إن المسلمين دعاة للحق لا طغاة وهم يدعون بالحكمة لا بالخصومة وبالموعظة الحسنة لا بالاستهزاء والسخرية؛ لأن هذا يشعل الخصام (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [يونس:25].هل أهل الكتاب من أهل الجنة؟؟ ¶ قد يسأل سائل: هل أهل الكتاب من اليهود والنصارى يدخلون الجنة؟ وهو سؤال يتردد على ألسنة الكثير من المسلمين، بل إن بعضهم لا يسأل نفسه هذا السؤال، بل يقطع أنهم لا يدخلون الجنة ويؤيد ذلك بأنهم كفروا بالرسول الأخير محمد خاتم النبيين، ولم يؤمنوا بالقرآن وهو كتاب منزل مصدق لما معهم من الكتاب ومهيمن عليه، وتلك حجة صحيحة والقرآن يؤكدها ويقطع بأن الذين يفرقون بين الله ورسله ويؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض هم الكافرون حقا، ولهذا فإن الله يتوعدهم بقوله: (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) [النساء:151]. ¶ لكن السؤال الذي أوردته مبني على حالة أخرى هي: هل أهل الكتاب المؤمنون بكل الرسل والمؤمنون بكل الكتب والموقنون بأن القرآن كتاب منزل مصدق لما معهم هل هؤلاء يدخلون الجنة؟ ¶ والجواب عندي: أن هذا الفريق فريق صالح مؤمن بار وأن الجنة لهم فيها نصيب ومسكن ودار. وكيف لا والله يقول مخاطبا لهم: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار..) فهو وعد أكيد مؤكد بالقسم من الله الأكرم، لكنه يختم الآية بقوله: (فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) [المائدة:12]. ¶ وهذا هو ما يحتج به منكر دخولهم الجنة وهو صحيح؛ لأن هذا الفريق لم يستقم على العهد الذي بينهم وبين الله، وعليه فمن استقام عليه والتزم فإن الجنة له مقام محتم، ولو استمر على تسمية نفسه باليهودي أو النصراني ما دام يؤمن بأن الرسل كلهم صادقون وأن الكتب كلها منزلة، ولهذا فإن الله يقول إن المؤمنين منهم لا بد أن يكونوا صالحين: ¶ (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [المائدة: 69]. ولا معنى لقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) إلا دخول الجنة بما كانوا يعملون. وكيف لا والله يقول في آية أخرى بعد إهباط آدم من الجنة: (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة: 35]. ¶ والمتبع الهدى من الله ينطبق على المسلم وعلى من سواه من أهل الكتاب ؛ لأن كل الكتب فيها هدى الله. ألم يقل الله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) [المائدة:44]. وقال: (وأنزل التوراة والإنجيل(3)من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان..) [آل عمران:3-4]. وعليه: فإن أهل الكتاب المؤمنين بما أنزل إليهم بلا تحريف والملتزمين بهدى الله المقيمين للتوراة والإنجيل هم من أهل الجنة بلا ريب؛ لأنهم بلا شك من المتقين؛ ولهذا يقول الله: (ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم)[المائدة:65]. نعم إنهم موعودون من الله ربهم الكريم بجنات النعيم ، فما داموا أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم فهم بلا شك على صراط مستقيم. ولكن أولئك الذين ليسوا كذلك من أهل الكتاب فهم في سبيل معوج أثيم. ¶ إذن فأهل الكتاب فريقان: (منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون) [المائدة: 66]. وهذا ما يؤكده الله في آل عمران بقوله: (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون(113)يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين(114)وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين(115)). ¶ إنها شهادة من الله فلا ريب فيها فهو أعظم شهادة، لقد وصف بعضا من أهل الكتاب بأنهم صالحون وهي صفة إبراهيم الخليل (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) ووصفهم بالمتقين والجنة أعدت للمتقين، أليس كذلك؟. وهكذا فإن أهل الكتاب الذين لهم هذه الصفات في السلوك وهذه الأعمال في الدنيا لهم الجنة في الأخرى وعدا من الله ومن أصدق من الله قيلا. ¶ نقول هذا لنؤكد للعالمين أن المسلمين هم