزيادة عليها، وردها مرة أخرى، كما فعل في المهرجانية التي تتبعها، وأطالها وكتب في ذلك يعتذر إلى عبيد الله بن عبد الله.
قصيدة كرها مثقفها
عليك إن ثقفت على مهل
أعجلها الوقت عن رياضتها
فأقبلت ريضا على عجل ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
لم أحتشم كرها عليك ولا
سدي منها مواضع الخلل
لأنني عالم بأنك لا
تعتب فيما أصلحت من عمل
وليس مثلي ينام عن خلل
في مدح ممدوحه ولا زلل
على أنه - لطول رياضة الكلام الموزون - قد أسلست له طريقة في النظم يقسر بها المعنى على الظهور، ولو اضطر إلى الحشو واللف والاعتراض، فلا تشعر إلا وقد استدار له البيت على أحسن تركيب، وأصبح الحشو في يديه حسنا يزيد المعنى ولا يعيبه؛ فإذا أراد أن يقول: لا تكذب الأخبار بالهوى، ولم يساعده الوزن، قال:
لا تكن بالهوى تكذب بالأخبار
ر حتى تهين ما لا يهان
فأكسب المعنى قوة لم تكن له في عبارته البسيطة؛ لأنه حين صاغ البيت هذه الصياغة كأنما ينهى عن «خلق» التكذيب لا عن «فعل» التكذيب مرة واحدة أو مرات، فمعنى «لا تكن مكذبا الأخبار بالهوى» غير معنى «لا تكذب الأخبار بالهوى»؛ لأن العبارة الأولى: تفيد زيادة في النفي لا تدخل في مدلول العبارة الثانية؛ تفيد النهي عن «طبيعة» التكذيب، أو عن أن «يكون» الإنسان مكذبا، ولا تقتصر على استنكار التكذيب في هذه الحادثة أو في تلك.
وإذا أراد أن يقول: إن البوم أفشل الطير، وحال الوزن دون هذا المعنى البسيط قال:
واعتبر أن أفشل الطير في الطير
وفينا كروسات البوم
فبلغ في إظهار فشل البومة ما لا تبلغه العبارة الأولى؛ لأنه بين فشلها بالنظر إلى مقاييس الطير، وبالنظر إلى مقاييس بني الإنسان، فهي فاشلة كما يراها نظائرها في عالم الطيور، وفاشلة كما نراها نحن في عالمنا الإنساني، وذلك معنى لا تجده في قول من يقول: إن البومة أفشل الطوائر، وتلك كانت طريقته في الحشو «المبارك» المقبول، وفي تدوير النظم حتى يستدير له على أحسن تقويم. •••
وقد كان ابن الرومي كأبناء عصره يقدم الغزل بين يدي مدحه ووصفه جريا على سنة لم يكن في ثقافة عصره ما يدعوه إلى استغرابها، والنظر في تنقيحها، إلا أنه يعمل هذه السنة ويتصرف في تقديم الهجاء بالغزل، فلا يقصره على الوصف والمديح، فيخرج بذلك بعض الخروج من حكم التقليد والمحاكاة العمياء، ويختار لصناعته بعض الاختيار.
ألم تر أنني قبل الأهاجي
أقدم في أوائلها النسيبا
لتخرق في المسامع ثم يتلو
هجائي محرقا يكوي القلوبا
وقد يتصرف غير هذا التصرف كما قال:
واشغل قريضك بالنسيب
وبالفكاهة والمزاح
كذلك كان يحكي أبناء عصره في تصعيب اللفظ وتعمد الغريب حين كان ينظم في الطرد، ووصف الأسد وما إليه؛ لأن الشعراء العباسيين جعلوا الطرد خاصة معرضا للبداوة الشعرية، والفحولة العربية، فكانوا في ذلك على حد ما يقال عربا أكثر من العرب، وجاهليين أكثر من الجاهليين.
أما لفظه من حيث هو صحيح وخطأ، فلفظ عالم بالنحو مطلع على شواهد العربية ولا سيما في القرآن، ومن هنا لم يذكر كلمة «أشياء» إلا ممنوعة من الصرف، وهي مصروفة في قول بعض القياسيين من النحاة؛ لأنها جمع شيء، فهي أفعال جمع فعل، وليست فعلاء مؤنث أفعل التي تمنع من الصرف، فمن المواضع التي وردت فيها الكلمة قوله: «حرمت بالمشيب أشياء حلت.» وقوله: «قبحا لأشياء يأتي البحتري بها.» وقوله:
فيك أشياء لو وجدن قديما
نظمتها الملوك في التيجان
وقوله:
فيك أشياء من يواليك مسر
ور بها والعدو منها مغيظ
وقوله:
وإليك الشكاة منها ومن أش
ياء تبتز ذا الحجا معقوله
وقوله:
يا حور ما للحبيب يفعل بي
أشياء لا يستحلها الحرج
وقوله:
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
وإنما تابع المفسرين في هذا ولم يتابع القياسيين من النحاة؛ لأن كلمة أشياء وردت في سورة المائدة ممنوعة من الصرف، إذ جاء في الآية:
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم
بفتح الهمزة في أشياء، وتعليل المفسرين لذلك «أن أشياء هنا اسم جمع كطرفاء، غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء، وقيل: أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء كهين أو شيء كصديق فخفف.» وهذه المخالفة للنحاة القياسيين هي كما ترى أدل على العلم منها على الخطأ، فلم يكن ابن الرومي ممن يسهل وقوعهم في الخطأ النحوي، وإلا ظهر منه ذلك في مواضع شتى مع إطالته وإكثاره، وجرأته على تذليل النحو لمراده، ونقول: جرأته لأننا لا نعد من خطأ الجهل قوله:
دعني وإيا أبي علي
الأعور المعور الخبيث
إذ لا يخفى على المبتدئ أن «إيا» ضمير فصل يتصل بالضمائر الموصولة، ولا يتصل في الكلام الفصيح بالأسماء، فابن الرومي إذا وصل الضمير المفصول بالاسم لا يفعل ذلك جهلا بالقاعدة التي يعلمها المبتدئون، وإنما يفعله وهو مجترئ عليه عالم بمكان هذه الكلمة من الخطأ والصواب. وعلى ذكر التجوز في صرف الممنوع ومنع المصروف نقول: إن ابن الرومي كان من أقل الشعراء تجوزا في «عروضه»، وأكثرهم حرصا على أوزانه، ولا بأس بأن نذكر له هنا بيتين قالهما في مرض وفاته، ورواهما عنه أبو عثمان الناجم؛ وهما:
أبا عثمان أنت قريع قومك
وجودك للعشيرة دون لومك
تمتع من أخيك، فما أراه
يراك ولا تراه بعد يومك
فقد ذكرهما المعري في رسالة الغفران، فعاب عليهما أنهما مقيدان وقال: «وما علمت أنه جاء عن الفصحاء هذا الوزن مقيدا إلا في بيت واحد يتداوله رواة اللغة، والبيت:
كأن القوم عشوا لحم ضأن
فهم نعجون قد مالت طلاهم
وهذا البيت مؤسس، والذي قاله ابن الرومي من غير تأسيس.»
والحق أنه لا خلل في وزن البيتين من حيث العروض، وإنما كان المعري في نقده هذا أشبه بالفقهاء منه بالأدباء، ولو اختل البيتان أشد خلل لما قيست بهما صناعة ابن الرومي في جميع شعره؛ لأن المرء لا يقاس بنظم مرتجل يلقى به إلقاء وهو يجود بنفسه. •••
وقد تلاحظ على ابن الرومي تعبيرات كالتي تسمى في عصرنا هذا بالتعبيرات الإفرنجية في مثل البيت:
كما لو هجاكم شاعر حل قتله
كذاك فأوفوا مادحا دية القتل
وقد يلاحظ ذلك في إكثاره الهتفات مثل قوله: «ضلة! ضلة»، «سوأة، سوأة»، و«في سبيل الشيطان منك نصيبي» إلى أشباه ذلك من اللفظات الكثيرة في تعبيرات اللغات الأوروبية، فيرد على الخاطر أنه كان لهذا يعرف الإغريقية ويتأثر بها في أسلوبه، أو يرد على الخاطر أن هذه التعبيرات من أثر العجمة في سليقته، والعادة في لسانه، ولكنها ملاحظة لا تستلزم هذه النتيجة، ولا نستطيع أن نعززها بملاحظات أخرى من قبيلها، ومن السهل جدا أن نقول: إن أمثال تلك التعبيرات القليلة سرت إلى ابن الرومي من دراسة الكتب المترجمة، ومعالجة التدليلات المنطقية في كلامه ومساجلاته، وإن الهتفات مألوفة فيمن كان له مزاج كمزاجه المتوفز، عربيا كان أو أعجميا بلا خلاف؛ ذلك أسهل من القول باللغة الأعجمية الذي استضعفناه فيما تقدم من الكلام على تعليم الرجل ومعلوماته. •••
في أي باب من أبواب الشعر كان ابن الرومي يجيد خاصة؟
سؤال لا بد أن يخطر لنا في معرض الكلام على صناعته وأسلوبه، وأرى أن الكثيرين سيقولون - أو قد قالوا: إنه هو باب الهجاء؛ لأنه اشتهر به وشاع أنه مات بسببه، فلنعلم إذن أنهم مخطئون في هذا الحكم؛ لأن ابن الرومي كان يجيد في أبواب الشعر كلها على حد سواء، ويعطي قصائده جميعا بمقدار واحد من عنايته وإتقانه.
وخذ مثلا أقواله في الحكمة، وهي أقل ما اشتهر به، تجد له مئات من الأبيات التي تسير مسير الأمثال، وتخرج من عداد تلك الأفكار المطروقة التي يتفيهق بها من يحبون الاشتهار بالبيت الحكيم والمثل السائر، ولو أننا رجعنا إلى أبياته التي مرت بنا في هذا الكتاب لما ألفينا بينها تفاوتا في الطبقة بين غرض وغرض، وباب وباب، وإنما اشتهر بالهجاء لأن الهجاء أشهر وأسير؛ لا لأنه يجيد فيه أكثر من إجادته في المديح أو في الغزل أو الصفات، فلو أن الألسن تتساير بالوصف البارع كما تتساير بالهجاء اللاذع لغطى وصف ابن الرومي على هجائه؛ لكثرة ما قال وأجاد في الوصف حتى خلال قصائد الهجاء.
وأغرب من هذا الاستواء في طبقة القول أنك تقرأ الأبيات التي مرت بك في هذا الكتاب فتحسب أنها نظمت كلها في عمر واحد، ولا تدري أيها شعر الشباب وأيها شعر الكهولة والشيخوخة، إلا ما يندب فيه شبابه ويتبرم بسنه، فانظر مثلا إلى الأبيات التالية:
قل لأيوب والكلام سجال
والجوابات ذات يوم تدال
اسكتوا بعدها فلا تذكروا الشؤ
م، حياء، فأنتم الآجال
إن شؤمي فيما تقولون عزا
ل، ولكن شؤمكم قتال
بالذي أدرك المؤيد منكم
وابن سعدان تضرب الأمثال
زرتموه والصالحات عليه
مقبلات فأدبر الإقبال
حين درت له أفاويق دنيا
ه دلفتم له فكان الفصال
إن شؤما حلت به عقدة المل
ك لشؤم تزول منه الجبال
ليس بدعا من الحوادث أن يع
زل وال وتخفق الآمال
إنما البدع أن تزول أمور
لم يكن يهتدي إليها الزوال
كالذي حاق بالمؤيد منكم
بعدما نوطت به الآمال
ذلك الشؤم يا بني أم شيخ
يمكن القائلين فيه المقال
ذاك شؤم فيه سمام الأفاعي
ناجز النقد، ليس فيه مطال
ذاك شؤم كالسيل عفى على الفط
ر جلال كما يكون الحلال
ذاك شؤم لو جاور البحر يومي
ن لأمسى وليس فيه بلال
فهذه قطعة نظمها في نحو الثلاثين من عمره؛ لأنها نظمت في نكبة «المؤيد»، فقابل بينها وبين القطعة التالية التي نظمها وهو في الخامسة والخمسين:
كبرت وفي خمس وخمسين مكبر
وشبت، فألحاظ ألمها عنك نفر
إذا ما رأتك البيض صدت وربما
غدوت وطرف البيض نحوك أصور
وما ظلمتك الغانيات بصدها
وإن كان من أحكامها ما يجور
أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا
بعينيك عنك الشيب فالبيض أعذر
إذا شنئت عين الفتى وجه نفسه
فعين سواه بالشناءة أجدر
أو قابل بينهما وبين هذه القطعة التي نظمها قبيل وفاته على لسان العزير:
أيادي بني الجراح عندي كبيرة
وأكبر منها أنها لا تكدر
هم القوم ينسون الأيادي منهم
عليك، ولكن المواعيد تذكر
وإن كنت قد أهملت بعد رعاية
وأغفلت حتى قيل: أشعث أغبر
وقلدت شغلا ضره لي معجل
سريع، وأما نفعه فمؤخر
أروح وأغدو فيه أنصب عامل
وأصفره كفا، فكم أتصبر؟! ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
أيعطش أمثالي وواديك فائض
ويجدب أمثالي وواديك أخضر؟!
