ويسوع وحده هو الذي ظل واقفا بعيدا من الجمع، ويسوع لم يسمع اللعنة الأخيرة التي صبها المعمدان، فلم يزل قول المعمدان: «يأتي من هو أقوى مني» يرن في أذنيه ويخالج فؤاده، فكان مثل يسوع وقتئذ كمثل النائم الذي يواثبه الفكر فيتلاشى ليعود إليه وليتلاشى مرة أخرى، فكان كلام المعمدان يصعد في قلب يسوع ويهبط ليزول منه عند صحوه من غفوه!
وفي الغد جاءت نوبة يسوع ليعمد، ومما لا ريب فيه أن ذكر يسوع ليوحنا اسمه وبلده وحرفته وما إلى ذلك، ومما لا ريب فيه أنه لم يدر في خلد يسوع شيء يعترف به حينما جاء دور الاعتراف؛ فهو وإن كان يستغفر ويدعو الرب كبقية الناس؛ حبا للرب وشعورا بالذنب، لم يكن لديه إثم معين يذكره، وهو لو عد حقده على الكهنة ذنبا فاعترف به ليوحنا؛ لتضمن ذلك عد يوحنا نفسه مذنبا أيضا. من أجل هذا آثر يسوع السكوت على الكلام ما استطاع، مدققا عن كثب في يوحنا المتعصب الشديد الذي يبدو عليه جلال النبوة من غير أن ينتحل لقب النبي، والذي يدعو إلى الثورة على المال والسلطان من غير أن يغادر البرية، فهذا هو الوضع الذي كان عليه يسوع تجاه المعمدان.
ولم يكن تدقيق يوحنا القوي الفراسة في يسوع حينما طلب منه هذا باتزان أن يعمده أقل من ذلك، فلاحظ يوحنا في يسوع مع فقره وهدوئه من أوضاع الملوك ما لم يجد له تفسيرا، فرآه ذا نظر ثاقب، وصوت عذب، وطراز تحية بعيدة من الذل، ورأى فيه عظيم قيمة مع محاولته إخفاءها؛ فمن أين اتفق لهذا النجار ذلك؟ أفيعرف هذا الناصري حقيقة أمره؟ أخفى كل منهما عن صاحبه ما دار في خلده ودخلا النهر.
وقف كل من الصاحبين العاريين بجانب الآخر في الأردن، ويترجح عمر كل واحد منهما بين الثلاثين والأربعين سنة، ويغمرهما الماء الفاتر الثقيل الأصفر إلى سرتيهما، ويبدو سيد البرية يوحنا طويلا ذاويا، بادي العظام، أشعث الشعر واللحية، ناسكا متعصبا، ويبدو صديق الحدائق يسوع أهيف متناسبا مزرفن
10
الشعر شاعرا خياليا، أفليس من طبيعة الأمور أن يحني ألطف الرجلين رأسه، وأن يضع أخشنهما يده عليه ليصب الماء على بدنه؟ ويفكر يوحنا في عمله، ويفكر يسوع في أبيه.
ويخرج يسوع من الماء مطهرا من ذنوب لم يقترفها منقبض الصدر أكثر من قبل؛ لما يراه من عدم انطباق سبب العماد عليه، حائرا أكثر منه مغاثا، مرتبكا من تعاقب صور الماء والمعمدان والجمهور في ذهنه، فيتنحى قليلا ليجمع حواسه، فيتكئ على العوسج ويغمض عينيه، وفيما هو كذلك إذ يسطع نور أمامه فيرى رؤيا ويسمع صوتا: يرى أبواب السماء فتحت، وحمامة منها نزلت، ويسمع من السماء صوتا قائلا: «أنت ابني الحبيب الذي به سررت.»
هنالك ارتعد يسوع وألقى السمع فقال: هذا هو صوت أبي، ويسوع كان قد سمع هذا الصوت غير مرة في خرير السواقي، ونور الكواكب، وكلام الأولاد، فلم يعد ذلك، آنئذ، حد الشعور والهمس بغير نطق، وأما الآن فيسمعه برفق ووضوح مخاطبا إياه بلغته، وداعيا إياه بابنه.
ذعر يسوع ففر من الجمهور ومن المعمدان إلى البرية. •••
يخرج يسوع من ذهوله بعد يوم من دخوله البرية، فيتذكر بالتدريج ما حدث مع دوام دهشه، وتزيد نفس يسوع اضطرابا في تلك العزلة القاسية التي اختارها لنفسه، وهو الذي لم ير البرية فيما مضى، فأخذ يضغن عليها الآن. والبرية عاطلة مما تعود أن يرى فيه، منذ طفولته، وجه الرب، من المياه والأزهار والحيوان والإنسان وضروب الأعمال، والبرية مشتملة على الحصى والرمال المتفتتة المتموجة تلالا، فلا يقدر على الصلاة فيها.
ناپیژندل شوی مخ