فهل بعد هذا يسير المؤمنون بالقرآن، على هذا الأسلوب المهان؟! لا بد لمن يقرأ القرآن ويؤمن بما فيه أن يتبع هدى الله ولا يرتاب فيه وأن يجاهده في الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وينفق في سبيل الله ليكون على الطريق الحق سائر، وعلى هدى من الله مستنير البصاير. وعلى هذا الأساس بدأت الآيات تتوالى بالأحكام والواجبات، وتوضح سبيل الله الحق في الشعائر والمعاملات، وتضع المعالم الواضحة للأعمال الصالحات، وتعد من استقام برحمة الله وبالنصر والثبات، ثم بالنعيم والجنات، وذلك هو الفوز العظيم، الذي يعمل له العاملون، وعلى هذا الأمل الحق الجميل، والوعد الصادق من الله الجليل.. [اقرأ الآيات من 105 إلى 140].
إن حملة الدين من المسلمين هم أمة الأنبياء والمرسلين، والإسلام دين الله الحق، الذي يدين به كل الخلق، ولقد خسر من عنه فسق، فليسر المسلمون عليه في ثبات، وها هي الطريق واضحة المعالم بالأحكام والآيات، المنظمة للعلاقات أحسن نظام، الهادية إلى السلام. ولذلك بدأت الأحكام تتوالى وتتلألأ على الطريق، فإذا بالقبلة التي ارتضاها الله تحدد، ويرضاها الرسول محمد، ومن اتبع محمد، وما هذه القبلة إلا المسجد الحرام الذي رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل، وهما يدعوان الله بأن يستقيما على الإسلام، وأن تكون ذريتهما ومن اتبعهما على الإسلام، وأن يبعث فيهم رسولا يعلمهم ويخرجهم من الظلام، وإذن فهي القبلة التي توحد الاتجاه، وتلم الشمل إلى الله، وهي التي تتجه إليها الصلاة من كل اتجاه، ولا يشذ عنها إلا الغواه، لا حجة له إلا اتباع هواه، ولهذا يؤكد الله على هذا الاتجاه الذي ارتضاه فقال للمرة الثالثة: (ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون ) [البقرة:150].
فالقبلة هذه إتمام للنعمة واتباع هدى الله هو الهدى الذي به تتم النعمة، وكيف لا وهي وجهة يعلم الله أنها الحق، والجدير بها هو الدين الحق، ومن به آمن وصدق؟؟وكما أنعم الله على الناس بالدين أنعم عليهم بالقبلة التي توحد وجهة الموحدين ولتأكيد هذا فإن الله يسوي بينها وبين إرسال الرسول فيقول: (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) [البقرة:151].وهكذا يتواصل التعليم والتزكية وتأتي الآيات للمؤمنين بعلم من الله لم يكونوا به يعلمون من قبل هذه، وما العلم إلا هذه الأحكام والواجبات التي تتواصل في الآيات حتى نهاية السورة.
وكما توحدت القبلة والاتجاه في الصلاة فإنه لا بد أن تتوحد الوجهة في الحياة لتكون كلها صلاة ويكون للناس إمام يؤمهم إلى النجاة، إنه لهو الرسول والكتاب، فالرسول هو الباب والكتاب، والرسول هو الطريق السليم والنور والصواب، السائر إلى غير المآب، فليبادر إلى بيانه أولوا الألباب، وإلا كانوا سائرين إلى العذاب، كما يقول الله منزلا للكتاب: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون*إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم ) [البقرة:159-160].ولكي يبين العلماء الكتاب للناس فلا بد من معرفة الله حق معرفته وتقديره حق قدره فلا يجعلون له شريكا في ملكه ولا في حكمه فهو الإله الحق والرب الذي خلق: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمان الرحيم) [البقرة:163].ولتأكيد هذه الحقيقة فإن الذين يعقلون يتفكرون في خلق الله رب العالمين وتدبيره لكل المخلوقين: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) [البقرة:164].
وإذا كان الله هو الخالق المدبر والمصرف لكل شيء والمسير والهادي والمقدر والممسك والمسخر فإنه هو الرب الذي لا يشاركه أحد في تدبيره وعلمه، وهو الذي يحب ويعبد ويجاب ويحمد ويهاب ويقصد، فمن ادعى أنه ند لله أو اتخذ له ندا فقد ضل وفي العذاب تردى، وعلى هذا الأساس فإن على الناس أن لا يتبعوا المضلين، وليكونوا في الأرض مهتدين بهدى الله، آكلين مما سخره حلالا طيبا، حامدين شاكرين ما أعطاه، ولا يتبعوا الشيطان فإنه العدو المبين، الداعي إلى الفحشاء والطغيان، والجهل بما أنزل الرحمن، وذلك هو الخسران، الذي يجعل الإنسان أضل من الحيوان.