أبى ذاك أن الطول منك سجية
وأنك بيت الحمد بالطول تعمر
وأنك لم تؤثر على الحق لذة
بحكم هوى، فالحق عندك مؤثر
وما زلت تختار الأمور بحكمة
فأفضلها الأمر الذي تتخير
فانظر حين تقرن هذه الأبيات بعضها ببعض هل ترى بينها من تفاوت في الصناعة، أو اختلاف في روح الشعر، ونسج الكلام، وطريقة التركيب، وتناول المفردات؟ فهي وغيرها من قصائده التي نظمت من العشرين إلى الستين طبقة واحدة من هذه الناحية، لا تستطيع أن تتحقق فيها مزية سن على سن، ولا فترة على فترة، وتعليل ذلك صعب في الشعراء المطبوعين غير ابن الرومي. أما هو فلا صعوبة في تعليل هذا الاستواء في تركيبه، والتشابه في روحه ونسجه؛ لأنه ينسج من غزل واحد وبضاعة واحدة، وهي الشعور الجديد أو شعور الطفولة الفنية التي لازمته في حياته من المبدأ إلى النهاية، فلم يتغير فيه إلا القليل بعدما درس نصيبه من اللغة والعلم، واستوفى مادته من الفن والصياغة، وكأنه الشجرة التي نضجت مبكرة، وبلغت تمامها، ورسخت في تربتها، فثمرتها اليوم كثمرتها بعد سنوات عشر أو بعد عشرين وثلاثين. ولا عيب في ذلك إلا أن تكون الثمرة بسرا لا خير فيه. أما إذا كانت ثمرة جنية كأطيب الثمر في النضرة والحلاوة، فالتبكير إذن أصلح من التأخير، والبقاء على طبقة واحدة أحب وأكمل من التغيير.
فالكلمة الأولى والأخيرة في هذا العبقري النادر أنه كان شاعرا في جميع حياته، حيا في جميع شعره، وأن الشعر كان لأناس غيره كساء عيد وحلة موسم، ولكنه كان له كساء كل يوم وساعة، بل كان له جسما لا تكون بغيره حياة.
خاتمة
بالكلام عن صناعة ابن الرومي تمت الصورة التي استخرجناها له من مجموعة شعره، ومتفرق أخباره، وحسبنا أن نتمم هذه الصورة لنكون قد بلغنا الغاية من وضع هذا الكتاب، وأقمنا - في عرض الطريق - أوضح الأدلة المحسوسة على وحدة المقاييس بين تعبيرات الشعر وتعبيرات الحياة. ونحسب أننا قد أقمنا هذا الدليل في وقت الحاجة إليه عند قراء الأدب الغربي بيننا قبل قراء الأدب العربي وحده بفرعيه من قديم وحديث؛ لأننا نعيش في عصر شاع فيه بين كثير من الأوروبيين أن الشعر شيء بمعزل عن خوالج الحياة، وأننا لا ينبغي أن ننتظر منه مطلبا آخر غير الرونق والطلاوة، وما إلى ذلك من ظواهر قسامة لا تتجاوز البشرة إلى ما وراءها من قلوب ونفوس وضمائر.
وغير عجيب أن يشيع هذا الرأي الفائت بين الأوروبيين في العصر الذي نحن فيه، وهو عصر السآمة و«الفردية» وآداب الصالونات والمجالس، إذ ماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان قد سئم المثل العليا، وكذب بالأغراض الرفيعة، وفترت فيه قوة العقيدة؟ وماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان تفرض عليه «الفردية» أن يظل فردا معزولا بين أفراد معزولين؟ وماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان أنيق لا يريد أن يسمع من جليسه في الصالون أو النادي أو القهوة إلا شقشقة لسان وأحاديث فراغ؟ إنك لا تنتظر من هذا الإنسان أن يتطلب في الشعر ما يتطلبه الإنسان الذي تنشط نفسه للعقيدة، ولو نشاط المكافحة والثوران، أو يطلبه الإنسان الذي تتصل بينه وبين الأحياء من حوله وشائج دم لا تزال تنقل منه إليهم كما تنقل إليه، أو يتطلبه الإنسان الذي يحس أن الكون مجال حياة وأسرار يولد فيه مخلوقا حيا عريق الأصول في آباد ليس لها نهاية، لا عضوا في «صالون»، أو جليسا في قهوة، أو سميرا في سهرات مجون.
كلا، إنك لا تنتظر من إنسان السآمة والفردية والصالون أن يقرأ شعرا كالذي يقرؤه إنسان النشاط القلبي والوشائج الآدمية والكون الأبدي المستهول الوضوح والخفاء على السواء، فغير عجيب - كما قلنا - أن يشيع رأي أصحاب الرونق والطلاء في هذا العصر، وما بقي فيه للإنسان من مطلب عزيز متفق عليه غير مطلب الراحة الملساء والهدوء الناعم من مزعجات الجهاد.
فإذا كنا - مع استخراج صورة ابن الرومي من شعره - قد وفقنا لإظهار الوحدة العامة بين الشعر والحياة، أو بين الفن والحياة كلها، فذلك حسبنا من مقصد جدير بالالتفات، خليق أن يتقرر بيننا قبل أن يشيع في أذواقنا رأي السأم والأثرة وأناقة المتبطلين.
لكننا نرجو أن نكون قد وفقنا لإرضاء التاريخ إلى جانب إرضاء التصوير، وإرضاء الوحدة بين الشعر والحياة، وحسبنا في هذا أيضا أننا سندع ترجمة ابن الرومي هنا خيرا مما تسلمناها من شتات الماضي صحة في الأخبار، ورجحانا في الاحتمالات. ومن هذه الأخبار أخبار تتعلق بمولده ووفاته، وأخبار أخرى تتعلق بأخلاقه ومعيشته، ومنها أخبار تلقاها الناقلون بالتسليم وجرت في التراجم مجرى المقررات، ولا مصدر لها إلا خطأ عارض في طبع بعض التواريخ، كالخبر الذي ينقل عن ابن خلكان ويقال فيه: إن المتنبي روى عن ابن الرومي شعره، وبينهما ما بينهما من بعدي الزمان والمكان، فيأخذه الناقلون ويقبله منهم من يقبل، ويحار فيه من يحار، وإنما هو اسم «المسيبي» حرفه الطابعون إلى اسم «المتنبي»، فسرى الخطأ سريانه في الكتب الحديثة بلا شذوذ ... وغير ذلك كثير ليس يغنينا في صدد هذه الخاتمة أن تحصيه، وما شاكله ونحا نحوه في جميع المصادر والمنقولات؛ لأننا نقصد إلى تصحيح ما لاح لنا خطؤه، ولا نقصد إلى إحصائه على المخلصين. •••
وبعد فمن تمام التعريف بابن الرومي أن نختم كتابنا بمختارات له لم نعتمد فيها الدلالة التاريخية التي توخيناها في شواهد الفصول السابقة، ولا ريب أن هذه الشواهد معرض حسن تبدو فيه شاعرية المترجم في نواح كثيرة منوعة، ولكننا نعتقد أن المختارات التي تقرأ لذاتها لا لموقعها من الترجمة أحرى أن تتمم المعرفة بشاعريته من جميع نواحيها، وها هي أولاء تلك المختارات معروضة فيما يلي؛ لتدل على معدن شعره لا على أحسن ما فيه: (1) الطبيعة والحياة
الربيع شباب الطبيعة
ضحك الربيع إلى بكى الديم
وغدا يسوي النبت بالقمم
ما بين أخضر لابس كمما
خضرا، وأزهر غير ذي كمم
متلاحق الأطراف متسق
فكأنه قد طم بالجلم
2
متبلج الضحوات مشرقها
متأرج الأسحار والعتم
تجد الوحوش به كفايتها
والطير فيه عتيدة الطعم
فظباؤه تضحى بمنتطح
وحمامه تضحى بمختصم
والروض في قطع الزبرجد وال
ياقوت تحت لآلئ تؤم
طل يرقرقه على ورق
فكأنه در على لمم
حشد الربيع مع الربيع له
فغدا يهزز ثابت الجمم
3
والدولة الزهراء والزمن المز
هار حسبك شافيي قرم
إن الربيع لكالشباب وإن
ن الصيف يكسعه لكالهرم
أشقائق النعمان بين ربى
نعمان! أنت محاسن النعم
غدت الشقائق وهي واصفة
آلاء ذي الجبروت والعظم
ترف لأبصار كحلن بها
ليرين كيف عجائب الحكم
شغل تزيدك في النهار سنا
وتضيء في محلولك الظلم
أعجب بها شعلا على فحم
لم تشتعل في ذلك الفحم
وكأنما لمع السواد إلى
ما احمر منها في ضحى الرهم
4
حدق العواشق وسطت مقلا
نهلت وعلت من دموع دم
هاتيك أو خيلان غالية
أضحت بها الوجنات في ذمم
يا للشقائق إنها قسم
تزهى بها الأبصار في القسم
ما كان يهدي مثلها تحفا
إلا تطول بارئ النسم
السحاب
متهلل زجل، تحن رواعد
في حجزتيه، وتستطير بروق
سدت أوائله سبيل أواخر
لم يدر سائقهن كيف يسوق
فسجا، وأسعد حالبيه بدرة
منه - سواعد ثروة وعروق
وتنفست فيه الصبا فتبجست
منه الكلى، فأديمه معقوق
حتى إذا قضيت لقيعان الملا
عنه حقوق بعدهن حقوق
طفقت رواياه تجر مزادها
فوق الربى، ومزادها
5
مشقوق
وتضاحك الروض الكئيب لصوبه
حتى تفتق نوره المرتوق
وتنسمت نفحاؤه فكأنه
مسك تضوع، فأره مفتوق
وتغرد المكاء فيه كأنه
طرب تعلل بالغناء مشوق
روضة
وروضة عذراء غير عانسة
جادت لها كل سماء راجسة
رائحة بالغيث أو مغالسة
فأصبحت من كل وشي لابسة
خضراء ما فيها خلاة يابسة
ضاحكة النوار غير عابسة
كأنها معشوقة مؤانسة
فيها شموس للبهار وارسة
كأنها جماجم الشمامسة
تروقك النورة منها الناكسة
بعين يقظى وبجيد ناعسة
لؤلؤة الطل عليها فارسة
وخرم
6
في صيغة الطيالسة
يحكى الطواويس غدت مطاوسة
كأنما تلك الفروع المائسة
تغمسها في اللازورد غامسة
وصفوة النعمان والقوابسة
من ناصع الحمرة ريا قالسة
7
تكاد تحت الظلمات الدامسة
تهوي إليها كل كف قابسة
النرجسي
يا حبذا النرجس ريحانة
لأنف مغبوق ومصبوح
كأنه من طيب أرواحه
ركب من روح ومن روح
يا حسنه في العين يا حسنه!
