تلك هي أقسام العلوم عند محيي الدين، وفيها تنطوي معارف البشر كافة من علوم ظاهرة وباطنة؛ فعلم العقل: هو علم الأدلة، علم الجدل والإقناع، علم التفكر والنظر، وبدايته ونهايته محددة، ومعارفه حولها القيود والسدود ؛ لأنه خاضع لإدراكات العقل، وقانون الفكر؛ ولهذا جاء منه الصحيح والفاسد، لاختلاف العقول وتباينها، وهو علم مباح للناس كافة، كما رزق الناس كافة العقول.
أما علم الأحوال، فهو علم التجربة والذوق، لا يعرفه إلا من جرب أو ذاق، كمقامات المتصوفة ودرجات أحوالهم، أو حالات النفس من الرضا والغضب، أو تذوق الحواس للمرارة والحلاوة، وشرطه صحة الأداء عند صاحبه حتى لا يفسد حكمه على الأشياء.
وهو علم وسط بين علوم العقل وعلوم الأسرار؛ ولهذا يشترك فيه المتصوفة وغيرهم، لكل إنسان ما ذاق وشاهد؛ وليس لأحد أن يصدر حكما على ما يذوق أو يشاهده صاحب هذا العلم؛ لأنه إنما يذكر ما ذاق خاصة، وما شاهد وحده.
أما العلم الثالث: علم الأسرار، فهو علم المتصوفة وحدهم، علم المشاهدة والمكاشفة، العلم الجامع المحيط الشامل للمعارف كافة، العلم الذي هو للأنبياء أصلا، وللأولياء خلعة منحة. وعلى العاقل ألا ينكر، بل عليه أن يتقبله بالقبول الحسن، ما دام لا يتعارض مع أصل من أصول الشريعة، ولا يهدم ركنا من أركانها، بل هو يشرح الأصول ويدعم الأركان، ومن هذا الفيض كانت معارف محيي الدين، والمعترض على هذه العلوم بلا دليل متهور ناقص العقل، محروم من الفهم والخير.
علم التجليات
ويستطرد محيي الدين، فيضيف لهذه العلوم تتمة تكمل بها، أو إن شئت فهو يحدثنا عن المقام الذي تتنزل منه المعارف على أربابها.
والمتصوفة يؤمنون بأن المعارف أصيلة في النفس البشرية لا دخيلة عليها؛ لأن العلوم كافة من الله، هو مانحها، وهو - سبحانه - واهبها ومفيضها، علم آدم الأسماء كلها، ويعلم من يشاء.
يصور لنا محيي الدين الكون في صورة جميلة منسقة، منظمة متماسكة، يشد بعضها بعضا بناموس وقانون إلهي محكم، ومن قانون هذا الكون: الحركة الدائمة، وهذه الحركة، كما هي في الكون مصدر وجوده، أو كما يقول: إن الخلق مع الأنفاس يتجدد. هي أيضا في الإنسان مصدر أحواله ومعارفه، يقول محيي الدين: «العالم في حركة دائبة، وللإنسان أحوال متقلبة، حتى ليحدث التقلب بين كل نفسين، ومرد هذه الحركة في الكون إلى قوله - تعالى:
كل يوم هو في شأن .
وأعلى العلوم هي مرتبة العلم بالله - سبحانه، وأعلى الطرق إلى العلم بالله: علم التجليات، ودونها علم النظر. وعلم التجليات هو الذي نزل فيه:
ناپیژندل شوی مخ