أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه .
إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم .
قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (وليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟
ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم.
وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام.
ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى .
قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام .
هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال :
(من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام.
وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .الحج أشهر معلومات- الجزء الثاني ¶ حل رباني و بيان قرآني يقي حجاج البيت الحرام من الإرباك والزحام فاستمعوا وعوا أيها الأنام ويا أولي الألباب والأفهام،، ما يقول الله العلام الذي يعلم ما كان وما يكون والذي أنزل القرآن هدى للعالمين ، إنه يقول في سورة البقرة (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ويقول في سورة التوبة :(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كآفة كما يقاتلونكم كآفة واعلموا أن الله مع المتقين) التوبة 36، وعليه فإن الأشهر الحرم معلومة ، منذ خلق السموات والأرض ، ومكتوبة في كتاب الله ، ونظامه الكوني ، لا تتغير ولا تتبدل ، فهي أشهر حرم في كل زمان ، وإلى أن تقوم الساعة ، فلا يصح فيها إلا التقوى والسلام ، ولا فيها قتال ولا خصام ، ولا صيد ولا إيذاء للناس ولا للهوام ، بل عدل ونظام ، وحج وصيام ، وركوع وقيام ، وعطوف وإحرام ، ولهذا قال الله (ذلك الدين القيم) فهي محطة زمنية لتعظيم شعائر الله وحرماته ، كما أن الحرم محطة مكانيه لتعظيم الشعائر والحرمات ، فالناس فيها مكلفون بالحج والعمل الصالح ، وترك القلق والانشغال بالمصالح ، فإن ذلك ظلم للنفس ، وسعي جامح ، وحرمان لها من العمل الرابح ، الذي يحرص عليه المؤمن الفالح ، ولهذا قال الله عقب ذلك (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) وما الظلم إلا الانشغال بما ليس فيه خير باق ، وما الظلم إلا الاهتمام بالمتاع الفاني ، وما الظلم إلا الانطلاق إلى المطامع ، والاندفاع في الدنيا بلا تقوى ولا وازع. إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا في كتاب الله ، يوم خلق السموات والأرض. فهي شهور معلومة للعالمين ، الأولين والآخرين ، ولا يختلف عليها أحد من السابقين واللاحقين ، ولا المؤمنين ولا الكافرين ، ومثل ذلك التقدير والتنظيم لعدة الشهور السنوية الدائمة ، كان التحديد والتقدير للأربعة الأشهر الدينية المحرمة ، فهي أربعة معلومة للجميع بلا ارتياب ، منذ أن عرف الإنسان نفسه وعرف الحساب. ¶ وإذن فهي أربعة لها شأن متميز هو أنها أربعة حرم ، ودين قيم ، ولها موقع خاص هي أنها قيام للناس ومثابة وموسم للحج لله والإنابة له ولهذا فإن الله يعلنها لنا بوضوح ويقول (الحج أشهر معلومات) نعم معلومات فمن ذا الذي يجهل العلم بها ، إنها معلومة للناس كلها مسلمها وكافرها ، أولها وآخرها ، معلومة لكل الأنبياء والمرسلين وأممها ، ولهذا كان الجاهليون يتحايلون عليها وعلى حرماتها ويلجئون إلى النسيء وهو كفر وضلال وظلام ، ليواطئوا عدة ما حرم الله في الأشهر الحرم، فيحلوا بضلالهم ما حرم الله فيها على الأنام على مدى الأيام والأعوام ، زين لهم سوء عملهم ، فضلوا عن سبيل ربهم ، فتركهم الله لضلالهم (والله لا يهدي القوم الكافرين) التوبة 37 ، وإذن فنحن يجب أن نحترم هذه الأشهر المعلومة ، وأن نستمر على ما كتبه الله لها ، وبها علينا ، إن كنا أمة مسلمة. فإن إقامة الأشهر الحرم ، هو الدين القيم ، وما إقامتها إلا بأن نتبع ما كتب الله فيها وهو الحج ، ¶ قد تسألون بانبهار: هل تعني أنها موسم للحج الأكبر؟ وأقول نعم إن الأشهر الحرم الأربعة هي موسم للحج ، وأن علينا أن نحج فيها ، وأن نقيم شعائر الحج ومناسكه فيها كلها بلا ارتياب ولا تردد ، وإلا كنا واقعين في الشك الذي وقع فيه الجاهليون ، وكنا لكتاب الله ناسين ، وفي آياته مرتابين ، ولنظامه الكوني مخالفين ، وعن إرادته منحرفين ، وعن نعمته مبتعدين ، وللضلال مقتربين ، والله لا يهدي إلا من اهتدى ، فلنهتد بهداه يزدنا هدى. إذن فالحج يصلح أن يقام وتؤدى مناسكه في الأشهر الأربعة : ¶ ]رجب الفرد[ و ]ذي القعدة[ و ]ذي الحجة[ و ]محرم[ ¶ 1 ................... 2 .......... 3 ..........4 ¶ إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض وبراها وعادت الأشهر الحرم محددة معلومة ، لكل أهل الأرض والسماء ، وانمحى النسيء الذي ضل به الكافرون ، وأضلوا كثيرا ، وضلوا عن سواء السبيل ، وجاء الرسول الخاتم محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليعلن أن الأشهر الحرم هي تلك التي حددها الله العليم الحكيم ، وهذا هو الدين القيم ، وجعلها موسما للعمل الصالح السليم ، ومثابة للناس يتوبون فيها للحق والصراط المستقيم، وقياما للناس يقيمون فيها منارات التحريم لما حرم الله من الدماء والأعراض والأموال. ويرفعون فيها رايات ما شائه الله وارتضاه ، من صالح الأعمال ، ثم وليستمر التحريم في حياتهم طوال الأعوام ، ويستقيم العمل الصالح مدى الأيام ، فما الأشهر الحرم إلا محطات نموذجيه للتزود منها في مسيرة الناس ، إلى كل الأرض والأقطار والأوطان ، وإلى كل الأيام والشهور والأزمان ، فتبقى الأرض كلها حرما آمنا ، ويستمر الزمن كله أشهرا حرما ، ويستقيم الناس على العمل الصالح والتقوى ، متسلحين بذكر الله جل وعلا ، مستنيرين بهداه الذي من اتبعه فلا يضل ولا يشقى ، وهذا هو الذي يجعل الحج لله على الناس من استطاع إليه سبيلا ، ومن كفر فإن الله غني عنه أبدا. ¶ ولهذا أقول مع احترامي لهؤلاء العلماء الأعلام ، والمجتهدين الكرام أنهم كلهم خرجوا عن النص ، وأبطلوا ما في الآية من المعاني ، وحملوا الآية معنى لا يتفق مع البيان القرآني ، ولا يقره اللسان العربي البياني ، فالله يقول وهو العليم الحكيم ، وهو الذي علمنا اللغة والكلام (الحج أشهر معلومات) إن (أشهر) جمع قله ، يدل على أنها أربعة ، ولهذا قال في آية التوبة (إن عدة الشهور) فأتى بجمع الكثرة ، فكيف تحول جمع أشهر إلى شهر وعشرة أيام؟ وكيف جاز أن يطلق الجمع على المفرد وجزء من المفرد؟؟ إن هذا لا يقول به أحد عربي ، بل حتى العجمي الذي لا يعرف اللسان العربي ، سينكر هذا التفسير العددي لكلمة (أشهر) فكيف بأئمة البيان العربي ، ومجتهدي الفقه الإسلامي. ¶ لقد اجتهدوا وأخطئوا والمخطئ له أجر ، فلهم الأجر. ولكن ليس علينا أن نتبعهم في التفسير للأشهر بأنها شهر ، بل لا بد أن نفهم الآية على معناها الصحيح الواضح بأن (الحج أشهر معلومات) يعني أنها الأشهر المعلومة منذ خلق الله الأرض والسموات . وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم ، هذه هي الأشهر المعلومات لكل الناس ، لمن يأتي منهم ، ولمن مات وللرسالات والنبوءات ، بلا استثناء ولا تأويلات ، فكيف نجعل أشهر الحج المعلومات ، أقل مما تعنيه الكلمات؟!! إن هذا تقصير لا يرضاه إلا من لا يفهم البينات. ¶ قد تقولون كيف تأتي في آخر الزمان ، وبعد مضي القرون من نزول القرآن ، لتقول لنا أن الحج يصح أن يقام في الأشهر الأربعة المعلومات؟ إن هذا مقال لم يقله أحد من أهل الفقه ، ولا أحد من علماء اللغة؟!!لكني أقول أن القرآن هو قمة اللغة ، بل هو أصل اللغة ، وهو البيان الذي يتعلم منه أهل البيان ، وهو الحكم الذي يحتكم إليه كل فقيه ، ممن تأخر أو تقدم ، وأنا قد فقهت من الآيات ما لم يفقه السابقون ، لأني جئت في زمن لم يدركوا ما فيه من تطورات . فهم كانوا يظنون أن السفر الطويل والمسافات المتطاولات يحتم على الناس أن يحجوا في شهر واحد ، وذلك مبلغ الاستطاعة ، ومنتهى الجهد لكل جماعة ، لكن الزمن الآن قد قرب المسافات وقصر السفر وجعل كل فج عميق ، قريبا من البيت العتيق ، وصير كل الناس قادرين على الفرض بلا معيق ، وسهل صعوبة الانتقال وسير الطريق ، فلم يعد السفر مرهقا ، ولم يعد الطريق شاقا ، ولم يعد بين المشرق والمغرب فارقا ، فالبعد الشاسع قد التفق ، والبون الواسع قد ارتتق ، والحلم الغامض قد تحقق . فأصبح العميق من الفجاج ، سهلا قريبا للحجاج ، وأصبح الأذان في الناس بالحج ، يصل إلى كل قمة وفج ، يحمله الأثير والأقمار ، وتستقبله الأسر والديار ، بلا تفريق بين عرب وعجم ، وبين الأفراد والأمم. فكيفلا يبادر الناس بالحج جماعات ووحدانا ،وكيفلا يأتون من كل فج عميق ، رجالا وركبانا ، ¶ وكيفلا يأتون سراعا ، على كل ضامر ، في البر سائر ، أو للبحر ماخر ، أو في الجو طائر ، فالطائرات والسيارات والبواخر ، كلها يصح أن توصف بالمركب الضامر ، فالكلمة القرآنية دقيقة الدلالة ، تصلح لكل مركوب حيواني أو آله ، فالخيل والبغال ، والحمير والجمال الضوامر ، مثلها الطائرات والقطارات والسيارات والبواخر ، كلها ناقله للأثقال ، سريعة الانتقال ، ضامرة البطون والأطوال ، فالوصف شامل للجميع ، منطبق على الحي والمصنوع ، وكلها من خلق الله البديع .فالانتقال على المستحدث من الآلات ، أصبح يدفع الناس إلى الحج زرافات ، ومن كل القرى والقارات ، ومن البيوت والمؤسسات ، ¶ وإذا كان الأمر كذلك ، فإن مكة لا بد أن تتسع للجميع ، ولا بد أن تستقبل الناس مهما كثرت الجموع ، لأن الفريضة واجبة ، فكيف نطلب من المستطيع أن يتراخى عن واجبه ، وكيف نطلب من المسلم أن ينتظر الأداء ، وهو لا يدري ماذا يكسب غدا ؟؟ إن هذا صد عن سبيل الله واعتداء ، بل وإلحاد وظلم عظيم يوردنا العذاب الأليم ، فما هو الحل أيها الناس العقلاء ، وما هو المخرج من هذه الظلماء ، إنه في القرآن الذي هو الحق والهدى للإنسان ، وفيه البينات والفرقان ، وفيه العلم الذي يهدي إلى الإحسان ، لقد قال الله (الحج أشهر معلومات) فاجعلوا الحج في هذه الأشهر المعلومات ، التي هي أربعة حرم منذ خلقت الأرض والسموات ، وذلك هو الدين القيم ، والطريق الأسلم ، والعمل الأقوم ، أوليس الله هو العليم الحكيم ، الهادي للصراط المستقيم ، أوليس هو المنزل للقرآن هدى للعالمين ، وبلسان عربي مبين ؟؟؟ بلى بلى .. إن هذا هو الحق الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين .فإذن فلنفهم الكلمات كما اقتضت وأبانت ، ولنعمل بها كما جاءت ، بلا التواء ولا مراء ، فالبيان واضح الجلاء ، والأيام مشعة الضياء ، فلماذا الإنغماس بها في ظلماء ، ولماذا تفسيرها بما يخالف المعنى ، إن هذا هو الغباء ، والغفول الذي به الله لا يرضى ، وكيفلا وقد قال (الحج أشهر معلومات) إنها كلمات واضحة المعنى ، بينة الدلالات ، وإذا أردتم للمعنى وضوحا أوفر، وشئتم تأكيدا يكشف المعنى أكثر ، فاسمعوا ما قال الله بعد ذلك (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكرر (فمن فرض فيهن الحج) أكررها ثلاث مرات لتتأكدوا من وضوح الدلالات فكلمة (فيهن) تعني أن للإنسان أن يفرض الحج في أي شهر (فيهن) في أي واحد من الأربعة الأشهر المعلومات (فمن فرض فيهن الحج). ¶ أفهمتم أن هذا تأكيد لكم، وإيضاح لكم، وبيان يقضي على ارتيابكم وحكم يمسح كل شكوككم ، وقرار يبعد كل غموضكم ، فهل تحتكمون إلى القرآن والهدى ، أم إلى الهوى. إذن فافرضوا على أنفسكم الحج باطمئنان ، في أي شهر من الأشهر المعلومات ، وقرروا للناس أن يحجوا لله إلى البيت، في أي شهر من الأربعة المشهورات ، وثقوا بأن هذا هو حكم الله عالم الغيب والشهادة ، فهو العليم بأن الناس سيصلون إلى زمن تتقاصر فيه المسافات المتباعدة ، ويكثر فيه الناس التي للحج قاصدة ، وبأعداد متصاعدة ، بل أن الإسلام سيعم بلادا وأناسا متعددة ، بل وسيدخل الناس في دين الله أفواجا ، ويأتون لبيت الله حجاجا ، ولهذا فقد أفسح الله لهم الزمن والميعاد ، وجعل الحج أشهرا معلومات ، حتى لا يحرم منه من أراد ، أليس الله علام الغيوب ، أليس هو الذي جعل الحج لله على الناس ، فكيف يعلنه على العالمين؟ ولا يفسح لهم الزمن ليسعهم أجمعين؟؟ لنقرأ الآية من جديد : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، ومن هو الذي سيفرض فيهن الحج؟؟ إنهم كل الناس. ولنقرأ (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ?96? فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ?97?) آل عمران 96-97، إن كلمة الناس والعالمين تدلان على أن كل الناس المؤمنين ، من كل الملل مدعوون للحج ما داموا مؤمنين.