من لامح للشرب ملموح
كأنما الطل على نوره
ماء عيون غير مسفوح
الهاجرة في الصحراء
وهاجرة بيضاء يعدي بياضها
سوادا كأن الوجه منه محمم
أظل إذا كافحتها وكأنني
بوهاجها دون اللثام ملثم
بديمومة لا ظل في صحصحانها
ولا ماء لكن قورها
8
الدهر عوم
ترى الآل فيها يلطم الآل مائجا
وبارحها المسموم للوجه ألطم
خابط الليل في الفيافي
وليل - غشا ليل من الدجن فوقه -
فليس لنجم في غواشيه منجم
عفا جلبه آي الهدى من سمائه
وأعلامه من أرضه فهي طسم
لبست دجاه الجون ثم هتكته
بوجناء ينميها غرير وشدقم
9
عذافرة تنقض من كل زجرة
كما انقض مردي
10
المنجنيق الململم
يخوض عليها لجة الهول راكب
هو السيف إلا أنه لا يثلم
نجيب من الفتيان فوق نجيبة
من العيس، في بهماء والليل أيهم
فريدين، يمضيها وتمضيه في الدجى
كسمراء يمضيها وتمضيه لهذم
يريها الهدى حدسا، وتنجو برحله
ودون الهدى سد من الليل مبهم
على ظهر مرت
11
ليس فيه معرج
ولكن مخب للركاب ومسعم
12
ينوح به بوم وتعزف جنة
فيعوي لها سيد ويضبح سمسم
13
يخال بها من رز هذا وهذه
إذا اختلف الصوتان عرس ومأتم
تعسفته إما لخفض أناله
وإما سآم الخفض، والخفض يسأم
الأسفار
أذاقتني الأسفار ما كره الغنى
إلي، وأغراني برفض المطالب
فأصبحت في الإثراء أزهد زاهد
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
حريصا جبانا أشتهي ثم أنتهي
بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب
ومن راح ذا حرص وجبن فإنه
فقير أتاه الفقر من كل جانب
تنازعني رغب ورهب كلاهما
قوي وأعياني اطلاع المغايب
فقدمت رجلا رغبة في رغيبة
وأخرت رجلا رهبة للمعاطب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي!
ومن أين والغايات بعد المذاهب
سفر البر
ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
وصبري على الإقتار أيسر محملا
علي من التغرير بعد التجارب
لقيت من البر التباريح بعدما
لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيت - على ري - به ألف مطرة
شغفت لبغضيها بحب المجادب
ولم أسقها، بل ساقها لمكيدتي
تحامق دهر جد بي كالملاعب
إلى الله أشكو سخف دهري؛ فإنه
يعابثني، مذ كنت، غير مطايب
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت
برحلي أتاها بالغيوث السواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلة
تمايل صاحيها تمايل شارب
لتعويق سيري أو دحوض مطيتي
وإخصاب مزور عن المجد ناكب
فملت إلى خان مرث بناؤه
مميل غريق الثوب لهفان لاغب
فلم ألق فيه مستراحا لمتعب
ولا نزلا، أيان ذاك لساغب؟
فما زلت في خوف وجوع ووحشة
وفي سهر يستغرق الليل واصب
يؤرقني سقف كأني تحته
من الوكف تحت المدجنات الهواضب
تراه إذا ما الطيب أثقل متنه
تصر نواحيه صرير الجنادب
وكم خان سفر خان فانقض فوقهم
كما انقض صقر الدجن فوق الأرانب
ولم أنس ما لاقيت أيام صحوه
من الصر فيه والثلوج الأشاهب
وما زال ضاحي البر يضرب أهله
بسوطي عذاب جامد بعد ذائب
فإن فاته قطر وثلج؛ فإنه
رهين بساف تارة وبحاصب
فذاك بلاء البر عندي شاتيا
وكم لي من صيف به ذي مثالب!
ألا رب نار بالفضاء اصطليتها
من الضح يودي لفحها بالحواجب
إذا ظلت البيداء تطفو إكامها
وترسب في غمر من الآل ناضب
فدع عنك ذكر البر، إني رأيته
لمن خاف هول البحر شر المهارب
كلا نزليه صيفه وشتاؤه
خلاف لما أهواه غير مصاقب
لهاث مميت تحت بيضاء سخنة
وري مفيت تحت أسحم صائب
يجف إذا ما الريق أصبح عاصبا
ويغدق لي والريق ليس بعاصب
فيمنع مني الماء واللوح جاهد
ويغرقني والري رطب المحالب
وما زال يبغيني الحتوف مواربا،
يحوم على قتلي، وغير موارب
فطورا يغاديني بلص مصلت
وطورا يمسيني بورد الشوارب
إلى أن وقاني الله محذور شره
بعزته، والله أغلب غالب
فأفلت من ذؤبانه وأسوده
وخرابه إفلات أتوب تائب
السفر بحرا بدجلة
وأما بلاء البحر عندي فإنه
طواني على روع من الروح واقب
14
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه
ولكنه من هوله غير ثائب
ولم لا؟ ولو ألقيت فيه وصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب!
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على نفس راكب
أظل إذا هزته ريح ولألأت
له الشمس أمواجا طوال الغوارب
كأني أرى فيهن فرسان بهمة
يليحون نحوي بالسيوف القواضب
فإن قلت لي: قد يركب اليم طاميا
ودجلة عند اليم بعض المذانب
15
فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها
وفي اللجة الخضراء عذر لهائب
فإن احتجاجي عنك ليس بنائم
وإن بياني ليس عني بعازب
لدجلة خب ليس لليم إنها
تراءى بحلم تحته جهل واثب
تطامن حتى تطمئن قلوبنا
وتغضب من مزح الرياح اللواعب
وأجرافها رهن بكل خيانة
وغدر ففيها كل عيب لعائب
يرانا إذا هاجت بها الريح هيجة
تزلزل في حوماتها بالقوارب
نوائل
16
من زلزالها نحو خسفها
فلا خير في أوساطها والجوانب
زلازل موج في غمار زواخر
وهدات خسف في شطوط خوارب
ولليم أعذار بعرض متونه
وما فيه من آذيه المتراكب
ولست تراه في الرياح مزلزلا
بما فيه - إلا في الشداد الغوالب
وإن خيف موج عيذ منه بساحل
خلي من الأجراف ذات الكباكب
ويلفظ ما فيه، فليس معاجلا
غريقا بغت يزهق النفس كارب
يعلل غرقاه إلى أن يغيثهم
بصنع لطيف منهم خير صاحب
فتلقى الدلافين الكريم طباعها
هناك رعالا عند نكب النواكب
مراكب للقوم الذي كبا بهم
فهم وسطه غرقى وهم في مراكب
وينقض ألواح السفين فكلها
منج لدى نوب من الكسر نائب
وما أنا بالراضي عن البحر مركبا
ولكنني عارضت شغب المشاغب (2) الطرد والقنص
صبر الطير
وقد أغتدي للطير والطير هجع
ولو أوجست مغداي ما بتن هجعا
بخلين تما بي ثلاثة إخوة
جسومهم شتى وأرواحهم معا
مطيعين أهواء توافت على هوى
فلو أرسلت كالنبل لم تعد موقعا
إذا ما دعا منا خليل خليله:
بأفديك، لباه مجيبا فأسرعا
كأن له في كل عضو ومفصل
وجارحة قلبا من الجمر أصمعا
فثاروا إلى آلاتهم فتقلدوا
خرايط حمرا تحمل السم منقعا
محملة زادا خفيفا مناطه
من البندق الموزون قل وأقنعا
وقد وقفوا للحائنات
17
وشمروا
لهن إلى الأنصاف ساقا وأذرعا
وجدت قسي القوم في الطير جدها
فظلت سجودا للرماة وركعا
فظل صحابي ناعمين ببؤسها
وظلت على حوض المنية شرعا
طرايح من سود وبيض نواصع
تخال أديم الأرض منهن أبقعا
نؤلف منها بين شتى، وإنما
نشتت من ألافها ما تجمعا
فكم ظاعن منهن مزمع رحلة
قصرنا نواه دون ما كان أزمعا!
وكم قادم منهن مرتاد منزل
أناخ به منا منيخ فجعجعا!
كأن بنات الماء في صرح متنه
إذا ما علا روق الضحى فترفعا
زرابي كسرى بثها في صحانه
ليحضر وفدا أو ليجمع مجمعا
تريك ربيعا في خريف وروضة
على لجة بدعا من الأمر مبدعا (3) أدوات القتل
الرماة
لهم عدة تكفيهم كل عدة
بنات المنايا والحني الموتر
يزلون عن أكباد كل حنية
خفافا مع الآجال تعلو وتقصر
نواها نواهم في المنايا كأنما
مواقعها فيما يشاءون تقدر
لها ألسن ما تستفيق لهاتها
يكاد لعاب الموت منهن يقطر
سيف
خير ما استعصمت به الكف عضب
ذكر حده، أنيث المهز
ما تأملته بعينيك إلا
أرعدت صفحتاه من غير هز
مثله أفزع الشجاع إلى الدر
ع فعالى به على كل بز
ما يبالي أصممت شفرتاه
في محز أو جازتا عن محز (4) مجالس الشراب واللهو
القيان والأتراك «في مجلس القاسم»
أظل إذا شاهدت يوم نعيمه
كأني في الفردوس فوق الأرايك
بمرأى من الدنيا جميل ومسمع
لدى ملك بالحق، لا متمالك
تحث الحسان المحسنات كئوسه
بمدح له قد سار جم المسالك
من الوضح اللعس الشفاه كأنما
يفهن بأفواه الظباء الأوارك
يرفعن أصواتا لدانا وتارة
ينمنمن وشيا غير وشي الحوائك
كفلن لنا لما اصطففن حيالنا
بترحيل أضياف الهموم السوادك
18
فما برحت تهدى إلينا عجائب
19
عجائب تصبي كل صاب وناسك
فتاة من الأتراك ترمي بأسهم
يصبن الحشا في السلم لا في المعارك
كأن زمير القاصبات أعارها
شجاه وسجع الباكيات الضواحك
ظللنا لها نصبا تشك قلوبنا
بذاك الشجا الفتان لا بالنيازك
وما «جلنار» بالمقصر شاؤها
ولا المتعدي قصد أهدى المسالك
لطيفة قد الثدي تسند عودها
إلى ناجم في ساحة الصدر فالك
تطامن عن قد الطوال قوامها
وأربى على قد القصار الحواتك
ورقاصة بالطبل والصنج كاعب
لها غنج مخناث وتكريه فاتك
أتيح لها في جسمها رفد رافد
وإن نالها في خصرها نهك ناهك
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
سناها فشفت عن سبيكة سابك
سبايا إليهن استباء عقولنا
ممالك ملكن اقتدار الممالك
السوداء الحسناء «في مجلس عبد الملك بن صالح» ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
سوداء لم تنتسب إلى برص ال
شقر ولا كلفة ولا بهق
ليست من العبس الأكف، ولا ال
فلح الشفاه الخبائث العرق
بل من بنات الملوك ناعمة
تنشر بالدل ميت الشبق
في لين سمورة تخيرها الفراء
أو لين جيد الدلق
20
تذكرك المسك والغوالي وال
سك ذوات النسيم والعبق
هيفاء زينت بخمص محتضن
أوفى عليه نهود معتنق
غصن من الأبنوس ألف من
مؤتزر معجب ومنتطق
يهتز من ناهديه في ثمر
ومن دواجي ذراه في ورق
أكسبها الحب أنها صبغت
صبغة حب القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر وال
أبصار يعنقن أيما عنق
يفتر ذاك السواد عن يقق
من ثغرها كاللآلئ النسق
كأنها والمزاح يضحكها
ليل تفرى دجاه عن فلق
سمحاء كالمهرة المطهمة الد
هماء تنضو أوائل السبق
الشراب في الخمائل
وصفراء بكر لا قذاها مغيب
ولا سر من حلت حشاه مكتم
ينم على الأمرين فرط صفائها
وسورتها حتى يبوح المجمجم
هي الورس في بيض الكئوس وإن بدت
لعينك في بيض الوجوه فعندم
مذاق ومسرى في العروق كلاهما
ألذ من البرء الجديد وأنعم
إذا نزلت بالهم في دار أهله
غدا الهم وهو المرهق المتهضم
أقامت ببيت النار تسعين حجة
وعشرا يصلى حولها ويزمزم
سقتني بها بيضاء فوها وكأسها
شبيها مذاق عند من يتطعم
لدى روضة فيها من النور أعين
ترقرق دمعا بل ثغور تبسم
يضاحك روق الشمس منها مضاحك
مدامعه من واقع الطل سجم
كمستعبر مستبشر بعد حزنه
لبين خليط قوضوا ثم خيموا
يغازلني فيها غزالان منهما
ربيب الفيافي والربيب المتوم
إذا نصبا جيديهما فكلاهما
سواء وأبريق لدي مقدم
21
ثلاثة أظب نجرها غير واحد
لذى اللهو فيها كلها متنعم
غزال وأبريق رذوم وغادة
تحرك من أوتارها وتنغم (4) الموسيقى والغناء
في وحيد المغنية
يا خليلي تيمتني وحيد
ففؤادي بها معنى عميد
غادة زانها من الغصن قد
ومن الظبي مقلتان وجيد
وزهاها من فرعها ومن الخد
ين ذاك السواد والتوريد
أوقد الحسن ناره في وحيد
فوق خد ما شانه تخديد
فهي برد بخدها وسلام
وهي للعاشقين جهد جهيد
لم تضر قط وجهها وهو ماء
وتذيب القلوب وهي حديد
ما لما تصطليه من وجنتيها
غير ترشاف ريقها تبريد
مثل ذاك الرضاب أطفأ ذاك
الوجد لولا الإباء والتصريد
22 •••
وغرير بحسنها قال: صفها!