أمة الدعوة إلى الله وأن الإسلام هو دين كل الأنبياء والمرسلين ؛ لأنه الدين الذي اختاره الله للعالمين وارتضاه دينا لكل المؤمنين الذين يؤمنون به وباليوم الآخر ويؤمنون بكل الكتب والرسل بلا تفريق. وعليه: فمن هذه صفته من أهل الكتاب فهو جدير بأن تكون الجنة له المآب حتى ولو كانوا يسمون باسمهم الذي عرفوا به، فاليهودية أو النصرانية اسمان أقرهما الله لهما في القرآن كما أن اسم المسلمين المعروف في القرآن هم (الذين أمنوا) فاليهود هم الذين هادوا إلى الله أي أسلموا وتابوا والنصارى هم الذين قالوا (نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). ¶ ثم إن الذين قالوا إنا نصارى هم أقرب مودة للمؤمنين وأرق قلوبا أمام الحق المبين. (ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) [المائدة: 82]. ولأنهم لا يستكبرون فإن النتيجة هي الاستجابة للحق المبين: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين(83)وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين(84)) [سورة المائدة]. ¶ إنهم يعتبرون القرآن قد جاءهم بالحق وأنهم يطمعون أن يكونوا مع الصالحين الذين يؤمنون بالحق، وكيف لا وهو لما عندهم قد صدق!! ولهذا فإن جزاءهم الجنة وعد محقق. يعلنه الله فيقول: (فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين) [المائدة:85]. هذا الفريق المحسن هو الفريق المستحق للجنة والموعود بالنعيم، وأما الفريق الآخر فهو كما يقول الله: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) [المائدة: 86]. ¶ ألا ترون أن الأولين قد أثابهم الله الجنة بما قالوا، فالقول منهم كفاهم لينالوا ما به الله أثابهم. وهكذا فإن مجرد الإعلان بأن الحق قد جاء في القرآن مصدقا لما سبقه من الكتب المتضمنة للحق. هذا هو السبيل إلى الصلاح والإحسان، ثم إلى نيل جنات النعيم فذلك وعد لكل إنسان. سواء في ذلك من يسمى مسلما أو يهوديا أو نصرانيا إلا أي اسم آخر من الملل باطنة الدين المخلص لرب العالمين. هذا ما نفهمه من الآيات والذكر الحكيم، وهي آيات واضحة البيان، ظاهرة البرهان، لمن يتدبر القرآن بقلب سليم. ¶ قد يسأل سائل: هل نحكم بهذا لهم حتى ولو لم يؤمنوا برسول الله محمد ولم يصلوا بالصلاة التي يصليها المسلمون والتي أوضحها خاتم النبيين؟؟. وأقول: هذا سؤال غير صحيح وغير متناسب مع ما قدمناه، ذلك أن من يؤمن بما أنزل الله من الكتاب ويتلوه حق تلاوته فإنه في محمد خاتم النبيين لا يرتاب وإلا فهو لا يتلو بصدق آيات الله ولا يؤمن بما أنزل الله بل هو كافر كذاب. وعليه: فإني حين أقول أن لهم الجنة إنما أنطلق من حقيقة أكدها القرآن وهي أن المؤمن بالله لا بد أن يؤمن بكل رسل الله وبكل ما أنزل الله وهذا هو الميزان الحق لكل عباد الله، وإذن فإن السؤال لا يورده إلا من لا يفهم القرآن ولا يعرف مراد الله. ¶ أما قضية الصلاة فإن المراد بها الطاعة والالتزام بما أمر الله والإقامة على سبيله وما سبيله إلا العمل الصالح والمسارعة في الخيرات بيقين وتقوى وبابتغاء أجر الله لا سوى والاستقامة على ذكره في ما يتلى. وما الصلاة إلا شكل من أشكال العمل الصالح بل ما الصلاة إلا دعوة ولهذا يقول الله: (اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون) [العنكبوت: 45]. فإذا لم تكن الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، وإذا لم يكن المصلي ذاكرا لله في كل حال ومنه يحذر؛ فإنه لم يقم الصلاة لأن كل سعي الإنسان يجب أن يكون صالحا يبتغي وجه الله وهذه هي حقيقة الصلاة، ولهذا ختمت الآية بقوله: (والله يعلم ما تصنعون). ¶ ومعنى هذا أن الإنسان مسؤول عن كل حركة وسكون وعن كل قول وسكوت وعن كل عمل ووقوف وعن كل سعي ومراد، والله لكل ذلك بالمرصاد. فإذا لم يعمل الإنسان الصالحات فهو لا يعرف معنى الصلوات ولا يقيمها. وعليه: فشكل الصلاة وهيئتها لا تهم عند الله، فليصل كل الإنسان كما هي صلاته في ملته، وكل حسب وجهته، المهم أن يكون الله هو المقصود في صلاته