وهذا يفرض أسلوبا وصفيا أدبيا؛ حيث لا فرق بين الفلسفة والأدب، فليست الفلسفة أسلوبا عويصا ومصطلحات غربية لا تفهم، بل هي أقرب إلى وصف الحياة اليومية وتحليل التجارب المعيشة. هكذا كانت عند سقراط وياسبرز ورسل المتأخر والتوحيدي وعثمان أمين وزكريا إبراهيم وزكي نجيب محمود المتأخر. ليس الأدب مجرد قصص وشعر ومسرح، بل أيضا تحليل فلسفي لتجارب الحياة، وبحث عن دلالاتها؛ كشعر المعري وشكسبير وجوته ونزار قباني وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور. بل يمتد الأمر إلى زجل بيرم التونسي والأبنودي وأحمد فؤاد نجم. على هذا النحو تخرج الفلسفة من النخبة إلى الجماهير، ومن الخاصة إلى العامة؛ دون أن تفقد دقتها وعمقها. وقد امتازت فلسفات بالوضوح والبساطة؛ مثل فلسفة التنوير وفلسفة برجسون.
ثانيا: الهوية والاغتراب
ليست الهوية موضوعا ثابتا أو حقيقة واقعة، بل هي إمكانية حركية تتفاعل مع الحرية. فالهوية قائمة على الحرية؛ لأنها إحساس بالذات، والذات حرة. والحرية قائمة على الهوية لأنها تعبير عنها. والحرية تحرر؛ أي: أنها إمكانية لأن يكون الإنسان حرا. الهوية إمكانية على إمكانية . الهوية إذن ليست شيئا معطى، بل هي شيء يخلق. لا يشعر بها كل إنسان كوعي مباشر؛ فالإنسان اليومي يوجد أولا، يعيش أولا، ثم يعي ذاته ثانيا. يأتي الوعي الذاتي بعد الوجود البدني، ثم يأتي الوعي بالعالم المحيط. وينشأ التساؤل عن الهوية: من هو؟ ولماذا هو في هذا الوضع الاجتماعي؟ وماذا يعني المحيط السياسي حوله؟ وما هذا الإعلام الصاخب الذي يسمعه؟ وماذا تعني هذه الصراعات السياسية حوله، ومحاولة إقناعه أو إغرائه أو حتى شراء صوته للانتخاب إلى هذا الفريق أو ذاك؟ وما هذا الزحام في الطريق والتسابق بالعربات يمينا ويسارا؛ وهو سائر على الأقدام فوق الرصيف الذي «تركن» فوقه العربات أو تقف عليه عربات الباعة الجائلين، أو ترسو عليه صناديق القمامة - المفتوحة أو المقلوبة أو التي خارجها حولها أكثر مما بداخلها، تتعايش عليها القطط والكلاب الضالة - لا يجد قوت يومه هو وأسرته؟ وإذا مرض أحد منهم كيف العلاج وشراء الدواء؟ أما إذا مات أحد منهم فأين يدفن وهو ليس له مقابر إلا للسكنى بالإيجار؟ وأين يرسل أولاده للتعليم إذا ما بلغوا السن القانونية؛ خوفا من العقاب أو طمعا في مستقبل أفضل لهم؛ بدلا من تركهم أطفالا للشوارع أو باعة جائلين بين العربات وعلى مفارق الطرق، وتحت إشارات المرور، مع العجائز على أرصفة الطريق يحملن الأطفال في البرد القارس أو في الحر القائظ؟
وقد تتحول الهوية إلى اغتراب؛ تنقسم الذات على نفسها، وتتحول مما ينبغي أن يكون إلى ما هو كائن، من إمكانية الحرية الداخلية إلى ضرورة الخضوع للظروف الخارجية بعد أن يصاب الإنسان بالإحباط - والإحباط عكس التحقق - وضعف الإرادة، وخيبة الأمل، وتخل عن الحرية. تشعر بالحزن دون معرفة السبب، وتشعر باليأس والشقاء، كما وصف فلاسفة الوجود مثل كيركجارد وهيدجر وسارتر، ثم يسيطر الاغتراب على موضوع الهوية. ويتناوله الفلاسفة منذ هيجل وماركس حتى فلاسفة الوجود المعاصرين سارتر ومارسل وياسبرز. فالاغتراب هو الأكثر شيوعا، وهو الأكثر وقوعا. الهوية حالة مثالية؛ في حين أن الاغتراب حالة واقعية، بل إن بعض الفلاسفة يرى الهوية مجرد افتراض ميتافيزيقي؛ في حين أن كل إنسان مغترب بطريقة أو بأخرى، فالاغتراب على درجات من الشدة، والإنسان الطبيعي هو الذي يوجد بين قطبي الهوية والاغتراب، ولا يمكن التخلص من الاغتراب أو على الأقل درجة منه يحددها التحقق الذاتي.