قلت: أمران هين وشديد
يسهل القول: إنها أحسن الأش
ياء طرا ويعسر التحديد
شمس دجن كلا المنيرين - من
شمس وبدر - من نورها يستفيد
تتجلى للناظرين إليها
فشقي بحسنها وسعيد
ظبية تسكن القلوب وترعا
ها وقمرية لها تغريد
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
لا تراها هناك تجحظ عين
لك منها ولا يدر وريد
من هدو وليس فيه انقطاع
وسجو وما به تبليد
مد في شأو صوتها نفس كا
ف كأنفاس عاشقيها مديد
وأرق الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورا ويحيا
مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشي وفيه حلي من النغ
م مصوغ يختال فيه القصيد
طاب فوها وما ترجع فيه
كل شيء لها بذاك شهيد
ثغب
23
ينقع الصدى وغناء
عنده يوجد السرور الفقيد
فلها الدهر لاثم مستزيد
ولها الدهر سامع مستعيد
في هوى مثلها يخف حليم
راجح حلمه، ويغوي رشيد
ما تعاطي القلوب إلا أصابت
بهواها منهن حيث تريد
وتر العزف في يديها مضاه
وتر الرجف فيه سهم شديد
وإذا أنبضته للشرب يوما
أيقن القوم أنها ستصيد
معبد في الغناء وابن سريج
وهي في الضرب زلزل وعقيد
عيبها أنها إذا غنت الأحرا
ر ظلوا وهم لديها عبيد
واستزادت قلوبهم من هواها
برقاها، وما لديهم عبيد •••
وحسان عرضن لي قلت: مهلا
عن وحيد فحقها التوحيد
حسنها في العيون حسن وحيد
فلها في القلوب حب وحيد
ونصيح يلومني في هواها
ضل عنه التوفيق والتسديد
لو رأى من يلوم فيه لأضحى
وهو المستريث والمستزيد
ضلة للفؤاد يحنو عليها
وهي تزهد حياته وتكيد
سحرته بمقلتيها فأضحت
عنده والذميم منها حميد
خلقت فتنة غناء وحسنا
ما لها فيهما جميعا نديد
فهي نعمى يميد منها كبير
وهي بلوى يشيب منها وليد
لي حيث انصرفت منها رفيق
من هواها، وحيث حلت قعيد
عن يميني وعن شمالي وقدامي
وخلفي، فأين عنه أحيد؟
سد شيطان حبها كل فج
إن شيطان حبها لمريد
ليت شعري إذا أدام إليها
كرة الطرف مبدئ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه؟
أم لها كل ساعة تجديد؟
بل هي العيش لا يزال متى استع
رض يملي غرائبا ويفيد
منظر، مسمع، معان من الله
و، عتاد لما يحب عتيد
لا يدب الملال فيها، ولا ين
قض من عقد سحرها توكيد
حسنها في العيون حسن جديد
فلها في القلوب حب جديد •••
أخذ الله يا وحيد لقلبي
منك ما يأخذ المديل المقيد
حظ غيري من وصلكم قرة العي
ن، وحظي البكاء والتسهيد
غير أني معلل منك نفسي
بعدات خلا لهن وعيد
ما تزالين نظرة منك موت
لي مميت، ونظرة تخليد
نتلاقى فلحظة منك وعد
بوصال، ولحظة تهديد
قد تركت الصحاح مرضى يميدون
نحولا وأنت خوط يميد
ضافني حبك الغريب، فألوى
بالرقاد النسيب فهو طريد
عجبا لي إن الغريب مقيم
بين جنبي، والنسيب شريد
قد مللنا من ستر شيء مليح
نشتهيه فهل له تجريد؟!
هو في القلب وهو أبعد من نج
م الثريا فهو القريب البعيد
رثاء بستان المغنية
إنا إلى الله راجعون لقد
غال الردى سيرة من السير
ما أولع الدهر في تصرفه
بكل زين له ومفتخر
يعدو على نفسه فيسلبها
إلا عتاد المعد ذي النمر
كم ملبس لا يعاب هتكه
عن جلدة منه شثنة الوبر
24
أودى ببستان وهي حلته
فقد غدا عاريا من الحبر
أطار قمرية الغناء عن الأرض
فأي القلوب لم يطر
لله ما ضمنت حفيرتها
من حسن مرأى وطهر مختبر
أضحت من الساكني حفائرهم
سكنى الغوالي مداهن السرر
مطيبي كل تربة خبثت
ومؤنسيها بشر مجتور
يا حر صدري على ثلاثة أم
واه هريقت في الترب والمدر
ماء شباب ونعمة مزجا
بماء ذاك الحياء والخفر
لو يعلم القبر من أتيح له
لا نحفر القبر غير محتفر
أو لأباها فصان حينئذ
عن رمسه درة من الدرر
إن ثرى ضمها لأفضل مح
جوج لصب وخير معتمر
أقسمت بالغنج من ملاحظها
وسحر ذاك السجو والفتر
لو عقرت حول قبرها بقر ال
أنس مكان القلاص والمهر
والدر نظم على الترائب من
هن وأشكاله من العتر
وانتحرت في فنائه بهم ال
حرب وصيد الملوك من مضر
ثم سقيت الدماء تربتها
لم أشف ما في الفؤاد من وحر
نفسك يا نفس فانحري أسفا
فإن هذا أوان منتحر
ما حسن أن تذوب مهجتها
ومهجتي لم ترق ولم تمر
لا ينكر الدهر بعد مهلكها
هلك ذوات الجلال والخطر •••
بستان يا حسرتا على زهر
فيك من اللهو، بل على ثمر
بستان لهفي لحسن وجهك
والإحسان صارا معا إلى العفر
بستان أضحى الفؤاد في وله
يا نزهة السمع منه والبصر
بستان ما منك لامرئ عوض
من البساتين لا ولا البشر
بستان أسقيت من مدامعنا الد
مع، وأعقبت عقبة المطر
بل حق سقياك أن تكون من الص
بهاء صهباء حمص أو جدر
بل من رحيق الجنان يقطب بال
مسك، سلالاته، بلا عكر
بل من نجيع القلوب يمزج بال
عطف وصفو الوداد لا الكدر
يا نعمة الله في بريته
أصبحت إحدى فواقر الفقر
يا غضة السن يا صغيرتها
أمسيت إحدى المصائب الكبر
أنى اختصرت الطريق يا سكني
إلى لقاء الأكفان والحفر
أنى تجشمت في الحوادث ما
جشمت من كره ذلك السفر
أحميك من مورد قصدت له
لا ينتهي ورده إلى صدر
يا شمس زهر الشموس، يا قمر ال
أقمار حسنا يا زهرة الزهر
أبعد ما كنت باب مبتهج
للنفس أصبحت باب معتبر
أصبحت كالترب غير راجحة
به وقد ترجمين بالبدر
أصابنا الدهر فيك أكمل ما
كنت، فما رزؤنا بمجتبر
لم تقتحمك العيون من صغر
ولا قلتك النفوس من كبر
فكيف تسلوك والأسى أبدا
في كبر، والسلو في صغر
كل ذنوب الزمان مغتفر
وذنبه فيك غير مغتفر
تبتل العود عند فقدكم
وازدجر اللهو كل مزدجر
وغاب عنا السرور بعدكم
واحتضر الهم حين محتضر
وفاض ماء النعيم يتبعكم
وانهمر الدمع كل منهمر
فإن سمعنا لمزهر وترا
حن، فهاتيك عولة الوتر
أما ولؤم البلى وقسوته
لقد محا منك أحسن الصور
يا بشرا صاغه المصور من
نور على سنة من الفطر
بل من شعاع العقول حين ترى ال
غيب بعين الذكاء والعبر
لا تحسبوني عنيت بعدكم
إلى هديل الحمام في الشجر
لا تحسبوني أنست بعدكم
عنكم بشمس الضحى ولا القمر
لا تحسبوني استرحت بعدكم
إلى نسيم الشمال بالسحر
لا تحسبوا العين بعدكم سرحت
في مسرح من مسارح النظر
يأبى لها ذاك أن ناظرها
في شغل بالسهاد والعبر
وكيف بالنوم للمباشر أط
راف حمات الحياة والأبر
سقيا ورعيا لعيشة معكم
أصبحت من عهدها بمفتقر
أمتعني دهرها بغبطته
على الذي كان فيه من قصر
كانت لياليه كلها سحرا
وكان أيامهن كالبكر
لهو أطفنا ببكر لذته
وما فضضنا خواتم العذر
ولم ننل من جناه نهمتنا
وإن حظينا بمونق الزهر
كم قد شربت الرضاب في قبل
كانت، ولكن شربت بالغمر
25
جدوى فم فيه لؤلؤ وجنى
نحل بماء السحاب في النقر
غناؤه يشتكي حرارته
وريقه يشتكي من الخصر
كنتم لنا فتنة من الفتن ال
غر بلا شهرة من الشهر •••
كأنني ما طلعت مقبلة
علي يوما بأملح الطرر
في كفك العود وهو يؤذن بال
إحسان إيذان صادق الخبر
إذ مشيكم مذكري غناءكم
مشى الهوينى سواكن البقر
وإذ فسادي بكم يذكرني «لنفسدن الطواف في عمر»
26
كأن عيني ما أبصرتك ضحى
في مجلسي، والوشاة في سقر
كأنها ما رأتك كالملك ال
أصيد في التاج يوم مبتهر
يا أحسن العالمين حاسرة
وأكمل الناس عند معتجر
كأنها ما رأتك صادحة
والصدح الورق عكف الزمر
يسمعن أو يستفدن منك شجا
والتمر يمتار من قرى هجر
كأنني ما اقترحت ما اقترحت
نفسي، فساعفتني بلا زور
27
كأنني ما استعدت مقترحي
يوما فكررته بلا ضجر
وصنت خدا كساه خالقه ال
حسن، فصعرته عن الصعر
ولو تكبرت كنت معذرة
والمسك ما لا يعاف بالذفر
كأنني ما نعمت منك بمر
تاح نعيم ولا بمبتكر
رضيت من منظر بطيف كرى
يعرو، ومن مسمع بمدكر
لولا التعزي بذاك آونة
لانفطر القلب كل منفطر
28 •••
ما انتهك الدهر قبلكم لذوي ال
لهو حريما في البدو والحضر
أبكيك بالدمع والدماء بل الت
سهاد بل بالمشيب في الشعر
بل بنحول العظام محتقرا
ذاك وإن كان غير محتقر
بل باجتناب الشفاء بل بتوخ
ي النفس ما يتقى من الضرر •••
لا أسأل الله حسن مصطبر
فإنه عنك لؤم مصطبر
وحزن نفسي عليك من كرم
وهو على من سواك من خور
وقد يعزى الفؤاد أنك في
جنة عدن غدا وفي نهر
سيشفع الحور فيك أنك من
هن بذاك الدلال والحور
هجاء أبي سليمان المغني
ومسمع لا عدمت فرقته
فإنها نعمة من النعم
يطول يوم إذا قرنت به
كأنني صائم ولم أصم
إذا تغنى النديم ذكره
أخذ السياق
29
الحثيث بالكظم
يفتح فاه من الجهاد كما
يفتح فاه لأعظم اللقم
مجلسه مأتم اللذاذة وال
قصف، وعرس الهموم والسدم
30
ينشدنا اللهو عند طلعته: «من أوحشته البلاد لم يقم»
31
كأنني طول ما أشاهده
أشرب كأسي ممزوجة بدمي
تشهده فرط ساعتين فين
سيك عهودا لم تؤت من قدم
يريك ما قد عهدت في أم سك ال
أدنى كشيء في سالف الأمم
عشرته عشرة تبارك في ال
أعمار لولا تعجل الهرم
إذا الندامى دعوه آونة
تنادموا كأسهم على ندم
نبرد حتى يظل ينشدنا:
هل بالديار الغداة من صمم!