ولكن الناس كفروا بما فيهم أهل الكتاب ، فكان الله غنيا عنهم وعن العالمين ، ولكنهم لو آمنوا لكانوا حجاجا لله ، وللبيت قاصدين ، ولهذا قال الله : (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا) البقرة 125، وقال (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) المائدة 97، وقال (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27، وقال (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين) الحج 34، إن قوله ولكل أمة ، يشير إلى أن كل الملل التي لها كتب سماوية ، لها منسك في مكة ، ولهذا قال : فإلاهكم إله واحد. وأمام هذا النداء العام ، وهذا الواجب الهام ، لا بد أن يحصل الزحام ، وقد يؤدي توزيع الحصص ، إلى تأخر الكثير عن الحج وتقاعس الأكثر منهم عن الأداء ، بمختلف الحجج ، وأهم حجة هي تحديد عدد الحجاج ، وتضييق تدفق الأفواج ، وهذا أمر لا يرضاه الله ، الذي يقول (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق) الحج 27 ، فكيف يرضى الله بالتحديد ، وهو يدعوهم من كل فج بلا تحديد وكيف يرضى أن تحجب عنهم المنافع والاكرام وهو يقول :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فالناس يجب أن يشهدوا المنافع الموعودة ، وأن يذكروا الله في الأماكن والأيام المعلومة ، ليعظموا حرمات الله ولينالوا خيره ويعلنوا تقواه . ¶ إذن فإن فتح الباب للحج في الأشهر المعلومات ، واجب أعلنه رب الأرض والسموات ، وحدد ميعاد ومكان هذا الفرض ، يوم خلق السموات والأرض ، فالشهور إثنا عشر منذ القدم ، منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم . فهيا أيها الناس ، هيا أيها المسلمون ، فكروا في الموضوع وقرروا ، ولبيان الله تدبروا ، ولآياته تذكروا ، لتنالوا خير الله وتؤجروا ، فاقدموا على التنفيذ ولا تتحيروا ، فالبيان القرآني واضح كالصباح ، والحكم الرباني حق مشرق وضاح ، وعلينا أن ننطلق على نوره للعمل ، ولا حرج علينا ولا جناح. قد تقولون كيف يمكن أن يكون الحج في الأشهر الأربعة؟ وقد تحدد يوم عرفه بأنه يوم تاسع ذي الحجة؟ ويوم النحر بأنه يوم عاشر ذي الحجة؟ وتحددت أيام التشريق بأنها يوم11/12/13 من ذي الحجة؟ فكيف نستطيع أن نحدد مثلها في الأشهر الأخرى ؟؟ وكيف نخترع من عندنا مواعيد جديدة ونتجرى؟؟ وأقول لكم ليس هناك اختراع ، وليس هناك جرأة على الله ، بل هناك اتباع واستماع ، وتدبر لآيات الله . تدبروا معي قوله تعالى في آية البقرة ، هذه التي نبحثها ، يقول في هذه الآية : (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) البقرة 197، فهي معلومات معروفات ، ومشهورات لمن تقدم ولمن هو آت ، وتأملوا معي قوله في آية الحج :(ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) الحج 28، فهي أيضا أيام معلومات ، في أشهر معلومات ، لكنه لما تحدث عن أيام التشريق قال : (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون)البقرة 203، لقد وصفها بأنها معدودات ، نعم. لأنها ثلاثة أيام ، ولا إثم على من تعجل في يومين ، وهذا يؤكد لنا أن كلمة معلومات تعني شيئا غير المعدودوات ، فالمعلوم لا يتغير اسمه ولا يتبدل موعده ، لكن المعدود المراد به : معرفة العدد مع أنه معلوم موعده بالشهر الذي يكون فيه ، ثم أن الله في آيات الصيام يقول : (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ?183? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون?184?) البقرة 183-184، ثم حدد هذه الأيام المعدودات للصيام بقوله :(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فأيام الصيام معدودة ، وشهرها معلوم ، هو شهر رمضان وبتسمية الشهر عرفنا عددها ، وعرفنا أن شهر الصوم معلوم بإسمه المحدد المعلوم ، فلو كان الحج في أيام معدودة ، وفي شهر واحد فقط كالصيام ، لقال الحج أيام معدودة ، ليكون معناه أنها يوم تسعة وعشره ، وهما يوم الوقوف ويوم النحر ، ثم ثلاثة أيام لرجم الجمرات والذكر ، لكنه لم يرد هذا. بل أراد أن الحج له أشهر معلومات ، وفي كل شهر