أبي الكيرين والفاس الكهام
متى ترد الرصافة تخز فيها
كخزيك في المواسم كل عام
ثم جاء جرير، فأخبره الفرزدق بالقصة وأنشده البيتين الأولين، فلم يلبث أن أنشده البيتين الأخيرين، فضحك الفرزدق وقال: والله، يا أبا حرزة، لقد قلتهما قبل أن تأتي، قال جرير : أما علمت أن شيطاننا واحد؟
وكل هذا ولا شك تلفيق يعلمه ملفقوه، ولكن الأصل فيه قائم على اعتقاد طبيعي شائع، يخيل إلى الناس في شتى الأمم أن المعاني الخفية لا تخلو من علاقة بالمخلوقات الخفية، وأن أسرار الصناعات التي تدق عن نظر العيون ينبغي أن تطلع عليها العيون التي تعيش في عالم الأسرار، ولا يدق عن نظرها شيء في حلكة الظلام.
ويقال عن فن الغناء ما يقال عن فن القريض، وبخاصة في الزمن الذي كان فيه الغناء موقوفا على البيت أو الأبيات يختارها المغني من كلام الشاعر في عصره، أو في غير عصره.
روى صاحب الأغاني أن الغريض كان يقتبس بعض أصواته من عزيف الجن، ويزعم ذلك مغالاة بصنعته، فأنكر عليه سامعوه ما يدعيه، حتى كان ذات ليلة يغني لجماعة من نساء مكة فسمعن عزيفا عجيبا ذعرن منه، فقال لهن الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته وأصبحت فغنيت به، وأصغين إلى الصوت فإذا هو من نغمة ألحان الغريض.
وادعى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن الغناء الماحوزي، الذي افتن به الناس من فن أبيه، إنما كان من صنع إبليس، قال عن أبيه: «استأذنت الرشيد أن يهب لي يوما من أيام الجمعة أنفرد فيه بجواري وإخواني، فأذن لي في يوم السبت ... فأقمت بمنزلي، وأخذت في إصلاح طعامي وشرابي، وأمرت البواب ألا يأذن لأحد في الدخول علي، فبينما أنا في مجلسي والحرم قد حففن بي، إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال، عليه خفان قصيران، وقميصان ناعمان، وعلى رأسه قلنسوة، وبيده عكازة مقمعة بفضة، وروائح الطيب تفوح منه حتى ملأت الدار ... فدخلني غيظ عظيم لدخوله وهممت بطرد بوابي ...
فسلم علي أحسن سلام، فرددته عليه، ودعوته إلى الجلوس فجلس، وأخذ في أحاديث الناس وأيام العرب وأشعارها حتى سكن ما بي من الغضب، فظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخال مثله علي لأدبه وظرفه، فقلت: هل لك في الطعام؟ فقال: لا حاجة لي فيه، قلت: فالشراب؟ قال: ذلك إليك، فشربت رطلا وسقيته مثله، فقال : يا أبا إسحاق، هل لك أن تغنينا شيئا فنسمع من صنعتك ما قد فقت به عند الخاص والعام ... فغاظني قوله، ثم سهلت الأمر على نفسي، فأخذت العود فجسست، ثم ضربت وغنيت، فقال: أحسنت يا إبراهيم!
فازددت غيظا وقلت ما رضي بما فعله في دخوله بغير إذن واقتراحه علي حتى سماني باسمي ولم يجمل مخاطبتي، ثم قال: هل لك أن تزيد ونكافئك؟ فتعجبت في نفسي وقلت: بم يكافئني؟ ثم أخذت العود فغنيت، وتحفظت بما غنيته وقمت به قياما كافيا لقوله لي أكافئك، فطرب وقال: أحسنت يا سيدي! ثم قال: أتأذن لعبدك في الغناء؟ فقلت: شأنك! واستضعفت عقله أن يغني بحضرتي بعد ما سمعه مني، فأخذ العود وجسه، فوالله قد خلت أن العود ينطق بلسان عربي فصيح في يده، واندفع يغني:
ناپیژندل شوی مخ