وعاش الإنسان عصورا مديدة يعمل الأعمال أو يتركها لأنها مأمونة نافعة، أو محذورة وخيمة العاقبة، فلما أخذ يعملها أو يتركها لأنها واجبة مطلوبة، أو لأنها محرمة محظورة، كانت هذه خطوته الأولى في طريق التمييز بين الواجب والمحرم، وبين الخير والشر في أضيق الحدود.
ولم يزل خيره وشره خير قبيلة واحدة أو شر قبيلة واحدة، حتى تجمعت القبائل في أمة ذات مجتمع واحد وشريعة واحدة، فعمت نظرته إلى الشر والخير، ولم تزل تتسع في عمومها حتى برزت في ذهنه فكرة «النوع الإنساني»، ووجدت مع هذه الفكرة الرفيعة فكرة أرفع منها وأشرف جدا في مغازيها وثمراتها؛ وهي فكرة الإنسان عن ضمير الإنسان. ولم يكن في الوسع أن يعقل شيئا عن «الضمير الإنساني» قبل أن يعرف أن الإنسان نوع واحد من وراء العشائر والقبائل والشعوب والأقوام.
وكانت الحضارات الأولى خطوة بل خطوات واسعة في هذا الطريق، ولكنها خطوات متفرقة تتقابل أحيانا، ولا تتقابل دائما في الاتجاه إلى معنى الخيرات والشرور، وقد كانت خيرات وشرورا قبل أن تجتمع في خير واحد بمقياس واحد، أو في شر واحد بمقياس واحد يتقارب فيه جميع بني الإنسان.
كانت مسألة العلم مسألة دولة وشريعة ونظام في عرف الحضارة المصرية الأولى؛ فالخير شريعة تستتب عليها الأمور، والشر مروق من تلك الشريعة وإخلال بالنظام الذي استتبت عليه.
وكانت المسألة مسألة كونية في عرف الحضارة الهندية الأولى، فالكون الظاهر كله باطل وزيف وشر، ولا خير في غير الإعراض عنه، والنفاذ إلى ما وراءه، ولعل المجاز هنا قد فعل فعله في المشابهة بين صيرفة الجواهر وصيرفة الموجودات على عمومها؛ فقد كانت صيرفة الجواهر فنا قديما في حضارة اللآلئ والحجارة الكريمة وحلي التيجان والقصور، وما عداها أو ما دونها من الحلي الزائف والحلي المبذول، وكلها كثيرة قديمة في بلاد الهنود.
وكانت المسألة مسألة فلكية في حضارة «بين النهرين» بفرعيها من فارس وبابل.
فما عدا النور فهو ظلام، وكل ما في الوجود فهو بين النور والظلام، وهذه هي خلاصة الديانات الثنوية في مختلف المذاهب والتأويلات.
وتختلف عقيدة فارس وعقيدة بابل في تلك الحضارة أو تلك الحضارات الواسعة، ولكنها لا تزال فلكية في الصميم؛ لأن الخير والشر فيها مقسومان بين السعود والنحوس كما سطرت في أزياج الكواكب، ودارت عليها أفلاك السماوات.
أما الحضارة اليونانية الأولى فالخير فيها مسألة حظ، والشر فيها مسألة اعتراض لذلك الحظ الذي لا حيلة فيه للمحظوظ ولا للمعترض عليه.
فلم يكن «زيوس» رب الأرباب لأنه أطيب منها، أو أعلم منها، أو أرفع منها خلقا، أو أشرف منها مقصدا، إذ إنه في الواقع أقل من الأكثرين بين الأرباب في جميع هذه الخصال، وإنما «الحظ» وحده هو الذي يفسر علوه عليها بغير تلك الفضائل والمزايا. ولم يكن هذا «الحظ» عرضا من الأعراض، أو مصادفة من المصادفات في الثقافة اليونانية المتقدمة، فضلا عن الأساطير البدائية التي لم تخلص من سذاجتها واختلاطها، بل كان «الحظ» مدار القصائد الكبرى والدرامات التي وضعها نوابغ الشعراء، ومثلوا فيها مصائر الأبطال وما كتب عليهم قبل مولدهم من قسمة مبرمة، وقضاء محتوم لا مهرب لهم منه بحيلة أو اجتهاد، ولا نجاة منه لذي حسنة أو ذي سيئة من المتفائلين أو المتشائمين.
ناپیژندل شوی مخ