(183) وحرف " أي " يستعمل أيضا سؤالا يطلب به علم ما يتميز به المسؤول عنه وما ينفرد وينحاز به عما يشاركه في أمر ما. فإنه إذا فهم أمر ما وتصور وعقل بأمر يعمه هو وغيره، لم يكتف الملتمس تفهمه دون أن يفهمه ويتصوره ويعقله بما ينحاز به هو وحده دون المشارك له في ذلك الأمر العام له ولغيره.
(184) من ذلك أننا نستعمل هذا الحرف في السؤال عن ما تصورناه بما يدل عليه اسمه وبجنسه،والتمسنا بعد ذلك أن نتصوره ونعقله ونفهمه في أنفسنا بما ينحاز وينفرد ويتميز به عن كل ما يشاركه في ذلك الجنس، وبما إذا عرفناه كنا عرفنا به ذلك النوع. فنقول في الإنسان مثلا " أي حيوان هو " والنخلة " أي نبات هي " . وربما قلنا " أي شيء هو " فإن " الشيء " يجري في بادئ الرأي مجرى أعم الأشياء للمسؤول عنه. والنوع الذي تصور بجنسه إما أن يتصور بأقرب أجناسه وإما بجنس أبعد من أقرب أجناسه. فإن كان إنما يتصور بأقرب أجناسه وقرن حرف " أي " بذلك - مثل أن نقول في الإنسان " أي حيوان هو " والنخلة " أي شجر هي " - فإنناإنما نطلب به ما ينحاز به عن سائر الأنواع القسيمة له. والجواب عنه بأحد شيئين، إما بما يميزه في ذاته وتنحاز به ذاته وبشيء يكون جزء ماهيته وإما بعرض خارج عن ذاته خاص به يؤخذ علامة له وينحاز به في المعرفة عما يشاركه في جنسه القريب من الأنواع القسيمة. فإن الشيء قد يتميز عن الشيء في ذاته بما هو ذاته أو جزء ذاته أو بشيء به قوام ذاته - مثل تميز الحرير عن الصوف - ، وقد يتميز ببعض أحواله كتميز الصوف بعضه عن بعض - مثل أن يكون بعضه أحمر وبعضه أسود وبعضه أصفر. فمتى كان الجواب ما يميز النوع المسؤول عنه عما سواه بشيء هو جزء ماهيته - مثل أن يكون الجواب عن الإنسان أي حيوان هو " إنه حيوان ناطق " أو " ناطق " والجواب عن النخلة أي شجرة هي " إنها الشجرة التي تثمر الرطب " - كان الذي أجيب به حده، والذي قيد به الجنس وأردف به هو الفصل، وهو الذي يميزه بما هو جزء ماهيته عما سواه من الأنواع القسيمة، وكان القول بأسره حدا. وإن كان الجواب عنه بشيء ليس بجزء ماهيته وكان خاصا بالنوع المسؤول عنه - مثل أن يكون الجواب عن الإنسان أي حيوان هو " إنه حيوان يبيع ويشتري " والجواب عن النخلة أي شجرة هي " إنها الشجرة التي تورق الخوص " - كان الذي يردف به الجنس هو خاصة ذلك النوع، وكان القول بأسره رسما لا حدا، وربما سمي القول بأسره خاصة.
(185) فقد صار الجواب الذي يجاب به ههنا بعينه الجواب الذي يجاب به في السؤال عن الإنسان بماهو، فيكون الجواب عن الإنسان إذا قيل فيه " أي حيوان هو " هو بعينه الجواب عن الإنسان إذا قيل فيه " ما هو " . غير أن حرف " ما " إنما يطلب به أن يعقل النوع المسؤول عنه في ذاته لا بالإضافة إلى شيء آخر. وأما حرف " أي " فإنما يطلب به تمييزه عن غيره. فإن السائل بحرف " أي " متى لم تضع نفسه شيئا آخر غير المسؤول عنه لم يمكنه أن يسأل هذا السؤال . والسائل بحرف " ما " ليس يحتاج إلى أن تضع نفسه شيئا آخر غير المسؤول عنه، ويعقله بالإضافة إلى نفسه وإن لم يكن هناك شيء آخر غيره. ومتى اتفق أن يكون هناك شيء آخر غيره، فليست مسألته عنه وهو ينظر إلى ذلك الآخر ولا يقيس المسؤول عنه به. ومتى وافق أن يكون الجواب عنه بشيء يميز المسؤول عنه عما سواه، فلم تكن مسألته عنه ولا طلبته لذلك الجواب من جهة تمييزه ذلك النوع عن غيره، بل لتعريفه معرفة كاملة فقط. فلذلك صار الجواب عن حرف " ما " هو الجواب عن حرف " أي " بالعرض لا بالذات ولا على القصد الأول. ومع ذلك فإن كل موجود فإن ماهيته ليس هو إنما تحصل له متى كان هناك غيره بل تحصل له وإن لم يكن موجود آخر غيره. وإنما يحتاج إلى تمييزه عن غيره متى وافق أن كان هناك غيره. فإذن تميزه عن غيره هو عارض يعرض له.
مخ ۵۹