وليس في الأشياء التقليدية ولا في تشبيهات الخيال أقرب من الحية القديمة، وإذا بولغ في تشويهها وتبشيعها وتعظيم ضررها فهي التنين الذي يضيف إليه الخيال من الأشياء والطبائع ما لم يتحقق في الحية المعهودة، فهو ذو رأسين، أو ذو أرجل وأجنحة، أو ذو لسان يندلع بالشرر ويقذف باللهب.
وقد ساعد على انتشار هذه الصورة للشيطان أنها كانت شائعة من أقصى الصين إلى أرض بابل وآسيا الصغرى، وأنها كانت شائعة كذلك في كتب العهد القديم، وصادفهم خطر التنين الأكبر، أو خطر الحية الشيطانية في مقر عبادتها بآسيا الصغرى، فكثرت في رسائل العهد القديم إشارات النساك إلى «برجاموم»، عاصمة هذه العبادة التي يظهر أنها كانت متوارثة هناك منذ زمن قديم، وتجددت دعوتها بعد قيام الدعوة المسيحية، على سبيل المقاومة ورد الفعل، مع غيرها من الدعوات التي كان أصحابها يتألبون عمدا أو على غير عمد لمقاومة الدين الجديد.
ويمكن أن تعتبر رموز الرؤى مقدمة للصور الفنية التي اختارها المصورون والمثالون بعد انتشار المسيحية، وقيام هياكلها، واشتغال أصحاب الفنون برسومها ومبانيها، فهناك صور للشيطان على مثال التنين، وصور أخرى على مثال التنين في جميع أعضائه غير الرأس، فقد كانوا يجعلونه رأس إنسان ذي قرنين أو أذنين صاعدتين في مكان القرنين، وكلما تقدم اللاهوت في وصف طبيعة الشيطان غابت ملامح الحية والتنين، وخلفتها ملامح إنسان خبيث الطلعة يعمل الفن عمله في إيداعه دلائل الشر، التي تغني عن استعارة الشبه الشرير من مشابه الحيوان، ولكنهم ظلوا إلى زمن أخير يصورون الشيطان بظلف مشقوق، ويحتفظون في هذا الشبه بصورة «الساتير» اليوناني المتهالك على الشهوات ومعاقرة الخمور.
أما الصور اللاهوتية فقد أفاض الآباء الأولون في شروحها وفروضها، واجتهد كل منهم على حسب علمه واطلاعه في تطبيقها على الطبيعة المفروضة للشيطان، ويعتبر ترتوليان “Tertullian” ، المتوفى سنة (230م)، وأوريجين، المتوفى سنة (254م)، أوفر الفقهاء المتقدمين مشاركة في وصف الطبيعة الشيطانية، وإسناد الأفعال والنيات التي تلائمها إلى الشيطان وأجناده على حسب درجاتهم في السيادة العالية.
وعند ترتوليان أن الشيطان الأكبر يرصد شيطانا من جنوده لكل إنسان من بني آدم وحواء، وأن أدلة وجود الشياطين عامة متواترة في عقائد المهتدين والوثنيين المضللين، وكلهم يسلمون أن الشيطان يتعقب الإنسان ويتسلل إلى مخادع نفسه على غفلة منه أو بعلمه واختياره، ولكن المسيحي المؤمن بقدرة السيد المسيح، المستقيم على منهجه، يملك السلطان النافذ في هذه الشياطين، ويستطيع أن ينقذ منها فرائسها إذا صدقت نيتهم في طلب الخلاص منها، وليس المسيحي الذي يعجز عن قهر الشيطان خليقا عنده بوصف الإيمان.
ولا شك أن «أوريجين» كان فقيه القرون الثلاثة الأولى غير مدافع، وكان له من العلم بحكمة عصره ما لم يكن لأحد من معاصريه، وكان إلى جانب ذلك مؤمنا راسخ الإيمان، تقيا شديد التقوى، ولم يكن له مطمع في رئاسة كهنوتية أو غنيمة دنيوية، فقد جب نفسه ليتقي فتنة الشيطان وهو يعلم البنات والفتيات، ويعظ النساء في البيع والبيوت، وقد علم وهو يفعل ذلك أنه يحرم نفسه مناصب الكهنوت العليا التي تحرم على المجبوبين والمشوهين، فلم يستعظم هذا الحرمان حماية لسريرته من غواية الشيطان.
وهذا مع إسهامه في التفرقة بين دواعي الشر التي يوحي بها الشيطان وجنوده، ودواعي الشر التي ركبت في طبيعة الإنسان، وهي شهوات الطعام، ولذات الجسد، وفي مقدمتها اللذة الجنسية، ولعله في كل ما كتبه عن تسخير الشيطان لهذه الشهوات لم يثبت قدرته على الغواية كما أثبتها على ذلك النحو الرهيب.
ولم يجد أوريجين مشقة في إسناد الشر والخطيئة إلى سيادة هذا العالم، فإنه عاش في زمن قد اجتمعت مذاهبه على تحقير المادة، واعتبارها جرثومة النقص والكثافة والفساد، وعم فيه القول بين النساك والزاهدين بأن طلب السيادة هو المحنة التي أسقطت إبليس وجنوده، وأن «التواضع» هو شعار ملكوت السماء، وهو آية المسيح المخلص الذي يزهد في المواكب، ويأتي كما أتى من قبل على حمار ابن أتان، غير أن أوريجين كان يمزج اللاهوت بمعارفه الفلسفية، ويقرر طبيعة الشيطان وفقا لما تمليه عليه الفلسفة والدين. ورأيه في تكوين الشيطان أنه ذو جسد يلائم مقامه في الهواء الكثيف المحيط بالأرض، ويتطلب الغذاء من الدواخين والأبخرة والدم الخالص مجردا من اللحوم والعظام، ولهذا يحاول أن يفسد القرابين الإلهية، ويختلس أبخرتها ودماءها ليتحول بها عن مقصدها.
ويفرق أوريجين بين الملك الساقط والشيطان الرجيم، ويوافق بعض الذين سبقوه فزعموا أن الطبيعتين تلتقيان في ذرية الملائكة الذين هبطوا إلى الأرض، فعشقوا بنات الناس وقالوا: إنهن حسنات، ولم يقصدوا العصيان بل وقعوا فيه وهم لا يعرفون عقباه.
وللشيطان سبيلان إلى غواية الإنسان في رأي الفقيه الفيلسوف: أحدهما أن يوسوس له من حيث لا يراه؛ لأن طبيعة جسده كما تقدم من طبيعة الهواء، فهو يجري من سريرة الإنسان مجرى النفس الذي لا تراه العينان، والسبيل الآخر أن يستولي عليه ويتخبطه على هواه، ويبتليه بالأمراض والعاهات، وقد يسلط الأوبئة والطواعين على المدن والأقطار الواسعة ليذودها عن رحمة الله، وله جنود في كل مدينة وكل قطر، وبين كل معشر يعبدون الأوثان أو يعبدون ربا من الأرباب غير الإله الواحد الذي يدين به أتباع السيد المسيح، فما كانت هذه الأرباب والأوثان إلا شياطين من جنود إبليس تنتزع أبناء آدم وحواء من سلطان السماء، وتموه عليهم العقيدة الصالحة بما يشبهها من الشعائر المسيحية؛ ليختلط عليهم الحق والباطل، وطريق الهدى وطريق الضلال.
ناپیژندل شوی مخ