وقد يؤدي فقدان الهوية، أي: الاغتراب، إلى ردي فعل متضادين؛ مثل العزلة والانطواء أو الانتشار والعنف. ولما كانت الهوية أصيلة في الوجود الإنساني، فإنها تتحقق في أشكال عديدة؛ سواء كانت منطوية أو منتشرة، إلى الداخل أو إلى الخارج. وكلاهما خارج الوجود الإنساني لا فيه، كلاهما انحراف عنه لا تحقيق له. فمن يفقد هويته يفقد قدرته على الحركة والنشاط، وتتبخر طاقته التي تحركه، ويعتزل الناس في حالة انكماش أو انقباض أو تقلص؛ مثل الحبيب الذي هجرته حبيبته، أو القريب الذي فقد أعز الناس إليه. وقد يشعر بالضياع لأن الهوية هي الوجود، وقد يخون مكتشفا هويته في غيره. ويشعر بالعدم والخواء والفراغ الذي يحس به الوجوديون؛ مثل سارتر وهيدجر في قولهم: «الوجود عدم». وقد ينتحر لأن وجوده لم يعد له أساس. هوية خاوية بلا مضمون، تأخذ من ذاتها مضمونا بعد أن ضاع مضمونها. تصبح في حالة كمون دون أن تضيع. تنتظر الفرصة حتى تتخارج وتنطلق وتأخذ الطريق الثاني؛ طريق العنف والعدوان.
قد يتخارج الانطواء في فعل حقيقي عن طريق المخدرات بأنواعها كافة، وانتشارها عند الأغنياء مظهر من مظاهر الترف، وعند الفقراء مظهر من مظاهر العوز، والفرق هو «الصنف». وانتشر تجار المخدرات في الطبقات العليا ترفا، وفي الطبقات الدنيا عوزا، وفي الطبقات الوسطى «مزاجا» و«سلطنة» كما وضح في بعض روايات نجيب محفوظ مثل «ثرثرة فوق النيل». يجد الإنسان هويته من صنعه، من وضع الخيال، في عالم يحلم به، يريد الغوص فيه وعدم العودة منه، ويا ليته يكون مع «شلة الأنس»؛ تعويضا عن جماعة العمل الفعلي. وهو طريق سهل ليس به أي مخاطرة إلا مع أجهزة الأمن ومخالفة القانون، وعادة ما يتم التغلب على هذه المخاطرة إما بالحرص وإما بالتواطؤ. وهناك عشرات من الدراسات الاجتماعية عن ظاهرة «تعاطي المخدرات»؛ أسبابها ودوافعها وطرق علاجها. وقد انتشرت في الأدب الحديث العربي والغربي؛ بخاصة في الأدب الوجودي. واشتهر بعض كبار الأدباء بالتعامل مع الظاهرة مثل جان جينيه وغيره.
وقد تتحقق الهوية في أشكال أخرى من الانحراف؛ مثل الشذوذ الجنسي الذي انتشر بين مشاهير الكتاب والفنانين عربا وغربيين. فالشذوذ الجنسي عنف مع لاعنف، إيجاب مع سلب، التحقق في شخص بدلا من التحقق في جماعة. الفاعل قوي اجتماعيا، والمفعول فيه ضعيف يريد أن يكون قويا من الباب الخلفي. ليس لدى الفاعل إحساس بالذنب، بل هو حقه في الانتصار عن طريق الانتصاب. في حين يظهر الإحساس بالذنب عند المفعول فيه، ضعف على ضعف، وانكسار على انكسار، وانفعال تحت فعل. قد ينتهز الفرصة للانتقام إذا ما حانت، ويتحول من مفعول فيه إلى فاعل، ومن منكسر إلى منتصر؛ كما هو الحال في رواية «عمارة هاجوبيان» للورداني. وينتشر الشذوذ الجنسي أيضا في الطبقة العليا ترفا، وفي الطبقة الوسطى مزاجا، وفي الطبقة الدنيا عوزا وتعويضا.