وأمام هذه الدعوة للناس فإن على المؤمنين العابدين لله أن يعرفوا الحرام والحلال، وها هو البيان يأتيهم من ذي الجلال، (ياأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون* إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) [البقرة:172-173].وعلى هذا الطريق الواضح فليمض موكب العلم والإيمان، ويهتدى بهدى الرحمن، ولا يكتم ما أنزله الله من البيان، فإن فعل المؤمنون ذلك واشتروا متاع الدنيا والسلطان، فإن الذي اشتروه إنما هو النار والخسران، لقد علموا بالحق فآثروا الباطل والبوار، فما أصبرهم على النار، (ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد ) [البقرة:176].
إن ورود الكتاب هنا بالألف واللام يدل على أنها للعهد فالمراد ذلك الكتاب الذي بدأت به السورة، إذن فالآيات متواصلة يلي بعضها بعضا حتى النهاية، وهكذا تستمر الآيات من هنا متوالية، فتبدأ أولا بالآية 177 والتي تجمل ما ينفصل بعدها من الأحكام وتوجز ما يأتي بعدها من المهام، فإذا هي تشير إلى أهم منابع البر عند الله العلام. يقول الله: (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب). ليس الدين بالمظاهر الفارغة والشعارات الجوفاء وليس الاتجاه إلى جهة معينة هو التقوى، فالله هو المقصود لا سوى، ولهذا يواصل بيان البر بقوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ) إن الإيمان بهذه هو البداية ولكن يجب أن تجسد بأعمال صادقة صالحة النية ولهذا قال الحق: (وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ) [البقرة:177]. وهكذا تجمل الآية أهم الأحكام والواجبات والمهمات الصالحات، المنطلقة من الإيمان بالله والملائكة والكتاب والنبوات، وبهذا تصبح مسيرة المؤمن متصلة بميسر المرسلين فالأنبياء هم أمة المؤمن والله هو رب الجميع وهم له عابدون، والصالحات من الأعمال هي سمة الجميع، فهم أمة واحدة والله ربهم وهم له تقاة هم الصادقون.
وبهذه الروح المؤمنة والعزيمة الموقنة والقلوب الذاكرة لله وبه مطمئنة، تمضي المسيرة إلى حياة السلام والأمن في الدنيا وإلى رحمة الله ثم الجنة من خلال الأحكام والواجبات، والفروض والمهمات، التي تجملها وتبينها ما يلي من الآيات حتى آخر السورة المختومة بتلك الدعوات المعروفات، التي يلهج بها كل مؤمن في كل الحالات، إنها الآية التي تختم بقوله تعالى: (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ).إنها الآية الأخيرة من السورة [286]، إن هذا هو نتاج الأعمال، ومرتجى النساء والرجال، فالعفو والمغفرة والرحمة، هي الغاية الهامة، والمطمح الأسمى لكل مؤمن ومؤمنة، وعلى هذا الأمل، والمطمح الأجل، تتوالى آيات الأحكام والعمل بعد الآية [177] السابقة، فإذا بنا أمام آيات الديات في القتلى (ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب) ثم آيات الوصية للوالدين والأقربين، والإصلاح بين الخائفين من الجانفين، ثم تبدأ آيات الصيام وأحكامه، وصفة الصيام وأيامه، ورخصة الإفطار في المرض والسفر والوفاء بالقضاء والتزامه، وبيان شأن ليل الصيام وقيامه، والعكوف في المساجد وحرامه، ثم بيان أحكام التعامل في الأموال، وتحريم أكلها بالباطل في كل حال، وتحريم استخدامها في كل أموال الناس، فذلك من أسوأ الأعمال، ثم عودة إلى بيان البر من جديد باقتضاب، والأمر بإتيان البيوت من الأبواب، وفي كل ذلك تكون التقوى هي الغاية لأولي الألباب، وقد عرفنا في أول السورة أن التقوى هي الصفة التي يتصف بها من يهتدون بهذا الكتاب، وتستمر هذه الصفة مع ما يلي الأحكام حتى في القتال التي تأتي أحكامه هنا بصفة تجعل المؤمن ينتصر لله لا لنفسه ويقاتل لرد العدوان لا للانتقام ولإقامة الدين لا لاقتناء المغانم والأموال بل إن المال ينفقه المؤمن المحسن في سبيل الله، فإن لم ينفق فقد ألقى بماله إلى التهلكه وبلا ثمن لأنه أنفقه بغير وجه الله: (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) [البقرة:195].وهل هناك أسمى للمؤمن من أن ينال بالمال حب الله ذي الجلال، إن ذلك أروع المطامح والآمال، إن الله هو الباقي وكل شيء هالك، وإليه الرجوع وهو ليوم الدين المالك. ومن أهم سبل الإنفاق الحج فهو جهاد بالمال والنفس والجهد بالإقبال من كل فج، ولهذا تأتي هنا آيات الحج والتقوى هي السمة لكل من فرض الحج، والمتبقي هو (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ).وأما من لم يذكر الله وأراد الدنيا فإنه جيفة عفنة تفسد في الأرض، إنه خاسر المعاد، فالله لا يحب الفساد، ولكنه مع ذلك يحب من يشري نفسه بمرضاته فالله رؤوف بالعباد، وبهذا الحب والرأفة للعباد فإن الله يدعوهم إلى السلام. (ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة). ثم ينذرهم باقتراب الساعة فما ذا ينتظرون بعد البيات إلا أن تأتيهم المذهلات يوم لا ينفع مال ولا بنون (وإلى الله ترجع الأمور) [البقرة:210].
