(143) ثم يتداول ذلك إلى أن يستقر الأمر على ما استقر عليه أيام أرسطوطاليس. فيتناهى النظر العلمي وتميز الطرق كلها وتكمل الفلسفة النظرية والعامية الكلية، ولايبقى فيها موضع فحص، فتصير صناعة تتعلم فقط،ويكون تعليمها تعليما خاصا وتعليما مشتركا للجميع. فالتعليم الخاص هو بالطرق البرهانية فقط، والمشترك الذي هو العام فهو بالطرق الجدلية أو بالخطبية او بالشعرية. غير أن الخطبية والشعرية هما أحرى ان تستعملا في تعليم الجمهور ماقد استقر الرأي فيه ويصح بالبرهان من الأشياء النظرية والعملية.
(144) ومن بعد هذه كلها يحتاج إلى وضع النواميس، وتعليم الجمهور ما قد استنبط وفرغ منه وصحح بالبراهين من الأمور النظرية، وما استنبط بقوة التعقل من الأمور العلمية. وصناعة وضعالنواميس فهي بالاقتدار على جودة تخييل ماعسر على الجمهور تصوره من المعقولات النظرية، وعلى جودة استنباط شيء شيءمن الأفعال المدنية النافعة في بلوغ السعادة، وعلى جودةالإقناع في الأمور النظرية والعلمية التي سبيلها أن يعلمها الجمهور بجميعطرق الإقناع. فإذا وضعت النواميس في هذين الصنفين وانضاف إليها الطرق التي بها يقنع ويعلم ويؤدب الجمهور فقد حصلت الملة التي بها علم الجمهور وأدبوا وأخذوا بكل ما ينالون به السعادة.
(145)فإذا حدث بعد ذلك قوم يتأملون ما تشتمل عليه الملة،وكان فيهممن يأخذ ما صرح به في الملة واضعها من الأشياء العملية الجزئية مسلمة ويلتمس أن يستنبط عنها ما لم يتفق أن يصرح به، محتذيا بما يستنبط من ذلك حذو غرضه بما صرح به،حدثت من ذلك صناعة الفقه. فإن رام مع ذلك قوم أن يستنبطوا من الأمور النظرية والعملية الكلية ما لم يصرح به واضع الملة أوغير ما صرح به منها، محتذين فيها حذوه فيما صرح به،حدثتمن ذلك صناعة ما أخرى، وتلك صناعةالكلام. وإن اتفق أن يكون هناك قوم يرومون إبطال ما في هذه الملة، احتاج أهل الكلام إلى قوة ينصرون بها تلك الملة ويناقضون اللذين يخالفونها ويناقضون الأغاليط التي التمس بها إبطال ما صرح به في الملة، فتكمل بذلك صناعة الكلام. فتحصل صناعة هاتين القوتين. وبين أنه ليس يمكن ذلك إلا بالطرق المشتركة وهي الطرق الخطبية.
(146) فعلى هذا الترتيب تحدث الصنائع القياسية في الأمم متى حدثت عن قرائحهم أنفسهم وفطرهم.
الفصل الرابع والعشرون:
الصلة بين الملة والفلسفة
(147) فإذا كانت الملة تابعة للفلسفة التي كملت بعد أن تميزت الصنائع القياسية بعضها عن بعض على الجهة والترتيب الذي اقتضينا كانت ملة صحيحة في غاية الجودة. فأما إذا كانت الفلسفة لم تصر بعد برهانية يقينية في غاية الجودة، بل كانت بعد تصحح آراؤها بالخطبية أو الجدلية أو السوفسطائية، لم يمتنع أن تقع فيها كلها أو في جلها أو في أكثرها آراء كلها كاذبة لم يشعر بها، وكانت فلسفة مظنونة أو مموهة. فإذا أنشئت ملة ما بعد ذلك تابعة لتلك الفلسفة، وقعت فيها آراء كاذبة كثيرة. فإذا أخذ أيضا كثير من تلك الآراء الكاذبة وأخذت مثالاتها مكانها، على ما هو شأن الملة فيما عسر وعسر تصوره على الجمهور، كانت تلك أبعد الحق أكثر وكانت ملة فاسدة ولا يشعر فسادها. وأشد من تلك فسادا أن يأتي بعد ذلك واضع نواميس فلا يأخذ الآراء في ملته من الفلسفة التي يتفق أن تكون في زمانه بل يأخذ الآراء الموضوعة في الملة الأولى على أنها هي الحق، فيحصلها ويأخذ مثالاتها ويعلمها الجمهور، وإن جاء بعده واضع نواميس آخر فيتبع هذا الثاني، كان أشد فسادا. فالملة الصحيحة إنما تحصل في الأمة متى كان حصولها فيهم على الجهة الأولى، والملة الفاسدة تحصل فيهم متى كان حصولها على الجهة الثانية. إلا أن الملة على الجهتين إنما تحدث بعد الفلسفة، إما بعد الفلسفة اليقينية التي هي الفلسفة في الحقيقة وأما بعد الفلسفة المظنونة التي يظن بها أنها فلسفة من غير أن تكون فلسفة في الحقيقة، وذلك متى كان حدوثها فيهم عن قرائحهم وفطرهم ومن أنفسهم.
مخ ۴۴