وقد نبهنا إلى تحرير موازين النقد قبل النظر فيما كتبه الأوروبيون عن اليونان، وليست الحاجة إلى تحريرها في صدد المأثورات العبرية بأقل من الحاجة إليه في صدد المأثورات اليونانية؛ لأن الأوروبيين لا يتجردون من الهوى والعصبية كلما خلطوا بين تاريخ عقائد العبريين منذ القدم، وبين تاريخ العهد القديم، على اعتباره كتابا من كتب المسيحية التي يؤمن بعض الكنائس بتنزيلها، وينظر إليه بعضهم كأنه تراث أدبي موصول بتراث الدين.
فقد وهم الكثيرون من قدم الديانة العبرية، وأنها أسبق الديانات الكتابية في التاريخ أن هذه الديانة سبقت المسيحية والإسلام إلى أصول العقائد والعشائر في جميع الفرائض والعبادات، ولكن الواقع أن العبريين استعاروا كل ما دانوا به، ولم يعيروا المسيحية والإسلام شيئا غير ما جاء من تطور الأفكار، ولم يكن مجيئه على يديهم في أكثر الأحيان.
وعلى خلاف الشائع بين أصحاب الدعايات والعصبيات كان أنبياء العرب أساتذة الأنبياء العبريين في أهم الأصول الدينية، وهي مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب؛ ففي سفر أيوب قبل جميع الأسفار التوراتية ظهرت هذه الأصول، وقد تتابعت النبوءات في بلاد العرب قبل أن يكون للنبوءة شأن بين العبريين، وذكر القرآن الكريم من الأنبياء العرب هودا وصالحا وشعيبا وذا الكفل.
وجاء في التوراة ذكر بلعام وأيوب وشعيب، وجاء فيها أيضا أن شعيبا علم موسى وهداه إلى سياسة قومه، وأن بلعام كان حكما بين إسرائيل وخصومها في جنوب فلسطين. ومن صيحات النبي «أرميا» يتبين أن المجهول من أخبار الأنبياء في بلاد العرب كان أكثر من المعلوم المذكور في كتب العهد القديم؛ لأنه يستغيث متسائلا عن هداية الجنوب وينادي: أما من حكمة بعد في تيمان؟
وإنما تضخمت مأثورات العبريين بعد اختلاطهم بأهل بابل ومصر وبلاد العرب واليونان، واحتوت كتب التلمود والمشنا أهم عقائد القوم في مسألة الخير والشر، ومسألة الثواب والعقاب. ولا بد أن يذكر على الدوام أن هذه الكتب جمعت بعد المسيحية، وظلت تجمع ويضاف إليها حتى القرن العاشر للميلاد، وفي هذه الكتب خلاصة ما استفاده العبريون من مجاورة الأمم التي تقدمتهم في إدراك الصفات الإلهية والصفات الشيطانية، ومن هذه الكتب أخذ الآخذون ما حسبوه تراثا إسرائيليا، وهو في حقيقته تراث الحضارات الغابرة من أقدم العصور.
مثل واحد يدل على نصيب القوم من الأصالة والنقل في القصص الدينية، والتعليق على المسائل الغيبية، فإنهم ظلوا إلى ما بعد الإسلام ينقلون عن العرب قصصا كان موطنها في أرض بابل وآشور كقصة هاروت وماروت، وأحق ما يكون بالتنبيه في هذا المقام أن اليهود خرجوا من أرض بابل وعادوا إليها أيام السبي قبل الميلاد بستة قرون، ولكنهم لم يأخذوا هذه القصة إلا بصيغتها العربية بعد عصر السبي بأكثر من ألف سنة، فليس من شروط القدم في الديانة الكتابية أن يكون القوم معيرين، وأنهم لا يستعيرون.
ويدل تأخر المصادر التي فصلت أوصاف الشيطان على تأخر القوم في التمييز بين الخير والشر، كما ميز بينها أبناء الحضارات التي تقدمت الإشارة إليها؛ ففي الروايات التلمودية المتأخرة يبدأ كل تفصيل عن العداوة الشيطانية للإنسان، وعن أثر هذه العداوة في خروج آدم من النعيم، وفيها ارتقاء من وسوسة الحية إلى وسوسة شمائيل، رئيس الملائكة الذي عمل في القصة عمل إبليس، وتوسع رواق اليوبيل حوالي القرن الثاني قبيل الميلاد في الكلام على «مشطيم»، اسم الفاعل من مادة شط في اللغة العربية يقابله كلمة «مشيطن» في اشتقاق اللغة العربية.
وتحتوي التلموديات في مثل هذا العصر كلاما عن الشيطان بليعال روح الكذب والخداع، وهو يقابل في العربية «بلاعول»، أي لا معول عليه، ولا خلاق له، ولا خير فيه. ويحتوي كتاب أخنوخ، قرابة هذا الوقت، كلاما عن الملائكة الهابطين بقيادة كبيرهم المطرود من رحمة الله، ويقول كتاب الحكمة: إن الموت نزل على الدنيا من جراء حسد الشيطان. وأما قبل هذا العصر بعدة قرون فقد كان كتاب التوراة يذكرون الشياطين بأسمائها البابلية كما ذكروا «الشعريم»، أي الشياطين ذوات الشعر، والليليت أي الشياطين الليلية، والكتيب والدبير
1
وغيرها من الجنة والعفاريت التي اقتبسوها بمدلولها، فنقلوها بأسمائها ونعوتها. •••
ناپیژندل شوی مخ