لنا أيام معدودات ، نحددها نحن في بقية الشهور بنفس العدد ، وفي نفس الموقع ، الذي اعتدنا عليه في شهر ذي الحجة. فنجعل مثلا يوم 9 رجب و9 ذي القعدة و9 محرم يوم الوقوف بعرفه كما هو يوم 9 من ذي الحجة . ونجعل يوم 10رجب و10ذي القعدة و10محرم يوم النحر كما هو يوم 10 من ذي الحجة. وهكذا أيام التشريق ، نجعلها في الأيام التالية ، من الأشهر الثلاثة الباقية ، أي يوم 11/12/13 من كل من رجب وذي القعدة ومحرم . ¶ قد يقول قائل هذا اختراع واجتراء ، بلا دليل ولا اقتداء ، وأنا أقول لكم تمهلوا قبل هذه الاتهامات ، وتعالوا معي إلى الآيات نتدبرها بثبات وبلا تشنجات ، لنقرأ معا قول الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة ، وبعد آيات الصيام مباشرة إنه يقول : (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة 189، إنه يتحدث عن الأهلة فلماذا لم يقل إنها مواقيت للناس والصوم مع أنها جاءت بعد آيات الصوم؟؟لأن الصوم شهر محدد واحد ، فمعرفته سهلة ميسورة ، إما برؤية الهلال ، أو بإكمال عدة شعبان ، وليس هناك حرج في أن تصوم يوما من شعبان ، أو أن تزيد صيام يوم في شوال ، إذا غم عليك الهلال ، لتكمل عدة الأيام المعدودات ، التي هي ثلاثون نعم ذلك أمر سهل ميسور ، ولهذا يقول الله في آيات الصيام :(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) البقرة 185، فالمراد هو إكمال العدة ، سواء في صيام الشهر لمن شهد الشهر ، أو عند القضاء لمن أفطر ، عن مرض أو سفر . ذلك أن شهر الصيام شهر واحد معلوم معدود ليس له ثان . أما شهور الحج فهي تتكرر ، ولهذا كانت الأهلة مواقيت للناس في كل حياتهم ، ومواقيت للحج وهو الأهم ، ولهذا ذكره وخصه بالذكر ، للاهتمام بشأنه كما هي عادة البيان ، وأساليبه المعروفة لأهل العرفان ، نعم إن الأهلة مواقيت للناس ثم هي مواقيت للحج .لماذا ؟؟ لأن أشهر الحج تتكرر ، ولا بد أن يراقب فيها الهلال ، ليحدد في كل شهر منها مواعيد الحج ، أي أيامه التي هي التاسع والعاشر ، وما يليها من أيام التشريق كما ذكرنا سابقا.لا بد أن يكون الناس على يقين ، من أن يوم كذا في شهر كذا هو يوم الوقوف ، وأن يوم كذا هو يوم النحر ، وهكذا في كل شهر من الأشهر المعلومات. ولا بد أن يكون الناس على علم ، بأن بداية الشهر المعلوم من الأربعة ، هو يوم كذا ليتحدد على ضوئه يوم الحج بلا شك ، ولهذا قال (قل هي مواقيت للناس والحج) ، فخصصه دون سواه ليؤكد لنا أن الحج مكرر الشهور ، وأنه منتظر لكل الناس ، وهلال أشهره منظوره ، ليكونوا على بينة من يوم الحج الأكبر ، في كل واحد من الأربعة الأشهر ، وهكذا لا يمكن أن تأتي هذه الآية عبثا ، ولا يمكن أن تأتي بلا هدف ولا معنى ، بل لها هدف ومعنى ، لمن تدبر وأمعن النظر ، في آيات الله التي لا تخفى على أولى الحجى . إن الآية هذه واضحة الدليل لذي الفكر ، بينة السبيل لذي حجر وعلى ذكر الحجر ، فإني آخذكم إلى آية تشع كالفجر ، وللمراد تنصر ، لنقرأ أوائل سورة الفجر ، فإن النور من آفاقها يظهر ، يقول الله : (والفجر ?1? وليال عشر ?2? والشفع والوتر ?3? والليل إذا يسر ?4? هل في ذلك قسم لذي حجر ?5?) الفجر 1-5 ، إنها الخمس الآيات الأولى ، تأملوا معي الكلمات ، إن الله يقسم فيها بخمس من المخلوقات .اقرءوها مرة ثانية ، هل تلاحظون فرقا بينا بين واحدة وأخرى ؟ أم أنها جاءت بأسلوب واحد واستواء ؟؟ كلا كلا.لقد جاءت الأولى والثالثة والرابعة والخامسة معرفة بالألف واللام ، (والفجر - والشفع - والوتر - والليل إذا يسر) لكن الثانية جاءت بدون تعريف (و ليال عشر) ، لم يقل (والليالي العشر)، لماذا؟؟ إنها إشارة لمن يفهم ويتدبر القرآن ، إن هذه الليالي العشر ليست محددة في ذي الحجة ، بل هي عشر ليال في كل شهر من الأشهر الأربعة. أي أن لكل شهر من الأشهر الأربعة ليال عشر، يجب أن تعرف بالأهلة ، التي هي مواقيت للحج ، ولا بد أن تعرف متى تبدأ ومتى تنتهي ، ليكون تاسعها هو يوم الحج الأكبر ، وعاشرها هو يوم النحر ، إنها عشر ليال تتكرر ، في كل الأربعة الأشهر ولهذا جاء ذكرها منكرا ، بدون أداة تعريف ، وأفردت وحدها بين أخواتها المعرفات بأداة التعريف. إن هذا التنكير لها، إنما هو تعريف لنا، بأنها ليال عشر متكررة ولهذا جاءت منكرة. فسبحان الذي جعل من التنكير تعريفا، ومن التنكير لها تشريفا. وجعل التنكير دليلا على التكرير ، لليالي العشر في الأشهر الأربعة بانتظام ، فهي تتكرر أربع مرات في العام ، وهي في كل شهر لها نفس المقام ، عند ربنا العلام ، ولمن أراد إحيائها بالذكر وبالحج والعمرة ، من أهل الإسلام ، فافهموا يا أولى الأفهام ، وافقهوها يا أولى الأحلام ، هل في ذلك غموض على الفكر ، وهل في ذلك ريب لذي حجر ؟؟ ¶ ثم أن يوم عاشوراء ، لا يزال مرتقبا معروفا محترما ، في الشهر الرابع وهو شهر محرم. إنه إشارة واضحة أن لكل شهر من الأشهر الأربعة يوم عاشر هام ، رفيع المقام ، وكأن أهمية هذا اليوم العاشر ، انمحت من الأشهر الأخرى مع مرور الأيام ، ولم يبق منها إلا هذه الإشارة الواضحة في الشهر الرابع وهو محرم. ¶ وبعد فهل نستطيع أن نقول أن الآيتين ، أعني آيتي الأهلة والفجر قد أكدتا لنا أن الحج يصح في الأربعة الأشهر؟ يمكن أن يكون ذلك قد تأكد وأن من له حجر من الناس قد يوافق على أن الحج ليس في شهر ذي الحجة بشكل محدد ، بل أنه يصح في رجب المفرد ، وفي الثلاثة الأشهر المتوالية وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وإذا كنتم في ريب من ذلك فأني أسألكم متى كان صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش؟؟ بل أحدد السؤال أكثر فأقول متى سار النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية؟؟ إن المؤرخين يقولون :أذن الرسول في الناس بالحج في شهر ذي القعدة ، ركب الرسول ناقته القصوى ومعه أصحابه ، وساقوا هديهم سبعين بدنه. قد تقولون إنها عمرة ، وليست حجا. لكني أسأل ولماذا ساق النبي الهدي؟؟ إن الهدي لا يكون إلا مع الإهلال بالحج؟!! بل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه (من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة) وهذا الحديث رواه مسلم عن جابر في حديثه الطويل عن قصة حجة الوداع. إذن فإن قصد الرسول في عام الحديبية كان هو الحج لا العمرة وقد أكد هذا القرآن بقوله تعالى : (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الفتح 25 ، ولتأكيد أن القصد هو الحج ، نجد في حكاية الحديبية أنه لما انتهى الصلح ، تردد المسلمون في أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا الهدي ، ليتحللوا من الإحرام ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم ، تقدم إلى هديه فنحره ، ودعا بالحلاق فحلق رأسه ، فلما رآه المسلمون تواثبوا على الهدي فنحروه وحلقوا. ومن المعروف أن الحلاقة لا تكون إلا بعد التحلل من الحج ، أما العمرة فهي التقصير فقط ، وهذا يعني أن الرسول قد أهل للحج في ذي القعدة ، لكنه لصد قريش له وللمسلمين لم يدخل مكة ، فنحر وحلق وعاد ، لكنه انتظر إلى العام التالي وكما وعده ربه (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون) الفتح 27 ، وفي الموعد المضروب ، قبيل بداية شهر الحجة ، سار الرسول في ألفين من الصحابة قاصدين مكة ، وبموجب الصلح ونزولا من قريش على صلح الحديبية ، دخل الرسول مكة المكرمة وأدى عمرة القضاء ، ومكث مع أصحابة فيها ثلاثة أيام يصلي بهم ويذكر الله ، ويؤذن بهم بلال رافعا اسم الله .لعلنا ندرك هنا أن الرسول أدى عمرة تسمى عمرة القضاء ، في شهر الحجة ولم ينو حجا ، فلو كان الحج لا يصح إلا في ذي الحجة لما تأخر النبي عن الإهلال بالحج في هذا الشهر ولاغتنمها فرصة لا تعوض لأداء الحج لاسيما وأن قريشا جلت عن مكة بمجرد دخوله ، ثم لم تأذن له بطول الإقامة في مكة ، فما كان أخره أن يستغل شهر ذي الحجة لأداء الحج لا للعمرة فقط .لكنه لم يفعل لعلمه أن الحج يصح في سوى هذا الشهر ، وأنه غير محدد بذي الحجة وهكذا خرج النبي من مكة ، وعاد إلى المدينة فرحا بتحقيق وعد الله وتصديق رؤياه بدخول المسجد الحرام. ¶ ثم تعالوا بنا نراجع فتح مكة وهو في السنة الثامنة من الهجرة :لقد خرج النبي مع جيش الفتح في الحادي والعشرين من رمضان عام 8 من الهجرة ، ولقد تم له فتح مكة بسلام ، وبإسلام عدد كثير من الأقوام ، وتم تهديم الأصنام ، وتطهير البيت الحرام ، من أثر الشرك والآثام .