ابن المقفع: ائمه الادب (الجزء الثاني)
ابن المقفع: أئمة الأدب (الجزء الثاني)
ژانرونه
لم يشهر ابن المقفع بالمجون والخلاعة، ولكنه كان يصحب من عرفوا بذلك، قال صاحب الأغاني: كان مطيع بن إياس ويحيى بن زياد الحارثي وابن المقفع ووالبة بن الحباب يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك، وكانوا جميعا يرمون بالزندقة. وهؤلاء الذين صحبهم كانوا معروفين أيضا بالخلاعة، ولكنه هو كان إلى الحشمة والتصون أميل.
وروى صاحب الأغاني أيضا أن معن بن زائدة وروح بن حاتم وابن المقفع اجتمعوا يوما عند ابن رامين، فلما غنتهم جاريته الزرقاء بعث معن إليها بدرة فصبت بين يديها، وكذلك فعل روح، أما ابن المقفع فبعث فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم فما عندي منها شيء.
وهكذا كان الغناء يبعث صبوته ويهز أريحته، وله في الفكاهة جواب يدل على أنه نال حظا منها، قال الجاحظ في كتاب البخلاء: روى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشبي يجلس إلي، وكان ربما انصرف معي إلى المنزل، فيتغدى معنا ويقيم إلى أن يبرد، وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال، فألح علي في الاستزارة وصممت عليه في الامتناع، فقال: جعلت فداك، أنت تظن أني ممن يتكلف وأنت تشفق علي، لا والله إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب. فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه، وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام، أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات، ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه، وما أظن أن أحدا يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنية ثم يأتيه بكسرات وملح. فلما صرت عنده وقربه إلي
1
إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة. قال: بورك فيك. فأعاد الكلام، فأعاد عليه مثل ذلك القول، فأعاد عليه السائل، فقال: اذهب ويلك فقد ردوا عليك. فقال السائل: سبحان الله ما رأيت كاليوم أحدا يرد من لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب ويلك وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيك. قال السائل: سبحان الله ينهى الله أن ينهر السائل وأنت تدق ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرح نفسك، فإنك لو تعرف من صدق وعيده مثل الذي أعرف من صدق وعده لما وقفت طرفة عين بعد رده إياك.
هذا وفي انصرافه إلى المواضيع الأخلاقية في أكثر ما ألف وترجم وحثه على الوفاء والصدق والمروءة والإيثار والشجاعة والتقوى. وترك الكذب والحسد. وتقبيح الجبن والبخل؛ دليل على كرم أخلاقه وشرف نفسه، ولقد رفع من قدر الكتابة بمقدار ما غض الشعراء في زمانه من قدر الشعر حين أسرفوا في المدح والقدح، فابن المقفع يمثل الأديب الشريف.
حكمته وآراؤه
جمع ابن المقفع بين عقل الحكيم وتفكيره وطبع الأديب وذوقه، فليست حكمته حقائق عارية، وليس أدبه من هواجس النفس ونزغات الأهواء، وإذا حاولنا عزل حكمته عن عاطفته وجدناها حكمة مشرقية، وأعني بذلك أنها غير مادية، بل هي في كثير من نواحيها روحية مبنية على الرحمة وحب الخير وبث الفضيلة ومساعدة الناس، فالحقيقة عنده مرغوب فيها ما نفعت أو ما كان نفعها أكثر من ضررها، فإذا كان تمحيصها يؤدي إلى تعاسة أو بؤس فالأفضل أن يغفل أمرها أو يحول ضررها إلى منفعة، وهذا النوع من حكمة المتفائلين أقرب إلى علم تهذيب الأخلاق منه إلى الفلسفة الخالصة.
ولكنه مع ذلك لا يقنع بهذا القدر الحكيم من حب الخير، فبين جنبيه نفس أديب تأبى عليه الرضا بذلك المقدار، وتكلفه المبالغة والغلو، فيضيف إلى حكمته الإيثار والمروءة والشجاعة والأريحية والنبل والشرف والشهامة، فهو يستحسن الغنى إذا كان مقرونا بالجود، والعدل مضافا إلى الرحمة، والعقل إذا كان مع الورع، والقوة مع العفو، والشرف مع التواضع، واللذة مع التصون، والصداقة مع الإيثار، وقد مر بك خبر عبد الحميد الكاتب لما التجأ إليه، وخبر جاره الذي أراد أن يبيع داره.
ترجع حكمة ابن المقفع إلى مصادر شتى، فالإقدام والشجاعة والحمية والأنفة والكرم والإيثار عربي، وحب الخير وتعظيم أمر الدين والمساواة والتقوى والاهتمام بأمور الآخرة إسلامي، وما سوى ذلك كالرضا والقناعة وسعة الصدر والأخذ بالحزم والتدبير في شئون الفرد والجماعة وعبادة الجمال هندي وفارسي ويوناني.
ناپیژندل شوی مخ