ويومئ المستمعون برءوسهم إيماء الاستحسان ما رغب الشعب أن يضع السائل سؤالا فلا يستطيع المسئول جوابا، وسيعلم نصف أهل المدينة في المساء ما حدث لا ريب، ويداوم يسوع، ويسوع قد أخطأ أمس؛ لأنه لم يلحق نصر القوة أمس حتى النهاية، ويخطئ الآن؛ لأنه أراد أن يلحق اليوم نصر الروح إلى النهاية، أفيرى ضرب أعدائه علنا؟ أفيستنفد في هذا الهيكل وفي أورشليم جميع قدرته على الكفاح؟ يقص الآن مثل الولد الصالح والولد العاصي، فيقول: «كان لإنسان ابنان، فجاء إلى الأول وقال: يا ابني، اذهب اليوم اعمل في كرمي، فأجاب قائلا: ما أريد؛ ولكنه ندم أخيرا ومضى، وجاء إلى الثاني وقال مثل ذلك، فأجاب قائلا: أذهب يا سيدي، ولم يمض، فأي الاثنين عمل إرادة الأب؟»
قال الكتبة له: «الأول!» آملين أن يكون في جوابه قذف، فكان ما انتظروا؛ فقد التزم يسوع خطة الهجوم فقال بصوت عال: «الحق أقول لكم: إن العشارين والزناة يسبقونكم إلى ملكوت الله؛ لأن يوحنا جاءكم بطريق الحق فلم تؤمنوا به، والعشارون والزناة آمنوا به، وأنتم رأيتم ذلك ولم تندموا أخيرا لتؤمنوا به.»
ويستمع الشعب إليه بخوف واحترام، أفلا يذكر الناس يوحنا حينما يسمعون كلامه، بيد أن أولئك الذين يتربصون به الدوائر يتجاذبهم الغضب والطرب، فهم يرون أنه يقع في الشرك الذي نصبوه له حينما يسبهم، وهو لا يحس غير أثره في الجمهور لا في الفريسيين، وهو لجهله ما في أورشليم من النفاق، حينما طعن أولئك بتلك الضربة، هز سلاحه الروحي مرة أخرى فأكثر من ضرب الأمثال، فاختلط بعضها ببعض، فأفسد أثرها ، فأصبح ما قاله في أمر الوالد والكرمة أمرا معقدا، فقال مهددا: «إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره.»
وتؤذي هذه الكلمات مستمعيه، فلا يريد أحد منهم سماعها، فينهض الكتبة ويختلطون بالجمهور فيذيعون بينه أن يسوع مختل الشعور.
وتشبه الحظوة لدى الشعب نقابا مترجحا، فترتد هذه الحظوة عن يسوع بعد أن مالت إليه، وبيان الأمر أنه سهل على الرؤساء وأولياء الأمور أن يؤثروا في الرأي العام بأورشليم، فعاد التجار إلى موائدهم، وعادت التجارة بين البائعين والمشترين إلى ما كانت عليه؛ لعجز الحجاج الغرباء عن تقريب القرابين الفصحية بغير هذا، فيستهزأ عما قليل بجليلي ممسوس رغب بالأمس في تقويض ثابت التقاليد، فلا يحرك اليوم ساكنا تجاه عودة الأمور إلى مجاريها، قانعا بالجلوس على الدرج ليكذب الكتبة ويناقضهم.
ويشعر يسوع بما يقع، وينفذ إلى سرائرهم من أسارير وجوههم، ولا يرضيه ما ناله من نصر ناقص، ويحس أن تلك المدينة قد تضني بنظمها أصلب الناس عودا، فيغادر الهيكل للمرة الثانية راجعا إلى عزلته الهادئة، حاملا أفكارا بائسة مختالة في آن واحد.
ويعطش يسوع فقد تكلم نصف ما قبل الظهر من ذلك اليوم، ويكاد يحترق من حرارة ذلك الجو، ويجتنب سوق التجار، وتكثر أشجار الفواكه في المنحدر الغربي من جبل الزيتون، ويباح للمار أن يقتطف منها. ويسوع إذ يبتعد كثيرا عن جذور طبيعته منذ يومين يذهل عن الموسم فيبحث قبل حلوله عن تينة في شجرة ليس عليها غير الورق، ويسوع إذ كان ملما بنمو النبات لم يسبق أن طلب في بلده تينة قبل شهر يونيو، فتراه يريد تينة في اليهودية الصخرية منذ شهر أبريل، والشجرة إذ لم تجبه إلى طلبه فيتضاعف عطشه، يرفع يديه إليها ويلعنها قائلا: «لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد.»
وعلى ما قام به يسوع من وعظ منذ سنة فيكثر من منح البركات، وعلى كثرة إنذار يسوع ووعيده في المدة الأخيرة لم يسبق أن نطق باللعنة في تلك الأثناء، واليوم تراه في الهيكل يلفظ بأفظع نبوءة ضد المرائين فيطردهم من ملكوت السماوات، والآن تراه في تلك الطريق الصاعدة الجافة تعبا صاديا
13
مغاضبا متأثرا من الجدل الأخير، فيلعن نباتا بريئا يثمر وفق سنة الله، فينسى بركاته الطيبات، فيستدعي قدرته التي اتفقت له ابنا لله؛ لإفناء إحدى مخلوقات الرب الأب التي لا تؤذي أحدا!
ناپیژندل شوی مخ