وهنا أقول: إنني فسرت ما أشرت إليه من معجزات يسوع تفسيرا طبيعيا، ما قصدت كتابة تاريخ رجل، وما أردت بيان أخلاق إنسان؛ فليس مما يزيد يسوع عظمة أو يحط من قدره عزو مائة معجزة جديدة إليه، أو إنكار أية معجزة له، فتراني قد مزجت مختلف الروايات مزجا تبدو به الحقائق، فلم أعتمد إلا قليلا على إنجيل يوحنا، الذي وجه إليه من الانتقاد في الوقت الحاضر ما يوجه إلى غيره، مستندا إلى إنجيل مرقص وإنجيل متى على الخصوص.
ولم أضف إلى هذا الكتاب ما هو جديد، فكان ما ترى من صغر حجمه، فليس القصص التاريخي الذي هو مسخ للقصة والتاريخ معا - كما قال غوته - بجائز عند قلة المصادر، وإن أحل عند كثرتها؛ فيجب على من يرغب في وضع أقوال على لسان يسوع للدلالة على مقاصده أن يكون شبيها له في بصيرته ووجدانه.
من أجل ذلك، تجد لما هو مسطور في هذا الكتاب من قول ليسوع أو عمل له أصلا في الأناجيل. ولم نر إتمام ذلك إلا بما تصورناه له من نظرات وأوضاع وأوجه تعبير، ووصل بين الفكر والكلام، وبيان للأسباب، وتسلسل للمشاعر.
ولم نسر في هذا الكتاب على طراز الأناجيل ما أدى ذلك إلى ابتعاد المعاصرين عن مطالعته. وما دمنا على علم باعتراك الأهواء، واصطدام الأغراض، وضروب المحرضات، واختلاف الأحكام، وما إلى ذلك من الأمور الملازمة لضمائر الناس.
ونحن إذ اجتنبنا في كتابة هذه القصة تزويق الكلام؛ لما يجر إليه من الخيال، لم يبق لدينا غير ما هو مماثل لحفر الخشب.
وليس من مقاصد هذا الكتاب زعزعة إيمان من يؤلهون يسوع؛ وإنما نثبت فيه للذين يرونه من صنع الخيال أنه بشر حقيقي، قال روسو: «لو لم يظهر يسوع حقا لكان واضعو الأناجيل عظماء مثله.»
ولم أعرض في هذا الكتاب مذهبا معروفا، بل أوضحت فيه باطن حياة ذلك النبي الذي فاق جميع معاصريه، وإن لم يكن لديه من السلاح ما يغلبهم به، ولم أبال بما نسب إليه من عمل لاحق ما دام ذلك من فعل الآخرين، لا من فعله، بل حاولت أن أوضح فيه تاريخ قلبه، وإن شئت فقل تاريخ شعوره ومقاصده، وعوامل قيادته للناس، وميوله وأحلامه، وتبدد أوهامه، وما قام في نفسه من صراع بين الإقدام والإحجام، وبين البأس واليأس، وبين الدعوة والسعادة.
وإذ إن غايتي هي كما ذكرت لم أكن جازما فيما شرحت وفسرت، فكان ما تراه من البساطة، وعدم التصنع، وملاءمة روح الزمن الحاضر.
وقد صدرت كتابي بمقدمة رسمت فيها البيئة السياسية الفكرية التي ظهر فيها نبي من ذلك الطراز، وأبنت فيها كيف نضجت فيه الأفكار السائدة لذلك العصر، وكيف بشر بها. وفي هذا ما يكفي لإثبات عظيم عبقريته.
وهذا إلى أن سر عمله العجيب في قلبه الإنساني، لا في عبقريته.
ناپیژندل شوی مخ