وتتواصل الآيات منذرة ضاربة الأمثال لمن سبق، مؤكدة أن هدى الله هو الحق، وأن الجنة لمن صبر وصدق، ولم ينهزم ولم يرتب، بل صمد حتى جاء نصر الله (إن نصر الله قريب) [البقرة:214].ثم تعود الآيات لبيان الأحكام فتبين نوع ومجال الإنفاق، ثم تعود مرة أخرى إلى القتال، وتؤكد أنه مكتوب على المؤمنين وهو كره لهم ولكن الله يعلم ما لا يعلمون، فليقاتلوا وليثبتوا على الدين ومن يرتد عن دينه (فإنهم في النار خالدون) فالكفر والكفار مستمرون على قتال المؤمنين حتى يردوهم عن الدين، فكيف لا يجاهدون ولرحمة الله راجين، ولكي يكون المؤمن صابرا مجاهدا فلا بد أن يتطهر من بعض الآثام والعادات التي بها يردى، ولهذا بين الله أن الخمر والميسر إثم كبير، ثم أكد أن الإنفاق في سبيل الله خير من الإنفاق في الشهوات والآثام، وأن حماية الأيتام من أجل المهام وإصلاحهم من أصول الإسلام ، فليكن مال المؤمن في الصرف والإنفاق طاهرا، وليكن في كل حياته مجاهدا صابرا، ومثلما يلزم التطهر في المال فإنه واجب في النكاح والاتصال والتزاوج بين النساء والرجال، فالمشركات والمشركون يدعون إلى النار، وزواجهم لا يليق بالمؤمنين الأطهار، وإن العبيد من المؤمنين والمؤمنات خير من الأحرار، وكما يكون من الشرك طاهرا فإن الاتصال الحلال يجب أن يكون ظاهرا، ولهذا فاعتزال النساء في المحيض طهر يحبه الله، وإتيان النساء للحرث واجب فرضه الله، أما إتيانها للشهوة فإنه عبث لا يرضاه الله. وهنا تعرض الآيات للإيمان في كل الأمور، ولليمين في الزواج، فتبينه الآيات بوضوح، وعلى إثر الإيلاء من الأزواج تأتي آيات الطلاق بين الأزواج موضحة أحكامه وتفاصيله بلا اعوجاج مبينة كل أحواله بما لا يدع مجالا للجاج، ثم وقد ينفصل الزوجان بسبب غير الطلاق وهو الوفاة فحكم ذلك مفصل واضح مبين لكل احتمال.
حتى ينتهي أخيرا بإعادة الوصية بالرفق بالمطلقات والإحسان إليهن بلا إعنات فيقول: (وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين) إنه حق على المتقين وهم الذين هذا الكتاب هدى لهم، فإنه تذكير لهم بأول السورة ليستمروا على طاعة الله والإيمان بما أنزله من الحق ويبقى حكم الله هو المرجع في أي عمل مهما دق والاعتماد عليه هو لمن شاء أن يسبق، ولتأكيد هذا نأتي إلى قصة طالوت الذي بعثه الله ملكا لبني إسرائيل فإذا هو لم يثبت معه إلا الذين يظنون أنهم ملاقوا الله فكان الله معهم وهزموا جالوت رغم قلتهم (والله مع الصابرين)، وهنا تعود السورة لتذكرنا بالآيات وبالرسول والكتاب (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) إن هذا تذكير بقوله تعالى: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا..) الخ الآية، فالموضوع متصل متواصل والآيات تترى بلا فاصل. بلى إن الله يذكرنا بأن الرسل متواصلة الإرسال متتالية الآجال على مختلف الأجيال وكل له شأن وله آية وعليه فإن المسيرة واحدة مهما تباعدت العصور والأزمان.
ناپیژندل شوی مخ