وعلى عكس الطريق السابق قد تسترد الهوية نفسها خارجها في العالم؛ في الانغماس في الحياة الدنيا؛ حياة اللهو والترف ومظاهر
Dolce Vitae ، حياة المولات والمدن الجديدة الصحراوية والساحلية؛ خصوصا إذا توفرت الإمكانيات المادية. وهي حالة البذخ من أجل المساعدة على نسيان الهوية الضائعة، واستعواض الخارج بالداخل. وقد نشأت طبقة جديدة من الشباب بفنونهم وملاهيهم لهذا الغرض؛ لذلك انتشرت «المولات» و«السنترز» و«الاستارز» في الأحياء والمدن الجديدة. تزدحم بمجموعة من شباب الطبقة الجديدة، يجدون فيها هوية بديلة، معظمها أسماء أجنبية بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية؛ كوفي شوب، بيتزاهت، ماكدونالدز، جينوز، إلخ. وحديث «الجارسونات» باللغات الأجنبية، والأسعار على مستوى الأسعار في الخارج لا إشكال فيها؛ فالقدرات الشرائية متوفرة، والمشكلة «الباركينج» أسفل البنايات بالساعة أو على الأرصفة بالمنادي، و«الدبل باركنج» والوقوف في الممنوع مع إسكات شرطي المرور ببعض ما يجود به أصحاب السيارات. ويصرف الشاب في ليلة واحدة ما يصرفه العامل في شهر واحد. فإذا زادت الإمكانيات، ولم يتسع الخارج المحلي، اتسع نطاق النشاط إلى المجال الدولي؛ من أجل البحث عن هوية بديلة في الخارج تصل إلى حد تبني الجنسية الجديدة، فيتحول إلى مواطن البلد البعيد الذي هاجر إليه؛ فلا هو يستطيع أن يكسب هوية جديدة من بلد الهجرة، ولا هو يستطيع أن ينسى هويته السابقة؛ البلد المهجور. ويظل يعيش مع مواطنيه الأصليين، يسكن معهم وفي أحيائهم، يتناول مأكولاته الشعبية، ويتحدث لغته الوطنية، ولا يكتسب تماما لغة بلد الهجرة، ولا يتأقلم مع عاداته وتقاليده حتى لو تزوج منه، وحاول الاندماج فيه؛ إذ تستعصي الهوية الجديدة عليه؛ لأنها تقوم على أساس عنصري يرفض قدوم الدخيل إليه. وتتكون وسط المدن الأوروبية أو على هوامشها الأحياء العربية أو الهندية أو الباكستانية أو الصينية أو الآسيوية؛ حتى لا تغترب الهوية، وحتى يعيش المواطن كأنه بين أهله وفي وطنه، لم يفارقهم ولم يغادره. ويكون المهاجرون عرضة للاضطهاد في أي مد عنصري يميني نازي جديد، يدعو إلى الحفاظ على الشخصية الوطنية، وحمايتها من الدخلاء؛ المآذن، والمنتقبات والحجاب، والقاذورات في الطرقات، والبيع في الشوارع والميادين بعد صلاة الجمعة والأعياد، وتعبئة الجو بروائح التوابل الشرقية التي تجذب البعض وتنفر البعض الآخر.
وفي الخارج تزداد الهوية الأصلية انغلاقا؛ دفاعا عن النفس كرد فعل طبيعي للأقلية تجاه الأغلبية. وتظهر الحركات السلفية لدى المهاجرين وهم وسط الحضارة الغربية؛ حضارة الحداثة. ويزداد التمسك بمظاهر الهوية: اللحية والجلباب والحجاب والنقاب. وكما قيل: «إذا أراد الإنسان أن يكون اشتراكيا، فليذهب إلى باريس، وإذا أراد أن يكون رأسماليا، فليذهب إلى موسكو»، يقال أيضا: «إذا أراد الإنسان أن يكون سلفيا، فليذهب إلى الغرب، وإذا أراد أن يكون تقدميا، فليأت إلى العالم الإسلامي»، فكل شيء يعرف بنقيضه.
ناپیژندل شوی مخ