اختار يسوع هذه التسمية من الكتاب المقدس؛ وذلك حينما بحث عن أوضع اسم تصوره الأنبياء، فابن الإنسان ولد ليخدم لا ليخدم كما قال. وسار يسوع على غرار يوحنا في الكلام عن مأتى الإنسان ومرده، فلما دعاه الفتى الغني ب «المعلم الصالح» رفض هذا ولامه بقوله: «لماذا تدعوني صالحا، ليس أحد صالحا إلا واحد؛ وهو الله.» •••
تلك هي حياة يسوع التي ظهر بها في معزل عن يومه وقومه، ويجتنب يسوع، كجميع اليهود، أية صلة بالمشركين، محذرا تلاميذه منهم، ولم يخطر ببال يسوع أن يرشد المشركين أو يشفي مرضاهم، وهو إذا حدث عنهم فباشمئزاز، وهو إذا وصف خطيئة قال: «أليس الوثنيون أيضا يفعلون هكذا؟» فالمشركون يجدون في طلب الفلوس والأموال، فلا ينبغي لتلاميذه أن يحملوا إليهم البشرى، كما أنه لا يجوز إعطاء ما هو مقدس للكلاب، وطرح اللآلئ أمام الخنازير، ويجب على تلاميذه أن يبتعدوا عن السامرة الآهلة بأخلاط السكان، والحاجزة بين الجليل واليهودية، ويسوع على ما يبدو من تحاشيه عن أورشليم لا يرى أن يحمل إلى السامريين رسالة الرب الذي يعبده اليهود في الهيكل المقدس.
وما كان يسوع ليمس شعور أحد في أمور الدنيا؛ فهو لم يرفع عقيرته ضد هيرودس مع سجنه ليوحنا المعمدان، وهو لم يفه بكلمة ضد رومة ولا ضد دولتها العالمية، ولا ضد أي قوي، وما كان يسوع ليبالي بالخصومات الراهنة مهما صغرت أو عظمت، فلما قال له أحد تلاميذه: «قل لأخي أن يقاسمني الميراث.» أجابه بعنف: «من أقامني عليكما قاضيا أو مقسما؟» ويسوع لم يأل جهدا في ربط مذهبه الجديد بالمذهب القديم بلباقة فقال: «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني والحق أقول لكم: إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل.» حتى إن يسوع يأمر الجمهور باتباع الفريسيين في أمور الشريعة، فقال: «إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات.»
ويسوع عدو أولئك الكهنة وهم أعداؤه مع ذلك، فكانوا يتبعون خطواته بحذر في البداءة ، وكانوا يدعونه إلى الطعام معهم ، وفي كفر ناحوم باحثه مديرو المعبد ودعوه ب «السيد»، وأنصتوا لتفاسيره اللبقة، بيد أن الغم ساورهم بعد قليل زمن عندما ذاع صيته، فأخذوا يتحينون الفرص لفض الجمهور من حوله، فمما حدث أن رأوه ذات يوم يأكل من مائدة العشارين والخطأة فرحا مسرورا، فسأل فريسي أحد تلاميذه: «لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطأة؟» فسمع السؤال يسوع الجالس أمام ناحية أخرى من المائدة، فعرف مغزاه، فاستشاط غيظا فقال له بحدة: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى؛ فاذهبوا وتعلموا ... لم آت لأدعو أبرارا، بل خطأة إلى التوبة.»
هذه هي الضربة الأولى التي وجهها يسوع إلى أعدائه، فنالت من نفوسهم كثيرا، فغادروا المكان من غير أن ينبسوا بكلمة، فكان هذا أول الخصام.
ولكن كيف يؤخذ يسوع؟ إذا راقه الجلوس اليوم حول مائدة الخطأة وحل المعبد في الغد، سأله الجمهور أن يعظه، فلا يقدر أولئك على منع ذلك، أليس يسوع من المبدعين الخطرين الذين يبدءون مواعظهم في أقاصي البلاد بين فقراء القرى؛ حيث لا تحاسبهم جمعية على ما يقولون؟ ألم يهاجم الأغنياء كأن الغنى إثم؟ لم يكن ما بدأ به يوحنا المعمدان غير ذلك، وكاد خطبه يتفاقم لو لم يزجه هيرودس بالسجن. أجل، أجل، يجب أن يراقب يسوع بحذر على أن يترك حبله على غاربه لوقت معين؛ فهو كلما سار طليقا فيما يقول، دنا من الساعة التي يخالف فيها الشريعة، فيقبض عليه.
ذهب يسوع وتلاميذه في يوم سبت من أيام مايو للنزهة؛ أي حين حل وقت حصاد القمح، فجاعوا، فقلع شبانهم وهم سائرون سنابل ليأكلوا حبوبها، فلقيهم فريسيان من الرقباء مصادفة فسألاهم عن سبب خرقهم لحرمة السبت - والسبت عند أولئك القوم هو الناموس المقدس الأعظم القادر على تقييد الطبيعة، فيصفون الينابيع التي لا تجري منتظمة بالسبتية - فقال لهم يسوع الذي يخاطب العوام بلغتهم، ويخاطب الكهنة بلسان الشريعة: «أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه؛ كيف دخل بيت الله وأكل خبز التقدمة الذي لم يحل أكله له ولا للذين معه ، بل للكهنة ... السبت إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت، إذن ابن الإنسان هو رب الشعب أيضا.»
فتبادل الفريسيان النظرات مغاضبين عند سماعهم كلام هذا الذي انتهك حرمة السبت.
وبعد قليل زمن أتي إلى يسوع بمفلوج يحمله أربعة رجال على سرير، فلم يستطيعوا الوصول إليه لشدة الزحام؛ فنقلوه إلى بيته، ويسوع إذ كان يرى الخطيئة في المرض قال للمريض: «يا بني، مغفورة لك خطاياك.» وكان هذا على مسمع من بعض الكتبة فسألوا في قلوبهم: «لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر الخطايا إلا الله وحده؟» فتنبأ يسوع بما لم ينطقوا به، ويسوع قد فطر على تبين أعدائه حتى بين الجمهور، فأجاب عن ذلك بقوله الحازم: «لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال للمفلوج: مغفورة لك خطاياك، أم يقال: قم واحمل سريرك وامش؟»
هنالك أثرت جاذبية عيني يسوع في المريض، فنهض المريض وحمل السرير وانصرف.
ناپیژندل شوی مخ