وفي مهماته، فالبر هو العمل الذي يعني أن الله أكبر لا العمل الذي لا يهتم إلا بالمظهر. ¶ ولتأكيد أن الله لا يهمه المظاهر، ولكن المعول عليه لديه هو المخبر؛ يقول: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة:177]. ¶ ألا تلاحظوا أن بذل المال كان هو الأهم في هذه الأعمال، وأن السمو الأكبر للإنسان والوفاء بالعهود هو الإحسان، وأن الصبر في البأساء والضراء هو الصدق والتقوى. فالصلاة إنما وردت في وسط الأعمال الصالحة وكأنها إن لم تشع بالنور في كل الأعمال فإن المصلي غافل عن صلاته ساهي، وليس من الأبرار ولا من الصادقين ولا من المتقين، مع العلم أن الأبرار والصادقين والمتقين هم أصحاب الجنة. فإذا لم تكن بصلاتك من هؤلاء فإن عملك هباء. ¶ وهكذا فإن كل آيات القرآن التي تعد الناس بالجنة والفوز في الآخرة تجعل العمل الصالح هو المعراج إلى ذلك، ولست بحاجة إلى إيراد الآيات فهي كلها بلا استثناء فلنقرأها أنت لتجد الحقيقة جلية بلا خفاء. وعليه: فإن العمل الصالح في الدنيا هو السبيل لكل فائز مفلح في الأخرى، وليس هذا خاصا بالمسلمين بل لكل إنسان على الدين ولو كان يهوديا أو نصرانيا أو على ملة من الملل الأخرى التي تؤمن بالله ولا تشرك، اقرأ إذا شئت قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [البقرة:62]. وهذه الآية التي وردت في البقرة تكررت بالنص في سورة أخرى، مما يؤكد أن الميزان عند الله هو التقوى والصلاح وذلك يتحقق بالإيمان بالله واليوم الآخر وهذا هو خلاصة وأساس كل رسالة ومهمة كل رسول، وواجب من اتبعهم بلا تفضيل. ¶ إن الله يريد الصلاح في الأرض وإن الله يريد لمن يسكن الأرض أن يعمل الصالحات وأن يلتزم بالسعي المعتمد على الإيمان بالله واليوم الآخر. فالمؤمن بذلك لا يمكن إلا أن يصلح في الباطن والظاهر. وبالتالي فلا خوف عليه ولا حزن بل لا يأتي منه ضرر لنفسه ولا للآخر. والأمن من الخوف والنجاة من الحزن والبعد عن الضرر هو مبتغى كل البشر، ولكن الناس لا يهتدون إلى طريقه الصحيح، يبحثون عنه في العدوان والطغيان، ويظنون أن ذلك هو الأمان، مع جهلهم أن ذلك هو الخسران، وأن الطريق إلى الأمان هو الإيمان بما أنزل الرحمن، وعدم الشرك به وهذا هو الاطمئنان. ¶ وليصل الإنسان بالشكل الذي يعرفه في ملته وبالأسلوب الذي توارثه في أمته، أما التمسك بشكلها الخاص عند المسلمين فهذا فهم غير صحيح ولا يليق بأهل الإيمان. وعليه فالصلاة ليست إلا هيئة خاصة ولحظات مخلصة يقف فيها العبد ليعلن عهدا أمام الله أن يستمر على سبيله يعمل العمل الصالح الذي يرضاه ويميل عن الفساد في الأرض الذي لا يحبه الله، وهذا هو اللب الحقيقي للدين، هو المعنى الصحيح لصلاة المؤمنين في كل مكان وحين، وفي الأولين والآخرين. ¶ إن الناس مأمورون عبر الأنبياء أن يعبدوا الله ويؤمنوا باليوم الآخر، ولنستمع إلى رب العالمين وهو يوحي إلى موسى خلاصة رسالته وأساس مهمته وهو وحي يتلقاه في أول لحظة من نبوته: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى(13)إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري(14)). هذا أولا ثم ماذا؟ (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى(15)فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى(16)) [سورة طه: 13-16]. ¶ فالصلاة إنما أقامها للاستقامة على ذكر الله في كل حين والدوام على طاعته مقرونا هذا باليقين بالساعة وبالجزاء على كل ما يسعى الإنسان، فإن ذلك هو صمام الأمان، للاستقامة على التقوى، وعدم اتباع الهوى.