98

فالشيطان على هذا الاعتبار جيوش من الشياطين يجسمها القارئ، أو ينظر إليها كأنها معاني الشاعر في قريحته مطلقة بغير تجسيم، وبغير شخصية مرتسمة في الحس أو الخيال.

وبعد شيطان بليك - أو شياطينه - لا تحفظ تواريخ الأدب الغربي صورة لشيطان شعري عمل فيها الفن، وبواعث النفس، وحوادث العصر غير شيطان كردوتشي، شاعر الثورة الإيطالية (1870-1907) وصاحب جائزة نوبل قبل وفاته بسنة.

وتكاد قصيدة الشيطان من نظم كردوتشي أن تكون نشيد صلاة، وقد سماها هو نشيدا ونظمها على وزن التراتيل التي تنشد في الصلوات، وقال فيها: إنه لا يحفل بالتاريخ القديم تاريخ حرب الشيطان مع الملك ميكائيل، وإنه يحيي إبليس لأنه قاهر الكهان ورافع علم الثورة، ويناديه: لا تهرب مني حين أناجيك؛ فإنني أود أن أنطلق إليك بروحي، ولا يكفيني أن ألتقي بك في الشعر والخيال. ويختم النشيد قبل المقطوعة الأخيرة قائلا:

إنك أيها الشيطان العظيم، إنك تعبر البحار وتطوي الأرضين، إنك تنفث الدخان كالبركان، وتجوس خلال الديار، وتمضي حيث تشاء كما تشاء.

وانطلاق الشيطان مع سخريته بالكهان هما آية الحرية عند كردوتشي الثائر على طغاة الدنيا والدين، ولا يبعد أن يكون الشاعر - كما قال ابن وطنه جيوفاني بابيني - متأثرا بأستاذه ليوباردي في قصيدته عن إله الشر أهريمان، صاحب القضاء النافذ في الوجود كله، منفردا - في رأي ليوباردي - بغير شريك من أرباب الخير أو ملائكته في الزمن القديم أو الزمن الحديث.

ونحن في هذه العجالة يجزئنا ما تقدم في باب شياطين الشعراء التي عمل فيها الفن، واصطبغت بصبغة البواعث النفسية والحوادث السياسية، ولم يستوعب هؤلاء الشعراء الذين ذكرناهم كل ما يقال عن إبليس أو عن الشياطين كما يعتقدها أتباع المذاهب منذ القرون الوسطى، فقد كان أكثر الشعراء يجربون قرائحهم في مأساة آدم والشيطان. ولعلنا نحيط بهذا العالم الزاخر إذا عرفنا أن رجلا مثل هوجو جرويوس (1583-1645)، الملقب بأبي القانون الدولي، قد جرب قلمه وقريحته في هذه المأساة، وكان معاصرا للشاعر ملتون، فانتشرت قصائده إلى جانب القصائد الخالدة التي نظمها ذلك الشاعر المعدود اليوم في الذروة بين أشعر شعراء العصور.

وبعد زهاء قرنين، أوحى اسم هوجو إلى سميه الفرنسي الكبير فكتور هوجو (1802-1885) أن يجرب قلمه وقريحته على نمطه، فنظم قصائده في خاتمة الشيطان، ونادى بموته ولحاقه بإبليس جاحد ربه بين عقول كالخفاش الذي يخاف النور، أو البومة التي تستهدي الظلام، والغراب الذي يسلم الفضاء للنسر والعقاب والعنقاء ومن فوقها مرمى السهام التي لا تبلغ الهدف إلا من وراء قناع الموت! ودون ذلك كله، وتنحسر أشواط الأبالسة والشياطين.

إلا أن هذا المحصول الزاخر لا يزيدنا لونا من ألوان الصورة في ضمير المؤمن، أو في قريحة الشاعر، وهذا الذي تحريناه في إهمال ما أهملناه، والإلمام بما أشرنا إليه، بيد أننا لا نستطيع أن نهمل هنا صورة شيطانية تقترن باسم الشاعر الفرنسي بودلير، صاحب ديوان «أزهار الشر»، وناظم القصائد في الابتهال إلى الشيطان «أحكم الملائكة الذي سرق منه القضاء ثناءه، والذي سجل عليه الطرد والحرمان من لا يزال يخطئ ويغلط»؛ فإن هذا الشيطان عارض نفساني يصور الانعكاس في السريرة المشوهة، فتتعمد التوجه إليه على سبيل النقمة والنكاية، وتصلي إليه ليشفق عليها كأنها تستجدي الشفقة الإلهية - عكسا - بلسان اليأس والكبرياء.

وفيما عدا شيطان بودلير لا نرى في هذا الفصل موضعا للشياطين التي تخيلها الشعراء، ولم تدخل في عداد الصور الخلقية وخوالج الوجدان في الإنسان منفردا، أو جزءا من أجزاء الجماعة، فالشاعر الروسي لرمنتوف خلق في إحدى قصصه شيطانا لا يعدو أن يكون إنسانا متنكرا يزاحم الناس على العشق والشهوة، والشاعر الإنجليزي بيرون خلق شيطانا في قصيدته «رحلة الشيطان» لا يعدو أن يكون مخبر صحيفة يروي للقراء ما يروى في المجالس النيابية ومجالس السمر، وغيره من الشعراء قد اختار اسم الشيطان ليجري على لسانه كلاما يجريه بعض الشعراء الآخرين على ألسنة الطير والحيوان، أو على ألسنة الشجر والجماد.

أما الشيطان الذي نعرض هنا ذكره، فهو الشيطان الذي يحوم في النفس الإنسانية، وبين الجماعات البشرية في تقاليدها وموروثاتها ومقاييسها لخيراتها وشرورها، وهو الشيطان الذي يطيف به خيال الشاعر معبرا عن شعوره، وإن لم يكن من عقائد دينه، كالشياطين التي سميت بأسمائها في الأدب العربي؛ هبيد ومسحل والهوجل وجهنام، أو كالشياطين التي يعتقدها المتدين، ويفتن الشاعر في تصويرها لامتيازه بملكة الخيال، وملكة الرمز والتشخيص؛ فهذه الشياطين قوى مشتركة في طبائع الناس، وقيم نفسية يقومها الناظرون في الأخلاق والطباع، ولو رفعناها منها بأسمائها لبقي مكانها متطلبا منا أن نسميها بغير تلك الأسماء؛ لأنها لا تقبل السكوت عنها، ولا تغفلها الحياة إن أغفلها اللسان.

ناپیژندل شوی مخ