يجب أن يقع ذلك في ساعة يتقاطر الجمهور فيها إلى الهيكل، فيلتف حوله متعطشا إلى سماع كلامه، كما كان يحدث على شاطئ البحيرة من بلاد الجليل، فيجمع يسوع قواه ليتهم الفريسيين بما يجول في خاطره، فيفضحهم بصادق القول، ولا يهمه أن يؤخذ بكلامه بعد ذلك.
قال يسوع من غير أن يحرض على الفتنة رأسا: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا؛ لأنهم يقولون ولا يفعلون، فإنهم يحزمون أحمالا ثقيلة عسرة الحمل، ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم، وكل أعمالهم يعملونها لكي تنظرهم الناس، فيعرضون عصائبهم، ويعظمون أهداب ثيابهم، ويحبون المتكأ الأول في الولائم، والمجالس الأولى في المجامع، والتحيات في الأسواق، وأن يدعوهم الناس: سيدي سيدي ... ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تغلقون ملكوت السماوات أمام الناس، فلا تدخلون أنتم، ولا تدعون الداخلين يدخلون.» «ويل لكم أيها القادة العميان القائلون: من حلف بالهيكل فليس بشيء، ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم. أيها الجهال والعميان، أيما أعظم: القربان أم المذبح؟ ... ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تعشرون النعنع والشبث
14
والكمون، وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان، كان ينبغي أن تعملوا هذه ولا تتركوا تلك. أيها القادة العميان، يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تنقون خارج الكأس والصفحة وهما من داخل مملوءان اختطافا ودعارة. أيها الفريسي الأعمى، نق أولا داخل الكأس والصفحة؛ لكي يكون خارجهما أيضا نقيا. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تشبهون قبورا مبيضة تظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة، هكذا أنتم أيضا من خارج تظهرون للناس أبرارا، ولكنكم من داخل مشحونون رياء وإثما. ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون؛ لأنكم تبنون قبور الأنبياء، وتزينون مدافن الصديقين وتقولون: لو كنا في أيام آبائنا لما شاركناهم في دم الأنبياء، وأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء، فاملئوا أنتم مكيال آبائكم. أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف تهربون من دينونة جهنم؟»
ويذعر الحضور، فهل ظنوا أن يوحنا قد بعث؟ وهل ذكر يسوع ما كان من شدة يوحنا فرأى أن سبيل الندم والتوبة أولى فعاد اليوم إلى مثل سنة يوحنا؟ كلا، لم يذكر ذلك، ويرى يسوع أن يترك الهيكل الذي لم يجد فيه أثرا للتقوى فيهم بالخروج من الجمع، وإنه لفي الفناء التالي هو وتلاميذه؛ إذ يرى القوم مجتمعين حول ثلاث عشرة خزانة؛ كي يضع المؤمنون فيها ما عليهم، وتقف نظره عجوز تفك عقدة منديلها بصعوبة؛ لتخرج منه فلسين باحثة عن ثقب خزانة لتدخلهما فيه، ويدفعها الأغنياء اللابسون أزهى ثياب، والذين من عادتهم أن يضعوا في تلك الخزائن مبالغ كبيرة على مرأى من الناس، فتتنحى العجوز المسكينة الرثة الثياب جانبا مرتجفة، ثم يخلو الجو فتضع بأصابعها الشثنة الفلسين في خزانة، فيؤثر ذلك في يسوع؛ لما يجده في القدس من خالص التقوى في آخر الأمر فيقول: «الحق أقول لكم: إن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت أكثر من جميع الذين ألقوا في الخزانة؛ لأن الجميع من فضلتهم ألقوا، وأما هذه فمن إعوازها ألقت كل ما عندها كل معيشتها.» •••
لم يدرك تلاميذ يسوع أمره في هذه المرة أيضا، فلم يعرفوا المصيبة التي تساوره، ولا الريب التي تخامره، ولا القنوط الذي يعتوره، ولم تمتد آمالهم ورغباتهم إلى ما هو أبعد من اليوم التالي، وهم إذا ما خاطبوه في أحوال خاصة لم يدر ذلك حول الأمور الروحية. ومن هذا أن جاءت سالومة أم يعقوب ويوحنا وولداها خلفها لتراه، فدل هذا على أنهما هما اللذان أرسلاها إليه، فركعوا وقالت سالومة: «قل أن يجلس ابناي هذان، واحد عن يمينك، والآخر عن اليسار في ملكوتك.»
ذلك، إذن، ما كان يشغل بال أفضل تلاميذه! هما رافقا المعلم أكثر من سنة فلم يريا في مذهبه غير ذلك! فاسمع جوابه مغاضبا: «لستما تعلمان ما تطلبان، أتستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها؟»
فيقولان له: «نستطيع!»
فيقول برفق: «ليس لي أن أعطي الجلوس عن يميني وعن يساري إلا للذين أعد لهم من أبي!»
وفي الغد يحتدم النقاش بين تلاميذه فيخرجونه من صمته؛ فقد كثر اللغط بينهم حول من هو أعظمهم، ناسين قول المعلم لهم: إنه لا ينبغي لأحد أن يرتفع فوق الآخر، وإنه لا يكون في الملكوت الجديد قوة ولا سلطان ولا سلسلة مراتب، فاسمع قوله المر لهم: «أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم، والعظماء يتسلطون عليهم؛ فلا يكون هذا فيكم، بل من أراد أن يكون فيكم عظيما فليكن خادما، ومن أراد أن يكون فيكم أولا فليكن لكم عبدا، كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدم، بل ليخدم.»
ناپیژندل شوی مخ