يستطعم الشرب أن يقال له: «أحسنت!» والقوم منه في وكم
32
وكيف للقوم بالتصنع؟ لا
كيف ولو صوروا من الكرم
يظهر في وجهه إساءته
كأنها مسحة من الحمم
يسود من قبح ما يجيء به
حتى كأن قد أسف بالفحم
يرتاح منه إلى الأذان كما
يرتاح ذو شقة إلى علم
يشدو بصوت يسوء سامعه
تبارك الله بارئ النسم
أبح فيه شذور حشرجة
منظومة في مقاطع النغم
نبرته غصة وهزته
مثل نبيب التيوس في الغنم
لو قدس الله ذو الجلال به
لم يرفع الله طيب الكلم
يفزع الصبية الصغار به
إذا بكى بعضهم ولم ينم
يقسو له القلب حين يسمعه
على أحبائه بلا جرم
أحلف بالله لا شريك له
فإنها غاية من القسم
ما عرف الله قبله أحدا
ما فضل نعمائه على النقم
هجو شنطف
شنطف يا عوذة السموات وال
أرض وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقا بشرا
فأنت - عندي - من ذلك البشر
صورك المارد اللعين فأع
طتك يداه مقابح الصور
هجو كتيزة
شاهدت في بعض ما شاهدت مسمعة
كأنما يومها يومان في يوم
تظل تلقي على من ضم مجلسها
قولا ثقيلا على الأسماع كاللوم
لها غناء يثيب الله سامعه
ضعفي ثواب صلاة الليل والصوم
ظللت أشرب بالأرطال لا طربا
عليه بل طلبا للسكر والنوم (6) مناعم الخوان
طلاب المآدب (قصيدة فيها وصف ودعابة قالها في أبي شيبة بن الحاجب، وكان قد دعاه واستتر عنه.)
نجاك يا ابن الحاجب الحاجب
وأين ينجو مني الهارب؟!
أبعد إحرازك إيماننا
هاربتنا واعتذر الحاجب؟
يا عجبا إذ ذاك من حالة
دافعنا فيها هو الجاذب
حقا لقد أوليتنا جفوة
يمحل منها البلد العاشب
انظر بعين العدل تبصر بها
أنك عن منهاجه ناكب •••
لهفي وقد جاءتك جفالة
كل مغذ ساغب لاغب
من كل شذان الحشا لهسم
33
يأكل ما لا يأكل الحاسب
فكاه كالعصرين من دهره
كلاهما في شأنه دائب
ذي معدة ثعلبها لاحس
وتارة أرنبها ضاغب
تعلوه حمى شره نافض
لكن حمى هضمه صالب
كأنما الفروج في كفه
فريسة ضرغامها دارب
وإن غدا الشبوط قرنا لهم
فخد شبوطهم التارب
أقسمت لو أنك لاقيتهم
نابك من أضراسهم نائب •••
أبشر بكر عاجل إنني
بالثار في أمثالها طالب
لا تحسبني عنك في غفلة
عودي وشيك أيها الصاحب
قلت لصحبي حين راوغتهم:
لا تحزنوا، قد يشهد الغائب
سيصنع الله لنا في غد
إن كان أكدى يومنا الخائب
كروا على الشيخ بتطفيلة
عن عزمة كوكبها ثاقب
وإن زواه منكم جانب
فلا يفتكم ذلك الجانب
جوسوا عليه الأرض واستخبروا
حتى يروح الخبر العازب
لا تنجون منكم فراريجه
لا وهب المنجى لها الواهب
لا تفلتن منكم شبابيطه
لا أفلت الطافي ولا الراسب
جدوا فقد جد بكم لاعبا
وقد يجد الرجل اللاعب
وليكن الكر على غرة
والصيد في مأمنه سارب
مقالة قمت بها خاطبا
وقد يصيب الغرة الخاطب •••
فاعتزم القوم على غارة
ساند فيها الراجل الراكب
يهدي أبو عثمان كردوسها
34
هذاك، ذاك الطاعن الضارب
يرقل والراية في كفه
قد حفها الرامح والناشب •••
والقوم لاقوك فأعدد لهم
ما يرتضي الآكل والشارب
يسر فراريجك مقرونة
بها شبابيطك يا كاتب
تلك التي مخبرها ناعم
تلك التي منظرها شاحب
واذكر بقلب غير مستوهل
يعروه من ذكرى القرى ناخب
أنك من جيران قطربل
وعندك اللقحة والحالب
فاسق حليب الكرم شرابه
إذ ليس من شأنهم الرائب
أحضرهم البكر التي ما اصطلت
نارا، فكل خاطب راغب
تلك التي ما بايتت راهبا
إلا جفا قنديله
35
الراهب
تلك التي ليس لها مشبه
في الكاس إلا الذهب الذائب
أو أمها الكبرى
36
التي لم يزل
لليل من طلعتها جانب
حققها بالشمس أن ربيت
في حجرها، والشبه الغالب
أعجب بتلك البكر محجوبة
مكروبة يجلى بها الكارب
مغلوبة في الدن مسلوبة
لها انتصار غالب سالب
بينا ترى في الزق مسحوبة
إذ حكمت أن يسحب الساحب
تقتص من واترها صرعة
ليس لها باك ولا نادب
إلا حمام الأيك في أيكة
أو عازف للشرب أو قاصب
ذات نسيم مسكه فائح
وذات لون ورسه خاضب
هاتيك هاتيك على مثلها
حام ولاب الحائم اللائب
والنقل والريحان من شأنهم
فلا يعب فقدهما عائب
ولا تنم عن نرجس مؤنس
يضحك عنه الزمن القاطب
ريحان روح منهب عطره
والروح إذ ذاك هو الناهب
لم يقلح الصيف له صفحة
ولا سقاه عوده الشاسب
37
وزخرف البيت كما زخرفت
روضة حزن جادها هاضب
واجلب لهم حسناء في شدوها
لكل ما سرهم جالب
محسنة ليست بخطاءة
طائرها الهادل لا الناعب
بيضاء خودا ردفها ناهد
غيداء رودا ثديها كاعب
مملوكة بالسيف مغصوبة
لها دلال مالك غاصب
تستوهب الجيد إذا أتلعت
من ظبية أفزعها طالب
نعيم من نادمها دائم
وبرح من فارقها واصب
كأنها والبيت مستضحك
والعود في قبضتها صاخب
أدمانة تنزب في روضة
جاوبها خشف لها نازب
38
واصبب عليهم تحفا جمة
يحمى بهن الموعد الكاذب
واغرم لهم من بعد ذا كله
ما نقل الملاح والقارب
وتب من الذنب الذي جئته
فقد يقال
39
المذنب التائب
كيما يقولوا حين ترضيهم:
يا حبذا المنهزم الثائب •••
أعتب بيوم صالح فيهم
ليس على أمثاله عاتب
ولا يكن يوما إذا ما انقضى
صيح به: لا رجع الذاهب
عجل لهم ذاك ولا تهجهم
ولا يثب منك بهم واثب
فليس من يأدب إخوانه
مؤدبا للقوم بل آدب
أخلفنا نوءك موعوده
فلا تصبنا ريحك الحاصب
حاشاك أن يلقاك مستمطر
ومزنك الصاعق لا الصائب
اللوزينج «وهو حلواء تشبه القطائف تؤدم بدهن اللوز»
لا يخطئني منك لوزينج
إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها
إلا أبت زلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرة
40
لسهل الطيب له مذهبا
يدور بالنفخة في جامه
دورا ترى الدهن له لولبا
عاون فيه منظر مخبرا
مستحسن ساعد مستعذبا
كالحسن المحسن في شدوه
تم فأضحى مطربا مضربا
مستكثف الحشو ولكنه
أرق قشرا من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه
من أعين الفطر الذي قببا
يخال من رقة خرشائه
41
شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صور من خبزه
ثغر لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يحب الفتى
أن يجعل الكف لها مركبا
مدهونة زرقاء، مدفونة
شهباء، تحكي الأزرق الأشهبا
ملذ عين وفم، حسنت
وطيبت حتى صبا من صبا
ذيق لها اللوز فلا مرة
مرت على الذائق إلا أبى
وانتقد السكر نقاده
وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأتها نبت
ولا إذا الضرس علاها نبا
الشبوط
فلا يبعد الشبوط من متلبس
ظهارته الحسنى، ومن متجرد
إذا نش في سفوده عند نضجه
وأخرج من سرباله المتورد
فتي رعى مرعى بدجلة مخصبا
أبى أن يراه زائد غير محمد
إلى أن أصابته من الدهر نوبة
وقد صار أقصى منية المتجود
فأصدره الصياد عن خير مورد
وأورده الشواء أخبث مورد
وجاء به الحمال أطيب مطعم
إلى الطيب المنفاق غير المصرد
ويا حبذا إمعاننا فيه ناضجا
كما جاء من تنوره المتوقد
وإني لمشتاق إلى عود مثله
وإن كنت أبدي صفحة المتجلد
الدجاجة
وسميطة صفراء دينارية
ثمنا ولونا زفها لك حزور
42
عظمت فكادت أن تكون إوزة
ونوت فكاد إهابها يتفطر
ظلنا نقشر لحمها عن جلدها
وكأن تبرا عن لجين يقشر (7) الفواكه
فواكه أيلول
لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت
من كل نوع ورق الجو والماء
إذن لما حفلت نفسي متى اشتملت
علي هائلة الجالين غبراء
الموز
إنه «الفوز» مثل ما فقده «المو
ت» لقد بان فضله لا خفاء
ولهذا التأويل سماه «موزا»
من أفاد المعاني الأسماء
رب فاجعله لي صبوحا وقيلا
وغبوقا وما أسأت الغذاء
وأرى - بل أبت - أن جوابي:
لا تغالط، فقد سألت البقاء
نكهة عذبة وطعم لذيذ
شاهدا نعمة على نعماء
لو تكون القلوب مأوى طعام
نازعته قلوبنا الأحشاء
إنني للحقيق بالشبع السا
ئغ من أكله وإن كان ماء
كرمة العنب الرازقي
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
لم يبق منه وهج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
لو أنه يبقى على الدهور
قرط آذان الحسان الحور
له مذاق العسل المشور
ونكهة المسك مع الكافور
وبرد مس الخصر المقرور
باكرته والطير في الوكور
وعذر اللذات في البكور
بفتية من ولد المنصور
أملأ للعين من البدور
حتى أتينا خيمة الناطور
قبل ارتفاع الشمس للذرور
فانقض كالطاوي من الصقور
بطاعة الراغب لا المجبور
ثم جلسنا مجلس المحبور
على حفافي جدول مسجور
43
أبيض مثل المهرق المنشور
أو مثل متن المنصل المشهور
ينساب مثل الحية المذعور
بين سماطي شجر مسطور
فنيلت الأوطار في سرور
وكل ما نقضي من الأمور
تعلة عن يومنا المنظور
ومتعة من متع الغرور (8) المرأة والحب
النساء
أجنت لك الوجد أغصان وكثبان
فيهن نوعان تفاح ورمان
44
وفوق ذينك أعناب مهدلة
سود لهن من الظلماء ألوان
45
وتحت ذلك عناب تلوح به
أطرافهن قلوب القوم قنوان
46
غصون بان عليها - الدهر - فاكهة
وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطل يضربه
وأقحوان منير النور ريان
47
ألفن من كل شيء طيب حسن
فهن فاكهة شتى وريحان
ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها
لكنها حين تبلو الطعم خطبان
48
