والمحظور التابي أقل درجة من الطواطم والأوثان؛ لأنه قد يتفرق ويتخصص فيكون حراما عند بعض الناس حلالا لغيرهم في البيئة الواحدة، بل قد يكون مستحبا مطلوبا لمئات من الناس ولا تحريم فيه على غير آحاد معدودين. وقد روى الدكتور شويتزر ضروبا من هذه المحظورات لا مرجع لها غير التحكم من بعض الأرواح المزعومة التي تكشف عن إرادتها قبل وضع الجنين، فتخبر أباه في الرؤيا باسم «التابو» الممنوع على الوليد.
فمن هذه المحظورات أكل بعض الطلح أو البذور، ومنها ضرب الوليد على ظهره، ومنها حمل المكنسة أو بعض الآنية. ولا تكذب النبوءات في شأن «التابو»، بل يصدقها القوم كل التصديق حتى لتقبل عقولهم أن الوليد يولد ذكرا ثم يتحول إلى أنثى إذا خولفت نبوءة أو علامة مرصودة، ويفعل الوهم هنا فعله القاتل الذي لا تجدي فيه النصيحة ولا الإقناع، ففي ناحية «سمكينا» رأى الطبيب صبيا في مدرسة البعثة أنبأه رفاقه أنه أكل من إناء طبخ فيه الطلح قبل ذلك ولم يغسل، وكان الطلح محظورا على الصبي بنبوءة آبائه، فلم يكد الصبي يسمع الخبر حتى تشنجت عضلاته ولزمه التشنج إلى أن مات بعد ساعات.
وتحيط هذه التابوات كثيرا بعلاقات الجنسين وبلوغ سن المراهقة في الذكور والإناث، فيندر بين قبائل الأرض البدائية أن ترى قبيلة خلت من مراسم المراهقة ومحظوراتها الكثيرة، فتعزل الفتاة ولا تكلم أحدا غير أمها، أو لا تكلمها إلا بصوت خفيض، ويؤخذ الصبي بعيدا من بيته ليغسل في العيون المقدسة من روائح الأنوثة التي لصقت به من مصاحبة أمه، ويجري له الكهان أو كبراء السن شعائر الفطام، ومنها في بعض قبائل الهنود الحمر أن يفارق أمه زمنا، أو يدخل الكوخ وهي مستلقية على بابه فيطأ على بطنها علامة الانفصال في موضع حمله حيث اختلط بجوف الأنثى وهو جنين.
وتدل الشعائر الموروثة منذ القدم على جهل مطبق بأسرار الجنس والولادة، وربما تبين من تلك الشعائر أنهم ينوطون نسبة الابن إلى أبيه بالمراسم والشعائر، ولا يعتقدون أن مجرد الاتصال بين ذكر وأنثى يحقق الولادة والنسبة إلى الآباء؛ ففي بعض القبائل يفرض العرف على الرجل أن يقدم زوجته لضيفه الغريب، ولا يمنعه ذلك أن ينسب أبناءها جميعا إليه؛ لأنه هو الذي جرت بينه وبينها مراسم الزواج.
ولا يعجبن أبناء هذا العصر من تلك الخرافات التي تحيط بالجنس ومراسم النسبة بين الأبناء والآباء، ففي عصرنا هذا من يعتقد أن الولد من نسل الشيطان إذا ولد من غير زواج مشروع. وقد صدرت المنشورات من رجال الدولة ورجال الدين بعد كشف أمريكا الجنوبية وشيوع الأمراض الزهرية في العائدين منها، فكان فحواها جميعا أنها عقوبة على خطايا الشيطان. ولما انتشرت عدواه بين المتزوجين والمتزوجات في أواخر القرن الخامس عشر؛ أصدر الإمبراطور مكسميليان منشورا ندد فيه بالحضارة، وأنذرهم بالتوبة أو تدوم هذه الضربة السماوية عقوبة لهم على العصيان.
4 •••
وتتفق جميع المحرمات البدائية على تفنيد مذهب المؤرخين الذين يقولون عن الديانات ومحرماتها ومباحاتها إنها حيطة اجتماعية، تهتدي إليها بديهة المجتمع لمنع الجرائم ومعاقبة المجرمين، وحماية الأبرياء من عدوان المجرم والإجرام؛ فكل هذه المحرمات إنما ترجع إلى شيء واحد؛ وهو إغضاب رب أو روح، وتخطي الحدود التي تمنعها الأرباب أو الأرواح، ولها كلها علاقة بعالم الخفايا والأسرار وما نسميه اليوم بعالم ما وراء المادة؛ لأنه لا ينحصر في المحسوسات المادية.
وأما الجرائم وعقوباتها فهي أعمال مفهومة مقصودة ترجع إلى الأسباب الطبيعية التي يحيط بها علم الإنسان كما تحيط بها إرادته، وهي تعالج بالقصاص المقدر وبالثأر والانتقام وأداء الغرامة والدية، بل يستمد الثأر قوته أحيانا من عالم الروح، كما يقال عن روح القتيل في قبائل الجاهلية العربية إنها لا تزال هائمة مقيدة بجانب القتيل تنادي العابرين بها: «اسقوني اسقوني»، حتى يؤخذ بالثأر فتشعر بالري وتستريح، فليست المحرمات الدينية هي التي تتوقف على مطالب القصاص وقوانين الجزاء، بل هذه المطالب هي التي تتوقف أحيانا على عالم الأسرار والأرواح.
وقد ثبت من أطوار المحرمات في القبائل عامة أنها تتقدم مع تقدم الإنسان في ثلاثة أدوار متشابهة.
فالطور الأول أن تترقى من الحدود المحلية إلى حدود عالمية أو كونية تشمل السماوات والأرضين، فبعد الرب الذي يسيطر على ينبوع ماء، أو شجرة في غابة، أو بقعة في جهة من جهات الإقليم، يترقى الإنسان إلى فهم الرب الذي يسيطر على السحب والأنهار وأفلاك السماء، وكلما أدرك القوانين التي تربط الطبيعة بنظام واحد ترقى إدراكه لقدرة الرب الذي يملك زمامها، ويصلي له المصلون لإجرائها في مجراها المطلوب، وتحويلها عن المجرى الذي يحذرون عقباه.
ناپیژندل شوی مخ