فإذا نسيها الإنسان فإنه يفسد في الأرض وفي اللظى يتردى، وهكذا فإن العمل الصالح هو النتيجة لذكر الله، وهو الثمار للصلاة، كما أن حارس العمل الصالح هو الإيمان بالأخرى. فإذا تحقق ذلك فقد أصبح الناس في أمان فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وهذا هو المطلب الأسمى لكل الناس المؤمنين بل للناس أجمعين. ¶ ولكن الغافلين عن ذكر الله يحيدون عنه ويبحثون عن الأمان في الخوف والحزن واتباع الهوى، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، ولا يعلمون أن هذا هو الخسران وهو الخوف والحزن الدائم في الدنيا والأخرى. إن الصلاح والعدل في الأرض يصلح الدنيا والأخرى؛ لكن الفساد والظلم يفسد الدنيا والأخرى. ¶ ولهذا فإن مهمة كل رسول هي إصلاح سلوك الناس في كل فعل وقول وصمت ونطق وإصلاح علاقاتهم بالحب والتعاون فلا ظلم ولا بغضاء، ولا يعبد بعضهم بعضا، وما الشعائر الدينية إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية النبيلة. فلتقم الشعائر بأي الصور ما دامت تؤدي إلى النهي عن الفحشاء والمنكر، وتؤمن الناس من الخوف والحزن والضرر، هذا هو الأساس المعتبر، في كل رسالة ولكل رسول تقدم أو تأخر. ¶ أما لو تمسكنا بالأشكال والمظهر فإن هذا سيؤدي حتما إلى أن نقول أن نوحا وهودا وصالحا وشعيبا ومن بعدهم من الرسل والأنبياء ، وأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وداوود وسليمان وعيسى كل هؤلاء أعمالهم باطلة وإيمانهم ناقص وسلوكهم غير صحيح وغير صالح؛ لأنهم كانوا لا يصلون الصلاة التي يصليها الآن المسلمون ولا يقرؤنها بالشكل الذي عرفناه من الرسول محمد خاتم النبيين، وهذا قول خطير، وإثم كبير، كيف لا والله يقول في سورة الأنعام بعد أن أورد أسماء هؤلاء الأنبياء، يقول لرسوله الخاتم: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [الأنعام:90]. ويقول عن إبراهيم: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) [البقرة:130]. ويقول للمدعين من أهل الكتاب أنهم على ملة إبراهيم: (وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [البقرة:135]. ثم يدعوهم إلى اتباعها مع المسلمين ويقول لهم جميعا: (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون) [البقرة:136]. ¶ وهكذا تتواصل التأكيدات على أن ملة الأنبياء واحدة، وأن عملهم الصالح هو الأساس في الفلاح في الدنيا والآخرة، ويعلن أن كل أحد مسئول عن عمله وبه يرتفع، فالأنساب لا تنفع بدون اتباع، فلا ينفع اليهود أنهم من نسل إبراهيم: (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون) [البقرة:141]. ولست بحاجة إلى إيراد الآيات المماثلة لهذه المؤكدة أن العبرة بالعمل الصالح والإخلاص فذلك واضح لمن تدبر الآيات ببصيرة. لكني أختمها بقوله تعالى مخاطبا رسوله محمد خاتم النبيين: (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين) [النحل: 123]. وما ملة إبراهيم إلا أنه لا يشرك بربه أحدا، ويتبرأ من قومه وأبيه أبدا، ما داموا لله أعداء. ¶ لعل الكلام قد طال في الجواب على السؤال؛ ولكن الموضوع هام، والبيان واجب على من أراد إيضاح المراد والمرام، وما هو المرام وما هو المراد؟ إن المراد هو أن أهل الكتاب الصالحين المؤمنين بالله وباليوم الآخر والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمسارعين في الخيرات هم عند الله من الصالحين المتقين وهم من الأبرار الخيرين: (وما يفعلوا من خير فلن يكفروه) وهو وعد جميل.. لماذا؟ لأن الله يعلم بمن ضل ومن اتقى، ولا يظلم ربك أحدا، ولهذا ختم الآية بقوله: (والله عليم بالمتقين) [آل عمران:115]. بل إن الله يعد هؤلاء المتميزين من أهل الكتاب بأجر عظيم ويقول: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) [النساء: 162]. ¶ بهذا أكتفي في القضية ويكفي أن أقول في الختام أن على المسلم أن لا يعلن لكل مخالف له الخصام بل يتبين حتى يفصل بين الناس بما يليق بأهل الإسلام. ¶ إن المسلمين دعاة للحق لا طغاة وهم يدعون بالحكمة لا بالخصومة وبالموعظة الحسنة لا بالاستهزاء والسخرية؛ لأن هذا يشعل الخصام (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [يونس:25].
المعوذتان حرز القرآن وأهل القرآن
كثير من الناس لا يلتفت في صلاته ولا في حياته لقراءة سورتين هامتين من سور القرآن، فهما في التلاوة والحياة شبه مهملتان، وهذا غفول من الناس، وعزوف عن كنز من ألماس، بل أغلى مما في أيدي الناس.
