2
على أنه إذا كان هناك ذلك الشبه في خطوات التعاقب التي شهدها الفكر العربي قديما والفكر العربي حديثا، فهنالك بينهما من اختلاف ما له في موضوعنا هذا أهمية كبرى، وذلك أن الأمر في الحالتين قد تغيرت صورته تغيرا بعيد المدى، من حيث درجة التركيب، فبينما هو في الحالة الأولى لم يزد على لقاء بين موضوعين، أحدهما - وهو الشريعة الإسلامية - قائم وأصيل، والآخر - وهو الفلسفة اليونانية - وافد ودخيل، نراه في الحالة الثانية قد كثرت عناصره وتعقدت، ولم يعد لقاء بين موضوعين، بل أصبح لقاء بين أكثر من موضوع في الجانب الأصيل، وأكثر من موضوع في الجانب الوافد.
فها هنا شريعة إسلامية يراد لها أن تصان، كما كانت الحال في الموقف القديم، لكننا أضفنا إليها في موقفنا الحاضر لغة عربية وأدبا عربيا وعددا كبيرا من نظم الحياة كما كانت قائمة، ثم وفد إلينا كذلك جملة عناصر متشابكة دفعة واحدة، فجاءت العلوم الحديثة على اختلافها، وجاءت معها أجهزتها والآلات الناجمة عنها، وجاءت إلينا فنون الغرب بشتى ألوانها، من موسيقى إلى تصوير ونحت وعمارة، كما جاءت معها صور جديدة للأدب لم تألفها من قبل، إذ جاءت المسرحية والقصة (بمعناها في الأدب الغربي)، ثم جاءت إلينا مع العلوم والفنون وصور الأدب، نظم لم تكن هي النظم السائدة عندنا، نظم في الحكم وفي الاقتصاد، وفي القضاء، وفي التعليم، وفي سائر جوانب الحياة، فكان محالا - والحالة هي هذه - أن يقتصر الأمر على ما اقتصر عليه في الموقف القديم، بأن تنحصر المسألة في عملية التوفيق بين الشريعة الإسلامية والفلسفة اليونانية، بحيث أصبح الحل عندهم - أو أوشك أن يكون - قراءة للفلسفة بلغة الشريعة، أو قراءة للشريعة بلغة الفلسفة، فتزول بذلك أوجه التباين بين الجانبين، بل تعقد الأمر في موقفنا الحديث تعقدا تعذر علينا معه أن نجد له حلا حاسما إلى يومنا هذا.
لقد بدأ اللقاء الثقافي الجديد منذ أكثر من قرن ونصف قرن، وكانت نقطة البداية هي الشرارة التي انقدحت عند التقاء الثقافة العربية، بعد بيات شتوي دام نحو ثلاثمائة عام، بالثقافة الأوروبية الحديثة، وعندئذ اضطربت صفوفنا، وانقسمنا مجموعات أشتاتا، كل منها ترى الخطأ فيما تراه الأخرى صوابا، وهي مجموعات ما تزال إلى يومنا هذا - بعد ما يزيد على قرن ونصف قرن - مشتتة الفكرة، متفرقة الرأي، تتباين - وهي متجاورة - تباين الألوان في طيف الشمس.
فهنالك طرفان متطرفان: طرف منهما يجزع من الثقافة الغربية الحديثة أشد الجزع، ويعدها ثقافة دخيلة تستهدف التسلط والسيطرة، ويلوذ منها بمكمن من التراث العربي الإسلامي الصرف، حتى ليكتب الكاتب من هذه الجماعة، وكأن عشرة قرون لم تذهب من عمر الزمان، وأما الطرف المتطرف الآخر، فيفرح بالثقافة الغربية الجديدة فرحة الأطفال باللعب والهدايا، يقبلونها ولا يحللونها، ويلمسون أسطحها ولا يتعمقونها إلى ما وراءها؛ فهؤلاء يفزعهم أن تذكر لهم شيئا عن تراث عربي، ينبغي له أن يخرج إلى الضوء ليحيا بنا ولنحيا به، وبين هذين الطرفين، تجد صنوفا شتى من الأمزجة، التي تأخذ بطرف من هنا وطرف من هناك، بنسب متفاوتة.
