وثمة صفة أخرى واضحة في حياة محيي الدين، فعلومه علوم كشف وفيض، ومصادر الكشف والفيض هي الإلهام الإلهي والفتح الرباني، وهو يقول في صراحة: إنه لا يكتب عن روية وفكر؛ وإنما عن نفث في روعه، وأن تصانيفه من خزائن القرآن، وقد أعطي مفاتيح الفهم فيها والإمداد منها.
وعلوم الكشف والفيض لا يمكن أن تجادل، ولا يمكن أن تناقش؛ لأنها علوم ذوق وتذوق، وليس في الذوق جدل ولا جدال.
وإذا كان محيي الدين، قد سلم من الجدل والخصومة في حياته، فقد انطلقت العواصف في أثره جامحة هادرة، فقد ترك في الدنيا دويا، وأحدث زلزالا؛ اختصمت فيه الدنيا، وتصارعت حوله العقول. فهو القطب الإمام، والعالم الفرد الأوحد عند رجال التصوف، وهو الزنديق المتفلسف، الهاتف بالحلول ووحدة الوجود عند الماديين وبعض الفقهاء الجامدين، ولكن هؤلاء وهؤلاء - وإن تجادلوا وتصارعوا في عقيدته - لم يختصموا في علمه، ولم تجرؤ ألسنتهم على الانتقاص منه.
ولعل من آيات محيي الدين التي تفرد بها أن كتبه أمة وحدها؛ فقد برئ قلمه مما أصيبت به أقلام الكاتبين الذين تلمح في آثارهم معارف عصرهم، أو تراث عصور سابقة، فقد تغلب بمواهبه العقلية والروحية، وبإلهاماته الدينية وكشوفه القلبية على جيله وعلى الأجيال التي سبقته، بل لقد احتفظ بتفرده وتفوقه على الأجيال التي تعاقبت بعده، فعاش في التاريخ منارة لا تطاول، وصرحا شامخا ممردا ترتد عنه العيون، وتخشع لديه الأفئدة.
وما فكرت يوما في محيي الدين، إلا وترتسم في مخيلتي، قمة جبل إفرست، والصراع الذي دار حولها للوصول إليها، وتواثبت في خواطري صور هؤلاء الذين جاهدوا للوصول إلى تلك القمة الباذخة المعتصمة بجلالها ورهبتها، وكيف توالى عجز الواثبين والطامحين، وكيف فشلت الجهود متفرقة ومجتمعة في الوصول إلى أعلى قمم الدنيا، وأرهب مرتفعاتها.
وكذلك عندي محيي الدين، قمة شامخة في سموقها الرائع، شامخة بأسرارها وعلومها وإلهاماتها، قمة هي أعظم ما وصل إليه الخيال المحلق في ميادين العلم والفلسفة والدين، قمة قد أحاطها صاحبها بالصعاب والمشاق والتهاويل، حتى غدا الوصول إليها ضربا من كفاح لا ينتهي، وغدا المرتقى قاسيا مرهقا حتى لجبابرة الأجنحة.
قمة تدفع عنها الضعيف المتخاذل، بل وترد أيضا عن سرها القوي المناضل، إنها لقمة الذوق والتذوق؛ فهي في حاجة أولا إلى الذوق والتذوق.
وإذا كان الأصمعي يقول: إن الكتاب أشبه بساحات الملوك، يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والنوى، فساحة محيي الدين كالمحراب، لا تقع فيها إلا على در مكنون، أو سر مصون، أو نور موهوب؛ لأنها ساحة فوق قمة، قمة متطلعة إلى السماء وهدى السماء.
ولست أزعم لك أن هذا الكتاب، معراج يرقى بك إلى تلك القمة، أو مفتاح سحري يوصلك إلى محرابها المقدس، وأنك ستشاهد المحراب، وستحظى بعجائبه، وستظفر بأسراره، وستنعم ببدائعه؛ فذلك مطمح لا تطيقه الأقلام، ولا تدعيه الأذواق.
وإنما أرجو أن أكون قد فتحت لك نافذة، تشاهد منها ذلك الأفق العلوي، أو دفعت إلى يدك بمنظار مكبر، يجلو ويوضح، ما يمكن أن يرى من تلك القمة الشامخة.
ناپیژندل شوی مخ