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت السورتان ما معناه: [لقد نزلت علي اليوم سورتان هما من خير ما نزل]، ولقد كان يقرأهما في أواخر صلاة الليل وأول صلاة النهار، وكان يقرأهما في الوتر، بل كان يقرأهما ثلاث مرات قبل نومه فيختم بها جهاد يومه، ويقرأهما عند صحوه فيبدأ بهما سعي يومه، وهذا لأنه يدرك أن السورتين هامتان.
وإن اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالسورتين لا يأتي من معنى عادي، ولا ينطلق من المعنى الذي قيل عنهما "أنها نزلت عليه عندما أصابه سحر اليهود" فهذا بهتان لا يليق بالرسول المرصود بحراسة ربه المعبود، فلقد قال الله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا(26)إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا(27)ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا(28)) [سورة الجن].
وعليه فإن اهتمام الرسول بالسورتين لمعنى أهم وأعمق يتعلق بالقرآن المبين. لن أطيل عليكم المقدمات، ولن أستطرد في الخواطر، ولكني سأدخل في الموضوع بشكل مباشر.
السورتان لهما أهمية رائعة عظيمة، ودلالات واسعة حكيمة، ومنافع جامعة مستديمة، لكل من قرأ القرآن وتمسك بآياته الكريمة. إنهما ختام يحمي الآيات وحاملها من كل سوء خارج قلبه، ومن كل وسواس داخل صدره. وهما يحميان حامل القرآن من عوامل الانحراف والغفول عن ربه، وتقيانه من الانسلاخ عن آيات ربه. فالقرآن نزل ليعلم الإنسان كيف يعبد الله ربه، ويدله على طريق السعادة والسلام في دنياه وأخراه، ويفتح له أبواب الرحمة من ربه الذي سواه، ولكن المؤمن قد يتعرض للشرور والفتنة من الكفار، وقد يتعرض للمكر والكيد من المنافقين الأشرار. بل وقد يتعرض المجتمع المؤمن للدسائس النفاثات في عقود العهود والعلاقات ومفاصل اللقاء والتعارف والتعاون بين الجماعات، فنتفرط العرى، وتنتقض العهود والقوى. وقد يشتغل الحسد في قلوب المحرومين من الإيمان فيطلقون الشائعات والأقاويل بالتهاون حسدا من عند أنفسهم التي يدمرها الخسران.
نعم هذا ما يتعرض له المؤمن منفردا والمؤمنون مجتمعين من مكائد الكفر والجحود ومن دسائس النفث والحسود، وبالتالي فإن المؤمن قد تتراخى صلته بالقرآن، وقد يتأثر بالأذى الذي يأتيه من أهل النفاق والخسران، فينسى الآيات، ويتخلى عن البينات، ويميل إلى الإدهان مع أولي البغي والتكذيب، أو يظن أن الإدهان لهم قد يجنبه البغي المريب. وعليه فإن المؤمن يحب أن يستقيم ويستعيذ، ولا معيذ له من ذلك إلا الاستعاذة بربه الخلاق العليم ولا عاصم له إلا الاعتصام بربه العزيز الحكيم. وهذا ما تضمنه له السورتان وتعلنه بأوضح البيان أمام كل ذي لب وفهم لآيات القرآن، ولنعد إلى السورتين ليتضح لنا ولكم ما نريد أن نقول ولينفلق لنا النور المبين من مشكاة الجليل.
لقد فسر المفسرون الآيات بتفاسير لا تليق بجلال الله العلي العظيم فقالوا إن (تفسير النفاثات) مثلا هي العجائز التي تنفث في عقد الخيوط المفتولة ليصاب الناس بالسحر وبالآفات المرذولة، وهذا وهم واهن، وظن للقرآن بائن، وجهل بجلال الله العليم القدير، الذي هو عليم بذات الصدور وهو اللطيف الخبير، وهو الذي أنزل القرآن ليبصر الناس بنوره وهداه . فلنتجاوز تلك التفاسير، ولنصعد إلى التفسير الذي به الله جدير، وهو الذي يليق بالعليم القدير.
لقد عرفنا أن السورتين حلتا في نهاية القرآن، وهذا الترتيب الذي احتلته السورتان ليس صدفة وليس من عمل الإنسان، بل توقيفي وهو من اختيار الرحمن، إذن فالسورتان حلتا هذا المحل لأمر جلل، ولعمل عظيم أراده الله الأجل.
ناپیژندل شوی مخ