بل حلوة مرة، طورا يقال لها:
شهد، وطورا يقول الناس: ذيفان
49
يا ليت شعري، وليت غير مجدية
إلا استراحة قلب وهو أسوان
لأي أمر مراد بالفتى جمعت
تلك الفنون فضمتهن أفنان؟
تجاورت في غصون لسن من شجر
لكن غصون لها وصل وهجران
تلك الغصون اللواتي في أكمتها
نعم وبؤس وأفراح وأحزان
يبلو بها الله قوما كي يبين له
ذو الطاعة البر ممن فيه عصيان
وما ابتلاهم لإعنات ولا عبث
ولا لجهل بما يحويه إبطان
لكن ليثبت في الأعناق حجته
ويحسن العفو، والرحمن رحمن
ومن عجائب ما يمنى الرجال به
مستضعفات لنا منهن أقران
مناضلات بنبل لا تقوم له
كتائب الترك يزجيهن خاقان
مستظهرات برأي لا يقوم له
قصير عمرو، ولا عمرو ووردان
من كل قاتلة قتلى، وآسرة
أسرى، وليس لها في الأرض إثخان
يولين ما فيه إغرام وآونة
يولين ما فيه للمشغوف سلوان
ولا يدمن على عهد لمعتقد
أنى وهن كما شبهن بستان؟
يميل طورا بحمل ثم يعدمه
ويكتسي ثم يلفى وهو عريان
امتزاج روحين
أعانقها، والنفس بعد مشوقة
إليها ، وهل بعد العناق تدان؟
وألثم فاها كي تموت حزازتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأن فؤادي ليس يشفي غليله
سوى أن يرى الروحين تمتزجان
لمحة التوديع
رب كعاب في حجاب لم تزل
مثل الغزال عنقا ومكتحل
لم تكتحل مقلتها سوى الكحل
ولا تحلى جيدها سوى العطل
ما زلت منها في مطال وعلل
حتى إذا ما قدر البين نزل
خلست منها نظرة على وجل
آخرها أولها من العجل
ثم أجنتها غيابات الكلل
الشباب الراحل
أبين ضلوعي جمرة تتوقد
على ما مضى أم حسرة تتجدد؟
خليلي ما بعد الشباب رزية
يجم لها ماء الشئون ويعتد
فلا تلحيا إن فاض دمع لفقده
فقل له بحر من الدمع يثمد
ولا تعجبا للجلد يبكي، فربما
تفطر عن عين من الماء جلمد
شباب الفتى مجلوده وعزاؤه
فكيف وأنى بعده يتجلد؟
وفقد الشباب الموت، يوجد طعمه
صراحا، وطعم الموت بالموت يفقد
رزئت شبابي عودة بعد بدأة
وهن الرزايا بادئات وعود
سلبت سواد العارضين وقبله
بياضهما المحمود إذ أنا أمرد
وبدلت من ذاك البياض وحسنه
بياضا ذميما لا يزال يسود
لشتان ما بين البياضين معجب
أنيق، ومشنوء إلى العين أنكد
تضاحك في أفنان رأسي ولحيتي
وأقبح ضحاكين شيب وأدرد
50
وكنت جلاء للعيون من القذى
فقد جعلت تقذى بشيبي وترمد
هي الأعين النجل التي كنت تشتكي
مواقعها في القلب، والرأس أسود
فما لك تأسى الآن لما رأيتها
وقد جعلت مرمى سواك تعمد
تشكى إذا ما أقصدتك سهامها
وتأسى إذا نكبن عنك وتكمد
كذلك تلك النبل من وقعت به
ومن صرفت عنه من القوم مقصد
51
إذا عدلت عنا وجدنا عدولها
كموقعها في القلب، بل هو أجحد
تنكب عنا مرة، فكأنما
منكبها عنا إلينا مسدد
كفى حزنا أن الشباب معجل
قصير الليالي، والمشيب مخلد
إذا حل جارى المرء شأو حياته
إلى أن يضم المرء والشيب ملحد
أرى الدهر أجرى ليله ونهاره
بعدل، فلا هذا ولا ذاك سرمد
وجار على ليل الشباب فضامه
نهار مشيب سرمد ليس ينفد
وعزاك عن ليل الشباب معاشر
فقالوا: نهار الشيب أهدى وأرشد
وكان نهار المرء أهدى لسعيه
ولكن ظل الليل أندى وأبرد
أأيام لهوي هل مواضيك عود؟
وهل لشباب ضل بالأمس منشد؟
أقول وقد شابت شواتي، وقوست
قناتي، وأضحت كدنتي
52
تتخدد
ودب كلال في عظامي أدبني
جنيب العصا أنآد أو أتأيد
وبورك طرفي، فالشخوص حياله
قرائن - من أدنى مدى - وهي فرد
ولذت أحاديثي الرجال وأعرضت
سليمى وريا عن حديثي ومهدد
وبدل إعجاب الغواني تعجبا
فهن روان يعتبرن وصدد
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأفسح مما كان فيه وأرغد؟!
إذا أبصر الدنيا استهل كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يهدد
وللنفس أحوال تظل كأنها
تشاهد فيها كل غيب سيشهد •••
لعبت بأولى الدهر، فاغتال شرتي
بأخرى حقود، والجرائم تحقد
فصبرا على ما اشتد منه، فإنما
يقوم لما يشتد من يتشدد
يذيق الفتى طوري رخاء وشدة
حوادثه والحول بالحول يطرد
وما لي عزاء عن شبابي علمته
سوى أنني من بعده لا أخلد
وأن مشيبي «واعد» بلحاقه
وإن قال قوم إنه «يتوعد»
دمعة على الشباب
لا تلح من يبكي شبيبته
إلا إذا لم يبكها بدم
عيب الشبيبة غول سكرتها
مقدار ما فيها من النعم
لسنا نراها حق رؤيتها
إلا زمان الشيب والهرم
كالشمس لا تبدو فضيلتها
حتى تغشى الأرض بالظلم
ولرب شيء لا يبينه
وجدانه إلا مع العدم
حلم زائل
رأيت سواد الرأس واللهو تحته
كليل وحلم بات رائيه ينعم
فلما اضمحل الليل زال نعيمه
فلم يبق إلا عهده المتوهم (9) الأحداث السياسية
مصرع أبي الحسين يحيى من أحفاد علي
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج
طريقان شتى: مستقيم وأعوج
ألا أيهذا الناس طال ضريركم
بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
أكل أوان للنبي محمد
قتيل زكي بالدماء مضرج
تبيعون فيه الدين شر أئمة
فلله دين الله قد كان يمرج
53 •••
بني المصطفى! كم يأكل الناس شلوكم؟
لبلواكم - عما قليل - مفرج
أما فيهم راع لحق نبيه
ولا خائف من ربه يتحرج
لقد عمهوا ما أنزل الله فيكم
كأن كتاب الله فيهم ممجمج
54
ألا خاب من أنساه منكم نصيبه
متاع من الدنيا قليل وزبرج •••
أبعد المكنى بالحسين شهيدكم
تضيء مصابيح السماء فتسرج
لنا وعلينا، لا عليه ولا له،
تسحسح أسراب الدموع وتنشج
وكيف نبكي فائزا عند ربه
له في جنان الخلد عيش مخرفج
55
وقد نال في الدنيا سناء وصيتة
وقام مقاما لم يقمه مزلج
56
فإن لا يكن حيا لدينا فإنه
لدى الله حي في الجنان مزوج
وكنا نرجيه لكشف عماية
بأمثاله أمثالها تتبلج
فساهمنا ذو العرش في ابن نبيه
ففاز به والله أعلى وأفلج
أيحيى العلى لهفي لذكراك لهفة
يباشر مكواها الفؤاد فينضج
لمن تستجد الأرض بعدك زينة
فتصبح في أثوابها تتبرج؟
سلام وريحان وروح ورحمة
عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت جاره
يرف عليه الأقحوان المفلج
ويا أسفي ألا ترد تحية
سوى أرج من طيب رمسك يأرج
ألا إنما ناح الحمائم بعدما
ثويت وكانت قبل ذلك تهزج
ألا أيها المستبشرون بيومه
أظلت عليكم غمة لا تفرج!
أكلكم أمسى اطمأن مهاده
بأن رسول الله في القبر مزعج؟!
فلا تشمتوا وليخسأ المرء منكم
بوجه كأن اللون منه اليرندج
57
فلو شهد الهيجا بقلب أبيكم
58
غداة التقى الجمعان والخيل تمعج
لأعطى يد العاني، أو ارتد هاربا
كما ارتد بالقاع الظليم
59
المهيج
ولكنه ما زال يغشى بنحره
شبا الحرب حتى قال ذو الجهل: أهوج
وحاشا له من تلكم غير أنه
أبى خطة الأمر الذي هو أسمج
وأين به عن ذاك؟ لا أين إنه
إليه بعرقيه الزكيين محرج
كأني به كالليث يحمي عرينه
وأشباله لا يزدهيه المهجهج
كدأب علي في المواطن قبله
أبي حسن والغصن من حيث يخرج
كأني أراه والرماح تنوشه
شوارع كالأشطان تدلى وتخلج
كأني أراه إذ هوى عن جواده
وعفر بالترب الجبين المشجج
فحب به جسما إلى الأرض إذ هوى
وحب بها روحا إلى الله تعرج
أأرديتم يحيى؟! ولم يطو أيطل
60
طرادا ولم يدبر من الخيل منسج
تأتت لكم فيه منى السوء هينة
وذاك لكم بالغي أغرى وألهج
تمدون في طغيانكم وضلالكم
ويستدرج المغرور منكم فيدرج
أجنوا بني العباس من شنآنكم
وأوكوا
61
على ما في العياب وأشرجوا
62
وخلوا ولاة السوء منكم وغيهم
فأحر بهم أن يغرقوا حيث لججوا
نظار لكم أن يرجع الحق راجع
إلى أهله يوما فتشجوا كما شجوا
على حين لا عذرى لمعتذريكم
ولا لكم من حجة الله مخرج
فلا تلقحوا الآن اللواقح بينكم
وبينهم إن اللواقح تنتج
غررتم لأن صدقتم أن حالة
تدوم لكم والدهر لونان أخرج
لعل لهم في منطوي الغيب ثائر
سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
بمجر تضيق الأرض من زفراته
له زجل ينفي الوحوش وهزمج
63
إذا شيم بالأبصار أبرق بيضه
بوارق لا يسطيعهن المحمج
64
توامضه شمس الضحى فكأنما
يرى البحر في أعراضه يتموج
يؤيده ركنان ثبتان: رجله
وخيل كأرسال الجراد وأوثج
65
عليها رجال كالليوث بسالة
بأمثالها يثنى الأبي فيعنج
66
تدانوا فما للنقع فيهم خصاصة
تنفسه عن خيلهم حين ترهج
فلو حصبتهم بالفضاء سحابة
لظل عليهم حصبها يتدحرج
كأن الزجاج اللهذمياب فيهم
فتيل بأطراف الرديني مسرج
يود الذي لاقوه أن سلاحه
هنالك خلخال عليه ودملج
فيدرك ثأر الله أنصار دينه
ولله أوس آخرون وخزرج
ويقضي «إمام الحق» فيكم قضاءه
تماما وما كل الحوامل تخدج
وتظعن خوف السبي بعد إقامة
ظعائن لم يضرب عليهن هودج
مه! لا تعادوا غرة البغي بينكم
كما يتعادى شعلة النار عرفج
67
أفي الحق أن يمسوا خماصا، وأنتم
يكاد أخوكم بطنة يتبعج
تمشون مختالين في حجراتكم
ثقال الخطى أكفالكم تترجرج
وليدهم بادي الضوى، ووليدكم
من الريف ريان العظام خدلج
بنفسي الألى كظتهم حسراتكم
فقد علزوا قبل الممات وحشرجوا
68
وعيرتموهم بالسواد ولم يزل
من العرب الأمحاض أخضر أدعج
ولكنكم زرق يزين وجوهكم
بني الروم! ألوان من الروم نعج
أبى الله إلا أن يطيبوا وتخبثوا
وأن يسبقوا بالصالحات ويفلجوا
