(177) وليس ينبغي أن تخيل إلى نفسك معنى الجوهر أنه شبه شيء ثخين مكتل مصمت أو صلب لأجل ما تسمعه من قوم قد اعتادوا أن يقولوا " إنه هو القائم بنفسه " و" قوامه بنفسه " وأشباه هذه العبارة التي تخيل في الجوهر ما ليس هو الجوهرالمحمول الذي لا يحمل على موضوع أصلا إلا على طريق ماهو. فإن موضوعه أيضا إن كان يحمل على موضوع آخر دونه فليس يمكن أن يحمل عليه إلا بطريق ماهو. فإنه إن أمكن أن يحمل على شيء ما لا بطريق ماهو كان المحمول الأعم إذا عقل كان معقول عرض، فيكون محمولا بوجه ما لا بماهو، وذلك غير ممكن. وموضوع موضوعه إن كان إنما يحمل أيضا على موضوع فهو إنما يحمل هذا الحمل، إلا أنه لا يمضي في العمق هكذا إلى غير النهاية بل ينتهي، فإذا انتهى يكون الموضوع الأخير الذي لا يحمل على آخر دونه هذا الحمل أيضا على شيء آخر حملا لا على طريق طريق ماهو ذلك لا محالة. فإذن موضوعهما الأخير لا يحمل على شيء أصلا لا حمل ماهو ولا حملا بغير طريق ماهو ولا يكون معرفا لجوهر شيء غيره ولا جوهرا لغيره، لأنه ليس إذا عقل يكون عقل موضوع له ولا يكون ذاتا ما لغيره بل يكون ذاتا على الإطلاق ومحمولاته التي تحمل عليه من طريق ماهو ذوات له جواهر له. وإن كنا نعني بالجوهر ذات الشيء ونفس الشيء، وكان هذا هو ذاتا لكن ليس بذات لغيره بل ذاتا لنفسه، كان جوهر بنفسه وكان هو الجوهر على الإطلاق. فإن معنى الجوهر ومعنى الذات ههنا واحد بعينه في العدد، ومحمولاته هي جواهر وذوات ومعرفات لذات هذا وجوده. فيكون هذا جوهرا على الإطلاق. وتلك كانت معقولات هذا كانت جواهر أيضا على الإطلاق. وتلك التي تنظر فيها العلوم، لا هذه. وهذه إذا أخذت معقولات كانت تلك. وهذه هي التي يمكن أن يخيل فيها أنها مكتلة ثخينة مصمتة. وليس ينبغي أن تخيل هذه في هذا الجوهر. فإن ما يتخيل بذا وشبهه ليس هو الجوهر، بل ينبغي أن يجعل معنى الجوهر هو الذي حددناه وتجعل علامته التي عرفناه بها.
(178) والسبب في هذا التخيل أذهاننا وأذكارنا الصامتة، كأنا إذا لم يدافع لمسنا جسم ما بل كان سهل الاندفاع والانحراف وهوانا لنا حين ما نرجمه، هان علينا أمر وجوده، وخاصة إن اجتمع مع ذلك أن لايرد شعاع أبصارنا، فإنه يهون علينا حتى نظن به أنه غير موجود. فلذلك صرنا نقول فيما لا وجود له " إنه هباء " و" إنه ريح " . وكل ما يدافع ويقاوم من يرجمه وكان مع ذلك لا تنفذ فيه شعاعات أبصارنا كان هو الموجود والوثيق الوجود. فلذلك لما كان الحق هو أوثق الموجودات وجودا صاروا يتخيلونه بما هو وثيق الوجود عندهم من الأجسام، وهو المصمت الكثير الصلب. ولذلك اعتادوا أن يسموه " الحامل لكل شيء " كأنه يحمل ما يحمل أثقالا تعتليه فينهض بها وهو غير محمول على شيء؛ و" الصلب " فإن اسم الجوهر عند الجمهور إنما يقع على حجارة ما من المادة النفيسة، والحجارة بهذه الصفات التي يصير بها الجسم عندهم وثيق الوجود، فيتخيلون فيه ماهو موجود في المشارك له في الاسم. وكل هذه خيالات فاسدة مغلطة عليك أن تحذرها وتصور الجوهر في نفسك.
مخ ۵۷