87

Ibn Hanbal: His Life and Era – His Opinions and Jurisprudence

ابن حنبل حياته وعصره – آراؤه وفقهه

((كان مائلاً إليهم، مقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حلم، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، إذا جلس في مجلسه بعد العصر للفتيا، لا يتكلم، حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدر، يقعد حيث انتهى به المجلس)) (٢).

٨٦ - الصفة الثالثة من صفات أحمد التي امتاز بها النزاهة بأدق معانيها، وكانت في أشكالها وصورها ذات مظاهر عدة، فهو نزه النفس، فلم يأخذ قليلاً، ولا كثيراً من مال غيره، فكان عفيفاً في أعلى درجات العفة، وعيوفاً عن أموال الناس في أكمل ما يكون عليه الرجل الكامل، وكان نزيهاً في إيمانه، فلم يجعل لأحد عليه سلطاناً، ولم يطق أن ينطق بغير ما يعتقد، ولا أن يواري ويداري، ولو كان السيف يبرق في يد من يرعد به، ورضي بإنزال الأذى الشديد عن أن ينطق بكلمة فيها مداجاة، فما كان يرضى بالدنية في دينه، وكان نزيهاً في عقله، فلم ير أن يخوض في أمر لم يخض فيه السلف الصالح، وكذلك سلك في فقهه، فوجد أن من نزاهة العقل ألا يفتي حيث علم أن لأحد الصحابة فتوى في المسألة التي سئل فيها، بل كان إذا وجد الصحابة اختلفوا في مسألة لم يوازن بين أقوالهم، ويختار واحداً منها، على ضوء ما تؤدي إليه الموازنة المستقيمة، والقياس الدقيق، إذا لم يكن نص أو خبر صحيح، بل يجعل المسألة ذات أقوال، وللمبتلى أن يختار أيها شاء، إذا لم يكن أحدها أقرب إلى النص من غيره، فنزاهة الفكر أو الفقه عنده توجب عليه الاتباع المطلق للسلف الصالح، وليس من شأن الاتباع المطلق أن يخطئ هذا، ويصوب ذاك من غير نص، إذ كل واحد منهم من رسول الله ملتمس.

٨٧ - هذه نزاهة مطلقة - أخذ نفسه ذلك الإمام الجليل بها، ولقد دفعته عفة النفس أو نزاهتها على حد تعبيره أن يترك بعض الحلال، وأن يمتنع عن قبول عطاء الخلفاء، مع تصريحه لبعض أولاده بأنه حلال يصح الحج منه، وأنه يتركه تنزيهاً للنفس، لا تحريماً.

وبهذا التضييق الذي سلكه في شأن نفسه، حتى كان لا يأكل إلا من كسب يده، أو من غلة عقار ورثه، ويلقى في سبيل ذلك العناء الشديد، والحرمان من كثير من طيبات الحياة، ولهذا كان زاهداً، ولكنه زهد، ليس أساسه الرغبة عن طيبات

(١) تاريخ الحافظ الذهبي.

86