وإن كنتم منهم وكان أبوكم
أباهم فإن الصفو بالرنق يمزج •••
لعمري لقد أغرى القلوب ابن طاهر
ببغضائكم ما دامت الريح تنأج
69
سعى لكم مسعاة سوء ذميمة
سعى مثلها مستكره الرجل أعرج
فلن تعدموا ما حنت النيب فتنة
تحش كما حش الحريق المؤجج
وقد بدأت لو تزجرون بريحها
بوائجها من كل أوب تبوج
70 •••
بني مصعب! ما للنبي وأهله
عدو سواكم، أفصحوا أو فلجلجوا
دماء بني عباسكم وعليهم
لكم كدماء الترك والروم تهرج
يلي سفكها العوران والعرج منكم
وغوغاؤكم جهلا بذلك تبهج
وما بكم أن تنصروا أولياءكم
ولكن هنات في القلوب تنجنج
71
ولو أمكنتكم في الفريقين فرصة
لقد بينت أشياء تلوي وتحنج
إذن لاستقدتم منهما وتر فارس،
وإن ولياكم فالوشائج أوشج
أبى أن تحبوهم يد الدهر ذكركم
ليالي لا ينفك منكم متوج
وإني على الإسلام منكم لخائف
بوائق شتى بابها الآن مرتج
وفي الحزم أن يستدبر الناس أمركم
وحبلهم مستحكم العقد مدمج •••
نظار فإن الله طالب وتره
بني مصعب! لن يسبق الله مدلج
لعل قلوبا قد أطلتم غليلها
ستظفر يوما بالشفاء فتثلج (10) شخصيات وأعلام
بطل الشطرنج «في أبي القاسم التوزي الشطرنجي»
يا أخي يا أخا الدماثة والرق
ة والظرف والحجى والدهاء
أترى الضربة التي هي غيب
خلف خمسين ضربة في وحاء
ثاقب الرأي نافذ الفكر فيها
غير ذي فترة ولا إبطاء
ويلاقيك سبعة فيظلو
ن على ظهر آلة حدباء
تهزم الجمع أوحديا وتلوي
بالصناديد أيما إلواء
وتحط الرخاخ بعد الفرازي
ن فتزداد شدة استعلاء
ربما هالني وحير عقلي
أخذك اللاعبين بالبأساء
ورضاهم هناك بالنصف والربع
وأدنى رضاك في الإرباء
واحتراس الدهاة منك وإعصا
فك بالأقوياء والضعفاء
عن تدابيرك اللطاف اللواتي
هن أخفى من مستسر الهباء
بل من السر في ضمير محب
أدبته عقوبة الإفشاء
فإخال الذي تدير على القو
م حروبا دوائر الإرحاء
وأظن افتراسك القرن فالقر
ن منايا وشيكة الإرداء
وأرى أن رقعة الأدم الأح
مر أرض عللتها بدماء
غلط الناس لست تلعب بالشط
رنج لكن بأنفس اللعباء
أنت جديها، وغيرك من يل
عب إن الرجال غير النساء
لك مكر يدب في القوم أخفى
من دبيب الغذاء في الأعضاء
أو دبيب الملال في مستهامي
ن إلى غاية من البغضاء
أو مسير القضاء في ظلم الغي
ب إلى من يريده بالتواء
أو سرى الشيب تحت ليل شباب
مستحير في لمة سحماء
دب فيها لها، ومنها إليها
فاكتست لون رثة شمطاء
تقتل الشاه حيث شئت من الرق
عة طبا بالقتلة النكراء
غير ما ناظر بعينيك في الدس
ت ولا مقبل على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظه
ر بقلب مصور من ذكاء
ما رأينا سواك قرنا يولي
وهو يردي فوارس الهيجاء
رب قوم رأوك ريعوا فقالوا
هل تكون العيون في الأقفاء
والفؤاد الذكي للمطرق المعر
ض عين يرى بها من وراء
تقرأ الدست ظاهرا فتؤدي
ه جميعا كأحفظ القراء (11) طبائع وشمائل
في يحيى بن علي المنجم
رب أكرومة له لم نخلها
قبله في الطباع والتركيب
غربته الخلائق الزهر في النا
س، وما أوحشته بالتغريب
ألمعي يرى بأول ظن
آخر الأمر من وراء المغيب
لا يروي ولا يقلب كفا
وأكف الرجال في تقليب
يدرك الطلب بالبديهة دون ال
عقب، قبل التصعيد والتصويب
حازم الرأي ليس من طول تجري
ب، لبيب وليس عن تلبيب
لين عطفه فإن ريم منه
مكسر العود كان جد صليب
في القاسم
عجبت لمن حزمه حزمه
تكون يداه يدي حاتم
عجبت لمن جوده جوده
تكون له عقدة الحازم
عجبت لمن حلمه حلمه
تكون له صولة الصارم
عجبت لمن حده حده
تكون له رأفة الراحم
أرى كل ضد إلى ضده
من الخير في طبعه السالم (12) رسائل استعطاف وعتب
عتب على سوء مقابلة
قرأت في وجهك عنوانا
آذنني بالغدر إيذانا
تالله أنسى ما ذكرت الصبا
بل ما ذكرت الله لهفانا
يوم التقينا فتجهمتني
تجهم المديون ديانا
وكيف أنسى ذاك مستيقظا
ولست أنسى ذاك وسنانا
طلعت من بعد فأوهمتني
أنك قد عاينت شيطانا
لاقيتني ساعة لاقيتني
أثقل خلق الله أجفانا
كأنما كنت تضمنت لي
رد شبابي كالذي كانا
أو طم بحر الصين في طرفة
أو كسح أروند وثهلانا
أو كل ما لم يستطع فعله
عيسى ولا موسى بن عمرانا
يا حسن الوجه لقد شنته
فاضمم إلى حسنك إحسانا
أنت ملول حائل عهده
تصبغك الساعات ألوانا
تصرم ذا الوصل وتضحى إلى
من يحتوي وصلك ظمآنا
حتى إذا واصل صارمته
أو سمته صدا وهجرانا
وتستلين الدهر ذا خشنة
فظا، وتستخشن من لانا
وتعقد الوعد، فإنجازه
خلف إذا إنجازه آنا
حتى إذا أنجزته مرة
مننته سرا وإعلانا
وما أحب الواعدي مخلفا
كلا ولا الممتن منانا
حذرتني الناس فقد أصبحت
نفسي لا تألف إنسانا
أهنتني جدا فأعززتني
رب امرئ عز بأن هانا
إلى آل وهب
تخذتكم درعا وترسا لتدفعوا
نبال العدى عني فكنتم نصالها
وقد كنت أرجو منكم خير ناصر
على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي
ذماما فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزل
وخلوا نبالي والعدا ونبالها
هي النفس إما أن تعيش بغبطة
وإلا فغنم أن تزول زوالها
طلبت لديكم بالعتاب زيادة
وعطفا فأعتبتم بإحدى البوائق
فكنت كمستسق سماء مخيلة
حيا، فأصابته بإحدى الصواعق
أأحييتني بالأمس ثم تميتني
برفضي وإقصائي، وحقي أن أدنى
ولو أنني أحييت ميتا عشقته
لحسن الذي أثرت فيه من الحسنى (13) هجاء
شيء ليس له وجود
قل لابن بوران إن كان ابن بوران
فإن شكي فيه جل إيماني
يا باطلا أوهمتنيه مخايله
بلا دليل ولا تثبيت برهان
ما أنت إلا خيال طاف طائفه
وما هجائيك إلا هجر وسنان
قد كنت أحسبه شيئا فأهجوه
حتى أزاح يقيني فيه حسباني
في إسماعيل بن بلبل
صبرا أبا صقر فكم طائر
خر صريعا بعد تحليق
زوجت نعمى لم تكن كفأها
فصانها الله بتطليق
وكل نعمى غير مشكورة
رهن زوال بعد تمحيق
لا قدست نعمى تسربلتها
كم حجة فيها لزنديق!
كيمياء الجد
عجب الناس من أبي الصقر إذ ول
ي بعد «البطالة» الديوانا
ولعمري ما ذاك أعجب من أن
كان علجا فصار من شيبانا
إن للجد كيمياء إذا ما
مس كلبا أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء ، كما شا
ء، متى شاء، كائنا ما كانا
تأبين!
أقول إذ هتف الداعي بمصرعه:
لبيك! لبيك! من داع بتبيين
نعيت من جمدت غزر العيون له
فلم تفض عبرة من عين محزون
ومن يقل له الداعي بمغفرة
وينشد الناس فيه بيت يقطين
فإن تصبك من الأيام جائحة
لم نبك منك على دنيا ولا دين
يا منكرا ونكيرا أوجعاه فقد
خلوتما بقليل الخير ملعون
بعدا وسحقا له من هالك نطف
مشوه الخلق من نسل الشياطين
اعتزال الهجاء
يا من قسا لما شكو
ت إلى تطوله زماني
واعتدني - لما رخصت
عليه - من سقط المعاني
سأصون مالك عن يدي
وأصون عرضك عن لساني
آليت لا أهجو طوا
ل الدهر إلا من هجاني
لا بل سأطرح الهجا
ء وإن رماني من رماني
أمن الخلائق كلهم
فليأخذوا مني أماني
حلمي أعز علي من
غضبي إذا غضبي عراني
فلأصبرن وأكظمن
وإن لظى غيظي كواني
لكنني سأحب نف
سي إذ قلاني من قلاني
وأريدها كل الإرا
دة إذ أباني من أباني
وأرى مكاني إن تعا
مه من تعامه عن مكاني
حتى يراني الله كي
ف صيانتي قدري وشاني
ويعولني فعيالتي
حق عليه كما يراني
وليغذوني بالكرار
مة إنه قدما غذاني
وسأستعين على الفرا
ق الصبر إن شوق دعاني (14) صور ممسوخة
يصف نفسه
من كان يبكي الشباب من جزع
فلست أبكي عليه من جزع
لأن وجهي بقبح صورته
ما زال بي كالمشيب والصلع
إذا أخذت المرآة، سلمني
وجهي - وما مت - هول مطلعي
شغفت بالخرد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة، ولا
يشهد فيه مساجد الجمع
أكول
وأما يد البصري في كل صفحة
فأقلع من سيل وأغرف من رفش
72
أأوعده بالشعر وهو مسلط
على الإنس والجنان والطير والوحش؟
ألم أره لو شاء بلع تهامة
وأجبالها، طاحت هناك بلا أرش!
73
على أنه ينعي إلى كل صاحب
ضروسا له تأبى على الثور والكبش
يخبر عنها أن فيها تثلما
وذلكم أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحا عند نقرها
وتجريشها تأتي على الصلب والهش
فلا تقبلوا ذاك التفارق، واحذروا
شباه، ولو أمسى مسجى على نعش
مقارنة
وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرا
يزول عنها ولا تزول
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
والكلب واف وفيك غدر
ففيك عن قدره سفول
وقد يحامي عن المواشي
وما تحامي ولا تصول
وأنت من بيت أهل سوء
قصتهم قصة تطول
وجوههم للورى عظات
لكن أقفاءهم طبول
نستغفر الله قد فعلنا
ما يفعل المائق الجهول
ما إن سألناك ما سألنا
إلا كما تسأل الطلول
صمت وعيت فلا خطاب
ولا كتاب ولا رسول
مستفعلن فاعل فعول
مستفعلن فاعل فعول
بيت كمعناك ليس فيه
معنى سوى أنه فضول
الغث السمين
لنا صديق كلا صديق
غث على أنه سمين
من أقبح الناس، لا أحاشي
من كان منهم ومن يكون
إذا بدا وجهه لقوم
لاذت بأجفانها العيون
كأنه عندهم غريم
حلت عليهم له ديون
وهو على ما وصفت منه
متهم وده ظنين
كبرياء الحجاب
وكم حاجب غضبان كاسر حاجب
محا الله ما فيه من الكسر بالكسر!
