86

إلى آخرها ...

ثم قال: يا إبراهيم، هذا الغناء الماحوزي خذه وانح نحوه في غنائك، وعلمه جواريك، فقلت: أعده علي، فقال: لست بمحتاج، قد أخذته وفرغت منه. ثم غاب من بين عيني فارتعدت لذلك، وقمت إلى السيف فجردته، وغدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن عندي؟ فقلن: سمعنا أحسن غناء، لم نسمع قط أحسن منه. فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا، فسألت البواب عن الشيخ الذي خرج، فقال: أي شيخ؟ والله ما دخل عليك أحد ... فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت: لا بأس عليك يا أبا إسحاق! أنا أبو مرة إبليس ... وقد كنت نديمك اليوم فلا ترع ... فركبت إلى الرشيد وأخبرته بالحديث، فقال: ويحك! أعد الأصوات التي أخذتها. فأخذت العود فإذا هي راسخة في صدري ...»

وقد كان عهد العرب بعزيف الجن في الصحراء قديما جدا لم يتغير ظنهم به فيما نظمه الشعراء الإسلاميون، كذي الرمة حيث يقول:

ورمل كعزف الجن في عقداته

هرير كتضراب المغنين بالطبل

غير أنهم خصوا الشاعر بالشيطان الملازم، ولم يجعلوا للمغني شيطانا مثله؛ لأن فن الشعر كان أقدم عندهم من فن الغناء، وإنما كان غناؤهم حداء أو محاكاة للحداء، وكان الحداء نغما شائعا يغنيه كل سائق يحدو الإبل، فهي طريقة لا محل فيها للافتنان والتنويع، وكان غناؤه على الأكثر في قافلة لا ينفرد عنها بمكان يظن أنه يخلو فيه بالجن لتلقنه ويستمع منها، فلما ظهر المغنون آحادا منقطعين لعملهم، منفردين بوضع ألحانهم، أحبوا محاكاة الشعراء بالأخذ عن الجن في صناعتهم مغالاة بها عن قدرة الإنس في هذه الصناعة، ولكنهم طرءوا بهذه الدعوى ولم يتأصلوا فيها كما تأصل الشعراء، فسمعت من آحاد متفرقين ولم تكن إجماعا من وحي البديهة في البيئة بأسرها. •••

وقد روي عن الصناعات العلمية كالطب ما روي عن صناعة الكلام وصناعة الغناء، فأسند صاحب كتاب «الهواتف» إلى النضر بن عمرو الحارثي قصة قال فيها:

إنا كنا في الجاهلية إلى جانبنا غدير، فأرسلت ابنتي بصحفة لتأتيني بماء فأبطأت علينا، وطلبناها فأعيتنا فيئسنا منها ... قال: والله إني جالس ذات ليلة بفناء مظلتي إذ طلع علينا شيخ، فلما دنا مني إذا به ابنتي، قلت: ابنتي؟ قالت: نعم، ابنتك! قلت: أين كنت أي بنية؟ قالت: أرأيت ليلة بعثتني إلى الغدير؟ أخذني جني فاستطار بي، فلم أزل عنده حتى وقع بينه وبين فريقين من الجن حرب، فأعطى الله عهدا إن ظفر بهم أن يردني عليك، فظفر بهم فردني عليك. فإذا هي قد شحب لونها، وتمرط شعرها، وذهب لحمها، وأقامت عندنا فصلحت ، فخطبها بنو عمها فزوجناها.

وقد كان الجني جعل بينه وبينها أمارة إذا رابها ريب أن تدخن له، وإن ابن عمها ذاك عيب عليها وقال: جنية شيطانة! ما أنت بإنسية. فدخنت، فناداه مناد: ما لك ولهذه؟ لو كنت تقدمت إليك لفقأت عينك، رعيتها في الجاهلية بحسبي، وفي الإسلام بديني، فقال له الرجل: ألا تظهر لنا حتى نراك؟ قال: ليس لنا ذاك؛ إن أبانا سأل لنا ثلاثا: أن نرى ولا نرى، وأن نكون بين أطباق الثرى، وأن يعمر أحدنا حتى تبلغ ركبتاه حنكه ثم يعود فتى.

فقال ابن عمها: ألا تصف لي دواء حمى الربع؟ قال: بلى؛ قال: ما رأيت تلك الدويبة على الماء كأنها عنكبوت؟ قال: بلى! قال: فخذها، ثم اشدد على بعض قوائمها خيطا من عهن فشده على عضدك اليسرى. ففعل، قال: فكأنما نشط من عقال، فقال الرجل: يا هذا، ألا تصف لنا دواء رجل يريد ما تريد النساء؟ قال: هل ألمت به الرجال؟ قال: نعم، قال: لو لم يفعل وصفت لك.

ناپیژندل شوی مخ