وبعد إقامة الرسول في مكة أسبوعين ، توجه إلى ردع عدوان هوازن ، التي أرادت بالمسلمين سوءا بعد انتصارهم في فتح مكة وقررت أن تغزوا النبي وقومه ، لكن النبي سار لمواجهتهم وردعهم ، فكان ما كان من فشل المسلمين في حنين ، ثم ثباتهم بسكينة الله على الرسول وعلى المؤمنين ، ثم هزيمة هوازن ، ثم حصار الطائف وثقيف ، وقد استمر الحصار حتى نهاية شوال ، وكما آذن شهر ذي القعدة بالقدوم وهو من الأشهر الحرم ، عاد النبي من الطائف إلى الجعرانه ، فقسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم ، ثم غادرها إلى مكة معتمرا ، في شهر القعدة ، ثم عاد إلى المدينة مع أصحابة من المهاجرين والأنصار ، في أول شهر ذي الحجة .لقد سقت هذه الوقائع رغم عدم الحاجة إليها لنؤكد من جديد أنه لو كان شهر ذي الحجة محددا للحج لانتهز الرسول الوقت ولجعل تواجده في ضواحي مكة فرصة ؛ أو على مقربة منها فرصة لانتظار موعد الحج ، فلم يكن بينه وبين ذي الحجة إلا بقية من ذي القعدة ، فانتظاره كان فرصة ثمينة ، وكان محل ترحيب وحب الجميع ، لاسيما أنه الآن ظافر منتصر حتى لو أقام في مكة منتظرا ، فليست إقامته محددة كما كان في عمرة القضاء ، بل هو الآن مطلق للإقامة كيفما شاء ، وإلى متى شاء ، وفي محل ترحيب واحتفاء ، لكنه رغم هذا غادر مكة بعد العمرة ، ولم ينتظر الحج ، مع أنه على قاب قوسين من ذي الحجة. إن هذا يدلنا على أنه كان يدرك أن ذي الحجة ليس شهرا محددا خاصا بالحج بل أنه (الحج أشهر معلومات) كما قال الله فله أن يحج في أي شهر شاء والأيام أمامه تتوالى . ¶ قد تقولون لكنه لما حج حجة الوداع كان حجة في شهر ذي الحجة ، وكذلك حج أبو بكر وعلي بن أبي طالب في السنة التاسعة ، حين كلف الرسول علي بن أبي طالب بتلاوة سورة براءة على المشركين ، لكني أقول لقد اختار الرسول هذا الشهر لأنه الشهر الأوسط في الأشهر الثلاثة السرد المتوالية ، وهو دائما كان يحب التوسط في كل أمره ، ولا يعني اختياره للشهر الأوسط من الثلاثة الأشهر المتوالية ، أنه الشهر المحدد الأوحد للحج بل هو اختيار جميل من الرسول وبه اجتهد مع علمه أنه ليس هو الشهر المحدد ، وكيفلا والقرآن يقول ويتلى بلسانه على الناس وفيه يقول الله (الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) إنه لسان عربي والنبي أفصح العرب ، فكيفلا يفهم النص وكيفلا يفهم أن المراد تكرر الحج أربع مرات في العام كما حدد الله العلام ، إن هذا هو الحق وسواه أوهام . ¶ هكذا أستدل بالحدث على أن الحج ليس محددا في شهر ذي الحجة ، بل وهناك دليل آخر من نفس الحدث ، وفي نفس العام الذي حج فيه النبي وفي نفس الشهر وهو ذو الحجة . هذا الدليل ينصر ما أقول ويؤكد أنه موافق للرسول ، فاستمعوا إلى الدليل القاطع والقول الفصل بلا منازع ، يقول المؤرخون : لقد خرج النبي من المدينة حاجا وحين وصل إلى (ذي الحليفه) ميقات إحرام أهل المدينة ، لبس مع أصحابه ملابس الإحرام ، ثم سار الموكب ملبيا ذاكرا حتى وصل الموكب إلى محلة (سرف) وهي منطقة بين مكة والمدينة ، وهنا أناخ الركب للراحة ، وعندها قال الرسول للصحابة ، وهو النبي المعلم المشرع لهم ، الذي يأخذ الناس منه مناسكهم . ماذا قال لهم ؟ لقد قال : ¶ (من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل ، ومن كان معه هدي فلا) هكذا حدد أن الحج يصح لمن له هدي ، وأن شهر ذي الحجة يصح أن لا يكون موسما للحج ، ولكن للعمرة فقط ، لمن لم يسق الهدي ، مع أنهم كلهم قد عرفوا الواجب وكلهم يصدق عليه قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وكيفلا وهم مع رسول الله الذي تنزل عليه القرآن وهو المبلغ له من الله. ومن الجميل والمهم أن نعرف أن الرسول قد اختار هذا الشهر الأوسط ، من الأشهر الثلاثة الحرم المتوالية ، لأنه يتفق مع قدرة أكبر عدد معه من المسلمين والمسلمات، فهو يصادف أواخر أيام الشتاء وأوائل الربيع من الأشهر الشمسية ، إذ يؤكد الحاسبون أن هذا الشهر العاشر من العام العاشر للهجرة ، يتقابل مع شهر مارس ، من عام 632 ميلادية ، وهو شهر معتدل الجو رائق النسيم ، ناعم الهواء ، للمسافر والمقيم ، وللموكب العظيم ، الذي يتقدمه الرسول الكريم ، أليس هو الذي يصفه ربه بقولة للمؤمنين (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة 128 ، ولهذا اختار لهم هذا الشهر المتوسط بين الأشهر الحرام والمتوسط الهواء والأنسام ، ليكون أوعى للنشاط في الأسفار والمقام ، والوصول بسلام ، وأداء المناسك بيسر واهتمام ، فصلى الله عليه وعلى من سار معه من الأصحاب والأقوام ، وعليه وعليهم من ربهم السلام ، وعلينا معهم ، وعلى من اتبعهم باحسان إلى يوم القيام. ¶ وبعد ،، فقد يقال أن هذا التعليل لاختيار النبي صلى الله عليه وسلم ، شهر ذي الحجة لأداء الحج (حجة الوداع) غير واقعي ولا علمي، بل وغير متفق مع مهمة النبي الذي ينفذ ما أمر به من ربه في أشق الظروف وأصعب المضايق بلا تخير لزمن الربيع والنسيم وبلا اعتبار للمشاق والعوائق ، ألا تذكر أنه سار بالمهاجرين والأنصار إلى تبوك في أشد القيض وفي ساعة العسرة ، رغم كراهتهم وتردد بعضهم ، ليكون لهم درسا هاما بالغا في المبادرة إلى الجهاد في كل حال ، وفي مختلف الأزمان ولهذا قال الله عنهم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم) التوبة 117 ، وأنا أقول أن الاعتراض متوقع من الكثير والقليل ، ردا على ما أوردته من التعليل ، ولكني أقول أن هناك فرقا بين مسير النبي بالمهاجرين والأنصار للحج ، وبين مسيره إلى تبوك ، لقد كان المسير إلى تبوك لردع المتآمرين ضد الدين ، فلقد لاحت علامات الكيد ، وظهرت دلائل المؤامرة على المسلمين ، فلا بد من ردعها بشكل عاجل ، وبلا انتظار ولا بد من المسير إلى أعماق الوديان لإظهار قوة الإسلام والمسلمين ، وقدرتهم على ردع العدوان ، من أي جهة جاء ، وفي أي مكان ، رغم العسر والحر ، فكان لا بد من المسير في أصعب الأزمان وأعسرها ، ليزداد المتآمرون يقينا بأن الصعاب أمام المسلمين تهون ، وأن العسرة عند المؤمنين هي السبيل إلى رضاء رب العالمين ، فالعسير: في طاعته يسير وسلام ، ألم يقل (فإن مع العسر يسرا ?5? إن مع العسر يسرا?6?) الشرح 5-6 ، وهي حقيقة لا يرتاب فيها المؤمنون ، بل تدعوهم إلى الإصرار على ركوب العسر ، لينالوا اليسر في الدنيا ويوم الدين ، ولينالوا أجر الله المحسنين ، ألم يقل الله معاتبا من تخلف من الموكب ، ومبشرا من بادر ورغب ، قال : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ?119? ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين?120?) التوبة 119-120 ، إنه وعد بجزاء يسموا إلى مقام المحسنين. بل أن الآيات تتوالى بالوعد الجميل وتتوغل في التبشير من الجليل على كل عمل وعطاء كثير وقليل فيقول الله : (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) التوبة 121 ، وعود تتوالى من الله الغني الحميد ، إلى هؤلاء المبادرين من العبيد وأي جزاء أحب وأبقى وأحسن من جزاء يكون من الله ، إن هذا هو الذي تهون في نيله النفوس والأموال والأولاد والأوطان ، لأن هذه كلها نافذة فانية ، وذلك باق خالد ومبارك متوال في الدنيا والآخرة ، فكيفلا يسير بهم النبي في ساعة العسرة لينالوا مع العسر يسرا ، ومع النصب حبا من الله العلي العظيم. وعليه فإن الدرس الذي أراده الله لعباده في تبوك ، والأجر الحسن الذي أراد أن يكتبه لهم لا بد أن يكون في ساعة العسرة ، ليتوب عليهم ، إنه بهم رءوف رحيم ، وهو التواب الرحيم . فذلك مسير : له عقبى حسنه للمؤمنين ، وإرهاب للمتآمرين والكائدين ، فكان لا بد من مسير يبهر ، وبه اليقين والصبر يظهر ، وبه الصادق يؤجر ، مسير به العدو يقهر ، والمتآمر يدحر ، وأحلامه تتلاشى وتتبخر ، أمام هذا الزحف النبوي الذي استسهل ما تعسر .فكان لهم جميعا الخير من الله والتوبة والرحمة وذلك خير ما يدخر ، وذلك هو الفوز الأكبر .وهكذا كان الفرق بين مسير الحج ومسير الجهاد . وهكذا كانت حجة الوداع في العام التالي لعام تبوك . كانت ذات مسير يفوح باليسر والعبير بينما كان السابق يفوح بالحر والهجير،، ولهم من الله أجر كبير .
ناپیژندل شوی مخ