(161) ثم يرد بعده النوع الذي هو مقصود الإنسان من المخاطبات من اقتضاء أو إعطاء. والقول الذي يعطى به شيء ما قد يبتدئبه الإنسان ابتداء من غير أن يكون قد اقتضاه ذلك آخر، وقد يكون يقتضى عن اقتضاء لهسبق. فالذي يكون عن اقتضاء له سابق هو جواب. والمقول المقتضى بين أنه إنما يكون من الإنسان الذي اقتضاه بنطق ما، والنطق بالقول هو فعل ما، واقتضاء النطق إنما يكون بأحد تلك الأقاويل الأخر التي تقتضي فعلا. والقول غير النطق به. فإن القول مركب من ألفاظ، والنطق والتكلم هو استعماله تلك الألفاظ والأقاويل وإظهارها باللسان والتصويت بها ملتمسا الدلالة بها على ما في ضميره. فالنطق فعل ما، واقتضاء النطق هو اقتضاء فعل ما، وهو داخل تحت أحد تلك الأخر. فاقتضاء النطق بالقول غير اقتضاء القول، وإن كان يلزم كل واحد منهما عن الآخر، فاقتضاء القول هو السؤال، واقتضاء النطق هو شيء آخر، غير أنه قوته في كثير من الأوقات قوة سؤال عن الشيء. ولذلك صار قولنا " تكلم يا وزان بكذا وكذا " و" أعلمني وأخبرني عن كذا وكذا " قوته قوة السؤال عن الشيء. وكل مخاطبة يقتضى بها شيء ما فلها جواب. فجواب النداء إقبال أو إعراض، وجواب التضرع والطلبة بذل أو منع، وجواب الأمر والنهي وما شاكله طاعة أو معصية، وجواب السؤال عن الشيء إيجاب أو سلب - وهما جميعا قول جازم. والمخاطبة التي يعطى بها الإنسان شيئا المبتدأ بها لا عن اقتضاء لها هو أيضا قول جازم.
( 162) والمخاطبة العلمية يقتضى بها علم شيء أو يفاد بها علم شيء ما. وهي بضربين من الأقاويل، إما السؤال عن الشيء، وإما القول الجازم وإما جواب عن السؤال وإما ابتداء. والعلم الذي يقتضى أن يقال إما أن يعتقد شيء ما ويتصور ويقام معناه في النفس، وإما أن يعتقد وجوده، أو وجوده وسبب وجوده. وليس ههنا علم آخر غير هذه الثلاثة.
(163) وحروف السؤال كثيرة: " ما " و" أي " و" هل " و" لم " و" كيف " و" كم " و" أين " و" متى " . وهذه وجل الألفاظ قد تستعمل دالة على معانيها التي للدلالة عليها وضعت منذ أول ما وضعت، وتستعمل على معان أخر على اتساع ومجازا واستعارة، واستعمالها مجازا واستعارة هو بعد أن تستعمل دالة على معانيها التي لها وضعت من أول ما وضعت.
(164) والخطابة والشعر فإن الألفاظ تستعمل فيهما بالنوعين جميعا. وأما الفلسفة والجدل والسوفسطائية فلا تستعمل فيها إلا على المعاني الأولى التي لأجلها وضعت أولا. وما استعمل في السوفسطائية من الاستعارة والمجاز فإنما يستعمل ليوهم فيها أنها استعملت على ما استعملت عليه على انها إنما وضعت عليها من أول الأمر. ولا يستعمل المستعار في السوفسطائية على أنه مستعار بلعلى أنه في الوضع الأول، وإنما يستعمل المستعار فيها إذن بالعرض، ولذلك يستعمل عند الخطابة بها. وما استعمل منها في الجدل فإنما يستعمل منها الشيء اليسير لزينة الكلام عند السؤال والجواب، لا على أنه جدلي بذاته وأولى، لكن على أنه خطبي استعمل منه شيء ما للحاجة إليه في وقت ما، على مثال ما يجوز لإنسان ما أن يتمثل ببيت من الشعر عندما يخطب أو عندما يعلم أو عندما يجادل، لا على أنه بذاته وأولى من تلك الصناعة، بل بالعرض وثانيا. والفلسفة فلا يستعمل في شيء منها لفظ إلا على المعنى الذي لأجله وضع أولا، لا على معناه الذي له استعير أو تجوز به وسومح في العبارة به عنه.
مخ ۴۹