عبوس إذا حييته بتحية
فيا لك من كبر ومن منطق نزر
يظل كأن الله يرفع قدره
بما حط من قدري وصغر من أمري
إذا ما رآني عاد أعمى بلا عمى
وصم سميعا ما بأذنيه من وقر
ومن شيم الحجاب أن قلوبهم
قلوب على الآداب أقسى من الصخر
يخافون أن يحظى سواهم بحظهم
فهم من سؤال السائلين على وحر
ثقيل
كان للأرض مرة ثقلان
فلها اليوم ثالث بفلان
أتقي غصة اسمه، علم الله،
فأكني عن ذكره بالمعاني
يا ثقيل الثقال أقذيت عيني
ليت أني كما أراك تراني
من يكن عانيا بحب حبيب
ففؤادي ببغضك اليوم عاني
بارد ثقيل
يا أبا القاسم الذي ليس يدري
أرصاص كيانه أم حديد
أنت عندي كماء بئرك في الصي
ف ثقيل يعلوه برد شديد
في أخرق
وأخرق تضرمه نفخة
سفاها وتطفئه تفله
فأخلاقه تارة وعرة
وأخلاقه تارة سهله
أصدقاء كثيرو السلام
ولي أصدقاء كثيرو السلام
علي وما فيهم نافع
إذا أنا أدلجت في حاجة
لها مطلب نازح شاسع
فلي أبدا معهم وقفة
وتسليمة وقتها ضائع
وفي موقف المرء عن حاجة
تيممها شاغل قاطع
ترى كل غث كثير الفضو
ل، مصحفه مصحف جامع
يحدثني من أحاديثه
بما لا يلذ به السامع
أحاديث هن كمثل الضري
ع، آكله أبدا جائع
أولئك لا حيهم مؤنس
صديقا، ولا ميتهم فاجع (15) تجاريب وعظات
الظنون
يا أخي، أين ربع ذاك اللقاء؟
أين ما كان بيننا من صفاء؟
كشفت منك حاجتي هنوات
غطيت برهة بحسن اللقاء
تركتني ولم أكن سيئ الظ
ن أسيء الظنون بالأصدقاء
قلت لما بدت لعيني شنعا
رب شوهاء في حشا حسناء
ليتني ما هتكت عنكن سترا
فثويتن تحت ذاك الغطاء
قلن لولا انكشافنا ما تجلت
عنك ظلماء شبهة قتماء
قلت أعجب بكن من كاسفات
كاشفات غواشي الظلماء
قد أفدتنني - مع الخبر بالصا
حب - أن رب كاسف مستضاء
قلن أعجب بمهتد يتمنى
أنه لم يزل على همياء
كنت في شبهة فزالت بنا عن
ك فأوسعتنا من الإزراء
وتمنيت أن تكون على الحي
رة تحت العماية الطخياء
قلت تالله ليس مثلي من و
د ضلالا وحيرة باهتداء
غير أني وددت ستر صديقي
بدلا باستفادة الأنباء
قلن هذا هوى فعرج على الح
ق وخل الهوى لقلب هواء
ليس في الحق أن تود لخل
أنه الدهر كامن الأدواء
بل من الحق أن تنفر عنهن
وإلا فأنت كالبعداء
إن بحث الطبيب عن داء ذي الدا
ء لأس الشفاء قبل الشفاء
دونك الكشف والعتاب فقوم
بهما كل خلة عوجاء
وإذا ما بدا لك العر
74
يوما
فتتبع نقابه بالهناء
75
قلت في ذاك موتكن، وما المو
ت بمستعذب لدى الأحياء
قلن ما الموت بالكريه إذا كا
ن بحق فلا تزد في المراء
طينة الناس
واعلم بأن الناس من طينة
يصدق في الثلب لها الثالب
لولا علاج الناس أخلاقهم
إذن لفاح الحمأ اللازب
اعتزال الناس
ذقت الطعوم فما التذذت كراحة
من صحبة الأشرار والأخيار
أؤحب قوما لم يحبوا ربهم
إلا لفردوس لديه ونار؟!
المعدم في أمان
ما راح مغبونا بصفقة خاسر
من باع متعة فائت بأمان
أمن امرؤ من رزء شيء فاته
والمدركوه مراقبو الحدثان
وكفى عزاء لامرئ من فائت
ألا يخاف عليه صرف زمان
القناعة
إذا ما كساك الله سربال صحة
ولم تخل من قوت يحل ويعذب
فلا تغبطن المترفين فإنهم
على حسب ما يكسوهم الدهر يسلب
من هو الكريم؟
ليس الكريم الذي يعطي عطيته
على الثناء وإن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيته
لغير شيء سوى استحسانه الحسنا
جزاء الإحسان
ولقد كافأ بالنعمى امرؤ
كافأ النعمى بإخلاص الوداد
إن يكن نول نيلا من يد
فلقد نول نيلا من فؤاد
الدرهم والسيف
لم أر شيئا صادقا نفعه
للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاته
والسيف يحميه من الحيف
الشرير
وليس بشرير ضليع بحجة
رمى باطلا بالحق حين يخاصم
ولا واسم عرض امرئ كان ناله
بسوء، وإن لامته فيه اللوائم
وما بي زهد في التفضل إنه
لفضل، ولكن للرجال شكائم
ولكنما الشرير من عم شره
وسولم بدءا فأتلى لا يسالم
وعاد بإذعان له وتودد
أخوه فلم تنفعه تلك التمائم
وكافأ إحسانا بسوء ولم يزل
يراجم بالمكروه من لا يراجم
الظلم
لانتقام المظلوم أربى على الظا
لم، من ظلمه على المظلوم
صاحب الظلم إن تأملت كالرا
تع في المرتع الوبيل الوخيم
يجتلي أمره فيعلم أن قد
باع ليل الكرى بليل السليم
76
فهو من لوم نفسه حين يخلو
في عرام وفي عذاب أليم
قد أمرت حياته وشجته
برحاء النديم والتنديم
لو تجافى الخصيم عنه وأغضى
لكفاه بنفسه من خصيم
الملام
لا تكثرن ملامة العشاق
فكفاهم بالوجد والأشواق
إن البلاء يطاق غير مضاعف
فإذا تضاعف كان غير مطاق
لا تطفئن جوى بلوم إنه
كالريح تغري النار بالإحراق
السلو
أبت نفسي الهلاع لرزء شيء
كفى شجوا لنفسي رزء نفسي
أتهلع وحشة لفراق إلف
وقد وطنتها لحلول رمس
الصبر
أرى الصبر محمودا وفيه مذاهب
فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب؟!
هناك يحق الصبر، والصبر واجب،
وما كان منه كالضرورة أوجب
هو المهرب المنجى لمن أحدقت به
مكاره دهر ليس منهن مهرب
لبوس جمال، جنة من شماتة،
شفاء أسى، يثنى به ويثوب
إغراء المثيب
وتولى الشباب فازددت ركضا
في ميادين باطلي إذ تولى
إن من ساءه الزمان بشيء
لأحق امرئ بأن يتسلى
الفناء
إذا اختط قوم خطة لمدينة
تقاضتهم أضعافها للمقابر
وفي ذاك ما ينهاهم أن يشيدوا
وأن يقتنوا إلا كزاد المسافر
الحرب الأهلية
وما قتل بعض الحي بعضا بناهك
قواه إذا ما جاء حي يحاربه
وما لطم بعض الموج في البحر بعضه
بمانعه تغريق من هو راكبه
يجنون الحرب وغيرهم وقودها
رأيت جناة الحرب غير كفاتها
إذا اختلفت فيها الرماح الشواجر
كذاك زناد النار عنها بنجوة
ولكنما تصلى صلاها المساعر
الإغضاء إلا عن الخلصاء
يا أبا القاسم الذي كنت أرجو
ه لدهري قطعت متن الرجاء
لا أجازيك عن غرورك إيا
ي غرورا وقيت سوء الجزاء
بل أرى صدقك الحديث وما ذا
ك لبخل عليك بالإغضاء
أنت عيني، وليس من حق عيني
غض أجفانها على الأقذاء (16) الشعر
دفاعه عن شعره
قلت لمن قال لي عرضت على ال
أخفش
77
ما قلته فما حمده
قصرت بالشعر حين تعرضه
على مبين العمى إذا انتقده
ما قال شعرا، ولا رواه، فلا
ثعلبه كان، لا ولا أسده
فإن يقل إنني رويت، فكالد
فتر جهلا بكل ما اعتقده
أرمت زيني بأن تعرضني
لمدحه، فالذليل من عضده
أم رمت شيني بأن تعرضني
لثلبه، فالسليم من قصده
78
أنشدته منطقي ليشهده
فغاب عنه عمى وما شهده
وقال قولا بغير معرفة
إفكا، فما حل إفكه عقده
شعري شعر إذا تأمله ال
إنسان ذو الفهم والحجى عبده
لكنه ليس منطقا بعث الله
به آية لمن جحده
ولا أنا المفهم البهائم والط
ير سليمان قاهر المرده
ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقرده
وحسب قرد أراه يحسدني
أن يسكن الله قلبه حسده
لا خفف الله عنه من حسدي
وزاده الله فوقه كمده
ولا تزل صورتي إذا طلعت
لناظريه قذاه بل رمده
حمله على البحتري
الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره
للبحتري بلا عقل ولا أدب
قبحا لأشياء يأتي البحتري بها
من شعره الغث بعد الكد والتعب
كأنها حين يصغي السامعون لها
ممن يميز بين النبع والغرب
رقى العقارب، أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
وقد يجيء بخلط فالنحاس له
وللأوائل ما فيه من الذهب
يسيء عفا، فإن أكدت وسائله
أجاد لصا شديد البأس والكلب
عبد يغير على الموتى فيسلبهم
حر الكلام بجيش غير ذي لجب
ما إن تزال تراه لابسا حللا
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب
شعر يغير عليه باسلا بطلا،
وينشد الناس إياه على رقب
يقول مستمعوه الجاهلون به
أحسنت يا أشعر الحضار والغيب
والحكم فيه مبين غير ملتبس
لو ريم فيه خلاف الحق لم يصب
إذا أجاد فأوجب قطع مقوله
فقد دهى شعراء الناس بالحرب
وإن أساء فأوجب قتله قودا
بمن يميت إذا أبقى على السلب
التأسي
خليلي قد عللتماني بالأسى
فأنعمتما لو أنني أتعلل
وما راحة المرزوء في رزء غيره
أيحمل عنه بعض ما يتحمل؟
وضرب من الظلم الخفي مكانه
تعزيك بالمرزوء حين تأمل
لأنك يأسوك الذي هو كلمه
بلا جرم، لو أن جورك يعدل
حلم اليقظة
المرء في حال التيقظ هاجع
يرنو إلى الدنيا بمقلة حالم
وأخو الحجا أبدا يجاهد طبعه
فتراه وهو محارب كمسالم
التكلف
في الناس ذو حلم يسفه نفسه
كيما يهاب وجاهل يتحلم
وكلاهما تعب يحارب شيمة
غلبت فآض بحملها يتألم
الدهر الشاعر
الناس كالشعر تلقى الأرض جائشة
بالجمع يزجى، وخير منهم رجل
والدهر شاعر آفات يفوه بها
للناس يفكر تارات ويرتجل
الحزم
إذا طرف من حبلك انحل عقده
تداعت وشيكا بانتقاض مرائره
79
فلا تغفلن أمرا وهى منه جانب
فيتبعه في الوهي لا شك سائره
الأصدقاء
عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرن من الصحاب
فإن الداء أكثر ما تراه
يحول من الطعام أو الشراب
إذا انقلب الصديق غدا عدوا
مبينا والأمور إلى انقلاب
ولو كان الكثير يطيب كانت
مصاحبة الكثير من الصواب
وما اللجج الملاح بمرويات
وتلقى الري في النطف العذاب
جمع المال
المال يكسب ربه ما لم يفض
في الراغبين إليه سوء ثناء
كالماء تأسن بئره إلا إذا
خبط السقاة جمامه بدلاء
في الثقال
ليس حمد الجفون في مريها النو
م ولا نفيها أذى الأقذاء
إنما حمدها إذا هي حالت
بين طرف العيون والبغضاء
المنى
حرك مناك إذا همم
ت فإنهن مراوح
لا تيئسن فإن رز
ق الله غاد رائح
حظه من الشعر
ويح القوافي ما لها سفسفت
حظي كأني كنت سفسفتها
ألم تكن هوجا فسددتها؟
ألم تكن عوجا فثقفتها؟
كم كلمات حكت أبرادها
وسطتها الحسن وطرفتها!
ما أحسنت إن كنت حسنتها
ما ظرفت إن كنت ظرفتها
أنحت على حظي بمبراتها
شكرا لأني كنت أرهفتها
فرققته حين رققتها،
وهفهفته حين هفهفتها
وكثفت دون الغنى سدها
حتى كأني كنت كثفتها
أحلف بالله لقد أصبحت
في الرزق آفتي وما افتأتها
لم أشكها قط بتقصيرة
فيها، ولا من حيفة حفتها
حرمت في سني وفي ميعتي
قراي من دنيا تضيفتها
لهفي على الدنيا وهل لهفة
تنصف منها إن تلهفتها؟
كم آهة لي قد تأوهتها
فيها، ومن أف تأففتها!
أغدو ولا حال تسنمتها
فيها، ولا حال تردفتها
هوامش
ناپیژندل شوی مخ