فمنهم من يقبل الغرب كله وتراثنا العربي كله، ويحسب أن الجمع بينهما في تجاور أمر ممكن، كما صنع العقاد، ومنهم من يقبل الغرب كله، وبعض التراث العربي دون بعض كما صنع طه حسين، ومنهم من يقبل التراث كله وبعض الثقافة الغربية دون بعض، كما صنع محمد عبده في قبوله للعلوم الحديثة، ومنهم من يتحفظ في قبول التراث وفي قبول الغرب معا، بمعنى أن يجري التعديل في كليهما، كما صنع أحمد أمين وتوفيق الحكيم، ومنهم من يكاد يرفض الجانبين معا، فلا هو قد تعلم شيئا من التراث العربي ليعرفه، ولا هو يرضى بقبول الثقافة الغربية كما هي، خشية أن يقال عنه إنه متنكر لأصوله، وأمثال هؤلاء تراهم اليوم بكثرة، خصوصا في ميادين الأدب من شعر وقصة ومسرحية؛ ومن هنا جاءت سطحيتهم، ولكن من هنا أيضا جاء السر في إبداعهم الذي يحاولونه بدرجات متفاوتة من التوفيق، وذلك لأنهم حين أزاحوا عن عواتقهم القيود التقليدية أو المنقولة عن الغريب، انفسح أمامهم مجال الخلق الجديد.
ولكن هذا كله قد حدث حينما كان أمامنا قديم وجديد موضوعين جنبا إلى جنب، فكان علينا أن نختار بينهما، أو أن نمزجهما في مزيج واحد، وأما في الميادين التي لم يكن أمامنا فيها إلا بديل واحد: فإما هو قديم لم ينافسه جديد، وإما هو جديد لم ينافسه قديم، فلم يختلف فيه الرأي عندنا إلا قليلا؛ فليس بيننا - مثلا - من يتشكك في أن تكون لغتنا العربية هي الأداة الرئيسية في نقل الثقافة ونشرها، كما أنه ليس بيننا - من الجهة الأخرى - من يتشكك في تقبل العلوم الحديثة بأجهزتها وآلاتها.
خليط متباين الخطوط كما ترى، وهو خليط يدل على أننا لم نفق بعد من هول الصدمة التي اصطدم بها الفكر العربي بالفكر الغربي الحديث، ولا عجب - إذن - أن يمضي على بدء نهضتنا الحديثة أكثر من قرن ونصف قرن، دون أن يكون بين أيدينا الصيغة الثقافية الجديدة التي نطمئن إليها.
ونتج عن غياب هذه الصيغة، أن أصبحت ردود أفعالنا لفروع الفكر الوافد إلينا من الغرب، ردودا تختلف باختلاف الموضوع، ومع ذلك فنحن في كل موضوع على حدة لا نلتقي جميعا على رأي واحد، وحتى أكثر هذه الموضوعات قبولا، وهو العلم الحديث بميادينه المختلفة، فنحن إلى اليوم مختلفون تجاهه من عدة وجوه، مختلفون في أمر تعريبه، فمنا من يأخذ بالتعريب الكامل لكل الميادين، لكي نصب ثقافة العصر في لغة عربية، فيجوز عندئذ - وعندئذ فقط - للعربي أن يقول إنه يعيش عصره حقا، ومنا من يريد أن يقصر التعريب على ميادين دون أخرى، فلا بأس عند هؤلاء أن تظل موضوعات كالطب وبعض العلوم الأخرى في لغة أوروبية - اللغة الإنجليزية بصفة خاصة - بحجة أن تلك العلوم سريعة التغير، ويتعذر على التعريب أن يلاحقها.
على أن قبولنا العام للعلوم الحديثة، لا يشمل العلوم الإنسانية؛ إذ إننا في هذا المجال مختلفون اختلافات بعيدة، وعلة ذلك هي أننا حين نكون بصدد علوم تمس الإنسان وحياته، فنحن بالتالي نكون أمام صنوف من الرأي قد تمس القيم الموروثة التي نعدها جزءا من كياننا، وقد يبلغ اختلاف وجهات النظر بيننا في العلوم الإنسانية الحديثة، حدا يجعل بعضنا يطالب بعلم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي، وعلم اقتصاد إسلامي وهكذا، على أن ما يلفت النظر في هذا السياق هو أن الفكر السياسي - على خطورته البالغة في حياة الإنسان - قلما نسمع من يطالب جادا بفكر إسلامي في السياسة، وحتى إن وجد من يطالب بهذا، فإن مطالبته عندئذ تكاد تخلو من دقة المعنى، ولذلك فنحن في هذا المجال الهام - من الناحية العملية - إذا انقسمنا فيما بيننا، فإنما يجيء انقسامنا داخل إطار الفكر السياسي الآتي إلينا من الغرب، من حيث صورة الدولة والمفاهيم الرئيسية التي يقام عليها نظام الحكم.
ناپیژندل شوی مخ